|
كمال الجزولي: القَوْسُ المُوَشَّى
|
البيان 17/3/2004 اضاءة سودانية القَوْسُ المُوَشَّى «1ـ 2» بقلم :كمال الجزولي
تحت عنوان (المصالحة وبناء الثقة في السودان) قدم الإمام الصادق المهدي، كعادته، ورقة مرتبة الأفكار، جيَّدة السبك، رغم اختلافنا مع بعض جوانبها، ضمن أعمال ورشة (السلام بين الشراكة والمشاركة) التي نظمها مركز دراسات السلام بجامعة جوبا ومؤسسة طيبة برس بالتعاون مع مؤسسة فريدريش آيبرت الألمانية بقاعة الشارقة بالخرطوم، في الفترة بين 6 ـ 7 مارس 2004م.
وكما أشرنا في أكثر من مناسبة فإن المرء لا يستطيع، بالغاً ما بلغت حِدَّة الاختلاف، أن يجحد، إلا بالتجرُّد من أخلاق الفرسان، مواقف الرجل الثابتة من الأنظمة الشموليَّة، وإسهاماته المرموقة ضمن حركة الاستنارة الفقهوفكريَّة الهادفة لإعادة الحياة لمضخات التجديد والتطور في الفكر السياسي الاسلامى، وإجلاء ما تراكم عليها من صدأ بفعل ألف عام من الجمود والتخلف، وفي رأس ذلك سعيه الحثيث لتوطين (الديمقراطيَّة المعياريَّة) و(حقوق الانسان) في تربة الاسلام، مجالدة لتيارات الغلوِّ والهوس التي ما تنفك تروِّج لغربتها عنه.
سوى أن الامام، كما سبق وألمحنا أيضاً، ليس فقيهاً مفكراً فحسب، وإنما أيضاً رئيس حزب من حقه ألا تغمض عينه عن الحكم وهمومه. لذا، فثمة وجه آخر للاشكاليَّة يطل في ما يرى، ونرى معه، من ضرورة مُلحَّة لاجتراح ما يدعم ديناميكيات (الديمقراطيَّة العمليَّة) التي لا يمكن بدونها المحافظة على تماسك بنية (الديمقراطيَّة المعياريَّة) في الوعى الاجتماعى.
لكن، هنا بالتحديد، «يختلط القوس المُوَشى»! فعلى حين تتصعَّد قيم (الديمقراطيَّة المعياريَّة) من أنقى ما في الفطرة والخبرة والمعتقد، تبقى ممارسة (الديمقراطيَّة العمليَّة) عرضة للضيق والأثرة والطبع الخطاء، ما لم نتعهَّدَها بالمراجعة الدائمة والذهن النقدى والمغالبة لشحِّ النفس، حتى لا تجرفها أمواج (السياسة السياسويَّة)، حين يتمكن منها منطق الكسب (الحزبيِّ) البحت، إلى سواحل يضحى الحقُّ فيها غريب الوجه واليد واللسان!
لقد عدَّد الصادق، من وجهة نظره، أربع حالات محمَّلة ببذور عدم الاستقرار ورثها السودان من الاستعمار، من بينها، وهذا ما يعنينا هنا بوجه خاص، نظام حكم ديمقراطي معيارى لا يدعمه الشيوعيون المتحمسون للعمل السياسي في القطاع الحديث (ويدمج معهم الأخوان المسلمين غير أن هذه قضية أخرى)، كونهم يرون، على حدِّ قوله، أن هذا النظام يأتى عبر الانتخابات بقوى غير ديمقراطيَّة، ولا يتيح لأطروحاتهم أيَّة فرصة عبر صناديق الاقتراع، ولهذا لم يستطع النظام الديمقراطي أن يحقق استقراراً، بل أعطى فرصاً كبيرة بما أتاح من حريات لهؤلاء العقائديين الثوريين أن يخططوا للاطاحة به، أو كما قال!
هكذا، ولأن الورقة تطرح بمثل هذا التبسيط المخلِّ، للأسف، قضية ذات طابع تركيبيٍّ شديد التعقيد، فقد كان لا بد لها أن تصادم جملة معطيات تاريخيَّة وفكريَّة نوجز، لضيق المجال، أبرز نماذجها من مختلف المراحل والفترات.
(1) نبدأ بملاحظة بسيطة تتصل بالطابع التركيبى المعقد لمسار تطور مفهوم (الديمقراطية) نفسه في فكر الحزب منذ تكوينه في منتصف أربعينيات القرن الماضى. فعلى حين بقيت هذه الموضوعة تمثل، بشكل ثابت، أحد أهم المطلوبات الاستراتيجية المطروحة في أفق مشروعه الاشتراكى، ظلت ملتبسة أيضاً، في فترات مختلفة من هذا التطور، وبدرجات متفاوتة، بمفاهيم ومصطلحات (الديمقراطية الاشتراكية، الجديدة، الثورية.. الخ)، وذلك تحت الأثر الضاغط على حركة اليسار، وحركة التحرر الوطنى العالمية بوجه عام، من جهة النموذج الاشتراكى الملموس والسائد آنذاك، وبالأخص التجربتين السوفييتية والصينية. وهى المفاهيم والمصطلحات التي تصعَّدت من أنماط الهيكلة السياسية الستالينية للحزب والدولة والمجتمع، تحت عنوان (المركزية الديمقراطية)، في الاتحاد السوفييتي، ومن ثم في أنظمة الديمقراطيات الشعبية التي نشأت في بلدان شرق أوروبا وأنحاء متفرقة من العالم، في أعقاب الحرب الثانية، مستهدية بهجائيات الماركسية اللينينية، وبخاصة في نسختها الروسية بظروفها المحددة، للديمقراطية الليبرالية.
(2) ومع ذلك، فمن غير الممكن عدم ملاحظة أن مؤشر الأصالة الفكرية لدى الحزب ظل يسجل منذ ذلك الوقت الباكر، وبرغم قوة تأثير ذلك المفهوم للديمقراطية، وتائر عالية من النزوع إلى (الديمقراطية الليبرالية) بمضمونها القائم، كما ألمحنا، في الحريات والحقوق، قانوناً وممارسة، إلى درجة تصويب النقد الجريء والصريح للتجربة السوفييتية، في هذه الناحية، قبل انهيارها المدوى بنحو من أربعين سنة ونيف (تصريح حسن الطاهر زروق «للسودان الجديد»، 1/9/1944م ـ ضمن محمد نورى الأمين، رسالة دكتوراه).
(3) لم يكن قبول الحزب بممارسة العمل السياسي وفق المبادئ العامة لهذه الديمقراطية الليبرالية التعدديَّة محض قبول بقضية شكلية، وإنما بمضمونها المتجذر في الحريات العامة والحقوق الأساسية التي تمثل، في بلد كالسودان، بتعدد تكويناته الاقتصادية الاجتماعية والقومية وعدم التناسق في تطور قطاعاته الاقتصادية، الشرط المركزى لتحقق هذه الديمقراطية، تعبيراً عن رؤية الحزب لها، سواء كان محقاً أم مخطئاً، كبيئة أصلح لحضانة مشروعه الاشتراكى من خلال أوسع حراك جماهيرى، علاوة على عدم اقتناعه بأن التجربة الاشتراكية قدمت أيَّ نموذج ملهم في الديمقراطية السياسية. ذلك برغم شيوع مف
(4) وقبل ذلك كان قد قرَّ في فكر الحزب، أصلاً، ومنذ بواكير نشأته، أن الكفاح من أجل (التحرر) من الاستعمار لا يمكن أن ينفصل عن النضال من أجل الحريات والحقوق الديمقراطية. لذا فقد جاء الشرط التاريخى لتأسيسه مقترناً مع ذات الشرط التاريخى لتأسيس حركة جماهيرية واسعة، متنوِّعة، ومنفعلة، بحكم طبيعتها وقانونها الباطنى، بالتطلع إلى هذه الحريات والحقوق الديمقراطية، كالنقابات والاتحادات المهنية، وتنظيمات الشباب والنساء والطلاب، وغيرها. وليس من باب الصدفة أن الشيوعيين أسهموا في استنهاض تلك الحركة بنشاط، فشكَّلت، بأساليبها وأدواتها الديمقراطية، كالإضراب، والمظاهرة، و
(5) وفي فترة لاحقة، وضمن سياق مساهمته في مناقشة البرلمان لمشروع الدستور المؤقت بتاريخ 31/12/1955م، شدَّد حسن الطاهر زروق، النائب الشيوعي عن دوائر الخريجين وقتها، على ضرورة إخضاع جهاز الدولة للرقابة والمحاسبة الشعبيتين، وضمان المشاركة الشعبية في الحكم، وتوفير حرية الاعتقاد وحرية اعتناق الآراء السياسية والعمل من أجلها، وما إلى ذلك من الحريات العامة (م. سليمان، 1969م).
(نواصل)
http://www.albayan.ae/servlet/Satellite?pagename=Bayan%...ge&cid=1051780117401 ======= السودان لكل السودانيين
|
|
|
|
|
|
|
|
|