ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-30-2024, 01:16 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-27-2004, 11:17 PM

Amjed
<aAmjed
تاريخ التسجيل: 11-04-2002
مجموع المشاركات: 4430

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل (Re: Ehab Eltayeb)

    2

    اللعبة الخطرة

    سيرة (المدينة)





    كانت الأيام تمضي. "والليالي جميلة حالمة". شمس ديسمبر تتهادى في مدارها. ومدارات (المدينة) تنعم بشتاء دافئ وشفيف. لم تعكره في ذلك اليوم رياح. ولكن غبشة العالم تؤكد بعضاً من حضورها. فالأرض تقضي أجازتها السنوية في استراحتها، بعد موسم أمطار عارم، والأجسام (تريِّة) برحيق الحصاد الوافر ذلك العام، الخواطر مطمئنة، وأشياء القلوب في انتظار بهجة ما ينتظرها من احتفالات مؤجلة. وطلاب المدرسة الشرقية في دوامة الغسيل والكي، وإزالة الأزاغيب.

    اليوم تحديداً هو الرابع عشر من ديسمبر.. كبقية أيام الأسبوع، إلى أن حلت الساعة العاشرة إلا الربع صباحاً. وقد عاد الطلاب من فُسحة الفطور. ودخل بعضهم إلى الفصل يستذكر درس الحصة الثالثة ـ ذلكم المجد المجتهد، أما البعض الآخر، من أمثال أولاد قرف، فيمارس عاداته المعروفة!

    كان جو جالساً بجانب الحائط الجنوبي للفصل، قبالة الشمس، يتأمل صورة في خياله، دق الجرس قبل وقته المعهود! لذلك أندهش البعض! وظنوا أنها (دقسة) من ساعة عم محمود، فراش المدرسة. ولكن أولاد قرف قد ارتجفوا! فقد هجسوا أن شيئاً من بعض أمورهم قد تجاوز أستاذ عساكر. وفي غمرة الترقب والخوف، والتساؤلات والظنون، نزلت الطامة!! فقد سمع شربات من أحد الطلاب العابرين ـ الذي كان يشير إلى جمهرة على حواف عربة اللاندروفر الواقفة أمام بيت السيد المدير ـ أن:

    "خلاص، سيادتو نقلوه وريحونا.."

    ـ ؟!!!!!

    أمر أستاذ عباس الطلاب بالتوجه إلى مكان الطابور، وشرح للقريبين منه أن السيد المدير يريد أن يلقي عليهم خطبته الأخيرة (!!)

    تجمع الطلاب في مكان الطابور المعهود..

    أمسك شربات بجو وسأله بشغف:

    ـ إنت كنت عارف!؟

    ـ عارف شنو يا شربات يا خي!؟

    ـ طيب إنت ما لاقيتها؟ وهي، ما قالت ليك؟!

    ـ تقول لي شنو يا خي؟ ما إنت عارف أنا عندي يومين كنت ما فيش!

    دخل ركب (الأستاذة الأجلاء) يتقدمهم أستاذ عباس، واتجهوا إلى عتبة المسرح وواجهوا الطلاب في وقفتهم مثلين حزنهم على فقد زميلهم (السيد المدير). وبعد هنيهة، سُمعت كعكعات جزمة المدير تشق الصمت، فالتفت الجميع إليه، وهو يمشي مشيته العسكرية، وبنفس بنطاله الذي يضرب به المثل في النظافة والكي..

    صفق أستاذ (حِتَّىْ) المعروف بمنافقته للسيد المدير، فدوى التصفيق من بعده. وتردد الصدى من الزنك حتى أوقف المارة الذين مدوا رقابهم يستنظرون!

    وصل السيد المدير إلى مقام الأساتذة الأجلاء. وهبط أستاذ عباس إلى وسط الطابور. فبسمل وحمد الله وشكره. وصدع بكلمة الأساتذة؛ مقرظاً السيد المدير، ومتحسراً على انقضاء أيامه في المدرسة، وبهذه الطريقة المفاجئة ـ وقد تحسر آخرون دون شك ـ وفي نهاية كلمته المؤثرة، قدم أستاذ عباس سيادة المدير ليلقي خطبته الأخيرة.

    نزل السيد المدير بتؤدة، ومشى بخطواته التي يحسد عليها. ومن وسط الطابور بث خطبته ذات الإكليشيهات المحفوظة. بلغته الفصيحة (جداً)، والتي صقلتها خمس وعشرون سنة من تدريس اللغة العربية والتزمت البلاغي:

    "أبنائي الطلبة.. أنتم عماد المستقبل.. سؤدد الأمة. ومجد الوطن.. وإنكم... و... و... "

    وفي نهاية إكليشيهاته، أكد ما ذكره أستاذ عباس من أنه قد تم اختياره في الاتحاد الاشتراكي ليصبح أميناً لللمنظمات الفئوية والجماهيرية بمديرية (القاش)! وأكد أن عزاءه في فراق مهنة التدريس هو خدمة (الأمة).

    ولما انتهى، ووسط دوي التصفيق، انحشر أستاذ (حتى) ودس على الجميع اقتراحه المفاجئ بأن تصطف المدرسة على السور لإلقاء تحية وتلاويح الوداع على عربة السيد المدير، كما يحدث مع (مسئولي) ذلك الزمان!! وفي هذا الجو لم يجد أحد سبيلاً للاعتراض. فنزل الأساتذة ومشوا خلف السيد المدير، واصطف الطلبة على امتداد السور.

    كانت العربة مشحونة بما خف من عفش السيد المدير؛ زوجته بجوارالسائق، وسلمى ونازك فوق المنقولات على الجزء الخلفي من العربة. بدت سلمى بوجهها الكاكاوي، شبه المستدير وعينيها الجميلتين، وقوامها المتوسط المائل إلى الفراعة، مرتدية طرحة لازوردية، وبلوزة ذات مزاج صباحي، واسكيرت أسود بنجمات بيضاء، حذاؤها مغلق. وبان ساقاها الممتلئان. وكانت نازك على يسارها أفرع قليلاً، برغم صغر سنها، مائلة إلى القمح قليلاً، ممتلئة، أنفها (شامخ) كجبل جلعاد. خصلة من شعرها يتلاعب بها الهواء. طرحتها المائلة إلى الرمادي ساقطة على كتفيها، صدرها نافر، بلوزتها بيضاء واسكيرتها أسود بزرائر من الأمام، وتلبس شبطها المدرسي الأنيق، وشراباً أبيض بدوائر حمراء وخضراء متتالية، وطرف من سويتيانها ذي النزعة الوردية بائن من خلال مفترق زرارتين.

    مر طابور الأساتذة وودعوهما. ثم ودّعوا السيد المدير وزوجته:

    بالتوفيق... بالتوفيق.

    باي . باي

    وتحركت العربة ببطء، أصوات من هنا ومن هناك والعربة تزحف كموكب دكتاتور في عيد إنقلابه ـ الذي إسمه (الثورة). تاكدت سلمى من وضع طرحتها على رأسها. أما نازك، فلم تأبه لشيء. كانت تتفرس الوجوه واحداً واحداً، وبجرأة لم تعرفها من قبل. وفي وسط (الهيلمانة) وقعت عينها على عصابة قرف. دق قلبها. وفي عمق الزحام أبصرت وجه جو. ولما تأكدت من أنه عرف أنها أبصرته؛ جرت طرحتها وأسبلتها على وجهها وضمت التوأميين (ذكرى وأمل).

    ولما تجاوزت العربة آخر التلويحات، وبدأت (تغذ الخطى)، بلغ السيل الزبى، وكسر الحواجز، والسدود. ومن داخل هرجلة الزملاء، رفاق النظام واللانظام، واجترارات الأساتذة لسيرة الذي كان قبل قليل رئيسهم، تسلق جو سور المدرس وجرى خلف العربة كما تجرى الرياح!!!

    ألقى الأساتذة بالأمر، فهرع الرفاق ليمسكوا به. واتخذ البعض من الموضوع مهزلة للتسلية، وتعالى الصياح:

    ـ أمسكوه.. أمسكوه

    ـ جو.. جو ..

    ـ جنّ.. جنّ..

    ولما فتحت نون عينيها الذارفتين، رأت من وراء دموعها (الفتى) يسبح من الضفة الأخرى. فكرت في القفز والسباحة. ولكن الأنثى المدججة بتاريخ الرعب الطويل، لم تزودها إلا بشجاعة البكاء المرير، فرأت صورته تتكسر في أمواج دموعها. وكانت سلمى تصيح:

    "ووب عليّ الليلة!!

    ..الليلة ووب عليْ..!!"

    وفي تلك اللحظة سمع السيد المدير الجلبة، فأمر السائق بالتوقف ليستطلع الأمر. نزلت الست (أم العيال) مرتجفة! فقد ظنت أن إحدى بناتها سقطت من العربة. رأى السيد المدير المدرسة كلها تجري وراءه ولكن الدهشة تبخرت لما رأى جو واقفاً على بعد أمتار، ونون غارقة في البكاء والنشيج.

    أمره بصرامة:

    "أرجع يا ولد. يا قليل الأدب!!"

    ولم يتزحزح جو من وقفته وتحديقه. ولما كر السيد المدير ببصره ورأى جمهرة اللاحقين، انزاحت عن الإطار صورة الرجل التربوي وحلت محلها صورة الأب البدوي المختبئ منذ قرون طويلة.

    أمر نازك بالنزول، فقفزت خوفاً؛ وأمر زوجته بالصعود إلى جوار سلمى، فصعدت.. ثم:

    بيده اليمنى كوّر ضفيرة نون الخلفية وأدار وجهها إلى الأرض وحشرها في المكان الذي كانت تجلس فيه أمها. وأمر السائق أن يقود العربة بأقصى سرعة، فغطى فغطى الغبار وجه جو الذي أغمى عليه وهو يحتضن صورة الضفيرة المكورة التي ظلت لا تفارقة لزمان طويل!!

    لم يك في المدينة ـ في تلك الأيام ـ ما هو أهم من سيرة الحادثة التي إنتشرت وتداولتها (وكالات الأنباء)، وبثتها على الشوارع والأندية والبيوت، ثم بخرتها في (القعدات) وميادين الكرة والدواوين، في جلسات الجبنة والمشاط، وفي (حي فوق) وبين ستات الشاي وبائعات الفول والتسالي. ولكن أكثر الأماكن استبسالاً في القضية هي المدرسة الأميرية، التي كانت قبل (الفاصلة) مسرح الغزلان وبينهن الملكة. فقد تصادمت الشهقات والآهات. وانذرفت الدموع قدر ما أغرق الأرخبيلات والجبال الأبدية. أنها لم تكن دموعاً للحزن أو للفرح. هي دموع أخرى لم يخترع الناس لها اسماً بعد. كتبن على دفاترهن المدرسية تأريخ الطوفان وتاريخ القيامة، وما بينهما تاريخ نون. وأضطر المدرسون أن يعيدوا كل الدروس التي علقوها على شماعة تلك الأيام.

    كانت بالأمس ضحكة ورفلة، وأسرار مذاعة، والآن، ها هي حتى زهور الصباح لا تبدو كما كانت! المدرسة لم تعد الشمس، وهن لم يعدن أسراب الضياء. كل شيء معتم.

    عزة صامت إلى أن وجدت نفسها بجوار جو في المستشفى، أميرة كتبت رسائل إلى النبي، أم الحسن جلّدت كراستها البنفسجية بغلاف أسود. أنهار تخلت عن وضع (البهار) على وجهها. زهرة ربطت رأسها وظلت قبضتها منكمشة!!

    تضرر جميع العشاق، الحاضرين منهم والغائبين. ورغم اختلاف الحبيبات، إلا أنهن أشتركن في أمنية واحدة:

    (أن يكنّ نازك)

    ولاحظ وكيل المدرسة والمشرفة، الزيادة غيرالمعهودة ـ التي كانت في الحقيقة رحلة جماعية ـ في الذهاب إلى المستشفى. ولما راجعا دفاتر العلاج، وجدا أسماء جميع طالبات الصف الثالث، وثلاثة أرباع طالبات الصف الثاني، وعدد غير مسبوق من طالبات الصف الأول ‍تراوحت تحديدات الطبيب ما بين الصداع الشدىّ (T.H) و النزلات الانتهازية OP.C)) بسبب هبوط المناعة، وعلامات شرحتها المشرفة بأنها دورات طمث غير مكتملة! ‍‍‍‍‍‍جميع المريضات مررن والقين نظرة على النافذة القريبة من سرير الفارس النيزكي مثلما يمر الحجاج على الحجر الأسود، واحتقبن ذكرى تلك النافذة.

    في اليوم الثاني، اكتملت المعلومات الضرورية عن الفارس، أهمها بالنسبة للاتي لم تكن لهن سابق معرفة، أنه ذلك الولد الذي مثل دور ابن التاجر في مسرحية الشماشة في العام الماضي. ولسوء حظ مشاعرهن، فقد كان، بطبيعة الدور الذي أدّاه، أكثر وجاهة مماهو عليه في الواقع، مما نسف أي محاولة لاحتواء حالة العشق الجماعي الفريدة هذه.‍ وقد قامت الكثيرات بتأليف قصص وحكايات التقين فيها به وتبادلن معه الأحاديث ‍ وأخريات أكدن أنه غازلهن ‍وادعت أخرى أنها كانت لها (علاقة) به! ‍‍

    أقنعت زهرة علي إسماعيل الكضاب أن يجلب لها (كراسة القمر)، وهو بحدسه الماكر قد عرف المغزى، فقام بإضافة قصائد حب عارمة ـ مما كان يحفظ ـ دوّنها على الصفحات الفارغة من الكراسة، مقلداً خط صديقه جو. وازداد الطين بلة في الأميرية وحلت الطامة الكبرى بعد الاطلاع على كراسة القمر التي فيها ما لم يسمع به أحد من قبل. وتم تداولها بين جميع الأيادي الراعشة، ونسخت مرات عديدة. وبذلك صارت زهرة أخطر مراكز القوى في المدرسة؛ تتردد إليها الأخريات من أجل النسخ المباشر من هذا الدليل الخالد على عظمة الحب..

    ولما علم شربات بحكاية الكراس، أخرج من (عبه) إحدى أفكاره الجهنمية؛ ‍فقد ذهب إلى العنبر، وفتح حقيبته ونثر محتوياتها على السرير، وطار في الهواء "هيييووو" متناسياً محنة صديقه، ثم برك فوق المنثورات وبدا يقذف بها واحدا بعد الآخر، إلى أن عثر على الصورة الجماعية لشلة أولاد قرف. تلك التي أخذت لهم في بداية العام الدراسي، في استديو المنتزه، حاملة تاريخ ابتساماتهم، وأبهى لحظات وجودهم، وأجدّ ما كان لديهم من قمصان.

    أخذ الصورة ودسها في جيبه ونادى على إسماعيل وجره إلى الزقاق:

    ـ شوف يا أبو الكضاضيب، تدي الصورة دي لهيما ماليني بتاعتك.. فهمت؟

    قفز على إسماعيل من هول الفكرة وعلق قائلاً:

    ـ الله الله... حنكون أشهر من شامي كابور..

    ـ شامي كابور ولاّ كومار أبشلخة.. إنت بس أسرع وديها لناس هيما ماليني.

    ولما لامست الصورة أنامل زهرة، كانت جيوش اليقين قد اجتاحت أم الممالك، وطُبع خيال الوسامات على الصورة التي شبعت قبلاً؛ مائة وتسع وستون قبلة أحصاها التاريخ وغفل عن أخرى..

    شهد اليوم السادس تطورات أخرى للأحداث. فقد انتهز أستاذ عساكر ساعة فراغة أثناء الحصة الثالثة، وذهب إلى المستشفى لزيارة (البطل). وعلى بوابة العنبر ألقى التحايا على مرافقي المرضى وتجاذب معهم أطراف الحديث. وصار البعض يدلي بدلوه في الحادثة التي باتت معروفة، إلى أن هجم عليه (ود العمدة):

    ـ أكيد جاي تزور ولدكم بتاع الحكاية؟

    ـ أيوة.. أيوة.

    ـ والله أولاد الزمن دة بقوا قليلين أدب خلاص، يا خي بت المدير؟

    دة لازم تعاقبوه ..

    كان أستاذ عساكر قد سئم الحديث في هذا الموضوع خاصة بعد المجادلات مع بقية المدرسين حول التصرف (الأمثل) إزاء الموقف...

    وانحشر ود العمدة مرة أخرى:

    ـ ياخي إنتو طبعاً ناس تربويين وعارفين الحكاية كويس.. بالمناسبة: السيد المدير عينوه حاجة كبيرة في الاتحاد الاشتراكي..

    ـ أيوة.. أيوة

    تضايق أستاذ عساكر من تحشرات ود العمدة التي انتقلت من لجان ذلك الزمن إلى قضية التربية.. فقال:

    ـ عن إذنك.. أنا عايز أشوف الولد وراجع عندي حصص.. وقريبتك العيانة ربنا يديها العافية..

    ـ الله يبارك فيك يا أستاذ..

    تقدم أستاذ عساكر باتجاه السرير الذي كان خالياً، جلس على طرفه، وقد كانت كل الأشياء في أمكنتها.. مرت دقائق وهو يتفرس وجوه المرضى..

    خمس عشرة دقيقة مرت!

    عشرون!!

    تململ أستاذ عساكر ونظر إلى ساعته ثم خاطب المريض المجاور:

    ـ ياخي سلامات..

    ـ أهلاً يا أستاذ.

    ـ يا خي جارك دة وين؟

    ـ والله الراجل دة طلع من قبيل

    ـ ما قال ماشي وين؟

    ـ والله علمي علمك.. لكين كان لابس هدومو!

    ـ والله!؟ ‍‍

    وقام أستاذ عساكروذهب إلى بوابة العنبر. فهجم عليه ود العمدة مرة أخرى:

    ـ أها.. إنشالله الراجل بخير ـ مفخماً الراء بطريقة (الممسئولين).

    ـ لا.. هو ما موجود..

    ـ ما موجود‍!؟ كيف!!؟

    ـ والله قالوا مرق من قبيل ‍‍

    ـ لا.. لا لازم نسأل الممرضة..

    وتولى ود العمدة الأمر. وجاء يستاق واحدة من الممرضات. ولما اقتربت سألها أستاذ عساكر، فكانت الأجابة "علمي علمك"‍ وبدأ (حيص البيص). ودخل ود العمدة في مهاترات مع الممرضة وألقى محاضرة عن التسيب والإهمال. إلى أن جاءت الروضة كبيرة الممرضات:

    ـ أجِّي ياود العمدة!! إنت نسيت السكر السايب ولا مكنات الطواحين! وجاي تتكلم عن تسيبنا أنحنا!!؟؟

    فغير ود العمدة الموضوع إلى هزل:

    ـ دي إنتي يا حاجة الروضة؟ والله إنتي بتاعة مشاكل. ياخي لسانك دة البكون طفش العيانين.

    ـ لساني أنا ولا إنتو التطفشو المطرة؟

    ـ ها.. ها.. ها.. ضحك ود العمدة.

    وأثناء ذلك الجدال، عرف أستاذ عساكر أن جو شوهد خارجاً من البوابة الأخرى ‍وهنا رأى أن المسألة دخلت في باب المسئولية الشخصية، خاصة وأنه هو الذي أقنع أستاذ عباس باحتواء المسألة في حدودها المدرسية. ولم يبلغوا ولي أمر الطالب. ذهب أستاذ عساكر إلى الطبيب مستفسراً، فأكد له هذا أن (الولد صحته جيدة) وكان المفروض أن يعود إلى المدرسة في اليوم التالي، ولأن المريض لم يكن معه مرافق: "فالمستشفى ليست مسئولة عن اختفائه"!!

    عاد أستاذ عساكر إلى المدرسة وأخبر أستاذ عباس (المدير بالإنابة) بما حدث. وبسبب قلق أستاذ عباس. خرجا إلى موقف العربات بحثاًعن معلومة. ولكن جميع الكومسنجية أكدوا أنهم لم يروا شخصاً بالأوصاف إياها. فقال أستاذ عباس:

    ـ بعد دة.. مفيش غير نبلغ البوليس..

    ـ لا.. إحنا مرحلة البوليس دي لسة ما وصلناها. الود لسة قاعد في (المدينة) وأنا بعرف اطلعوا ليك.

    ـ كيف؟‍

    ـ دي خليها علي.

    دخل أستاذ عباس مكتبه ـ الذي لم يهنأ به ولو لدقيقة، فهو قد انتظر بإخلاص، ولسنوات طويلة لحظة الجلوس على هذا الكرسي. ولكن ها هي المصائب تهطل عليه من السماء! وقد كان في قمة القلق التشاؤمي بالرغم من تطمينات أستاذ عساكر بأن المسألة (عادية) وأنها مجرد صدفة. ‍

    وفي المكتب الثاني، استدعى أستاذ عساكر أولاد قرف. وبدون مقدمات أخبرهم بالحقيقة ثم أضاف:

    ـ أنا عايزكم في (المهمة) دي.

    واختار لها شاربات وأبو خمسين.. فضحكا ضحكة خبيثة اطمأن لها أستاذ عساكر فيما هو به مهموم. ثم تخابث عليهم:

    ـ تفتكروا هسي يكون وين؟

    ثم أضاف: "المرة دي مافيها جلد".

    فأخبراه بأنه سيكون في واحد من مكانين. قال:

    ـ الأول أنا عارفه. أها التاني وين؟

    ـ (حي فوق).. بيت زوبا..

    ـ الله الله!! وفيها زوبا كمان؟ أسمع يا ولد زوبا دي تطلع مين؟

    قالها بجدية مفتعلة.. فرد عليه شربات:

    ـ والله يا أستاذ، دي بعرفها أبو خمسين دة

    فانبهت أبوخمسين:

    ـ أنا!! ‍ أنا يا شربات!؟ مش إنت الوديتنا هناك أول مرة؟

    ـ أنا!!؟ خاف الله يا أبو خمسين!!

    ـ خلاص.. خلاص ـ صاح أستاذ عساكر ـ ما تضيعوا الوكت.

    وذهب أستاذ عساكر إلى أستاذ عباس وطمأنه. ودار بينهما جدال آخر في النظريات التربوية.

    اهتبل شربات وأبو خمسين الفرصة لعمل (خيانة كبرى). فبعد أن تم (إحياء) القوانين المتشددة في المدرسة بعد الحادثة ها هو أستاذ عساكر يمنحهما الفرصة، ويوكل إليها (المهمة) الأمر الذي أغاظ البقية. وبدلاً من الخروج من الباب، (تسيبا) من (الخُرم) الخلفي لسور المرسة كي لا يراهما أحد!

    وفي الهواء الطلق أخرج شربات خمسة عشر قرشاً وسأل أبو خمسين:

    ـ عندك كم؟

    أخرج أبو خمسين (خمسين قرشاً) ولوح بها في الهواء، فعلق شربات:

    "ياخي إنت خمسيناتك دي قاعد تبيِّضها؟!"



    وضربا أيديهما في الهواء بمرح ثم قال شربات:

    ـ والله أستاذ عساكر دة راجل (شربات).. إتخيل ال########ين ديل هسي يكونوا قاعدين في الحصة ميتين من الغيظ ونحنا هنا قادليلين!! وحاكي مشية النساء.

    ـ كدة خليك من القدلة دي.. أسي نحنا حنمشي وين أول؟ تام زين ولا زوبا؟؟

    ـ وإنت زوبا دي خاتّيها في الآخر مالك؟ ولا إنت لسة متعقد؟؟

    ـ يا خي خلاص نمشي زوبا أول..

    ـ لا.. إنت عوير!؟ أراح ناخد (حبتين)، وكمان ما إحتمال نلقى صاحبك هناك؟

    واستدرك:

    ـ لكين برضو حنمشي زوبا.. إنشاللاّ نتفرج ساي في (شرف الوطن).

    وفي أول عطفة على الزقاق المقابل للمدرسة، ظهر عم محمود ممطتياً صهوة دراجته، فزاغا فزعاً بالرغم مما معهما من تصاريح! ولكن في النهاية قالا (سيبك).. وراحا داخلين على زقاق تام زين. أبصرا العارضة على البوابة الكبيرة!

    ولما وصلا، قفزا من فوقها على عجل، ولكن مسماراً تعلق برداء شربات وسقطت العارضة وأحدثت ضوضاء صاحت إثرها تام زين:

    ـ مين؟ سكرانين وجايين تتطاقشو؟؟

    ـ لا.. ديل أنحنا..

    ـ إنتو مين ؟؟

    ـ أنحنا أنحنا..

    ودخلا عليها:

    ـ إزيك

    ـ أهلاً

    وعرفتهما وتذكرت أنها (موصية عليهم) من أصدقاء سيد شطة (بتاعين الكورة) وراودتها حكاية رفيقهم فقالت:

    ـ اتفضلوا

    ونادت بنتها ذات الثلاثة عشر ربيعا:

    ـ نورا.. جيبي موية لأخوانك.

    ـ آآ..كيفكم؟ قال شربات

    ـ الحمد لله.. ثم أضافت:

    "يا أولادي أخوكم دة ماله ومال المشاكل الزي دي!؟"

    وكانت قد سمعت القصة بإضافاتها؛ بأنه (سب دين للمدير. وطلع مطوة كان عايز يطعنه.. و... و...) وكانت حكاية، ثم أنهى شربات المرحلة:

    ـ لا.. دي حاجة بسيطة. وهو ما جاكم بجاي؟

    ـ لا والله!

    ـ طيب.. شوفي لينا (حبتين) كدة ؟

    ـ والله الليلة ما عندنا.

    ـ طيب. شوفي لينا من العندهم؟

    وتذكرت الوصايا عليهم، ومن (العندهم) جاءت نورا بما تيسر وبدأ العد:

    واحد هنا

    وواحد هنا..

    "والكأس مجراها اليمينا"!

    خرج النمل من مخابئه وبدأ يدب. ظهرت الفراشات الضوئية في رأس شربات.. وأخرج أبو خمسين السيجارة من تحت الحزام!!

    وأشعلها. أخذ نفساً عميقاً وعمل (باص) لشربات..

    ومع الدورة الثالثة للسيجارة قال أبو خمسين:

    ـ يا خي كب بسرعة. اتأخرنا.. تلقاهو أستاذ عساكر هسي بفتش علينا..

    ـ يا خي إنت مالك رعديد كدة؟ بفتش لينا شنو؟ مش نحن بنفتش؟ خلاص كنا بنفتش وما ليقيناهو! دي كمان دايرة ليها شطارة؟؟

    ـ يا خي إنت سكرت ولا شنو؟؟

    ـ هسي السكران منو؟ أنا ولا إنت ؟ ـ قالها بحدة.

    وتدخلت تام زين لتهدئة اللعب:

    ـ يا أولاد!! إنتو دايرين تتشاكلو لي هنا ولا شنو!؟

    ـ لا.. لا يا خالة.

    وخفضا صوتيهما:

    ـ إنت ما تكون رعديد كدة.. إحنا..

    ـ إنت شنو رعديد المجنني بيها دي!؟

    ضحك شربات ثم قال:

    ـ خلاص يا خي جبان ما رعديد.. كدة خلينا في المهم..

    ـ آها؟

    ـ شوف يا سيدي إحنا حنقعد هنا لحدي ما (نكمِّل)، كويس؟

    ـ كويس!

    ـ وبعدين نماطل لحدي ما الواطة تمغرب، وبعدين نطلع.. طبعاً مش منطقي نطلع (نتنجروك) بـ(أرديتنا) بتاعة المدرسة دي (هناك) بالنهار. صاح؟

    ـ أيوة صاح يا أبو الشرابيت.. كلامك منطقي.

    ـ وبعدين صاحبك دة أكيد يكون هناك.. مافيش داعي نمشي هسي زي الحرس الجمهوري. مش أستاذ عساكر قال لينا أقنعوه؟

    ـ أيوة ..

    ـ خلاص.. ما هسي نحن بنقنع فيهو!!؟

    وضحك أبو خمسين الذي أعجبته الفكرة ثم قال:

    ـ والله إنت يا أبو العباقرة بس أقنع لينا الخالة دي..

    ـ لا.. ما تشيل هم..

    وأقنعك.. أقنعك.. ثم وجدا نفسيهما مستلقيين على الأسرة. ولم يستيقظا إلا مع رائحة الطعام ـ مما تبرعت به الخالة ـ في الأصيل.

    فهجما بشراهة النمور. وفي تلك اللحظة. سمعا صوت على إسماعيل الكضاب يلقي التحايا قادماً:

    فارتجف أبو خمسين:

    ـ ياخي دة أكيد مرسلو أستاذ عساكر!!

    ـ ياخي خلينا.. حتى ولو. ياخي إنت مالك رعديد كدة؟

    ـ تاني رعديد!؟

    ـ السلام عليكم.. دخل على إسماعيل ثم أضاف:

    "والله حصاناً دة شربات خلاص" ـ وحشر يده في الطعام وهو ما يزال واقفاً ـ

    "بالله كنتو عايزين تفوتونا الخوابير دي كلها؟ يا مستنكحين؟؟ لكين شكراً لأستاذ عباس".

    ومع ذكر أستاذ عباس ارتبك شربات نفصسه ..وصاح أبو خمسين:

    ـ أسمع. هو رسلك؟؟

    ـ آآ.. أيوة، وكمان قال لي شوف الجماعة ديل وين وقول ليهم يجو بسرعة!!

    ـ شوف يا على إسماعيل يا كضاب ـ قال شربات ـ إنت بقيت كضاب جد جد. وبعدين الرسلك منو؟ أستاذ عباس ولا أستاذ عساكر؟ ثم أضاف: وأستاذ عباس دة عرف من وين ؟ ويرسلك بمناسبة شنو؟

    ولما لم يجد على إسماعيل خرقة يسد بها بداية كلامه التي كانت مرتبكة، اعترف قائلاً:

    ـ والله يا جماعة دة ما حصل. بس أنا يعني قلت أشارك في الخيانة..

    ـ يا خي فاتتك وخلاص، وبعدين إحنا مرسلين.. ما تخرب علينا.

    وتمسكن على إسماعيل:

    ـ طيب يا جماعة ما تحِنُّوا على أخوكم.

    ـ المرة الجاية. المرة الجاية.

    ـ يا خي المرة الجاية دي إحتمال أجرى أنا وتجو أنتو تاني يا فشوشات وتعملوا خيانة بسببي..

    ـ شوف يا كضاب.. إحنا بعد (الصورة) المشت هناك دي كلنا حنجري.. ما تجننا يا خي.

    ثم سأله أبو خمسين:

    ـ وإنت معاك كم؟

    ـ آ آي.. خمسة وسبعين ..

    خلاص ديل نمشي بيهم هناك.

    فتدخل شربات:

    ـ يا زول هناك وين.. إنتو ناسين نحنن في مهمة؟

    فراوغ على إسماعيل:

    ـ المهمة دي بتاعكم إنتو.. أنا هناك حأعمل خيانة.

    ****



    كان الظلام قد دب في (حي فوق) وبدأت تتلامع الكهرباء هناك في وسط المدينة. خرج ثلاثتهم. وبعد زقاقين كانت جمهرة من الأطفال والنسوة أمام أحد البيوت، وكركبة الدلاليك داخله.

    "الظاهر الليلة في مزيكة!؟"

    ـ لكن ما في أي طريقة. يا خي السبب كله جو!!

    كانت هناك مشاجرة بين السكارى، فلفوا من الشارع الآخر ليمسكوا (درب الأربعين) المشهور في (حي فوق) الذي يلقب بـ( شارع البهجة المسرة). كانت لمبات الجاز المزججة تصطف أما البيوت تمازح الداخلين والخارجين. ومع اللمبة الثامنة:

    تووش ..

    معرض شرف الوطن! خلف المصابيح أربع بنابر، على كل فخذين عاريين بينهما ( capital I). الباذنجيان اللامعان: )I( أبيض! الكاكاويان: )I( أحمر! القميحان: )I( أخضر! الحلبيان: )I( أسود!!!

    وضع على إسماعيل يده على رأسه قائلاً:

    ـ لا إله إلا الله!!! على اليمني (علمي أنت رجائي) عدييييل!!

    قال شربات:

    ـ شوفوا يا جماعة، إحنا في (مهمة).

    فخرخر على إسماعيل بالجد:

    ـ منو القال ليكم أنا معاكم في المهمة بتاعتكم دي؟

    وذهب إلى الكاكاو (وراح ضارب الشكولاته)!

    في(حي فوق) هنا، حيث لا غضاضة في العري، وجد جو نفسه محتفى به. وتقاطر (الشكش) منذ لحظة وصوله ليشهدن خيانة أعظم عاشق في المدينة. وللتأكد (العملي المرفوع) من الحقيقة الأزلية؛ (خيانة الرجال). ولكن ذلك كله ذهب بددا!!

    ف(زريــــــا) التي تعمل ساعتها البيولوجيا بالتوقيت القمري، والشهور عندها هي:

    الويحيد

    الكرامة

    التوم

    التومين

    سايق التيمان

    رجب

    قِصَيَّر

    رمضان

    الفطر

    الفطرين

    الضحية

    والضحيتين؛ كانت تؤمن بخرافة تقول أنه مع نهاية كل قرن قمري، يظهر إله الحب ويجدد للعشق أمجاده بعد اندثارها!! ولما صادف بالفعل أن كانت الحادثة في العقد الأخير من القرن، وقد علمت ـ زوبا ـ ضمن الإشاعات التي تم تداولها (حقيقة) أن هذا العاشق هو من نوع البشر الذين لا يستطيعون النوم في أيام اكتمال القمر، فلم تشك لحظة واحدة في أنه (هو)!

    وعقب شرحها لنظرية (الفرق) بين خيانة الرجل للمرأة من أجل أمرأة أخرى. وخيانته لها مع أخرى من أجلها هي، رتبت طقس الخيانة بإيمان عميق: جاءت بالنخب، واستدعت سمسة ذات السبعة عشر ربيعاً، ووعدتها بـ(حق يومها) كاملاً. ولكن هذه المرة في (المتربسة) ـ غرفتها الخاصة ـ التي لا يدخلها أحد غيرها في ذلك الحي المستباح.

    قيل ضمن الإشاعات، أن زوبا متزوجة من (ملك الجن)! وقد كانت تلك الإشاعة مصدر أمن نسبي لها، وسبباً آخر يمنع اللصوص (السيئين أولاد الحرام) ـ الذين يسرقون من وسط المدينة ما يسرقه اللصوص (الطيبين أولاد الحلال) من طرف المدينة، ليعيدوه إليه، وإن كان ناقصاً ـ من أن يجرؤوا على التفكير في السطو على المتربسة بالرغم من علمهم بما تحويه من ثروات!

    كان جو في سابع نومة حين شرح شربات (المهمة) لزوبا، التي لم تزد على قولها:

    "أمشوا كلموا استاذكم دة قولوا ليهو صاحبكم راجع بكرة".

    ولما استتر عري المدينة بأردية الصمت. أقامت زوبا (طقس الطواف الليلي لبنات أورشليم) اللاتي أنشدن النشيد:

    "من هذه الصاعدة من القفر كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل عطور التاجر؟" الكتاب المقدس: نشيد الإنشاد.

    ..وصلت زوبا:

    "... وقد صنع الملك سليمان كرسي العرش من خشب لبنان، وصنع أعمدته فضة، ومتكأه ذهباً، ومقعده أرجواناً، ورصعت بنات أورشليم غطاءه محبة..." نشيد الإنشاد.

    جاءت كل ذات مصباح بمصباحها، تطوف لتاتي التي بعدها بالذي بعده. لم يكن هذا الولد المراهق الراقد هو (هو)، وإنما خرافة تقاس على ذكرى (وجهه) أوصاف الأحلام المستحيلة؛ المقتولة، والتي لا تجيء لأنها ستقتل!!



    *****



    أطاح الرب بأمن أستاذ عباس الطفيف. فقد نقر عم محمود الباب وجاء بما لا تشتهي السفن! والدا الطالب جالسان بالخارج ويريدان مقابلته! ارتبك أستاذ عباس (السيد المدير بالإنابة)، فعدل من جلسته وتأكد من حال كونة مديراً! ثم أمر عم محمود بأن يسمح للضيفين بالدخول. وقبل أن يغادر عم محمود المكتب أمره قائلاً:

    ـ أسمع يا عم محمود ..

    ـ أفندم

    ـ بالله نادي معاك أستاذ عساكر حالاً.

    ـ أمرك أفندم ..

    وخرج عم محمود، دعا السيد عثمان سنين والسيدة فاطمة بت النور فدخلا. قام أستاذ عباس من كرسيه وسألمهما ببشاشة أطالت المسالمة. أصلح السيد عثمان سنين عمامته أثناء رده على الأستاذ عن الحال والأحوال، وأخبار الموسم. لكن القروية، بت النور، قطعت حبل المجاملات الممتدة، ودخلت في الموضوع بدون مقدمات:

    ـ أستاز المدير، ولدي وينو؟

    تنحنح السيد عثمان سنين محتجاً على تدخلها في وجوده وأمرها:

    ـ أسكتي ساكت ..

    وتدخل استاذ عباس مهدئاً الموقف قائلاً ببعض الإطمئنان:

    ـ لا ..لا، ما في حاجة. أصلو الولد من أمبارح في بيت خالته.

    ولكنه فوجئ بالدهشة التي اعتلت وجه عثمان سنين والسؤال المباغت من بت النور:

    ـ خالتو ياتا ؟ دة ماعندو خالة هنا؟؟!

    ولكن أستاذ عساكر أنقذ الموقف بعد أن سمع طرف الحديث هو على عتبة الباب فسلم على الضيفين بحميمية أهل البلد. وطلب منهم الجلوس. وضحك بمودة ثم أجاب على السؤال الأخير.

    ـ أصلو يا حاجة الولد في بيت ناس واحد صاحبو في المدرسة. أيوة، زميله يعني. وإحنا أديناهو الإذن. لكين الغريبة هو بعد شوية كدة حيجي. والله فيكم الخير.

    ثم ضحك أستاذ عساكر لزوم الإقناع، فبدا مقنعا لبت النور، التي أصلحت جلستها وهي تردد:

    ـ الحمد لله، الحمد لله.

    وبرر أستاذ عساكر الموقف مضيفاً:

    ـ والله إحنا ما كنا عايزنكم تتعبوا. ما الولد برضو ولدنا.. الحكاية بسيطة.

    وعرف من السيد عثمان سنين ـ على سبيل (الونسة) بكيفية وصول الخبر على أم شقايق. إذ جاء خلال تلك الأيام أحد مواطنيهم إلى المدينة والتقط الخبر وقام بإيصاله (بكل أمانة القرويين) و(وبضبانته)..

    ـ ما في مشكلة.. بسيطة بسيطة هو هسي حيجي.

    وعلى رأي المثل: "من عاشر قوماً اربعين يوماً صار مثلهم".

    فبمجرد علم أستاذ عساكر بهوية الضيفين، أنزلق هو الأخر في التكتيكات والخطط الإسعافية الطارئة! فنادى علي إسماعيل الكضاب وعثمان شربات. أغلق عليهما باب المكتب و أمسك بإذن كل منهما وجرهما قريباً منه:

    ـ شوفو يا أولاد أنتو أهل جو ديل بعرفوكم؟

    ـ أيوة.. أيوة..

    ـ إذن ما بنفع!

    ثم سالهما عن زميل لهما لا يعرفه أهل جو.

    ـ أيوة .. سيد شطة وبطيخة!!

    ـ بطيخة دة تاجرمعروف.. ما ينفع.. أمشي نادي سيد شطة.

    وهرول على إسماعيل الكضاب.. ولما حضر ومعه سيد شطة، شرح لهم الموقف بدقة.. طلب منهم إحضار جو فوراً، وتمثيل مسرحية (بيت زميلهم إياهـا).

    فاستفسر على إسماعيل:

    "طيب يا أستاذ لو الحاجة قالت عايزة تمشي تزور (خالتنا أم سيد) نعمل شنو ما إنت عارف يا أستاذ أهلنا القرويين ديل بتاعين واجبات وحاجات زي دي؟؟"

    ـ والله دي نقطة مهمة نبهتنا ليها!

    فاقترح سيد شطة (الكذب):

    "أنا أقول ليهم ناس أمي سافروا، وعشان كدة رجعنا كلنا الداخلية.. وبكدة نتخلص من المشكلة!"

    أمن الجميع على الإقتراح. دقائق وقفز ثلاثتهم من السور الغربي للمدرسة فناداهم عم محمود:

    "يا ولد !!"

    ولكنهم فروا بعيداً باتجاه (حي فوق). ولما استمع أستاذ عساكر إلى الشكوى، أبلغ عم محمود أنه هو الذي أرسلهم، ولكن عليه أن يذكره لاحقاً، ويحضر معه السوط لمعاقبتهم على (قفزهم من سور المدرسة)! ثمانية وثلاثين ودقيقة فقط هذه المرة. وكانوا قد انجزوا المهمة: اختطفوا جو وذهبوا به رأساً إلى الداخلية، شطفوه، وألبسوه الزي المدرسي وسرحوا له شعره ثم جاءوا به إلى مكتب المدير.

    لم تترك بت النور الفرصة لشيء آخر، وهجمت على إبنها وأوسعته بكاءاً لم تنفع معه أوامر عثمان سنين:

    "إنتي يا (مَرَهْ) قايلة نفسك قاعدة وين ؟؟ آآ؟!"

    "دة مكتب المدير .. بكيكي دة سويه في الخلا هناك.."

    ولمّّا لم تأبه لهرشاته:

    "أسمعي.. خلاص كفاكي، خليني أسلم على الولد.."

    واستغلت بت النور لحظة المسلامات تلك وفكت صرة في طرف ثوبها، وأخرجت الرمل الذي جلبته من (قبة الشيخ أبو مفاريك)، ولما لم تجد ماءً بللته بلعابها وبدأت تمسح جبين إبنها غير آبهة بمكتب المدير!! وفي نهاية مشهد ـ (الزُّوارة) في مكتب المدير ـ الذي لن ينسى ولن يتكرر، تدخل سيد شطة وألقى بالكذبة المتفق عليها:

    ـ والله يا يُمة لو ما ناس أمي سافروا الليلة الصباح، كان سقناكم البيت.. والله بس جيتكم صادفت وفاة جدنا..

    ـ الفاتحة.

    قال عثمان سنين، وقُرئت الفاتجة على روح جد سيد شطة الوهمي! فأكمل شطة:

    ـ والله ناس أمي سافروا كوستي الصباح دة.. وهسي أنا ذاتي رحلت وجيت أقعد في الداخلية! فتدخل عثمان سنين:

    ـ تشكروا يا إبني، أنحنا راجعين، لكين لازم نرد ليكم الواجب ونجي نزوركم عشان العملتوه مع أخوك دة. ثم سأل السيد المدير وفي رأسه اقتراحات بت النور:

    ـ إلا هسة الراي شنو؟؟

    فتذكر أستاذ عباس ما توصلوا إليه في المجادلات التي قادت على خطة التصرف:

    ـ والله يا حاج ما في مشكلة.. والولد ممكن يواصل دروسه..

    ـ يعني يقعد في الداخلية؟

    ـ أيوة. بالظبط كدة..

    وهنا تدخلت بت النور:

    ـ لا، عليك الله يا أستاز المدير.. بس أديه إذن تلاتة يوم بس وبعدين يرجع. عليك الله يا أستاذ المدير..

    وأمام إلحاحها، وافق أستاذ عباس:

    ـ خلاص ما في مانع .. بس تلاتة أيام.

    كان إصرار بت النور، على اصطحاب إبنها مبنياً على ترتيبات معدة سلفاً. فهي منذ أن سمعت بخبر الحادثة، ذهبت إلى الفكي إساخا (إسحق) ودفعت له (البياض) ليكتب (محاية مركزة) لولدها، وأقرنت ذلك بـ(الزوارة) من تراب قبة الشيخ أبو مفاريك، ثم بخور (أم الصبيان) لتحمي ولدها من شر (العوارض المتباريات).

    كانت بت النور تؤمن إيماناً قاطعاً بأن (الجلابة) عندهم (فكي كبير). وأنهم يتزوجون بالجنيات اللاتي يقبعن في المنازل (ولا يخدمن كما تخدم النساء) لينجبن البنات الساحرات اللاتي يسخرهن آباؤهن لخطف (أولاد الناس). وقد تأكد لها ذلك بالتجربة قبل سنين طويلة في مشكلة شقيقها عبد الرحمن النور، الذي أطلق الإسم على ولدها.

    وقد كان عبد الرحمن النور هذا، تلميذاً نابهاً. كان دائماً يأتي في مقدمة أقرانه في المدرسة، إلى أن دخل الجامعة. وهناك أصبح زعيماً للطلبة، وسافر إلى بلدان عديدة، بل وكان الناس يموتون من العجب، وهم يستمعون إلى صوته وهو يتحدث في الرادي (الراديو)، عبر أول جهاز يدخل أم شقايق، ذلك الذي إشتراه حاج النور خصيصاً ليُسمع الناس صوت إبنه الذي أصبح مكان فخر، بعد أن كان حاج النور يتوجس من المدراس عموماً! تلك التي كانت تعني عنده (شَرَك النصارى). وبعد أن تغير موقفه ذاك: كان يضحك ضحته المجلجة وهو يحكي في المجمع الكبير أمام بيته مراراً قصة إبنه الأكبر مع المدرسة! الذي كانت أمه (أم الحيران) ـ الله يرحمها ـ تأخذه ليقضيا النهار في الخلاء مزودان بـ(بُخْسَة) مليئة بالروب هروباً من المفتش الإنجليزي الذي كان يمر على القرى، باحثاً عن الصبيان لأخذهم إلى المدرسة! وقد كان والده هو ـ الحاج عثمان الأنصاري ـ الله يرحمه، قد أقنعه بما كان يروجه الجلابة عن أن الإنجليز يأخذون الصبيان إلى المدرسة ليحولوهم إلى نساء لهم!!

    لكن عبد الرحمن النور بدد لهم كل ذلك الشك، إلا في شيء واحد؛ هو أنه لما اختاروا له بنت عمه (خدوج) ـ أسمح بنات القرية ـ ليتزوجها، ضحك، ورفض الأمر، وحاول إقناعهم بأن الزواج مسألة (شخصية)! ولم يفهم حاج النور معنى (شخصية) هذه إلى أن رحمه الله هو الآخر. وقد فأجاهم عبد الرحمن النور يوماً، بصرامة، أنه نوى أن يتزوج بإحدى زميلاته في الجامعة وأخرج صورتها ووضعهم أمام الأمر الواقع! وقد كان ذلك مصدر رعب وسط قريباته ـ وخاصة بت النور ـ اللائي روجن لحكاية الجنيات تلك وصدقنها. بل وذهبن إلى أخطر (فكي) في المنطقة كلها، ولـ(كوجا) المُعْرَاقي، ودسسن لعبد الرحمن ما استطعن من السحر في الطعام والشراب. ولكن ذلك كله لم ينفع! فايقنّ بأن فكي الجلابة (فكي كبير). وازداد الأمر يقيناً لما قلت زيارات عبد الرحمن النور إلى القرية بعد زواجه، إلى أن جاءهم خبر موته في (حادث حركة) ـ هكذا يقولون. وحكت بت النور بعد عودتها من العزاء في الخرطوم، أنها وجدت زوجته (ممسحة) (ومسرحة). وأن أطفاله ـ ماجد وسهى ـ كانا يهربان منها ويسخران من لهجتها القروية!!

    لكل ذلك، فقد أُخضع جو لتدابير طقسية صارمة خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في البيت.







    **********



    عقب المذاكرة الإجبارية ـ وقد عادت بعض المياه إلى مجاريها ـ أخرج أستاذ عساكر كرسيه وجلس أمام المسرح. نادى شلة أولاد قرف ليتفاكر معهم حول الاستعداد لبرنامج احتفالات عيد التعليم.

    وكما نعرف، فإن أستاذ عساكر هو المشرف على ما كان يعرف بـ(الجمعيات الأدبية) والنشاطات. وقد قام بدور المخرج لمسرحية (الشماشة) التي فازت بها المدرسة في مسابقة المدارس العام الفائت. تلك المسرحية التي يرجع الفضل في تأليفها لـ(جو) الذي استقاها من الواقع، مطبقاً إعجابه بما قرأه في الكتب (المدسوسة) في بيتهم القروي، ومستغلاً (تجربته) في المشاركة في التمثيل في تمثيليات المدرسة الأولية ـ التي صارت (الإبتدائية) فوق رأسه. والفضل أيضاً ـ يرجع لأولاد قرف، الذين أجادوا التمثيل. أما فضل أستاذ عساكر، فكان في أمرين: الأول، هو كفاحه المرير لإقناع السيد المدير بالمسرحية، فهذا كان يرى فيها خروجاً على (أصول التربية) و(الذوق العام)!! وقد كان مصراً ـ ومعه أستاذ عبد الجليل ـ على المشاركة بمسرحية (صلاح الدين الأيوبي) التي مل الناس من تكرارها، الأمر الذي أضطر أستاذ عساكر أن يضحي ـ في سبيل الشماسة ـ بنقاط مهمة لكنها ساقت إلى الفضل الثاني: فعقب إسقاط بعض الألفاظ، تولى مهمة الإخراج، وابتدع وسائل حركية كانت أبلغ دلالة من الكلام!

    فأستاذ عساكر لم يك، في الواقع، أكثر من (جربندي) موهوب. فمعرفته بالإخراج، والمسرح عموماً، ما كانت تتعدى المقدمات النظرية التي درسها في (بخت الرضا). وما التقطه من المداومة على حضور مسرح (جماعة الطليعة) ـ عندما كانت هناك طليعة. وقد تحسر أنه ما كان مهتماً بالموضوع في أيام (التأهيل) ليكتشف (ميوله واتجاهاته) مؤخراً! لذلك، فهو حريص على تجنيب طلابه ـ خاصة هؤلاء الأشقياء ـ غلطة عمره. وها هم سيغادرون المدرسة بعد شهور قلائل، ليصعدوا (السلم التعليمي) الذي قد يفضي بهم إلى الهاوية! ويبقى هو ـ ربما ـ هنا، وفي نفس المكان، يجتر ذكراهم التي قدلا تتكرر.

    بلا مقدمات، أخبرهم بأنه وردت إليه طلبات مهولة ـ من الأميرية خاصة ـ تطالب بإعادة المسرحية هذا العام.

    أشار شربات لعلي إسماعيل إشارة النصر (ومازال الزحف مستمراً ) ..

    بعد أن أكملوا تلعليقاتهم الجانبية، طلب منهم أستاذ عساكر أن يفكروا في الموضوع ولكن اليوم سيكون للمسامرة. ثم ألقى بالسؤال لجو ـ ذلك السؤال الذي فات عليه أن يسأله العام الماضي:

    ـ إنت عرفت حكاية الشماشة دي كيف!؟

    وقف جو ـ كعادة الطلبة ـ ليجيب، فطلب منه أستاذ عساكر الجلوس قائلاً:

    يا جماعة خلو (البساط أحمدي).

    قال جو:

    ـ كنت في يوم قدام السينما، وشفت الشماشة بمثلوا فيلم أمبارح. وكان أبو طويلة لما يمثل (ديجانقو) يبقى ديجانقو، ولما يمثل (شامي كابور) يبقى شامي كابور. وبعد داك بقيت أمشي كل يوم أعاين.. لمن جا يوم كنت إتاخرت في الداخلية، وحصلت قصة رينقو.. وبعد داك صاحبته وبقى يحكي لي.

    ـ يعني إنتو كنتو بتحاكوا الشماشة بس؟

    ـ أيوة .. بس أنا كنت شايف رينقو دة ود ذكي جداً، ولو دخل المدرسة ممكن يبقى حاجة، فعملنا حكاية الأستاذ البلاقيهو ويدخلو المدرسة.. يعني عشان الناس يعرفوا أنو الشماشة ديل زي بقية الناس. وممكن يكونوا أحسن!

    فتأوه أستاذ عساكروقال:

    "تعرف يإبني، إنت تمشي تقرا مسرح طوالي.."

    وأضاف:

    "يا إبني أي زول ممكن يبقى مدرس زينا كدة، وممكن يبقى مهندس أو دكتور أو ضابط أو حتى رئيس جمهورية. لكن ما أي زول ممكن يبقى فنان".

    فتساءل أبو خمسين:

    ـ يعني هو حيغني يا أستاذ!؟

    ـ لا يا أبو خمسين. كلمة فنان دي ما لازم تعني الغُنا؛ الرسام فنان، العازف فنان، الممثل فنان، والمسرح دة إسمو أبو الفنون.

    ضحك على إسماعيل الكضاب ثم علق:

    ـ هسي يا أستاذ، أبو خمسين دة يعني كان فنان لمن كان بمثل دور البوليس (إر المُضِرْ)!؟

    ـ أيوة... طبعاً.. مش كل الناس اقتنعوا بيهو لمن في ناس صدقوا إنو بوليس جد جد؟

    ـ أيوة ..

    ـ خلاص يبقي فنان.

    ـ بس يا أستاذ دة هو نفسه صدق إنو بوليس جد جد وجلدني جد جد ما تمثيل!!‍ ‍‍

    ضحك أستاذ عساكر بعد أن عرف بهذه الحكاية لأول مرة ثم قال:

    ـ صحيح يا أبو خمسين؟ ‍

    ـ ما هو ذاتو صدق إنو شماشي جد جد وقعد يشاغل في البنات جد جد. أنا عارفه والله يا أستاذ.

    ضحك أستاذ عساكر بعمق ثم قال:

    ـ ياخي إنتو ملاعين!

    إنتهز شربات الفرصة:

    ـ يا أستاذ أنا المرة دي ما عايز دور التاجر. ثم أردف محتجاً:

    ـ ما ممكن الجماعة يرقصوا ويهججوا وأنا داخل لي في عمة وجلابية.. وبعدين يا أستاذ الحكاية المرّة دي حتبقى سُخنة..

    ضحك أستاذ عساكر مرة أخرى ثم رد:

    ـ يا شربات ياخي، في واحد عاقل يتنازل من رتبة تاجر لشماشي!؟

    ـ أنا يا أستاذ.

    ـ طيب خلاص يا شربات، حكاية الرقيص دي حتتحل.

    وتدخل جو مقترحاً إضافة مشهد أخير يرقصون فيه جميعاً "لن ننسى أياماً مضت" مثل ما فعل طلاب الجامعة في الحفل الختامي لرحلتهم على مسرح المدينة.‍‍

    ـ الشماشة يبقوا أولاد جامعة!! ‍‍‍برافو.. برافو. دي فكرة مجنونة! دة حيكون مشهد!! ‍‍‍دة حيكون أجمل حاجة!!‍‍

    وبعفوية، وكأنهم توصلوا إلى نهاية المسرحية غنوا:

    "لن ننسى أياماً مضت

    لن ننسى ذكراها

    لن ننسى أياماً مضت مرحاً قضيناهاآآآ.."

    وفي زحام البهجات والمسرات، لاحت الفرصة ‍ فقام شربات وألقى بطرف خيط (المؤامرة):

    ـ يا أستاذ لو سمحت أنا عندي إقتراح تاني.

    ـ عايز تقول شنو ياشربات؟ إنت أقتراحاتك دي ما بتكمل!؟ أها قول؟؟

    ـ أنا يا أستاذ شايف يعني، بقول يعني، بدل ما نمثّل بنات، ما يجو البنات نفسهم يمثلوا؟؟

    لكن أستاذ عساكر أدرك ما وراء المسألة. وبالرغم من إعجابه بالفكرة، إلا إنه أحبط المؤامرة فوراً قائلاً:

    "إنتو يا جماعة نسيتو حاجة مهمة جداً جداً. إنو بعد الحصل، مستحيل الجماعة بتاعين الأميرية يوافقوا ويسمحوا للبنات. دة طبعاً بالإضافة للجماعة الهنا في المدرسة".

    على أي حال، فقد فاتت هذه النقطة المنطقية على مدبري المؤامرة في تيار الرغبة والحماس. والواقع، أن زهرة وعزة قد ترجمتا ـ لأستاذ عساكر شخصياً ـ رغبة زميلاتهن الصادقة في إعادة المسرحية. وعبر الرسائل أبدين رغبتهن في المشاركة في التمثيل. وطالبن باختراع أدوار جديدة، وقدمن اقتراحات (فنانة) في هذا الشأن، بل وعملن بروفات ـ بالرغم من أن جمعية المسرح في مدرستهن معطلة من سنين! لأن كل المسرحيات والتمثيليات المسموح بها "مقرفة" كما قلن. لذلك كله تحمس أولاد قرف للإقتراحات وقطعوا وعداً بأن يستغلوا أول فرصة، (ويدردقوا) أستاذ عساكر باتجاه المسألة. ولكن ها هو (المنطق) يتدخل ويهزم القضية في مهدها، ولم يبق إلا مشاهدة (العلامة): وهي قلب كبير يخترقه سهم ذو رأسين في أحد أطرافه حرف (N) وفي الطرف اللآخر (J). وقطرات ورد نازلة من القلب تحولت قبل أن تسقط إلى (نج )... (نج)... (نج)!!

    تلك العلامة التي امتلأت بها حيطان المدينة، صارت مصطلحاً بين الشباب.

    تكتب (NJ) وتقرأ (نج). ويقال أن فلاناً عمل نج وفلانة أرسلت رسالة (للنج بتاعها). وضاعت أمجاد كيوبيد كما ضاعت أحلام شلة قرف في أن تعمل مسرحيتهم نج.





    ****





    "الكبس العديل في تمثيلية أستاذ عبد الجليل".

    جملة مكتوبة على حائط المخزن، قبالة بوابة الداخلية الرئيسية، تحت العلامة، بالفحم، ومظلة بالطباشير الأبيض ـ مع أن العكس كان يجب أن يحدث! كانت الكلمات كبيرة، والجملة كلها مسورة بإطار طباشيري على شاكلة أشباه دوائر. ويبدو أن شخصاً آخر ـ غير كاتبها ـ تدخل ووضع هذا الإطار. ثم جاء آخر وكتب فوق كلمة تمثيلية (نيو)! ثم جاء آخر وعمل (×) على كلمة (نيو) وكتب(NJ) . وعلق آخر (حرام عليكم).

    كان أستاذ عبد الجليل، بالرغم من تزمته في أشياء كثيرة، إلا أنه كان حريصاً على التواصل مع طلابه. كان يأتي مرة بعد مرة ويجالسهم في أوقات الفراغ، ويؤمهم ـ أحياناً ـ في الصلاة، وقد حاول مراراً سحب البساط من أستاذ عساكر ـ الذي كان (صديقاً) للطلاب، الأمر الذي فشل فيه أستاذ عبد الجليل بسبب حواجز (الأدب) المفترضة التي تقوم عليها نظريته (التربوية).

    ولما تقدم الأستاذ عساكر باقتراح برنامج مشاركة المدرسة في احتفالات أعياد التعليم، اعترض أستاذ عبد الجليل مرة أخرى على مسرحية الشماشة! بالرغم من العرف السائد بأحقية المسرحية الفائزة في العرض مرة أخرى. وليكون (منطقياً) فقد بني اعتراضه على أساس أن لدية مسرحية جديدة. والواقع أنه ظل يخطط لهذا الأمر منذ بداية العام، وذلك لعمل خبطة مسرحية تكون مضادة لاتجاهات أستاذ عساكر ومقربية! وقد أفنى ليالي طوالا ساهراً لتأليف مسرحيته الجديدة. وطالع من الكتب ما طالع. وأخيراً اهتدي إلي تجهيز نص سماه (أرضنا السليبة)، عن قضية فلسطين. وقام باستقراب عدد من الطلبه المثاليين ليمثلوا المسرحية. ولما لم يجد المدرسون غير الحل الوسط لفض النزاع، قرر المجلس أن تعرض المسرحيات على مسرح المدرسة وتعتبر البروفة النهائية منافسة. والتي ستنال الإعجاب، ستتبناها المدرسة. ولذلك قُسمت أيام البروفات على الطرفين، بالتساوي. ولكن أستاذ عساكر وجماعته رأوا ترك المسرح لأستاذ عبد الجليل وجماعته، ليقيموا بروفاتهم في الساحة.

    وقد انهمك أستاذ عبد الجليل بحماس كبير مع المجموعة التي اختارها. ولأنه هو الآخر ليس سوى (جربندياً) فضلا عن أنه يفتقر إلى الموهبة، فقد ووجه بصعوبات جمة؛ أولها مشكلة الملابس، لأن منافسيه لم يتقدموا بطلب في هذا الخصوص! لذلك اضطر أن ينفق من حر ماله في سبيلها من بداية أيام البروفات!! ثم أنه تورط في مشاكل أخرى متعلقة بالحركة على المسرح وكيفية تمثيل المسافات الطويلة التي يزخر بها نصه!! ولكن أهم مافي الأمر أنه أضطر للتنازل عن (أجمل) فكرة لديه وهي (الحصان)! لأنه لا يستطيع إدخاله إلى خشبة المسرح. والمشكلة التي لم يعتبرها هو مشكلة، كانت قضية الأمهات اللائي أراد أن يعبر عن مآسيهن، وذلك بسبب اعتراضه المبدئي على (الاختلاط) من جهة، وعلى أن يمثل الرجال دور النساء من جهة أخرى! فصارت المسرحية:

    قالت الأم : كذا ..وكذا ..

    وبكت الأم بحرقة ..

    ودعت أم هاني قائلة كذا.. وكذا

    وطبعاً بالفصحى. فكانت المسرحية معسكر جيش من جهة، وحصة (عربي) من جهة أخرى! ولم تكن (أرضاً) بأي حال من الأحوال. ولكن (رابعة الاثافي) كانت مشكلة الطلاب الذين اختارهم! فقد كان جُلهم يفتقر إلى موهبة التمثيل. وببساطة فقد ظن أستاذ عبد الجليل ـ في البداية ـ أن المسألة (سهلة)، ولا تحتاج إلى (درس عصر)، ليجد نفسه أمام أخشاب ناطقة!

    ولما جاء يوم البروفة النهائية، التي هي العرض التنافسي، لم تك هناك منافسة في الواقع، فقد سُحقت مسرحية أستاذ عبد الجليل سحقاً. وكان لذلك أثر خطير في مقبل الأيام! أما فلسطين المسكينة، فقد تضررت أيما ضرر، لكنها كظمت غيظها ولم ترفع دعوى تعويض عن الأضرار، لأنه لا توجد ـ في البلاد ـ قوانين تعاقب الذين يسببون الأضرار للمساكين!

    وبالرغم من أن (أدب الحيطان) المناوئ. كان بدوافع عفوية، إلا أن أستاذ عبد الجليل ظل مقتنعاً إلى يوم القيامة أن ذلك من تدبير أستاذ عساكر. ولكنه بالمقابل، أكتشف وسيلة دعائية خطيرة. واكتشف موهبته في السجع التي كانت ضائعة في الحصص.



    ****



    صباح الخير يا وطن..

    ها هي المدينة نظيفة، كل الشوارع، حتى غير المسلفتة، أيضاً نظيفة! الأشجار سيقانها مطلية بالجير الأبيض. كل شيء متأنق. فقد قيل أن السيد المحافظ (سيشرف) إحتفالات المدينة بعيد التعليم هذا العام.

    في الداخلية، كانت (مكوة) التاج ود الصول قد تعبت من الكي، في يوم النظافة العالمي. أما كجَّار ورفاقه (بتاعين الورنيش)، فخرجوا بحصيلة لا بأس بها من النقود (الكاش) والأخرى المؤجلة من قبل بعض (المستنكحين). وقد رحم الله الأديدسات المزيفة بغسلات، وتنفست الشرابات الصعداء.

    قبل السابعة صباحاً، كان كل شيء جاهزا. الرسائل الغرامية تنام داخل الشرابات. فاليوم لا كتب ولا كراريس.

    أُخرجت اللافتات الطويلة العريضة. أفردت، وحملها رؤساء الفصول:

    "العم يبني..".. "العلم.. يرفع" "...العلم.." "العلم....."، ثم:

    "المدرسة الشرقية ترحب باللسيد المحافظ وصحبه الميامين .."

    سأل شربات سيد شطة:

    ـ إنت يا شطة الميامين ديل شنو؟

    فرد شطة ساخراً:

    ـ ديل البمشوا بيت ميمونة..

    ـ ياخي خليك جادى.. أنا بسأل جد!؟

    تدخل أبو خمسين

    ـ وإنت مالك ومال الميامين ديل؟ أهو كلام وخلاص. مش كل ما واحد يجي يكتبوا ليهو الكلام دة؟؟؟

    ثم أضاف:

    ـ مش أي واحد لما يموت يكتبوا ليهو "أظله الله بشأبيب رحمته"؟

    إنت هسي عارف شآبيب دي يعني شنو؟

    ـ لا والله!! لكن، صحي دي معناها شنو؟؟

    ـ ما عشان كدة قلنا ليك.. إحنا مالنا؟

    ....

    تغير الموضوع وتحرك الموكب إلى (ميدان الكراكة)، من حيث ستنطلق (المسيرة الكبرى) إلى (ميدان الحرية). وأُخرج النشيد:

    أمتى يا أمة الأمجاد والماضي العريغي

    لالا لالا

    يا نشيداً في دمي يحيا ويجري في عروغي

    لالا لالا

    ..

    وهناك في ميدان الكراكة، بدأت المبارزة بالحناجر، خاصة بعد ظهور موكب (الأميرية) . ثم اختلط الحابل بالنابل مما كلف المدرسين والمنظمين جهداً كبيراً لإعادة النظام. بدأ التحرك بتقديم مدارس البنات منعاً للتسيب. وذلك بعد مجادلات أخلاقية وعرفية طويلة حول مسألة التقديم والتأخير هذه! ولكن برزت فائدة هذا الترتيب (الحكيم) عملياً في المحافظة النسبية على النظام، إلى أن انفرط أخيراً بجوارالسوق. فلما وصلت اللافتات إلى ميدان الحرية، لم تكن تعبر في الواقع إلا عن حامليها ـ وكاتبيها افتراضاً.

    لحظات من التحاشد ثم جاء موكب السيد المحافظ. هرع المدرسون والمنظمون لاستقباله وصحبه الميامين. فذهبت كل ذات ظلف إلى مراحها وماتت من الحسرة من لا مراح لها. وما أن صعد سيادته إلى المنبر وألقى بالجمل المعهودة "مواطني الكرام .." " ..أهلي وعشيرتي"، حتى فكت الأيادي الناعمة والخشنة الوريقات الملفوفة بعناية! المتعوسة منها الخارجة من الشرابات، والأخرى المحظوظة الخارجة من فتحات الصدور. وصار كل في شغله، لا يخرج عنه إلا مع صيحات أمثال ود العمدة: "يعيش.. يعيش.. يعيش.."

    هذا بالإضافة لبؤرة جو التي أذهبت وجاهة المحافظ مع أدراج الريح. ومع انفضاض الكرنفال (الكيتة). انتشر الناس في المدينة. وهبر كل وراء غزاله. وجد جو نفسه بجوار أبو خمسين، وقد مرت على هيئته نظرات كثيرة لا قبل للمحافظ بها. وضع كل يده علي كتف الآخر وقالا "يالاّ.."

    في الطريق، أعاد جو فيلم الكرنفال بضوء النجم الذي سهد في مدارات الأيام "... ياه! كان سيكون واقفاً هناك.. بجوار زهرة وعزة. لن يقرأ وريقتي لأنه سيدخرها للمساء حتى تنتبه الكواكب. كان الهواء سيلعب بخصلة الشعر تلك المتمردة.. كان سينظر إلى الأرض ليراني! ها أنت تمشي مستنداً على كتف رفيق، ربما لا يكون أبوخمسين لو لم تكن لعبة القدر تلك، ولو كانت لعبة أخرى، ربما يكون الأمر أكثر إفراحاً؟؟..هل لهذا الميدان معنى؟؟ ما معنى المحافظ؟ المدير؟ المدرسة؟ الناس؟ المدينة؟ الكرنفال؟ لماذا يتأملك الناس هكذا؟؟ وأنت تتأمل ماذا؟؟ وغداً؟ ألست ستكون مثل هؤلاء الميامين؟؟ وهذا الشارع الذي مر عليه الآلاف ذات يوم، ومشت عليه نون ذات يوم، أيذكر هذا الشارع مشيتها؟؟ وها أنت تمشي، هل سينتهي بك كما قالت زوبا؟ أم كما قال الكتاب؟؟ لكن الأكيد الأكيد أن ما مضى لن يعود! هذه واحدة ..

    وداعاً أيها النهار.

    والميعاد في المساء .."!

    ****



    كان أهم ما يثير شغف الكثيرين في انتظار ذلك المساء ـ في برنامج الحفل ـ مسرحية الشماشة، والفاصل الغنائي الذي ستقدمه الطالبة ندى عبد الواحد من مدرسة الشروق الثانوية. وندى هذه كانت واحدة من أساطير (المدينة). جميلة لحد الإنثيال. لطيفة وذوق في نفس الوقت. أما صوتها، فـ(لا تدانية نبرات العنادل) ـ هكذا يقولون ـ دون أن يعرفوا ما هي هذه (العنادل)! كان شباب المدينة ـ وخاصة طلاب الثانوية ـ يعشقونها عن بكرة أبيهم. بل وجميعهم (يحقدون) على سيف حسن عازف النورمال جيتار في فرقة (إفريقيا الجديدة) الذي سرت إشاعات بأن له (علاقة) بها. فهو الذي يدوزن أصوات الألات الموسيقية لمجاورة صوتها في بروفات الأغنيات التي تؤديها. وقد تأكدت الإشاعة عندما شوهدا معاً يعبران جسر المدينة ذات مساء. وقيل فيما قيل أنه (تهنَّى بها)! إلا أن أحداً لم يتخل عن (طمعه) فيها. وقد احتشد جمهور كبير في المعرض الذي أقامته مدرسة الشروق. وبالذات في القسم الذي تقف فيه ندى وتشرح لزوار المعرض اللوحات التي رسمها أستاذ الفنون؛ تلك التي تسمى (سوريالية)! والواقع أنهم كانوا معنيين بلوحة واحدة هي (هي)!

    لكن عصر ذلك اليوم شهد موجات متصاعدة من القلق بسبب غباء أحد طلاب الثانوية! فقد كان صاحبنا ممطتياً صهوة دراجته ماراً بحي النقل، والتقى صدفة بـ(عواطف) زميلة ندى في المدرسة. وبدلاً من اهتبال الفرصة وارتجال الغزل أو التزام الصمت ـ الذي هو من ذهب ـ فقد فجّر حقدها سائلاً إياها عن أخبار ندى! فردت بحسرة مفتعلة أنه للأسف لن تستطيع ندى أن تغني في المساء لأنها أصيبت بنزلة مفاجئة! والواقع أن ذلك كان حلمها هي فقط! إلا أن صديقنا اكتفى بالتصديق. ولما التقى بالسر وجمال، أخبرهما بما سمع. وهما بدورهما نقلا جبهة الموجة إلى أفق الحدث. وخلال ساعة واحدة. كان الجميع على علم بالكارثة. وبالرغم من أن طارق دون جوان، الذي يسكن في نفس الحي الذي تسكنه ندى قد أكد أنه التقى بها قبل ساعة فقط، وأنها في تمام الصحة وأن حكاية مرضها مجرد إشاعة، إلا أن أحداً لم يصدقه ظناً أنها إحدى أكاذيبه التي يعمل بها أهميات لنفسه لا غير. وهكذا اختلطت الأشياء؛ القلق بالأمل. والإنتظار باليأس. ولكن أحداً لم يفرط في هندامه حتى حل المساء وبدأت تتقاطر الجموع التي لم يكن من بينها من هو متأكد من مشاركة ندى من عدمها.

    صار الليل يؤكد نفسه في المكان. وصار ضوء اللمبات الكهربائية أكثر إشعاعاً. تتهادى المغارب وطلاب الثانوية قد جلسوا على الفسحة أمام المسرح مباشرة، وعلى الأرض تاركين آلاف الكراسي الشاغرة وراءهم يريدون قرباً. ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ فقد ظهر (منظمو الحفل) وطلبوا منهم إخلاء المكان بالرجوع إلي الكراسي، مبرريين ذلك بأن السيد المحافظ سيحضر الحفل. وليس من المعقول أن يجلسوا أمامه!!

    ـ يا خي إنتو ناس واعيين .. و... و...

    ولكن هذا (المنطق) لم يقنع أحداً، وثار الهرج والمرج، ولُعنت أم المحافظ على مسمع من الجميع. وأخيراً ـ لما لم تنفع "التي هي أحسن" ـ أضطر المنظمون للإستعانة بالشرطة وأستاذ (الذرة) ـ الذي كان يخشاه الطلبة ـ لإرجاعهم إلى الخلف. وقد حكم عليهم أستاذ الذرة بأن يبقوا (خلف) الكراسي عقاباً لهم على سوء تصرفهم..

    جاء موكب الأميرية يزلزل الفضاء بحماسة النشيد:

    أمتى يا أمة الأمجاد والماضي (العريغي)

    لالا لالا

    يا نشيداً في دمي يحيا ويجري في (عروغي)

    لالا لالا

    ...

    احتل الموكب ثلث الكراسي على اليمين. ثم بدأت تمتلئ البقية. بشتى صنوف الناس حتى أحتشد المكان.

    كان مهندس الأجهزة الصوتية وراء الكواليس يقوم بعمل التيستات:

    ون.. تو.. ثري ..تيست.. تيست..

    صييييييج ...

    ون... تو.. ثري... تيست... تيست... تيست..

    ..... .....

    والآن سيداتي سادتي، نرحب باسمكم بالسيد المحافظ..

    هييي .. ثار الضجيج والتصفيق ثم همد.

    تعالت الصيحات مرة أخرى لما أزيحت الستارة بمقدار الباب. وأطل مقدم الحفل أنيقاً ليلقي كلمة الإفتتاح بعد (الآيات). ولكنه هو الآخر، مكر بالقوم ولم يذع التفاصيل الكاملة لبرنامج الحفل! بل اكتفى بأن "حفلنا اليوم زاخر بالمفاجآت"! وقد كانت كلمة المفاجآت هذه مصدر تأويلات شتى؛ فالمتشائمون فسروها بأنها تأكيد لغياب (النجمة). ولكن المتفائلين رأوا أن تلك ليست سوى حذلقة من مقدم برنامج الحفل، وبالتالي تأكيد على مشاركتها. وبذلك ازداد أوار الانتظار اشتعالاً. وبعد التباري في إلقاء الكلمات المشحونة بالترحيبات المبالغ فيها، أخيراً هجم المحافظ على الناس مرة أخرى، وألقى خطبة طويلة بعثت السأم في النفوس. ولما أنهاها وترجل، قوبل بتصفيق حاد ظنه إعجاباً به بينما كان العكس هو الحقيقة!

    والآن سيداتي سادتي مع المدرسة الأميرية ونشيد (أمتي):

    هييي.. صفير .. صفير... زعيق.. موسيقى وراء الستارة.. ثم هدوء..

    أزيحت الستارة، فأطل (سرب العصافير) أنيقاً: زهرة، عزة، فاطمة، أنهار، جليلة، سمية، عائشة، جميلة.. بزيهن الموحد وتسريحاتهن المختلفة، وغنين النشيد كما لم يطاله غناء.

    وتوالت البرامج إلى أن حلت إحدى اللحظات الحاسمة:

    والآن سيداتي سادتي، مع عندليب (المدينة)، الصوت الملائكي الذي خضر القلوب وأزهر الدنيا، مع درة الشروق ندى عبد الواحد..

    كان الزعيق والصغير قد بدأ منذ كلمة (عندليب). ووسط هذا الزعيق أضاف مقدم الحفل:

    بمصاحبة عازفي فرقة أفريقيا الجديدة: علي قِدَّام، سيف حسن، سِرِّي، طارق الباشا، كموش، و... و...

    وأزيحت الستارة.. والهتاف مستمر.

    الفرقة تدوزن.. والهتاف مستمر

    أطلت ندى وأمسكت بالمايك فانفجرت الهستيريا:

    آيي ...آيي آيي آيي...

    آيي ..آيي آيي أي آيي

    وبدأ الزحف باتجاه المسرح قبل أن تنبس ندى بكلمة واحدة!

    فأخجلها هذا الاستقبال الحار، والتفتت إلى الوراء ومشت خطوات لتصلح طرحتها، فانكب جمهور العشاق وراء المسرح لرؤية وجهها وإثنائها من قرار لم تتخذه!

    وكادت تحدث كارثة لولا تدخل مدير التأهيل وبعض العقلاء لإقناع المنظمين بأن سيمحوا لـ(الثوار) بالجلوس في الفسحة الأمامية شريطة أن يلتزموا (النظام). وهكذا تحول (الثوار) إلى حملان وديعة! وجلسوا في إنتظام. فاستؤنف الحفل بعد توقف دام عشرين دقيقة..

    فلق الصبح

    قول لي

    آهو نورك لاح

    خِلِّي

    يا خفيف الروح

    أهو هذا نداك؟!

    آم ندى الأزهار؟؟!

    كان صوت ندى والأغنية. كمطر يهطل على المدائن فيغسلها ليبدو كل شيء جميلاً كما (الخليل)، ومنفعلاًً بالحياة كما شجر التبلدي في الرشاش..

    ولما بالغ في استفزازهم (المنحنى العاشر) في جمال صوتها، خففوا وطأته بأصواتهم وغنوا معها:

    آهو نورك لاح

    خلي

    يا خفيف الروح

    أهو هذا نداك!؟

    أم (ندى) الأزهار!؟

    مع الضغط على ندى الأغنية لتصبح (ندى) المغنية!

    وكما قيل، "أحياناً يستشف حدس الفنان العالم، ويقرأ المدينة من نظرة".

    بُحَّ صوت ندى وهي تقدم للجمهور مفاجأة الحفل. قالت:

    "المرة دي إخترنا ليكم إغنية نتمنى تعجبكم وتعبر عنكم. وهي إغنية جديدة للفنان (زيدان إبراهيم)".

    انفجر الزعيق والصفير والهتاف مرة أخرى..

    موسيقى.. موسيقى

    "إحم.. إحم" ـ ندى تستفرد حبال صوتها.

    مساحة للنورمال جيتار..

    ثم:

    داوي ناري والتياعي

    وتمهل في وداعي

    ياحبيب الروح هب لي

    بعض لحظات سراع

    قف تامل!

    مغرب العمر وإخفاق الشعاع

    ...

    ...

    تبعث السلوى

    وتنسى الموت مهتوك القناع

    دمعة الحزن التي تسكبها فوق ذراعي

    صمت.. صمت...

    لم يهلل أحد، لم يهتف، لم يصفر! حتى الريح التي كانت تعبث بفروع الأشجار هجعت!! وبقي:

    الدنيا

    الموسيقى

    صوت ندى

    ووجوه نضرة مدفونة في الحجور والأيادي، والبكاء الشفيف!

    كان يوم! مثل ماذا ؟؟؟!!!!

    *****



    كان أستاذ عساكر، رغم جربنديته مخرجاً موهوباً، فعقب التدريبات والبروفات الأولية التي لم تكلفه طويل وقت بسبب مواهب ممثليه العالية، قام بإدخال الكثير من المشاهد الإستعراضية. واستشف أهمية ضبط المسرحية من خلال أرضية إقاعية مصاحبة ـ كما في الموسيقى التصويرية في الأفلام. فجمع مجموعة من الاسطوانات واستعان بفرقة أفريقيا الجديدة لعمل الإضافات الضرورية والكولاجات المطلوبة. وبذلك تم إدخال فرقة أفريقيا كلها في المسرحية.

    إنتهى أستاذ عساكر من كل تلك التجهيزات التي لم يكن يعرف رأي علم المسرح ـ الدراماتولوجيا كما يقول المثقفون ـ فيها. ولكنه كان مستنداً على أساس "أن الفن هو في المقام الأول (حدس الفنان)". وقبيل إحدى البروفات كان يفكر، فخطرت بباله مشكلة متعلقة بمود (mood) الجمهور. هذا السؤال لم يخطر بذهنه من قبل، ولكنه ـ كمدرس ـ يعرف أن الناس أحياناً لا ينفعلون بالأشياء لا لسبب إلا لعدم إستعدادهم النفسي لحظتها. وقد ساقه هذا التفكير إلى اختراع مشهد استعراضي تمهيدي يجعل المسرحية (مستقلة) عن تأثير أي ظرف خارجي غير موات محتمل، وبالتالي أن تصنع موودها بنفسها؛ الأمر الذي دعاه للاستعانة بعدد آخر من الممثلين الثانويين. وقد كلفه ذلك أيام أخرى من التدريبات والبروفات.

    لم يعد الكثيرون من (حضرة الندى)، وحالة التماهي والدوار الذي صنعه صوت ندى الشروق، واستُدرجت الذكريات من منابعها الأولى ـ مأساة الوداع ـ واستدارت حالة الشغف إلى ما كانت تخطو في دروبه ذكريات الماضي القريب الأليمة. المتواطئة مع الأغنية والصوت واللحظة.

    ...

    والآن سيداتي سادتي، مع الفقرة التي انتظرتموها طويلاً؛ مع المدرسة الشرقية ومسرحية الشماشة.

    عاد الصفير والهتاف مصحوباً بـ(نج نج ..) وتقافز بعض المتقافزين.

    أطفئت كل أنوار المكان ـ ولم يحدث ما كان يقلق مدير الأميرية. وقد ساد الهدوء والصمت المكان والزمان. صوت النورمال جيتار يوقع تقاسيم "عزة في هواك". طويت الستارة. ودخلت عيون المشاهدين إلى خشبة المسرح وصافحت ألوان علم الوطن على ضوء البطاريات من أعلى سقف المسرح. أنفردت الشرائط الملونة مع تقاسيم "عزة في هواك" وتطور المشهد إلى بانوراما البلد:

    مزارعون بعراريقهم، يحرثون بأدواتهم أرض الحقول ويغنون. عمال يكسرون الصخر ينشدون ..

    باعة متجولون

    طوابيرعسكرية

    تجار ومسئولون

    ولكن أكثر ما شد انتباه المشاهدين، هو الشخص الذي يمثل دور الحمار وينهق كمثله تماماً! وعلى ظهره الرجل (أبوعميمة) الفرِح كأنما هو سائق لعربة من نوع العربات التي بدأت تظهر في البلاد في تلك الأيام..

    أسدلت الستارة واستمرت تقاسيم (عزة في هواك) خفيضاً خفيضا..

    في المشهد الثاني:

    صهيل. صهيل!

    طاخ.. طراخ... بنادق... رعب.. مثل أفلام ديجانقوا؟

    إنزاحت الستارة، وظهر في طرف الخشبة رجل ذو عمامة كبيرة بصحبة جماعة من الناس الذين شاهدهم الجمهور في المشهد السابق. الشرطي بسوطه والبندقية يغذ بهم السير. ظهر في آخر الطابور الرجل أبو عميمة وقد ثقل عليه حمله بعد أن فقد حماره! فتعثر وسقط. ولما ضربه الشرطي أضطر لترك جزء من حمله على قارعة الطريق. (عزة ف هواك) تعلو.. وتعلو ثم تحرك تحت القماش الملقى شئ!! ظهر أنه صبي، وبدأ يزحف! تركزت عليه الأضواء مع تقاسيم (عزة في هواك). وبالقرب جزع الشجرة (الكرتون) خفتت الأضواء قليلاً قليلاً، ثم انطفات ثم عادت تدريجياً كناية عن تعاقب الليل والنهار! كان المارة يمرون، يتبادلون التحايا والإشاعات، بعضهم متوحد يكلم نفسه! ثم مر عدد من (الشماشة) يتقافزون وهم يعيدون سيرة فيلم أمبارح، فيلم (أمبارح) بتاع (جاكي شان). تاح.. تراح.. ولما كانوا يتجولون (بلا أهداف معلنة) ـ كما يقال ـ في تلك الساعة من اليوم، فقد حاولوا تسلق الشجرة كجزء من العبث.. لكنهم انتبهوا إلى وجود الرفيق الجديد! ركلوه بأرجلهم فلم يتحرك! أخرجوا (الصمنج منج) وضربوه، فتحرك قليلاً ثم غفا!!

    جرى رينقو وأخبر أبوطويلة (زعيم الشماشة) بحكاية الرفيق الجديد. جاء أبوطويلة ماشياً بطريقة أبطال السينما، وصاح فيهم:

    ـ في شنو يا (خولات)!؟

    ولم يكن ذلك سؤالاً، وإنما أمراً بإفساح الطريق كما فهموا جميعاً.

    جلس أبوطويلة عاكفاً رجله اليسرى، وجسه، فلاحظ أن رجليه رقيقتان أكثر من الطبيعي! قال:

    ـ دة (كَرْجَوِيْل)!

    يقصد انه كسيح، مشبهاً إياه بالجحش ذو الأرجل الملتوية! ومنذ تلك اللحظة صار اسم الرفيق الجديد (كرجويل)، ولم يُعرف بعد ذلك اسمه الحقيقي! فهنا لا يسأل أحد عن مثل هذه الأشياء!

    أصلح أبوطويلة جلسته على رجله الأخرى، ووضع سبابته على صدغة كما يفعل الأبطال في السينما عندما يكونون في حالة تفكير.

    ومن داخل حلبة الصمت تلك اقترح عليه هبّاش أن (يعملوا فرتِك) ـ أي أن يهربوأ ويتركوه ـ ولكن أبوطويلة زجره قائلاً:

    ـإنت (لوطي) في راسك؟ واضطر الممثل للإشارة هنا مثلما هناك.

    ولما توصل أبوطويلة إلى النتيجة النظرية، ووضع على أساسها خطة في رأسه، أمر رينقو والزنجي قائلاً:

    ـ "عضَّة جَبِدْ". يلاّ، تلقونا هناك في (القرقف).. ما أكتر من دقائق يل لوايطة. دة جعان يلا قبّال يموت.

    شمر رينقو والزنجي أكمامهم المهترئة، وأداروا عربات خرافية في رؤوسهم وطاروا..

    فحمل أبوطويلة الرفيق كرجويل على كتفه وغادروا المكان.

    ستارة



    المشهد التالي في السوق. التاجر عبدالفراج. بعمامته الكبيرة جالساً على كرسية يتحدث:

    ـ لا .. على الطلاق تفطر معانا.. لا أنا حلفت..

    وفي تلك اللحظة كان صاحب مطعم (الكواكب) يطارد رينقو والزنجي قائلاً:

    ـ يلا من هنا يا أولاد الكلب.. الليلة ما فيش (كرتة)... طفشتوا لينا الزبائن! والله الواحد إلا يأجر ليهو بوليس عشان يوديكم في داهية.

    وهما جاريان من تلك اللعنة، سمعا (حليفة) عبد الفراج التاجر.

    فأشّر رينقو للزنجي إشارة النصر، ففهمها (على الطائر) وقال:

    "أحسن محلة في الخور الجنب بيتم داك".

    ستارة



    كان يمكن أن يكون هذا المشهد عادياً كبقية المشاهد، لكنه هذه المرة كان محفوفاً بالبهار! فرغم جماليات العرض إلا أن انتظاراً خفياً كان لهذا المشهد بالذات، الذي فيه بؤرة التركيز لسيرة أولاد قرف في المدينة. وخاصة (أم المدائن)؛ الأميرية. وقد أبدع أستاذ عساكر (المخرج) في استغلال وتوظيف الظرف. ولما كان هذا المشهد مرتجلاً في المرة السابقة. فقد اعتنى به المخرج، وأضاف إليه شيئاً من التشويق: وقد رأي أن يظهر الممثل هذه المرة بحجمه الحقيقي على خشبة المسرح. بدأ المشهد والستارة مغلقة بالحوار التالي بين زوجة التاجر وإبنها خالد:

    ـ خالد.. يا خالد..

    ـ أيوة يا موما ـ قالها بدلع.

    ـ إنت خلاص فطرت؟

    ـ أيوة ياموما.. قالها بعصبية.

    ـ خلاص تعال وإنت راجع المدرسة، خد الفطور دة وصِّله معاك لأبوك في السوق..

    ـ ما توديه الخدامة يا موما؟!

    ـ خدامة الجن دي الليلة قالت عيانة، والله أنحنا تعبنا معاها!!

    ـ طيب يا موما ما تديهو لهشام يوديهو؟

    ـ هشام دة الليلة شال فطورو معاهو.. قال عندهم حصة بساتين في وكت الفطور!

    ـ أووف. خلاص.

    ومع وقع اقدام خالد عبد الفراج تزاح الستارة ويظهر حاملاً (عمود) الفطور.

    صفير.. صفير. نج.. نج

    ويمشي من طرف المسرح نظيفاً أنيقاً.. فهاج الجمهور. وخلطت الكثيرات بين الذي في رؤسهن والممثل. كان يدندن بأغنية لم يستبنها أحد.

    إيقاع الكشكوش يصاحب وقع أقدام رينقو والزنجي وهما يتربصان به. وبعد أن تبادلا إشارة الهجوم، انطلقا. وفي وسط المسرح اصطدم به رينقو وقام الزنجي بخطف العمود وأطلقا ساقيهما للريح! وتركاه ساقطاً من مفاجأة الهجمة. هناك وراء الجمهور، كان الشماشة (الحقيقيين) يزعقون لبهجة الإنتصار ـ بد أن عادوا عقب أن قام البوليس بطردهم من مكان الإحتفال بحجة أنهم (بتاعين جبد)؛ نشالين، ورغم محاولات جو لإقناعه بحقهم في الحضور وأنه هو الذي دعاهم لمشاهدة المسرحية التي تخصهم، إلا أن البوليس أصر!!

    وفي المقابل لبهجة الشماشة الحقيقيين بالمشهد. كانت اللعنات قد صُبّت عليهم من قبل عاشقات خالد عبد الفراج. وقد أسرت إحداهن لجارتها، أن لديها رغبة في أن تمسح عنه الغبار بطرحتها. وأصرت هي الأخرى أنه كان من المفروض في المسرحية أن تظهر(النج بتاعتو) في تلك اللحظة كما يحصل في الأفلام الهندية..

    "آآخ.. لو كدة، كنت أنا لازم أمثل الدور دة".

    وكانت تلك هي بالضبط فكرة أولاد قرف في المؤامرة التي أحبطها المنطق السائد!!

    ستارة



    المشهدالتالي، عبارة عن مشهدين متزامنين: لبيت التاجر، وتحت الكبري المعروف بـ(القرقف).

    على الجانب الأيمن من المسرح. في بيت التاجر، حيث رجع خالد عبد الفراج لاستبدال ملابسه، وإخبار والدته بما حدث:

    ـ أجي!‍ مالك يا خالد!؟‍

    ـ الشماشة يا موما!

    ـ الشماشة مالن؟ وإنت اللّمّاك معاهُن شنو!؟‍

    ـ خطفوا العمود يا موما ..

    ـ خطفوا منك العمود؟‍ يخطفن الضريب!!.

    ولما اقتربت منه ورأت أثر الغبار على ملابسه:

    ـ ووب على الليلة ووب!!‍ ديل عوقوك!!‍ الله يقطعن حتة حتة. دة إنت قدرن!!؟

    ـ لا يا موما. ديل صغار. يعني قدُر هشام أخوي كدة..

    ـ برضو ولو ‍ تعال.. تعال.. وهم خطفوا العمود وجروا على وين؟

    ـ والله ما عارف يا موما..

    ـ إنشاء الله يسمّمن يا رب. لكن لا.. أنا ما حأسكت.. أنا لازم أبلغ البوليس، ديل لازم يوروهن الماشوفوهو قبّال كدة. أكل أسويهو أنا بإيدي ديل ياكلوه الشماشة أولاد الحرام!؟

    وفي الجانب الآخر من المسرح كان الشماشة قد تهن‍‍‍‍ّوا بوجبة دسمة عيار (...) وقد خصص أبو طويلة قدراً لا باس به للرفيق كرجويل. الذي بدأت عيناه تبرقان والحياة تدب في عروقه، بعد أن ملأ (أم درمان بتاعتو) كما علق كبوج. ثم أمر أبوطويلة رينقو ـ رجل المهمات الصعبة ـ بأن يذهب، و(يجبد) قميص، فنيلة.. أي حاجة، "عشان يعيد بيها" الرفيق كرجويل ـ كما قال أبو طويلة. وحذره:

    "أوع يشوفك أي واحد.."

    ورينقو لا يجادل. ويفكر في المهمة وهو في الطريق إليها. وهذا سر إعجاب أبوطويلة به ـ كما فسره للبقية ـ وبدأ يشرح لهم خطته، فهو يفكر كبطل وكرئيس (خيانة) في نفس الوقت:

    ـ أسمعوا يا شكاشيك، إنتو عارفين إنو حكاية الجبد دي ما مضمونة.. ومراسيل ناس (الموقف) والورنيش دة كله ما جايب راس تمنو.. لكين الحل جانا. ‍

    إندهش الرفاق من هذا التصريح.. وواصل أبو طويلة:

    ـ متذكرين كرجويل الفي الفيلم، الكان بشحد جنب (الجامع بتاع الهنود) داك؟

    ـ أيوة!!

    ـ لمّن مات مش البطل أحسن فيهو وكان ماشي يحرقوا؟

    ـ أيوة!!‍

    ـ تتذكروا الألوفات اللقاها في (دلاقينو) ديك؟

    ـ أيوة.. أيوة!!

    ـ خلاص.. أنحنا كرجويل دة نشيلو نختو جنب الجامع بتاع سوق (أم دفسو).. وكل يوم عصر نجي ناخدو ومعاهو الخمةّ.. فهمتو يا شكاشيك؟؟

    ...

    وفي بيت عبد الفرّاج دق بشير ود الترزي الباب ثم دخل وقال:

    ـ خالتي (أم خالد)، عم عبد الفراج قال ليك تديني الفطور.

    ـ وإنت منو؟

    ـ أنا بشير ود الترزي!

    ـ وإنت أبوك ترزي ومالك مقطع كدة؟؟

    لم يجد إجابة، ونظر إلى الأرض. فأمرته قائلة:

    ـ أمشي قول لعمك عبد الفراج الفطور خطفوه الشماشة. خليهم يفطروا من السوق.

    وأدار بشير ود الترزي عربته الوهمية هو الآخر ومضى.



    عاد رينقو ظافراً مرة أخرى، ومعه قميص جديد فسأله أبو طويلة:

    ـ دة جبدتو من وين؟ أوع يكون بتاع الضابط؟!

    ـ لا. أنا ما جبدتو..

    ـ ومال جابو ليك خالك الفي لندن؟!

    وأخرج رينقو خمسين قرشاً ووضعها (بأمانة) أمام أبوطويلة ثم قال:

    ـ والله أنا مشيت قلت أجبد لي قميص من داخلية الأولاد.. أي حاجة كان صاح لأنو الطلبة كلهم كانوا في الحصص. بس لمّن دخلت أتاري كان في واحد لسه ما مرق!! بس وقع البطل في الكمين! لكين الزول طلع ما من (الخيانة). وقام قال لي تحكي لي الحكاية وأنا أحلها. وقمت حكيت ليهو، قام أدّاني القميص دة، وقال لي هاك الخمسين قرش دي أنا عازمكم كلكم سينما..

    ولكن رينقو أخذ صفعة حتى سقط ورأى (نجوم القايلة)! ولما استعدل جلسته عرف غلطته حين سأله أبوطويلة:

    ـ وإنت عرفت من وين إنو ما من الخيانة يا (داقس)؟؟

    تأكد رينقو من غلطته في إفشاء أسرار (أمن الدولة)، فسأله أبو طويلة:

    ـ الزول دة إسمو منو؟

    وهنا أصر المخرج أن تقال الحقيقة:

    ـ جومو

    وصفق الجمهور طويلاً..

    هز أبو طويلة رأسه ثم أمر:

    ـ الزول دة تجيب لينا خبرو... أوع تدقس تاني..

    ستارة





    في هذا المشهد تجلت ـ مرة أخرى ـ عبقرية المخرج الذي استعمل الستارة نفسها كجزء من العرض. حيث ظهر صف السينما الطويل لمشاهدة فيلم (إر المضر) المعلن على اللافتة. أُتُخذت نقطة تلاقي طرفي الستار شباكاً للتذاكر. والصف يزحف قليلاً قليلاً، ظهر أبوطويلة حاملاً كرجويل على كتفه ووراءه المليشيا ـ فهو الذي يتكفل بقطع التذاكر، ويوزعها عليهم، ويتكفل بما ينجم من شاجرات كما يعرف الناس جميعاً.

    بعد الدخول، تزاح الستارة. وتبدأ (المناظر) بخيال الظل. تعزف الموسيقى، ويرقص رينقو أما الضوء الصادر من ورائه رقصة (جكجك جك). تظهر رقصته على حائط المسرح (الشاشة). ثم تضاء الأنوار في إنتظار الفيلم.

    يقف الشماشة أمام مشاهدي الفيلم، ومع موسيقى (الجالوه) يقدمون عرضاً راقصاً أثمل جمهور المشاهدين. ثم تطفأ الأنوار ليبدأ الفيلم؛ حيث يجتاح البوليس بقيادة (إر المضر) السينما بعد أن (كردنها) عقب بلاغ زوجة التاجر. وتم القبض على الشماشة جميعاً.

    تقاسيم (عزة في هواك) تبدأ في التصاعد..

    رُبطت أيادي أبو طويلة إلى ظهره وما يزال كرجويل على أكتافه كما كان لحظة القبض عليه وهو يحاول الفرار به.

    ـ وكمان جايبين لينا مكسرين؟!

    قال إر المضر ثم أشهر سوطه:

    شو .. شو .. شو

    ـ يا حرامية ..

    شو ... شو

    عزة ف هواك نحن الجبال

    وللبخوض صفاك نحن النبال

    وتعالت موسيقى وغناء (عزة في هواك). ومع إثارة المشهد، تهاطل الطوب على خشبة المسرح! فلم فلم يصدق الشماشة (الحقيقيين) أن المسألة تمثيل في تمثيل، فرجموا المسرح بالطوب مدافعين عن (أنفسهم).. مما أضطر السيد المحافظ إلى مغادرة الحفل. وتوقفت المسرحية لحين استعادة النظام. ومع صفارة هروب المحافظ، هرب الشماشة (الحقيقيين) ولم يجد البوليس لهم أثراً!

    أخذ المخرج راحته، وأخرج الفنتازيا في المشهد التالي: كان أستاذ أحمد صابر، وكأنه وسط الطابور يذيع للجمهور، ويقدم السيرة الذاتيه للتلميذ حماد إسماعيل رينقو.

    ـ مدرسة (أبو عنجة) الإبتدائية (المختلطة).

    ـ يرجع الفضل إلى الأستاذ المربي الكبير عبد اللطيف الشريف، الذي تبناه بعد أن وجده تائهاً في الشوراع ضمن الشماشة.

    ـ أحزز أفضل نتيجة شهدتها المدرسة في السنة الأولى، فنقل إلى الصف الثالث.

    تصفيق حاد من الجمهور وتقاسيم (عزة في هواك)

    ـ أحرز أفضل نتيجة شهدتها المدرسة للسنة الثالثة، وكذلك في السنة الرابعة.

    وصفق الجمهور طويلاً.

    وتعالت عزة في هواك.

    ـ نقل للصف السادس. وها هو يحرز أفضل نتيجة شهدها المركز في تاريخه..

    تصفيق هستيري

    وقمة عزة في هواك

    ستارة



    في المشهد قبل الآخير، تواصلت الفنتازيا:

    طاولة وسط خشبة المسرح، حولها كراسي، وعليها مجموعة من العمائم والقبعات العسكرية.. على تقاسيم (عزة في هواك) يدخل الأستاذ عبد اللطيف الشريف ـ شخص حقيقي يمثل نفسه ـ يسوق أمامه جميع الشماشة..

    يلوح لهم الشرطي ويبتسم.

    يجلسون على الكراسي حول الطاولة، ويكنسونها مما عليها وينشدون:

    عزة في هواك نحن الجبال

    وللبخوض صفاك نحن النبال

    عزة ما سليت وطن الجمال

    ولا ابتغيت بديل غير الكمال

    وأنشد الجمهور النشيد طويلاً

    ستارة

    اكتملت الفنتازيا في المشهد الأخير:

    لافتة كبيرة مكتوب عليها:

    (الحفل الختامي لقافلة كلية الطب جامعة الخرطوم)

    فرقة أفريقيا الجديدة على المسرح تدوزن موسيقى (عزة في هواك)..

    والآن سيداتي سادتي مع كورال الكلية، يؤديه الطلاب والطالبات الآتية أسمائهم:

    جلال الدين أحمد عباس

    ياسر حسن عبد الكبير

    ليزا أبوإدريس

    أسمهان بلال العاقب

    بدر الدين الأمير الطيب

    هشام عبد الفرّاج

    ..صفير.. صفير

    حماد إسماعيل رينقو

    هتاف: آيي ..آيي آيي آيي ...

    آيي ...آيي آيي آيي .

    أسرار عبد الفتاح

    خليل سليمان الشيخ

    أبو بكر عبد الخالق

    سوسن الأمين ضرار

    كوثر عامر عثمان..

    كانت الأسماء مقنعة جداً بالنسبة للجمهور. ولكن لم تظهر الطالبات المذكورات في الكورال!!

    بدأ العزف على فارق زمن تدريجي عن (عزة في هواك) ودخل مجرى نشيد الوداع الذي هو الكورال:

    لن ننسى أياماً مضت

    لن ننسى ذكراها

    لن ننسى أياماً مضت مرحاً قضيناها

    ...

    كان الكورال مختلاً بسبب غياب (السوبرانو). فلم تحتمل ندى عبد الواحد هذا الإختلال، فصعدت إلى المسرح ودخلت مباشرة في النشيد..

    صفق لها الجمهور طويلاً بعد أن أدرك أهمية (السوبرانو) وصفق مرة أخرى بعد (التوازن النسبي للكورال). وفي تلك اللحظة العارمة برزت الجسارة الأنثوية؛ ومن وسط الكراسي قفزت زهرة وعزة، وتبعتهما أنهار وجليلة وأنضممن إلى الكورال وسط دهشة مدرسيهن وزميلاتهن. وغنين بجرأة غريبة، وبانسجام غريب كأنهن كن يتدربن على ذلك منذ زمان بعيد!! وقد أصبح الكورال كورالاً بالفعل:

    وانفجر الجمهور كله يغني:

    لن ننسى أياماً مضت لن ننسى ذكراها

    لن ننسى أياماً مضت مرحاً قضيناها

    ودخل مقدم الحفل بين ثنايا الكورال

    والآن سيداتي سادتي، يجدر بنا أن نذكر أن هذا العمل الرائع، كان نتاج جهد رجال (فنانون) ـ قالها هكذا ـ وهم:

    وبدأ يقرأ اللستة، كل من يسمع إسمه يصعد إلى خشبة المسرح وينضم إلى الكورال ثم:

    ومثل شخصية (أم خالد) الطالب مصطفى العاقب بطيخة

    ومثل شخصية إر المضر الطالب أحمد سالم أبو خمسين

    ومثل شخصية التاجر الطالب عثمان شربات

    ومثل شخصية كرجويل الطالب محمد الشيخ فريني

    ومثل شخصية الحمار علي إسماعيل الكضاب

    ومثل شخصية إبو طويلة أيضاً على إسماعيل الكضاب

    ومثل شخصية رينقو سيد عمر شطة

    ومثل شخصية خالد عبد الفرّّاج جومو عثمان سنين

    ومثل شخصية الأستاذ عبد اللطيف الشريف: هئ هئ هئ ..

    ضحك المذيع ثم واصل: الأستاذ عبد اللطيف الشريف!!

    وضع الموسيقى المصاحبة الأستاذ إبراهيم الطيب عساكر بالإشتراك من العازف الفنان سيف حسن.

    وقام بالأداء الموسيقي فرقة أفريقيا الجديدة.

    جهز الديكور الفنان سعيد (شلش)

    وألف المسرحية الطالب جومو عثمان سينين بالإشتراك مع بقية أولاد قرف.

    وقام بالإخراج اللأستاذ الفنان إبراهيم الطيب عساكر.

    لن ننسى إياماً مضت لن ننسى ذكراها

    لن ننسى أياماً مضت مرحاً قضيناها

    ....

    وأخذت الحماسة الجمهور ووجد الكثيرن أنفسهم على خشبة المسرح يشاركون في أداء الكورال حتى امتلأ المسرح كله!

    وعلى طرف الخشبة، ظهر أبوطويلة الحقيقي حاملاً كرجويل الحقيقي على كتفه.. كان يبدو وقوراً وكأنه يقول لكرجويل "آهـ.. ستكبر يوماً يا صديقي وتعرف كيف تغني هكذا .." وهكذا وقف بجانبه بقية الشماشة (الحقيقيين) ينشدون مع المنشدين كيفما اتفق.

    واندغم الجميع في الكورال

    وهكذا أختتم الحفل!!



    ****









    والآن، آخر الأعياد مرّ. الامتحانات على الأبواب. موسم المضاربات على أسعار المحاصيل ولى. والصيف أطل برأسه (الكبير).

    واستعدت بكرات فيلم الإشاعات ـ في الأذهان ـ لتدور، مشحونة بما سجلته من حكايا وحكايا. لم يدر بخلد أحد ما كان مختبئاً في سر أناشيد الوداع في تلك الليلة. ويا لها من ليلة! هكذا نام الخلق. ولما صادف أن كان الصباح التالي، هو الجمعة الأخيرة من أمشير، والكثيرون يمطون نومتهم، أدار المعاشيون مؤشرات الراديو لسماع أخبار الصباح، ففوجئوا بالمارشات! طار ما تبقى من نوم النائمة، وخرج الناس إلى الشوراع حاملين راديوهاتهم وتكهناتهم!!

    دقت (البق بن)، ولكن لندن لم تشف غليلاً فقد أعلنت وقوع إنقلاب عسكري في الخرطوم! ولم تزد في تعليقها الطويل العريض عن "ما زال الوضع غامضاً في الخرطوم.."

    بعد ثلث الساعة انقطع الإرسال، مما زاد الوضع إثارة. وبدأت التخريجات و(التخارجات). بعض قادة الإتحاد الإشتراكي وقادة المنظمات الفئوية بدأوا يتسللون إلى خارج المدينة.

    "الوضع ما زال غامضاً في الخرطوم" آخر جملة ختم بها راديو لندن بثه الصباحي "على أن نلتقي بكم في الواحدة إلا الربع بعد الظهر بتوقيت قرينتش .."!

    في العاشرة والنصف إلا خمس دقائق، عاود راديو أم درمان بثه. وبعد مارشيين عسكريين، جاء صوت مذيع لم يكن معروفاً ليقول "بعد (غليل) سيذيع عليكم (الرئيس الغائد) بياناً هاما (فترغبوه)"!

    مجموعة من المارشات العسكرية، ثم جاء صوت المذيع (حديث الولادة) ليقول: "والآن نقدم لكم بيان السيد الرئيس الغائد (فترغبوه)"! كان بقية أعضاء الإتحاد الأشتراكي في المدينة متوجسين، ولم يبدوا أي موقف ظاهر بالرغم من سماعهم لـ(شبه جملة) (الرئيس القائد)، التي فلقوا الناس بها، وظلوا في غاية القلق ليتأكدوا من أن الرئيس الغائد هو (الرئيس القائد).

    "أيهاالمواطنون الثوار الأحرار ..".

    لم ينتظروا البقية، وخرجوا مرددين الهتافات الصاخبة منادين بحياة (الثورة)، مطالبين بضرب (الخونة والمأجورين). ووجدوا كمَّاً ليس هيناً من السابلة وساقوهم معهم في طواف محموم في شوراع المدينة. وقد شوهد الزبد يسور فم ود العمدة وهو يقود الهتافات: "يعيش... يعيش.. يعيش"!

    بعد ذلك تتالت البيانات. وأُعلن أنه تم القبض على الخونة والمأجورين، وقيل أنهم سيقدمون إلى محاكمات عاجلة. وظلت البيانات تحذر (الأيادي الأجنبية) التي تقف وراء "المحاولة الفاشلة الجبانة".

    بذلك أصبح يوم السبت إجازة تلقائياً، يتلقّى فيه الناس أخبار المحاكمات والإعدامات ـ أيد من أيد، وتحفظ من تحفظ. ولما كانت (المدينة) كبقية مدن (الأقاليم) مجرد كومبارس أو كورس للسيدة الخرطوم، فلم يتعود ناسها على الإقتراب من الأشياء الغريبة التي تحل بالموطنين في مثل تلك الظروف في (بطن السيدة).

    كان يوم الأحد شبه عادي، وشمسه كبقية الشموس بالنسبه للكثيرين من الناس. ولما ذهب طلاب الشرقية إلى طابور الصباح ـ كما يحدث كل يوم، جاء أستاذ عباس بنفسه لأخذ التمام! ولم يكن أحد من الطلاب يعرف الحقيقة إلى أن جاء عم محمود يحمل لستة ونادى ألاولاد قرف بالدور:

    "المدير عايزكم". قال.

    وقد ظنوا أنه يريد أن يكافئهم ـ أو على الأقل يشكرهم ـ على ما جلبوه للمدرسة من سمعة حسنة في الإحتفال. بيد أنهم فوجئوا بالأسئلة الغريبة:

    "إنتو أستاذ عساكر دة بتعرفوا عنّو شنو؟"!!

    ولما لم يكونوا يعرفون أكثر مما يعرفه كل الناس؛ صمتوا؟!

    "قولوا الحقيقة .. وما حتحصل ليكم أي حاجة.."

    فسألوه عما حدث بالضبط. فأجابهم بأن أستاذ عساكر (إعتقلوه)!

    وباستثناء على إسماعيل الكضاب، فقد كانت هذه الكلمة غريبة على مسامعهم. إلى أن تردد في المدينة أن عربتين إحدهما (دبل كابين) يمتطيهما رجال بزي مدني، مسلحين بالرشاشات! قد جاءوا واقتحموا ميز المدرسين وأخذوا أستاذ عساكر!!

    كانت تلك الليلة، هي الوحيدة، بعد ليالي طوال من التفكير والتعديل وإعادة التفكير ـ في أمر المسرحية، التي راق فيها بال أستاذ عساكر. كان يستمع إلى أخبار التاسعة مستلقياً على سريره وبه بعض الامتعاض من الطرائق التي تسير بها الأشياء (العامة). ومع نفسه، كان متعاطفاً مع الإنقلابيين، ليس حباً فيهم، ولكن رفضاً لما هو قائم ومتجه. هذا بالإضافة لعادة السودانيين في التعاطف مع الموتى، مهما كان. ولأنه لم ينضم ـ في حياته ـ إلى أي تنظيم سياسي بسبب رؤيته (الخاصة) للأشياء، فقد قال لنفسه "كله من بعضه" وربما هذا المعنى هو الذي أوحى إليه مشهد الطاولة فاعتمده ولم يفكر كثيراً في الآمر باعتباره جزء من (منطق) العمل الفني.

    ولما انتهت أخبار التاسعة، أعتبر أن المسألة انتهت. وآخر الأفكار التي جالت بخاطره قبل النوم كانت متعلقة بمصائر تلاميذه الأفذاذ.

    استيقظ أستاذ عساكر إثر ضربة قوية على الباب! ولما جر الغطاء عن وجهه، كان ضوء البطارية الساطع في عينية!

    أغمض عينيه منادياً:

    ـ أزهري... أزهري ..

    ظاناً أن أستاذ ازهري، رفيق الحجرة، قد تعتبر وهو عائد من الخارج. ولكنه سمع صوتاً يقول:

    ـ أيوة .. يا هو!

    قفز أحدهم وعصب عينيه بقماش. وربط يديه إلى الخلف. كان أستاذ عساكر ينادي مندهشاً:

    ـ أزهري ..أزهري

    إلى أن زالت الدهشة أخيراً:

    "أسكت، والله هسي أفرطك راسك".

    وهكذا سيق حافياً بفنلته الداخلية وسرواله الأثير (أبو تكة) فقط!

    وقد شاهد أستاذ أزهري ذلك المشهد و(الرشاش) على رأسه!

    كانت العربة تسير لساعات طويلة إلى أن أُدخل أخيراً في مكان تُسمع فيه أصوات العربات بعيداً، وأصوات الطيور تشقشق. فخمن أنه إما الصباح وإما المغرب. ولما فُك القماش الذي كان به معصوباً، لم تك عيناه قادرتان على النظر، وزيد الطين بلة بأن قابله ضوء كشافة على المنضدة التي يجلس عليها أحدهم ليسأله عن علاقته بـ(المؤامرة)! بعد سين وجيم المعروفة:

    ـ أحسن ليك تعترف. دة طبعاً نحن حنعتبرو تعاون منك ويساعدك كتير.. آها ورينا إنت علاقتك بالجماعة ديل شنو؟

    ـ ياتو جماعة؟!

    ـ ما تقعد تعمل لي حركات الشيوعيين دي .. إنت حتعترف يعني حتعترف..

    وتدخل آخر:

    ـ دقيقة.. دقيقة سعادتك..

    وأدار وجهه نحو حزمة الأوراق التي كان يحملها:

    ـ إنت قلت لي إسمك منو؟

    ـ إبراهيم ..

    ـ إبراهيم منو؟

    ـ إبراهيم الطيب عساكر.

    ـ طيب ليه ما قلت كدة من الأول؟

    لم يجد إجابة على هذا السؤال، والواقع أنه كان مجهداً.

    ـ دة باين عليهو من النوع كدة (...) سعادتك.

    فجرُّوه عبر ممر ضيق إلي حجرة فارغة، ليس بها غير نافذة صغيرة تفتح باتجاه مكان أخر تأتي منه الصراخات (آيي .. آآخ.. وآآآع ع ع)!

    أجلسوه على كرسي خشبي في منتصف الحجرة، وبادره السائل الأخير:

    ـ آها يا أخينا. إحنا حنسألك وعاوزنك تجاوبنا بدون لف ولا دوران..

    ..إنت في شهر حداشر كنت وين؟

    ـ كنت في المدرس‍ة‍.‍‍‍‍

    ـ آها طيب وبعدين؟؟

    صمت، فسأله سعادتو:

    ـ إنت ما مشيت أي حتة؟

    ـ مشيت كوستي..

    ـ و الوداك كوستي شنو؟

    ـ أنا أصلو من هناك.

    ـ وخليت المدرسة ومشيت لشنو؟

    ـ والله والدنا كان عيان.

    ـ كويس .. طيب في كوستي لاقيت منو؟

    ـ لاقيت ناس كتار‍‍‍!

    ـ أيوآآآ. زي منو؟

    ـ والله هم كتار، ما بقدر أحدد ليك..

    ـ شوف نحن حنخليك تحدد. احسن تمشي كويس زي ما كنت ماشي معانا.

    ذكر لهم بعض الأسماء مثل (الجوغان) و(محمد عثمان) فدونوها ثم قالوا له:

    ـ ما هو إنت كويس ‍ طيب بتعرف أستاذ محمد عابدين؟

    ـ أيوه.

    ـ كويس خالص .. طيب علاقتك بيهو شنو؟

    ـ والله ده كان أستاذنا في المدرسة الثانوية.

    ـ وطبعاً هو الـ(جندكم)؟

    ـ جندنا وين؟

    ـ الله الله.. أوع تحاول تنكر

    ثم تدخل الآخر:

    ـ أسمع يا... قلت لي إسمك منو؟

    ـ إبراهيم .

    ـ تاني إبراهيم؟؟

    ـ إبرهيم الطيب عساكر.

    ـ طيب يا أستاذ عساكر.. إنت الألفت المسرحية بتاعة يوم الخميس؟؟

    ـ أيوة

    ـ كويس جداً جداً يعني إنت كنت متستر ورا الولد القلت للناس إنو الألف المسرحية ..آآ؟؟

    لم يجد إجابة، وصمت قليلاً ثم:

    ـ ما .

    قاطعه:

    ـ ما (ما) ولا حاجة.. أوعك تحاول تعمل لي فيها ذكي..

    ثم أضاف: "طيب إنت قلت لي إنو إنت الألفت المسرحية. كنت تقصد شنو بحكاية العمم والطواقي الفي التربيزة دي؟؟"

    لم يجد أستاذ عساكر إجابة، وصمت.

    ـ شوف يا أستاذ عساكر، الحقيقة واضحة زي الشمش: إنتو تعملوا مسرحيات وحاجات زي دي (يعني تحرك مدني). والجماعة بتاعنكم ديل يعملوا التحرك العسكري. وبكدة (تضربوا عصفورين بحجر واحد..) ولا أنا كضاب؟؟

    فسكت إستاذ عساكر ولم يستطع أن يقول له (انت كضاب)

    ـ بكدة المسالة (finish )، وسكاتك دة معناهو إنو كلامي صاح. إنت تروق كدة ونحكي لينا الحكاية من الألف إلى الياء.. وأنا اضمن سلامتك.

    "يا شمسون. جيب للأستاذ ده سندويتش وكباية موية باردة ..".

    ـ آآ... آسفين يا أستاذ اليومين ديل ما عندنا بن ولا شاي.. إنت عارف الظروف.. والله كان عزمناك. إنت أستاذ برضو. هئ ...هئ هئ ضحك سيادته.

    جاء شمسون أصلع قصير، يرتدي فنلة(CUT) . مد له الساندويتش ووقف بجوراه حاملاً كوب الماء.

    ما كانت لدى أستاذ عساكر رغبة في أي شيء، فظل ممسكاً بالساندويتش وهو ينظر إلى مكان غير محدد لا داخل ذهنه لا خارجه!

    ‍ـ أُكُل يا أستاذ. وبعدين معاك يا شمسون!! خلاص خت الكباية دي وأمشي..

    ـ حاضر سعادتك ..

    قال الرجل الثاني:

    ـ شوف... إنت لازم تاكل يعني لازم تاكل.

    فرد عليه (أساسي):

    ـ لا لا ياخي .. ما تكون راجل (CRUEL) ياخي! الراجل دة أستاذنا.. يلاّ أُخُد ليك لقمة كدة.. ولا معليش .. نشفنا ريقك بالأسئلة بتاعتنا.. معليش يا أستاذ هاك خد بُقُّة.

    أخذ جرعة، وضحك سيادته ثم قال:

    ـ طبعاً يا أستاذ إنت راجل صادق، ودة وضح من إجاباتك. طبعاً أستاذ محمد عابدين دة راجل خالنا وكدة. أنا أصلو من عطبرة.. بالمناسبة.. تعرف خليل صديق بتاع السينما؟

    ـ أيوة دة ساكن في الحي بتاعنا..

    ـ أقول ليك سر؟ تعرف خالنا دة هسي (رهن الإعتقال) لكين مش مكن أنا أخليهو تحصل ليهو حاجة.. مهما كان يعني دة خالنا‍.

    وبعدين يا خي إنت راجل تلميذه.. وإحنا عندنا (تعليمات) إنو الزول البتعاون معانا ده حيصدر عنو عفو قريباً. يعني نحنا كل هدفنا تأمن البلد من (الأخطار الخارجية).. طبعاً إنت سمعت إنو في أيادي خارجية داخلة في المسألة ‍‍ونحن طبعاً الناس المدنيين ديل عارفين إنهم ناس (وطنيين) مهما اختلفت وجهات النظر يعني ..

    لم يكن أستاذ عساكر لديه فكرة عن هؤلاء. فكان يستمع صامتاً. وبعد فترة. دخل الرجل الآخر، ثم قال:

    ـ سعادتك الرجل البهنا دة إعترف بكل شيء.. وما أظن الأستاذ دة يفيدنا بحاجة إضافية...‍

    ـ خلاص إنت أمشي .. دة الراجل طلع معرفة يا خي.

    ولما خرج الرجل الثاني:

    ـ آها. قلت لي الجماعة ديل لموا فيك وين؟؟

    ـ الجماعة منو؟؟

    ـ الجماعة أصحاب خالنا. بتاعين المشاكل ديل؟

    ـ شوف يا سيد، أنا أقول ليك الحقيقة..

    ـ أيوآآ.. بس.. الحقيقة.

    ـ أنا ما بعرف أي جماعة، وما عندي علاقة مع أي زول.

    جر (أساسي) رجله على البلاط، ففهم شمسون، ووقف بجوار الباب نادى:

    ـ عايزنك سعادتك ..

    ـ خلاص يا قريبي، الظاهر في شغل مستعجل، المهم إذا احتجت لأي حاجة تطلبني.

    خرج وأخبرهم بأن هذا الرجل إما أن يكون فعلاً (ما عنده علاقة) أو يكون (راجل خطير جداً).

    ـ لا سعادتك. دة أكيد راجل خطير جداً، وبعد إذن سعادتك نبدا معاهو المرحلة الثانية:





    ****



    عقب تدخل أحد أقرباء الأستاذ عبد اللطيف الشريف وإنقاذه من كماشات (المرحلة الثانية)، بقيت تدور الإشاعات في سيرة أستاذ عساكر، وقد أقتنع الكثيرون من البسطاء وغير البسطاء ـ ومن مصادر مشبوهة ـ بثبوت انتمائه للجماعة من خلال تخريجات مدعمة بتحليلات لمضامين المسرحية التي شاهدها الجميع. ولكن الغالبية كانوا متعاطفين معه. ولما لم يكن باليد حيلة، في أيام (الألغام) تلك، لم يبق إلا تداول نتف الأخبار المصنوعة محلياً، المدعومة بدعوات سرية له بالسلامة والنجاة، إلى أن داست (لواري البحر) فراملها على موقف (المدينة) .. وأشاعت ما حدث في كوستي؛‍ حيث خرجت مظاهرات عارمة احتجاجاً على مقتل إبن المدينة (البار) أستاذ عساكر!!

    جاء رجال أثناء اليوم الدراسي. دخلوا على أستاذ عباس في مكتبه. وسمعهم عم محمود قبل خروجهم يأمرون:

    "القلناهو دة يتنفذ بالحرف"!.‍

    لم يكن عم محمود يعرف شيئاً وهو ذاهب إلى (مكتبة البدري) ليحضر أوراق البوستر، ففاجأه ود فاضل العجلاتي:

    ـ البركة فيكم يا عم محمود.. والله أستاذ عساكر كان راجل طيب ـ الله يرحمه ‍‍.

    تشهّد عم محمود، وقرأ الفاتحة على روح الفقيد الذي كان ـ بالنسبة له ـ إنسان لا ينسى. وقال "جايز الموت" ثم سأل ود فاضل "الكلام دة حصل متين؟" فتلفت ود فاضل حوله ثم أجاب:

    ـ إنت كنت وين يا عم محمود ما الجماعة ال########ين ديل كتلوه.. وقالوا هسي كوستي مولعة نار.. تصدق!! تلتمية ولا أربعمية من الطلبة إنضربوا رصاص!!‍‍

    ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..

    إشترى عم محمود أوراق البوستر، وعلى طول الطريق لم تفارقه الحوقلة.

    بعد ثلث ساعة من إحضار الأوراق، نودي وأُمر أن يعلق البوسترات. حملها عم محمود كما يؤدي عمله كل يوم. وعلى البورد أفرد الروقة الأولى وألصقها.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ينعى الأتحاد الأشتراكي

    الأستاذ العظيم / إبراهيم الطيب عساكر

    مؤسس فرعية المنظمات الفئوية بمديرية النيل الأبيض، وعضو الاتحاد الإشتراكي الذي غدر به الخونة وأعداء الوطن .

    ويهيب الاتحاد الاشتراكي بالجماهير للخروج غداً في مسيرة الثورة الظافرة للتنديد بأيادي الغدر التي أمتدت لتقتل الأستاذ عساكر

    وأظله الله بشابيب رحمته

    وعلى جذع الشجرة الكبيرة، علق عم محمود الورقة الثانية ـ وهو ما يزال يهز رأسه ويتحوقل:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ينعى مدير وأسرة المدرسة الشرقية

    الأستاذ / إبراهيم الطيب عساكر

    الذي أغتالته أيدي أعداء الثورة والوطن

    وإنا لله وإنا إليه راجعون



    عقب انتهاء الحصة الثالثة، وهو خارج سأل أستاذ أزهري عم محمود:

    ـ في شنو يا عم محمود؟

    ولما إقترب لم تصدق عيناه ما رأى:

    ـ لا.. لا...ما ممكن؟

    وكانت هذه أول مرة يقول فيها أستاذ أزهري (لا) ..

    ـ دة كذب .. دة كذب ...

    ودفن وجهه في (حائط المبكى).

    إلتف حوله الطلاب الذين كانوا متحلقين حول زير الماء. ولما أبصروا الأوراق إياها صاحوا:

    ـ لا ..لا..



    وخرج بقية الطلاب من الفصول عبر الأبواب والنوافذ. كان أستاذ أزهري قد دخل على أستاذ عباس وتجاسر لأول مرة وزأر في وجهه:

    "دة كذب! وإنت يا أستاذ ما تختشي؟! حتى الموت ما عندكم ليهو اعتبار!؟ ليه يا أستاذ؟ ليه يا سيادة المدير؟! إنت جبان.. جبان".

    وخرج غاضبا وخاطب الطلاب وحكى لهم (المسكوت عنه):

    "والمكتوب دة كذب..."

    ولم يستمع الطلاب إلى بقية الخطبة. انفجر الغضب وقاموا بتمزيق الأوراق ثم وانداحوا في شوراع المدينة هتفوا ونددوا، ورجموا بالحجارة كل المؤسسات الحكومية. وقفز بعضهم فوق سور مدرسة البنات وأخرجوهن. وانضم إليهم طلاب الثانوية، والتأهيلي، ومدارس الشروق واتجهوا إلى مكاتب الاتحاد الاشتراكي.

    كانت جملة واحدة هي مكمن المتفجرات: "كتلوا أستاذ عساكر".

    وكانت الشرطة قد استعانت بحامية الجيش، وتحركت إلى وسط المدينة. وهناك كان المتظاهرون قد هجموا على (المكاتب) وإحرقوها. وفي غمرة الحدث، أطلق الجنود الرصاص. وحُمل سبعة عشر شخصاً إلى المستشفى، وتم القبض على الكثيرين وسيقوا إلى (معسكر التدريب) وهناك ضربوا (ضرب غرائب الإبل).

    وفي عصر ذلك اليوم، تسرب الخبر: أن ستة أشخاص ماتوا، تأكد موت ثلاثة طلاب ـ ذكرت أسماؤهم ـ وثلاثة أخرون مجهولو (الهوية)!

    ولم تشاهد المدينة بعد ذلك المدعو رينقو أبداً ولا رفيقيه هباش والزنجي!

    أمشير ومارس

    والمدارس

    فكّ جرحك يا مدينة

    ألف فارس.

    رينقو في شربة مسدس!

    وجنبو هباش المرصص! ولاّ يا زمن الطورائ!!

    لو تعيش في تحت جيش

    أو تنيش من عمة بيش

    برضو بفضل شعبي عارف

    أي طلقة ظلم (لا)

    أي كلمة حق (أيوة)

    وإنت عايش يا عساكر

    في العراريق والبلوزات الحناجر

    وبكرة لما الضلمة ترحل

    تلقوا هباش ـ يا خوازيك ـ في حلوقكم طعم حنضل

    إستعدوا وغتُّوا راسكم من حجار رينقو الحتنزل

    زي أبابيل زي قنابل

    من صغاركم لي كباركم راح تجندل

    ويا ضواحي الليل وإيدو، قايلة مافيش البخبرك!؟

    بكرة لما الشمس تشرق شوفي كان تختاري قبرك

    أرجي بس وانتظري زنجي

    وشوفي كان تلقي البِنَجِّي

    وامتلأت الحيطان بتلك القصيدة، التي وصلت إلى (المدينة) من كوستي عبر (خط الكفاح المشترك). قيل أنه كتبها شاعر (ثوري) إلتقط تاريخ الحدث من شوراع وأزقة وإندايات كوستي. وقد أعجبت القصيدة تلميذاً صغيراً اسمه (عثمان البشرى) ـ صار بعد ذلك شاعراً كبيراً من شعراء البلاد. كان عثمان البشرى هذا قد حفظ القصيدة عن ظهر قلب، وقام بنسخها لجاره، وشريكه في الدرج والكتب، على غلاف كراسته. فقام جاره هذا بنسخها بالخطأ على غلاف دفتر حسابات والده سائق اللوري. فتكفل اللوري بقطع المسافة بين كوستي و(المدينة)، فقام سائق اللوري، الأمي، بنزع الغلاف المشخبت وإلقائه للريح! فأخذته الريح إلى جوار الحائط! أغرى الحائط فريني ليتبول عليه! فتواطأ بول فريني وطال! فجرجر طوله عيني فريني للتأمل! فاصطدم التأمل بالغلاف المنزوع! فطارت القصيدة وركت في عيون فريني! قرأتها وأدخلتها إلى قلبه! فأحبها قلبه وقرر أن يتزوجها.. فأخذها إلى أبيه الرأس ليطلب له يدها من أهلها! فوافق أبيه على الفور وأرسل للمعازيم: أمر اليد بأن تنسخها على جدارن الداخلية، واللسان أن يقرأها بأعلى صوت! فأعجب صوته المدينة فصارت تغنيها كفاحاً يومياً ضد النسيان!!

    لما استيقظت عزة، بعد أيام الهول إلى فضاء الجرح الجريح، وجدت صديقاتها قد نسخنها لها على دفاترها المدرسية أسوة بدفاترهن. فلبست نظارة سوداء وقراتها.. ولم يسألها أحد عن متى ستنزعها.

    زهرة، وأنهار، وجليلة ـ ثلاثة أرباع ما تبقى من سرب العاصفير ـ قلبن كل صفحات كتاب البكاء والمرارات، وعضضن على شفاههن بحرقة، ونظرن إلى المدى الطويل، فأقسمن أن ينجبن عساكر وهباش ورينقو وزنجي..

    قام سيف حسن بدوزنة القصيدة على ميقات النورمال جيتار. وندى عبد الواحد قررت أن تغني كل يوم بأسماء الطيور المجندلة، وأن تدفع الثمن بأن يذهب (عبد الواحد) إلى المعاش الإختياري تاركاً وظفته لـ(الشروق ).. وما يزال الناس يفتشون عن سر الحزن الجليل كلما رن على أذن سامع نشيد ضارب في البرية التي كانت يوماً (المدينة).

    هناك، في (القرقف)، كان أبو طويلة يتلقى التعازي ويسأل نفسه "أصحيح لن يعود رينقو؟ أصحيح ؟".





    ****



    تحول لهيب الذكرى إلى جمر في القلوب. كل التذكارات لافتات لأيام ستأتي مع مدارات الدنيا. ومن تحولت عنده الذكرى إلى رماد، لم يكن يوماً من سلالة قرف.

    من وراء خط المصير الذي رسمه القدر، ولعبت به أيدي العواصف. نادى المنادي: "من كد وجد.. ومن طلب العلا سهر الليالي".. ولكن شتان بين سهر وسهر. كان الكثيرون يقلبون صفحات الكتب المدرسية والدفاتر. وبين الفينة والفينة يترنمون بأغنية أمشير ومارس، ثم يجندل النوم الجفون.

    كان جو يقلب ما صار لاحقاً (أخبار الأيام) ويدوِّن رسائل من ورد ورصاص:

    "الآن أعبر الليل. والليل بحر أحزان.. أقبّل أقدام الريح أن تاتيك بسر الذي لا سر فيه. الآن أحلم أن أحكي لك سيرة الضوء الشارد.. الآن تقفز السؤلات الجارحة. ماذا بعد؟ ماذا سنصير؟ أمثل من كسروا أجنحة الطير وأحرقوا الفراشات؟؟؟"

    ويغمض عينيه عن شيئين:

    الغياب

    والغياب

    وما بين غياب وغياب، ترفل كل الوصايا، ولكنها تبقى في نهاية النفق شيئاً واحداً (القسر/الموت).

    يدٌ بالنهار تهشم عنفوان خصلة أديرت ليراها القلب، فأدير بها الوجه إلى الصليب..

    يد في الليل تهدم أحلام المسادير. ويد بالنهار ـ أيضاً ـ تزرع الرحيل الأبدي في بعض حلم يافع، ويتبادل الليل والنهار وردياتهما.

    وتتبارى (الأيدي) في إدارة الدائرة.

    ونحن ؟!

    وكل هؤلاء؟!

    الطحين؟؟!!

    ويجئ صوت المسيح:

    ـ أنتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فما الذي...؟

    ـ أنت نفسك أيها المسيح صلبوك!؟

    ـ ولكن كلماتي باقية..

    ـ وكلماتهم هم؟ أليست باقية؟؟ أنها ليست كلمات، إنها نفس الأيدي التي صنعت الصليب..

    ـ "إن ربك لبالمرصاد"

    ـ وإلى أن يوضع (الميزان)؟

    ـ"... ولا تعجل به ..."

    ـ والمدينة!؟

    ـ "حدد ملامحك يا حراز"

    ـ ونون؟

    ـ مدينة.

    ـورينقو؟ الإنسان؟

    ـ مدينة.

    ـ ومن أنت؟

    ـ الطريق.

    ـ !!!

    وبسط الولد الجالس على مقربة من الحائط ذكرياته على نهر الزمان. وهناك من النهر خرجت نون في مكتمل الفضيحة. حلق أستاذ عساكر ورينقو ورفاقه كما النحلات وغابوا في العاصفة. مد جو يده بالتلاويح. سجلت الكواكب إبتسامة نون على حدب الرحيل. لم يعد بينه وبينها إلا قيد لمسة.. ها هو الخد الأيسر وعليه حبة الشباب، العينان الجميلتان، الخصلة المتمردة، الخجل الأثير.. وفي لحظة التجاسر على الإفاعيل القديمة، دخلت اليد التنينية في المشهد. وجذبة واحدة فإذا هما ساقطان في (هاوية الزمان)!

    ـ جو.. جو.. جو.. جو

    ـ نو.. نو.. نو.. نو..

    ـ جو.. جو.. جو..

    ـ نو... نو... نو...

    ـ جو ... جو

    ـ نو ... نو

    ـ جو...

    ـ نو...

    وفي صباح اليوم التالي وجد شربات الرسالة تحت وسادته:

    "أحبابي..

    حين تشرق شمس الغد سأكون قد قطعت مسافة يوم كامل في الطريق على مدن بعيدة.

    أعرف أنكم ستتصرفون كما أريد..

    لعزة، وزهرة، وأنهار، وجليلة، وسيف، وندى (ما تعرفون)

    للكعبة، تحيات الصباح والمساء.

    لعثمان سنين وبت النور كتبي وسيكون عزاءهما أنتم، وأنتم ملح الأرض.



    جو

    جدران الكعبة

    الذكرى الخامسة والتسعين بعاداً









                  

العنوان الكاتب Date
ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 05:16 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-23-04, 08:35 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 10:19 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل mutwakil toum03-24-04, 07:41 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 08:28 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-24-04, 07:45 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-24-04, 12:39 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:44 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 09:13 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل tariq03-24-04, 10:30 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 10:59 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 03:57 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Nada Amin03-24-04, 10:56 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:39 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 04:43 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-25-04, 06:30 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل zozo03-25-04, 09:53 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-25-04, 05:03 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 00:47 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:15 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:24 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-26-04, 08:35 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-26-04, 05:30 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-27-04, 04:20 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-27-04, 05:18 AM
  السلام عليكم توما03-27-04, 10:19 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:08 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:17 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:33 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:38 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:42 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-28-04, 06:58 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-29-04, 05:10 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-30-04, 03:29 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de