ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-30-2024, 06:49 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-27-2004, 11:08 PM

Amjed
<aAmjed
تاريخ التسجيل: 11-04-2002
مجموع المشاركات: 4430

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل (Re: Ehab Eltayeb)

    1


    اللعبة الصغيرة

    سيرة أولاد قِرِف









    هب أنك الحاج عثمان سنين، وأنت في الطريق إلى المدرسة الشرقية لزيارة أبنك؛ بعد أن هبطت، قبل قليل، من لوري حاج عمر، القادم لتوه من أم شقايق..

    أصلحت عمامتك الوحيدة، وتحسست جُزلانك، وحسبت الجنيهات التي فيه. أخرجت الجنيه "أبوشنة ورنة" إياه! ثم أضفت إليه الخمسين قرشاً التي أوصتك بها زوجتك (بت النور) لدعم مصروف إبنها الشهري، الذي ـ أنت تعرف أنه ـ سوف ينتهي في صباح الغد؛ موزعاً بين الرفاق... ولكنك لم تنزعج؛ قلت لنفسك: "الأولاد يصيرون رجالا هكذا..."، ثم أن إبنك هذا لم يقصر معك في المدرسة، فهو دائما ما يرفع رأسك في طابور نهاية العام. قلت أيضاً: "ما الولد طالع على خاله..."! ومرت بخاطرك أيام صهرك عبد الرحمن النور، خال الولد. فأضفت خمسين قرشاً أخرى قائلاً: "ياخي، خلِّي الأولاد يفرحوا... هي الدنيا فيها شنو؟ خربانة أم قدود"...



    ها هم مجموعة من الطلاب جالسين بجوار سور المدرسة، قرب الباب.. وإنت على نية أن تسألهم، إرتبكت!! "أأقول جومو أم النور!؟؟"‍‍‍ ولكن لزوم الرسميات، توكلت على الله وقلت النور. فتلفت الطلاب ولم يذكروا شيئاً من الذي تقول!! فلما تنازلت عن الرسميات وقلت جومو؛ ضربوا على جباههم بأيديهم (الحرة) في تلك اللحظة وقالوا بنبرة واحدة:

    ـ يا آ .. أنت مما تقول كدة من قبيل!!

    قال الطالب المديني منهم:

    ـ والله جومو دة قبل شوية كان بهنا.

    قال شبه المتمدن:

    ـ شوفو في الجنبة التانية ديك .. وأشار إليها:

    ـ أما الطالب القروي، فقال:

    ـ "أجلس ياعمي.. سأذهب وأبحث عنه وآتيك به"!!

    إن الورطة التي دخل فيها الطلاب في البداية، والدقائق التي ضاعت من عمرك إثر الرسميات؛ سببها الأساسي صهرك عبد الرحمن النور ـ مثقف زمن الأحلام ـ الذي فشل في إقناع زوجته ـ بنت الحسب والنسب ـ بأن يسميا ابنهما (جومو) فقام بإسقاط حلمه على ابن أخته؛ التي هي زوجتك! ‍ ولكنه طبعاً كفر عن إزعاجه لـ(بت النور) بأن تبرع بخروف آخر للسماية. واستمتع أهل أم شقايق بخروفين بدلاً من خروفك الواحد. ولكن على أية حال؛ ليست هناك مشكلة ـ حسب رأيك ـ فطالما أن أم الولد كانت سرعان ما تتخلى عن الاسم الذي اختارته لابنها ليطابق اسم أبيها ـ وتناديه (جدو)؛ فما فارقه.. جدو وجومو (كله من بعضه).

    وطالما ليس لديك اعتراضات أخرى ـ وقد أفلت اللعب من يدك من البداية ـ فإن جومو الآن هو أحد أفراد شلة (أولاد قرف) أو (عصابة قرف) ـ سمها ما شئت ـ واسمع حكايته الخطيرة:

    ... وقد كان أبرز أفراد الشلة هم: عثمان شربات، وعلى إسماعيل الكضاب، وأحمد سالم أبو خمسين الذي خسر خمسين قرشه مع إحدى اللعوبات بعد أن أخذ (شرة كاربة). هذا بالإضافة لمحمد الشيخ فريني، وسيد شطة، ومصطفى بطيخة السمين..

    ثمة مزاجات ومصائر مشتركة جمعت بينهم، على مر العامين ونيف الفائتين، الذين قضوهما في المدرسة الشرقية. إذ لم تك تخلو لستة مهرجلين من أسمائهم قط! وحتى إن غفل (الألفة)، وسُحبت منه اللِّستة بتدبير ما، فإنه لا يجد صعوبة البتة، ويقوم ـ أوتوماتيكيا‌ً ـ بتدبيجها مرة أخرى وتقديمها للأستاذ متى مر من هناك.

    ولكن هؤلاء (الشياطين)، بالإضافة لذلك، قد ساهموا بقدر كبير في تشويه حيطان المدرسة؛ ابتداءً من جدران الفصول وسقوفها، حتى المراحيض. كتبوا أشعار الغزل، الألفاظ النابية، وأسماء الفتيات بحروفها الأولى. ورسموا تقاسيم أجسادهن كما يفعلون مع الرسومات التوضيحية في دفاتر (العلوم). خاصة بعد أن عرفوا الطريق إلى بيت (زوبا)، وجربوا في الواقع ما كان يحدث بالصابون، أو في الأحلام، ليكلفهم ذلك مشقة الاستحمام في الصباحات الباكرة، (ونشر الغسيل) في أواخر النهارات. وفي الحقيقة، فقد كانوا (البصلة المعفنة) التي كان يبحث عنها (السيد المدير) لإلقائها بعيداً عن بقية البصل! وقد دخل السيد المدير في متاهة ذات يوم وهو يتفقد حيطان المدرسة عقب نهاية اليوم الدراسي ليجد الرسومات الخطرة، بتقاسيمها التي لكل منها جملة أو مقطع شعر يحمل اسمها: فعيون (Z) في سقف الفصل:

    عيون المها بين الرصافة والجسر

    جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

    فأعجب المدير جداً، رغم اعتراضه على صيغة العبث الجدرانية. وساقه السهم (الدال على ما بعد) إلى تفاصيل نهد (M):

    ( -------->.. البرتكان نهدك مدردم)

    ـ ثم ساقه السهم التالي إلى خصر (F) من الخلف: (--------> الهالكني ...)

    ثم ساقه دليل الأسهم إلى المرحاض الثالث، ليجد تفاصيل ما بين فخذي (A):

    (--------> و آآآآآآآي ..)

    والغريبة أنه لم يجرؤ أحد، من (المؤدبين) الذين يذمون (البذاءة) جهراً، على "إماطة الأذى عن المرحاض"!!‍ بل لوحظ أن هذا المرحاض بالذات قد كثر رواده لدرجة أنه يطفح أحياناً دون رفاقه! مما يكلف (الألطجي) ساعات عمل إضافية، وبالتالي، يكلف سجلات الحكومة وخزينتها أوراقاً وحبراً و(أوفرتايم). على كل حال، هذه قصة.

    ولكن ضمن سيرورة التعبير عن (الواقع)، كان طلاب المدرسة ينقسمون (عرفياً) إلى فريقين: فأنت إما ضمن (أولاد قرف)، إذا كان مصدرك الفقر أو القرية أو الداخلية .. أو؛ ضمن(أولاد كموش) إذا هبطت على المدرسة من أعلى المدينة. أما إذا كنت (جيمس آيول)؛ فلا محل لك من الإعراب!! ‍‍ ولكن هذا التصنيف بأت هلامياً في الآونة الأخيرة بعد أن بدأت تختل موازين تنقلات المدرسين بحجج مثل (الاستثناء لإدارة شئون المنظمات الفئوية)‍‍! هذا بالإضافة لبقاء بعض المدراء لمدد أطول عقب تشمم الناس لرائحة التلاعب في (التعيين)، وظهور متعهدين لم يعرف لهم أصل ولا فصل!

    على أي حال، فقد تزايد أولاد كموش في المدرسة وتضاءل أولاد قرف إلى أن أصبحوا نهراً واحداً عكس ما كان يحدث قبل سنوات قليلة.

    أيضاً، من الجانب الآخر، فقد أفلت بعض من كموش وأنضم إلى قرف على سبيل المزاج؛ مثل سيد عمر عبد الحفيظ، الملقب بشطه، الذي كان من أمهر لاعبي كرة القدم. وقد أطلق عليه هذا اللقب بسبب أحد الباكات؛ ذلك المسكين، الذي كان يكلف بمراقبة سيد في المباريات. وكان بمجرد أن يستلم الأخير الكرة يفرك عينيه، فيصبح فيه الجمهور "شطة .. شطة .." هذا بالإضافة لمصطفى ابن أحمد العاقب كبير تجار المدينة.



    وقد كان من عادة هؤلاء ـ ضمن عادتهم المشاغبة ـ استغلال مهاراتهم اللغوية في كتابة رسائل غرامية إلى حبيبات وهميات، وتداولها بينهم، ماعدا على إسماعيل الكضاب، الذي لم يك للحقيقة مجانبا؛ فهو الوحيد من بينهم الذي استطاع الظفر بقصة حب حقيقية مع إحدى طالبات المدرسة الأميرية. ويحكى عن علي إسماعيل هذا أنه نال لقب الكضاب زوراً وبهتاناً! فهو، بالرغم من أصوله القروية، إلا أنه لم يكن قروياً صرفاً؛ فقد درس المرحلة السابقة متجولاً بين مدن البلاد، مرافقاً لعمه الذي كان يعمل بالسكة الحديد. وبسبب هذه الوضعية، كان على صلة بـ(العالم) أكثر من البقية، ولديه معرفة بأمور كثيرة غائبة عن الآخرين، حازها مما كان يقرأ من المجلات وكتب "الشياطين الطلطاشر" التي كان من عادة أولاد الموظفين أن يتداولوها. وقد كان حبه الشخصي للقراءة يكلفه مضاعفة الجهد في بيع المشروبات والمأكولات في محطات القطار، ليظفر بثمن ما يرضي نهمه في القراءة، بالإضافة للبسكويت والداندرمة والشكولاته. ولكن الحال ذاك لم يدم، فقد (نزل عمه المعاش) وقرر العودة إلى مسقط رأسه ليجد على إسماعيل نفسه من جديد بين رفاقة القرويين القدامي، الذين لم تك تتعدى آفاقهم حدود الكتب المدرسية.

    ولما كان يحكي لهم عن مغامرات الشياطين الطلطاشر، وقصص الأطباق الطائرة، كانوا يموتون من الدهشة. وكانت النتيجة أن أُطلق عليه لقب الكضاب. بيد أن ملابسات هذا اللقب نفسها هي سبب توطيد العلائق القديمة مع جومو، الذي كان بين الفينة والأخرى يطالع بعضا من الكتب والمجلات الخاصة بخاله عبد الرحمن النور، التي كانت مدسوسة في منزلهم لسبب لم يك يعرفه! لذلك، كان يرى بعض المعقولية في ما يحكية على إسماعيل. وكان يعاضده في معاركة الإقناعية مع (القرويين). هذا بالإضافة لقصة صباهما التي سيحكيها لنا على إسماعيل بنفسه في مقبل الأيام.

    ولما كان لعلي إسماعيل من كارزيما، وخبرة، فقد أمسى قائداً تلقائياً لمغامرات الشلة. فهو الذي كشف لهم الطريق إلى بيت (زوبا) ليجربوا فحولاتهم هناك. وقد ساهم في جرهم إلى الكثير من المشاكل في المدرسة. ولولا لطف الله ووجود أستاذ عساكر، لكانوا اليوم ـ بالتأكيد ـ في المنطقة الصناعية، أو في موقف اللواري، أو في طريقهم إلى (القوات النظامية). فقد قبض عليهم أستاذ عساكر مرات عديدة وهم يتداولون كيس التمباك في مؤخرة الفصل. ولكن الجريمة الكبرى كانت في بداية السنة الثالثة، عندما استطاع أستاذ عساكر أن يطب عليهم، في هجوم مباغت، ويصادر مجلة الـPLAY BOY !! مما اضطره لإجراء تحقيقات (تربوية) طويلة، ولكنها كانت دائرية ولم تفض إلى شيء!

    وبالرغم من تهديده إياهم بأن يرفع الأمر إلى السيد المدير، إلا أنه لم يفعل، واحتفظ بالمجلة (المعروضات) لزوم التهدي فقط. وقد كان ذلك كله بسبب إعجابه بذكائهم ومواهبهم، خاصة بعد أن أبدعوا في عمل وأداء المسرحية التي فازت بها المدرسة في مسابقات المدارس في احتفالات عيد التعليم الفائت، وهم الذين رفعوا رأسه باعتباره المشرف على النشاطات الأدبية والفنية، بالإضافة لـ(وكالة النظام) في المدرسة. وقد كانوا بالنسبة له (المعادل الموضوعي) لمقولة (عماد المستقبل) التي (جنّنتهم) بها السيد المدير في خطبه المتكررة.

    وبعد كل ما عرفناه، فلم تك هذي هي المرة الأولى التي (يتجاوز) فيها أستاذ عساكر (اللوائح المدرسية) وما تتطلبه نزاهة الموقع! فقد قام بإخفاء جزء من التقارير عن السيد المدير، لمعرفته بتشدده . فليس من الممكن ـ بالإضافة (للمعروضات) ـ أن يقدم للمدير حكاية (تام زين)؛ (ست الإنداية)‍ التي اشتكت إليه بأن أولاد قرف لم يدفعوا لها ثمن ما شربوه خلال أسبوع، بعد أن ضللوها بأنه (في قروش جاياهم)! وبالتأكيد فإن السيد المدير لن يعيد إليه ما دفعه لها من حر ماله تجاوزاً للفضيحة .. حتى إن تغاضى عن المصير المحتوم لـ(عماد المستقبل) حينها، والهلولة التي ـ لابد ـ سيقيمها أستاذ عبد الجليل إثر ذلك.



    ****************



    بالإضافة لجيمس آيول، الذي لا محل له من الإعراب، كان هناك اثنان آخران من الطلبة (الجنوبيين)، الذين جاءت بهم حكاية (صديقنا منقو) إلى المدرسة. وكان جيمس آيول وبول أشويل يقنطان حجرة صغيرة في الداخلية، كانت يوماً مخزناً! ولم يعرف أحد إن كان ذلك بسبب أفكار يمينية أم يسارية،‍ ولكن ثالثهم مايان دينق، ابن ضابط البوليس، كان أقرب لأن يكون كموشاً.

    في بداية أيام الرفقة، صرح شربات بأنه مستغرب لوجود (جنوبيين) في المدرسة!‍ لأنه لم ير ذلك من قبل. ولكن أحمد سالم أبو خمسين ذهب أكثر في مرامي الدهشة، وحكى أنه هناك في قريتهم، فإن كل ما يُعرف عن الجنوبيين أنهم (جانقي). وأن (الجنقاي) لا تخرج حياته عن العمل كأجير في المزارع أو جالب للحطب، أو عمل المشاجرات في بيوت المريسة .. واستدرك أنه بمجرد أن يحل الجنقاي في القرية، سرعان ما يغير اسمه، كأن يسمي نفسه (قرشين ) أو (أربعة يوم). أو.. أو.. إلخ. ولا يُعرف للجنقاي زوجة أو أولاد! وإن عُرفوا فإن أولاده إما أن يعملوا خدامين، أو رعاة للأبقار ويلقبهم أصحابها بـ(العب الصغيّر) و(العب الكبير)‌‌!!

    ولكن هاهو مايان دينق أكثر أناقة، وأكثر شطارة من بقية الطلاب! وليس كما تقول الأغنية:

    "دود ماني سـرب سـربة

    عيال جانقي شالوا الحربـة"

    كناية عن عدم شجاعتهم!

    كانت المسألة برمتها، عادية بالنسبة لعلي إسماعيل الكضاب.

    ولكن جومو كان بين بين؛ فما كان يؤرقه شيء واحد،هو كونهم (مسيحيين)‍. وكان يقول لنفسه "حرام أن يدخل جيمس آيول النار.. فهو إنسان جيد ولا يستحق ذلك لأي سبب..". وكان قد عزم على هدايته للإسلام (تأميناً للموقف) فحسب، فهو يحب الخير للجميع. وقليلاً قليلاً لما توطدت العلاقات، بدأت تتفجر المجادلات حول قضايا لاهوتية لا أول لها ولا آخر. ولكن جومو أحس في النهاية بأن منطق جيمس آيول، لا يقل حُجّةً عما هم به مؤمنون!! وبعد ذلك نمت العلاقة على قاعدة (التواطؤ التسامحي) "لكم دينكم ولي ديني .." واستمر الحوار ودياً بالسكوت عن الأشياء الملغمة.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أكمل فيه أستاذ عبد الجليل الشرح في حصة (اللاهوت) بعد أن أبان وأوفى عن الإيمان بالكتب الأربعة، ثم مسح يديه من الطباشير قائلاً:

    "أهناك سؤال؟؟"

    فرفع شربات اصبعه وهو يصيح: "أستاذ.. أستاذ..". فقمعه أستاذ عبد الجليل بصرامة:

    "أُجْلُس".

    فقد تورط أستاذ عبد الجليل في الحصة السابقة عندما كان يشرح مسألة وجود الله مردداً "إنه موجود في كل مكان"، ففاجأه شربات بسؤوال حسبه قلة أدب:

    ـ يعني هسي يا أستاذ ربنا قاعد في الفصل هنا مثلاً؟! أو لو أنا مشيت الحمام ممكن ألقاه هناك!؟؟

    لكن هذه المرة قرر أستاذ عبد الجليل إحباط المهزلة في مهدها. فجلس شربات وابتلع سؤاله.

    رفع جومو يده، فسمح له أستاذ عبد الجليل بإشارة منه، فقام وألقى بسؤاله هو الآخر:

    ـ إنت يا أستاذ قلت الكتب التلاتة التانية دي محرفة ‍ طيب الضمان شنو إنو كتابنا ده ما محرف؟؟

    "إن هذا الكتاب قد تعهد الله بحفظه، لذلك سماه اللوح المحفوظ."

    ـ لكن يا أستاذ الضمان شنو؟ ما إحتمال الإسم ده عملوه الناس الحرفوه عشان ما في زول يشك؟؟

    ـ فوجئ أستاذ عبد الجليل ـ مرة أخرى ـ بهذا السؤال فأمره:

    "أجلس واستغفر الله .."

    جلس جومو ونفذ بقية الأمر.



    خارج الفصل، تفجرت النقاشات مرة أخرى حول التحريف وممكناته، خاصة مع وجود سوابق في هذا المجال.. وتجرأ على إسماعيل الكضاب على السؤال: "لماذا لاتكون هذه الكتب التي تخفى عنا ولم نقرأها هي الصحيحة؟ وإلا لماذا تخفى؟". وتكاثرت الجراثيم الإبليسية أو ما يسمى (حب المعرفة) في تلك الأذهان. ولكن جومو ظل ممسكاً بطرف الحكاية: فما أن التقى بجيمس آيول حتى أسرع في محاولة أحراجه بالسؤال الذي يؤورقه هو:

    ـ إنت مش مؤمن بالتوراة؟

    ـ أيوه ‍‍ ‍‍‍

    ـ طيب إنت قريتو ولاّ مؤمن بيهو ساي؟؟

    وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها جومو هي الإجابة ب (نعم)!!

    ـ طيب والزبور؟؟

    ـ كمان ..‍

    ـ وإنت الكتب دي لقيتها وين؟؟

    ـ ما في كتاب مقدس!! ‍ إنت ما بعرف؟‍

    ـ الكتاب المقدس دة مش الإنجيل؟؟

    ـ كتاب مقدس ده فيهو عهد قديم وعهد جديد، وعهد جديد ده يا هو إنجيل ‍

    ومع دهشة الاكتشاف:

    ـ طيب إنت عندك الكتاب المقدس ده؟

    ـ أيوة ‍

    ـ ممكن أجي بعدين استلفو منك؟ بس أقراه وأرجعو ليك؟

    ـ ياخي أنا بديهو ليك مرة واحد...



    كذب جومو على فريني، حين لمحه الأخير حاملاً حقيبته المدرسية خارجاً وهو لم يغير ملابس المدرسة بعد، بأنه: "ماشي أشرح عربي لجيمس آيول". ولما استدرك أن إجابته تلك قد تفتح منفذاً يحشر فيه أولاد قرف أنوفهم، مر على آيول وأخذ (ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) وخرج إلى (هناك)؛ لكي يجلس تحت شجرة النيم الظليلة، خلف المدرسة، وراء ميز المدرسين؛ حيث لا يمر مار في تلك الساعة من النهار. ولكن حكم العادة ساقه ليجد قدميه وقد عتبتا على باب المدرسة! قال: "حسناً، سأدلف من الناحية الأخرى". ولكن شاءت (دروب إبليس) أن توقعه في الشر! فها هو السيد المدير قد فتح بوابة ميز المدرسين وصاح:

    ـ ياولد ..

    ارتبك جومو، وتحسس حقيبته بعد أن غامره إحساس بأن السيد المدير لابد ناظر إلى محتوياتها. بيد أن الطامة الكبرى جاءت لما أضاف السيد المدير:

    "خُت الشنطة دي هنا.. وأمشي جيب الغدا من البيت"..

    "استر يارب ..". قالها جومو في نفسه، ولعن الطالع الذي ساقه إلى هذه الورطة. ولكنه لم يجد مفراً من تنفيذ الأمر.

    نقر الباب، ففتحت له نازك، بنت المدير، التي كانت هي في عمره تماماً وفي نفس السنة الدراسية. كان وجهها مثل (شيء) لم يفكر فيه من قبل، عيناها جميلتان، وخصلات من شعرها طائرة، مسحتها بيدها غير التي تحمل (كتاب العلوم). رأى حبة الشباب النابتة على خدها الأيسر.

    ـ اتفضل..

    ـ عايز الغدا..

    ـ يا ماما.. عايزين الغدا.

    قالت، ثم أضافت: "مش أنتو المثلتو المسرحية؟"

    ـ أيوه..

    ابتسمت واستدارت، ثم انحنت لتعبر تحت قوس الليمون باتجاه الباب النملية. رأى (أقواس النار) واضحة، ثم عاد إلى وقفته ليستمع إلى زوجة المدير وهي تأمر الخادمة: "هذا هنا. وهذا هناك.."، وهو لم يزل به من الارتباك، يفكر فيما يمكن أن يحدث لحقيبته؛ "أليس من الممكن أن تحدث صدفة أخرى، كان يفتح السيد المدير الحقيبة ليستعير قلماً أو ورقة مثلاً؟ أليس من الممكن أن تنتاب المدير لحظة فضول ويحاول أن يعرف كيف يكتب طلابه الإنشاء مثلاً؟". ولكنه رتب في ذهنه إجابة مقنعة للطوارئ: "سأقول أن جيمس نسبه في الدرج، وأنا أخذته لأوصله إليه.. إجابة مقنعة.. ثم يا ولد إنت ناسي إنك ممثل؟".

    ذهبت كل تلك الهواجس أدراج الرياح، ومر الأمر بسلام. ومن تحت شجرة النيم الظليلة، تلك التي يسمح موقعها المقابل للفسحة التي يرتادها مجانين الكرة، بإخفاء (المعروضات) في الوقت المناسب، بدأ جومو يتصفح التفاصيل الغريبة والكلمات التي ما عرف يوماً معناها:

    (سِفِر التكوين)! (الإصحاح السادس )!! (مراثي إرميا)!!! ..(المزامير)!!!! (نشيد الإنشاد)!!!!!:

    "ليلثمني بقبلات فمه، لأن حبك ألذ من الخمر.."!

    استعدل جومو جلسته لجدية الأمر!

    ".. أجذبني وراءك فنجري.."

    "..إنني أشبهك ياحبيبتي بفرس في مركبات فرعون.."

    "ما أجمل خديك .."

    ـ ظهرت حبة الشباب في اللوحة ـ

    ".. طوال الليل طلبت بشوق من تحبه نفسي فما وجدته. سأنهض الآن أطوف في المدينة، وأتجول في شوارعها وساحاتها ألتمس من تحبه نفسي..".

    قال جومو: "إنه كلام الله. هذا لا يمكن أن يكون محرفاً". وأقعي يتمتع ويمتدح من نبع النشيد، يعيد ويستزيد، إلى أن ظهر بعض مجانين الكرة في طرف الميدان، فقام بإخفاء (الكنز).

    وفي الليل، بعد أن "آبت الوحوش إلى آجامها"، وأطفئت الأنوار، كان جومو يحدق في الظلام؛ يستعيد ذاكرة النشيد. فدخلت من ثناياه اللحظة الحاسمة التي أجلها الارتباك وريح الظنون. أطل عنفوان الوجه وابتسامته الجاسرة. كان شيئاً كرائحة أعشاش عصافير الجنة في عمق الخريف.. شيئاً كألعاب الطفولة.. كوقع أقدام المطر.. الضفائر الطائرة، حبة الشباب التي تسبب الأكلان في القلب وما من ظفر يحك إلا لمستها! وقوس النار لحظة عبور (قوس الليمون) الذي شيدته الطبية لتعلن انتصارها النهائي..

    "نازك!! ..اللـــــــــــــــه!!" قال لنفسه في مشهد الظلام ذاك. ثم تدفق شلال الماضي؛ كيف كان يراها عابرة، في الصباح، بزيها المدرسي وحقيبتها في حضنها برفقة أختها سلمى. كيف كانت تعود في آخر النهار، ولمرات عديدة، لوحدها.. تقرأ نفس الكتب المدرسية التي يقرأها.. حك ذاكرته للتلصص على الأيام التي تعود فيها لوحدها.. لكن هيهات هيهات.. وفات الليل..

    ولما دندن (عم عبده)، مؤذن الزاوية، بأدعيته اللطيفة: "أسبحنا وأسبح الملك لله.."، بلكنته التي تدل على أصله الأعجمي، قبل أن يصدح بأذان الفجر الأول؛ قام جومو، استحم، وتوضأ وصلى الفجر حاضراً ـ ليس كما كان (يكلفته) بعد شروق الشمس. كان يحرك أصابعه، ولم تك بخاطره تسابيح محددة. ومع شقشسقات عصافير الصباح، استيقظ كلب الداخلية الذي لم يسمع له أحدٌ نباحاً وجاء ورقد بجواره.. تأمله جومو وحن عليه. وبدأ يفكر فيما يفكر فيه هذا الكائن المتوحد النبيل!! احتمالات كثيرة! ولكن الله وحده يشاركه في معرفتها!!

    قام جومو ودخل (العنبر). صار الزمان بطيئاً في تلك اللحظة التي يستحلي فيها الآخرون بطأه، ويتمنون أن تكون الشمس الشارقة هي شمس الجمعة، أو أي إجازة حتى يكتمل برنامج الكسليات..

    مع ضوء الشمس المائل عبر النافذة المهشمة، نظر جومو إلى صورته في المرآة. داهمته الرغبة في أن يستعاد الخلق في تلك اللحظة. وتحمل إليه المرآة نبا أنه (دهر مندرا).. فسرح شعره بعناية وطبطب عليه بيده حتى صارت الصورة (مقنعة)، ثم حمل حقيبته وخرج. على الزاوية التي كانت تنعطف منها كل صباح، تلك التي كانت يوماً ـ وبالأمس القريب ـ كبقية خلق الله، فصارت اليوم (أميرة البر والبحار) كما كانوا يكتبون في رسائلهم الغرامية لأولئك الفتيان الوهميات؛ جلس جومو، وأخرج كتاب (العلوم) مدعياً المذاكرة. مر عليه عدد من السابلة، ألقوا عليه تحايا الصباح ودعوا الله له بالنجاح. كان مع كل نصف دقيقة يرسل البصر كرتين إلى (هناك)، من حيث (ستشرق العصافير) التي ما فتئت تشقشق منذ انطفاء أنوار البارحة.

    شووو.. تدفقت الشلالات بقلبه ثم اندفق القلب مع اقتراب العصفورة. فوجد نفسه هارباً باتجاه البوابة يشهق كأنه في نهاية الماراثون!

    هتف هاتف: "أثبت يا راجل.. خليك واثق من نفسك!". لما (ثبت الراجل) كانت أقدامه على عتبة بوابة الفصل! استعاد قلبه وأنفاسه وعاد إلى هامش أرض المعركة. كانت العصافير (البطلة) قد عبرت ـ حينها ـ إلى ماوراء الأفق المنظور.

    ظل جومو ساهماً طوال النهار؛ ففي وقت الفطور، وقفت اللقمة في حلقه، غالبها لو تجد لها جيزاً في الجوف مع زحمة النيازك. في الحصة الرابعة، لاحظ أستاذ أزهري سهومه، ولما ألقي عليه السؤال، احتاج إلى قرون ليعود من تفاصيل بحار قديمة قِدم العالم.

    ومع نهاية الحصة الأخيرة، وبمجرد أن اتجه أستاذ عساكر إلى الباب؛ قفز جومو من النافذة المجاورة لإعادة الكرة، بعد الفرة المخجلة في الصباح. ولكن على إسماعيل الكضاب لحق به ممسكاً بكم قميصه: "تعال.. تعال.. قبضتك! إنت كمان ماشي تعمل خيانة؟ إعترف..".

    "كيف عرف على إسماعيل بالأمر؟!" سأل جومو نفسه، ثم استهدى بالله ورد على الكضاب:

    ـ خيانة شنو؟؟

    ـ تعال شوف صاحب أبو خمسين!!

    ولم يترك له فرصة للتملص، وعادا من نفس النافذة التي خرجا منها.

    كان شربات يضحك بخساسة "أُهو.. أُهو .. أُهو"، وأبو خمسين سارحا. ولما دخلا، ترك شربات بعضا من خساسته قائلاً:

    ـ تعال.. تعال يا جومو شوف صاحبك.. أتاريهو يومداك لمن اختفى، ونحن نشيل ونحشي في الساندوتشات ونشاكل عشانو، أتاريهو كان عامل خيانة قدر كدة (...) لكن الخاين الله يخونو.. شوفو عامل ضبلان كيف؟ دة عندو (أبو شروروة).. وصاحبك الداقس قال عايز يمشي المستشفى!!

    قال بطيخة:

    ـ طيب ما يمشي؟؟!

    فعاجلة إسماعيل:

    ـ إنت كمان داقس ولا شنو؟! إنت عارف حيكتبوا شنو قدام إسمو مكان (المرض)؟؟

    (سين، ياء، لام، ألف، نون)، وطبظ بسبابته جبهة بطيخة الذي أدرك خطورة المسألة.

    وعلق فريني بخبث:

    ـ والله يا أبو خمسين وقعتك سودة.. ما فيش أمل. غياتو (عتلتك) حتنقطع (الله يرحمها) وإنت حتكون بلاطة.. غايتو حنفقدك لأنو حينقلوك (الأميرية)، لكين ما تخاف، أخوك حيتبرع ليك بطرحة زي الورد..

    انزعج أبو خمسين وقال:

    ـ يا جماعة ما تهظروا بالله ..

    ـ قول الروب ..

    ـ لا.. روب شنو ياخي؟ ده لازم يقول "ووب عليّ"

    ـ لا.. ده لازم يقو ل "أجِّي"..

    ولما رأى شربات عيني أبو خمسين وقد اغرورقتا بالدموع، سأل سيد شطة:

    ـ أسمع.. قلت لي نعمل ليهو شنو؟

    ـ والله الحل الوحيد إنو نوديهو لـ(كوجاك التمرجي).. وغنوا:

    " البنسلين يا تمرجي ..

    جابو الحكيم يا تمرجي .."

    ثم أضاف سيد شطة:

    ـ لكين الله يستر! أصلو كوجاك ده (عيالاتي) معروف.. آها يا أبوخمسين؟ أخير ليك ده ولا تبقي بلاطة؟ اختار.

    ـ لا أنا ما بمشي براي.

    فغنوا:

    "واي واي، خلاني براي، خلاني براي ..

    ومع الأغنية والتبشر، صاح فريني:

    ـ طلِّع . . طلِّع ..

    وجمع جنيهاً وخمسة عشر قرشاً ثم قال: "الباقي يتمو على إسماعيل الكضاب (حنك). ولكن على إسماعيل الكضاب تنازل عن حكاية الحنك هذه لشربات.. والتفت إلى جومو:

    ـ و أنت شكلك كدة عامل خيانة.. قول عندك أبو شرورة خلينا نلحِّقك أبو خمسين "ناس ما عندها دم".



    ـ ياخي خيانة شنو؟ هسي فوتونا الغدا..

    وهكذا مكر بهم. فترك على إسماعيل حكاية الخيانات الصغرى قائلاً:

    ـ يلاّ يا جماعة. الفقريين ديل يكونوا هسي شربوا القرع.. غايتو ناس بطيخة ديل ما عندهم مشكلة.. لاكين إنتو.. والله إلا تغتِّسوا رغيفكم في قدح الزولة بتاعة أبو خمسين..

    ولما عتبوا خارج بوابة المدرسة الرئيسية، كانت العصافير تنعم بـ(التشنقل) على سريرها.

    جاء المساء ثقيلاً، وبدا الزمن كسلحفاة كسيحة. فتح جومو نافذة نزقة الهواء وبقى متربصاً باللحظات وقد عاف كل شيء؛ الطعام، الشراب، والسلام والكلام. وفي الليل مر النيزك مشتعلاًعلى تخوم المجرة، وتفجرت الروح مرة أخرى كما تفعل آلام الضرورس.

    قال صوت الحادي الليلي:

    "قم.. أمشي.. أقفز فوق جميع الأسوار، قل الكلمة، وليحدث ما يحدث "

    قال الحارس:

    "ستصلبان هنا.. وأشار إلى المسافة بين بؤرة الجمر الراقد في الصدر، وبحر البراح الممتد هناك قريباً من قوس الليمون. "آه.. كيف نائمة أنت الآن؟ أي جماد يستدفيء بلمسك؟ أي شيء يستمتع بهمس أنفاسك؟ آهـ.. آهـــ .. آهــ .."

    دخل ضوء القمر من ثقب البوابة الشرقية..

    "متى سيجيء اليوم الذي نجلس فيه في مثل هذا السحر؟ ونبث بيننا الهوى... لا... لا لماذا يكون بينا بين؟ كفى هذا المدار... كفى"..

    قام جومو وجر على إسماعيل ـ الغارق في النوم ـ من أصابع يده، فلم يزد هذا عن:

    "أووووم .."

    ثم انقلب ليكمل نومته. فضربه جومو على كتفه ست ضربات متتاليات.. فقام على إسماعيل مخلوعاً:

    ـ مالك؟ في شنو؟؟

    ـ قوم.. أنا عايزك..

    ـ ياخي الصباح..

    ـ ما ينفع ..

    فجلس على إسماعيل وهو يغالب النوم:

    ـ آها.. ؟؟

    ـ لا هنا ما ينفع... أراح بره..

    أحس على إسماعيل بجدية الموقف، ولف ملاءته حول جسده وقام على حال (إلعن أبو اليوم اللّمانا فيكم).

    على الساحة المجاورة للداخلية، حيث كانوا يلعبون الكرة الطائرة. عرف على إسماعيل تفاصيل الحكاية، أو ما أسماه (قولة تيت). ولما كان (ما يزال في النوم عشمان)، تخارج من الموقف باقتراح وجيه:

    ـ أسمع.. أحسن حاجة تعملها، ما تفوت اللحظة دي.. وبدل ما تقعد تحبني أنا.. أحسن تحبها هي!

    ـ يعني أعمل شنو؟؟

    ـ يا أخي أمشي جيب ليك قلم وكم كراس كدة، واعتبرها الكراس، وبعدين وقول ليها أي حاجة إنت عايزها.. بعد داك الباقي هين.

    كان الاقتراح وجيهاً بالفعل.. وبعد دقائق، أستعاد على إسماعيل نومته. وكان جومو (أنا و انت والليل والقمر).. ولما استفتح عم عبده صباحات الله بـ(أسبحنا وأسبح الملك لله)، كان جومو قد أُوحى إليه نشيد الإنشاد الخاص به! و ملأ كراسة.

    وبعد أن صلى الفجر، وعاد إلى سريره مغمضاً عينيه يستعيد نفسه الذي ظل متوقفاً منذ منتصف الليل، ظهر ذلك الطائر الخرافي الذي يشبه السمبرية متمرجحاً في خياله! كانت تلك أول بوادر الحمى (الملاريا).

    في التاسعة صباحاً وجد نفسه على سواعد الرفاق محمولاً إلى المستشفى.. ولم يفارقه الطائر الخرافي إلا في اليوم الرابع. فجلس الرفاق بجواره.. وقال له على إسماعيل:

    "إطمئن يا أبو الشباب .. إنت بس خليها تجيك ( ندبة الصباح)".



    كانت الأيام الأربعة قد شهدت نشاطاً دائباً سخر فيه جنرالات قرف كل مكرهم ودهائهم لخوض حرب لا مجال لخسرانها أبدا. فقد قام على إسماعيل بإقناع زهرة بخطة (الحرب)، بعد أن أبكاها وهو يتلو عليها صفحات من (كراس القمر) محذراً إياها من الوقوع في غرام هذا (النبي)، وهو يقارن لها ما كتبه مع مقاطع من نشيد الانشاد الأصلي. ولما اقتنعت زهرة بالخطة، قام بتسليمها (الطعم)، وهو كتاب (قصة حب على ضفاف المانج )؛ تلك القصة التي تحكي عن فتاة تحب فتى غائباً. وظلت تحلم بلقائه لسنين طويلة، ولما لم يجيء، قررت الانتحار أخيراً، فودعت ذكرياتها الجميلة، وشكرتها على حسن الرفقة، وذهبت لتلقي بنفسها على ضفاف نهر المانج. ولكن هناك كانت المفاجاة! إذ أن الفتى نفسه كان على الضفة الأخرى. وقد اتخذ نفس القرار ولنفس الأسباب!

    فسبح كل منهما باتجاه الآخر، وفي منتصف النهر، كان عناقاً حاراً أخجل الكواكب، فحملتهما على مركب النور إلى حديقة السعادة الأبدية ـ ليكملا عناقهماهناك. وفي لجج العناق، تستمتع الفتاة إلى أخبار أيام الفتى، تبكي، فتهطل دموعها وتنبت أزهاراً .. وأزهاراً!!

    في مساء ذلك اليوم كان الكتاب قد وصل إلى أنامل عزة ـ صديقة نازك الوحيدة ـ بصدفة مفتعلة. وفي صباح اليوم التالي، تم جر (العدو) إلى خط المواجهة. جاءت نازك لتبادل قبلة الصباح وحضنته مع عزة، فلاحظت احمرار عينيها! ولما سألتها أجابت دموعها!! وهناك في زاوية الأسرار، أخرجت عزة الكتاب وأعطته لنازك.

    وفي أزقة الوقت بين أسرار المدرسة الأميرية، كانت سيرة (الولد الجميل) الراقد على سرير المرض قد تم تداولها مع بهار ذكريات أعياد الماضي.

    انتحل بقية أولاد قرف شخصيات قطاع الطرق. حتى أن نازك وهي في طريق العودة اليومي، قد ألقت التحايا لأول مرة على شربات وسيد شطة الذين كانا يفتعلان مشهداً شاهده (الجميع) في يوم مضى على خشبة مسرح (المدينة) الكبير.

    في الليل، وبدلاً من المذاكرة المفروضة من قبل (كبير المدرسين)، العارف بواجبات أنجاله في سنين دراستهم الفاصلة، وُضعت الكتب المردسية جانباً، وامتدت الأنامل الناعمة إلى (السر) بعد أن أدخل بين دفتي (كتاب الدين)! حتى لا يشك شاك.

    كانت اليد اليمنى تمسد في البدء (حبة الشباب) ذات الملمس (الحلو). وتارة أخرى تمسد الضفائر الطائرة. إلى أن زحفت قليلاً قليلاً لتمسح غشاوة العين التي صارت تصنعها الدموع. لتصبح أخيراً في إنتظار الكواكب!

    في تلك الليلة، نبتت أشجار الغربة والتوحد، وصارت غابة في القلب النضير. وانبجس النداء الأنثوي الذي كان يتعرج بين أسوار الأوامر الأزلية، وكهوف التغييب الأصم، ليجد نفسه دفعة واحدة في البرية، وعلى مرأي من الشمس، أمام الحياة بالطعم واللون والرائحة.

    أستمرت جرجرة العدو في اليوم التالي، بل وتقدمت إلى أبعد مما كان مرسوم لها! فقد جاءات نازك أكثر بكرة عن عادتها وأنتظرت عزة. وبعد القبلة البدئية، والحضنة، أضافت قبلة أخرى ثم ألقت بالرجاء:

    "عزة، عليك الله لو إنتي صاحبتي بالجد.. عليك الله تديني الكتاب ده".

    فردت عزة باسف: أن الكتاب ليس ملكها وأخبرتها أنه كتاب زهرة. وأضافت أنها هي نفسها كانت تفكر في نفس الموضوع، بعد أن بحثت عن الكتاب في كل المكتبات ولم تجد له أثراً ولا حتى ذكرا!! ولكنها أعلنت عن تنازلها إذا سمحت زهرة بذلك قائلة:

    "ما نحن يا نازك (حاجة واحدة)"!

    وطفقتا في عناق جديد. وبدأ مشوار البحث عن زهرة. أخيراً وجدتاها جالسة هناك في طرف المدرسة في انتظار جرس بداية اليوم الدراسي. وقد كانت حزينة بالفعل وهي تمثل دور الحزينة ـ حسب الخطة ـ ولما فأجانها بالطلب تصرفت وأدخلت تعديلات فورية على الخطة من عندها. فهي الآن أكثر حماساً من الجميع!! وقد بررت ذلك لحبيبها على إسماعيل، بأن "كل شيء في سبيل الحب مشروع، بل وواجب!".

    وضمن التعديلات في الخطة، أعطت زهرة الوعد الجميل لنازك بأنها ستبذل قصارى جهدها لإقناع قريبتها صاحبة الكتاب بأن تتركه لها، وإلى أن يأتي ذلك الحين فليبق الكتاب معها كعربون صداقة. وكان ذلك وحده كافياً لنشوء صداقة فورية، وإضافة عضوة جيدة إلى جماعة (سرب العصافير)، التي تضم عزة.

    في فسحة الفطور،عادت الخطة الجهنمية إلى مجراها الأساسي؛ فشرحت زهرة للصديقتين سر حزنها الحقيقي/المفتعل:

    ـ والله يا جماعة أنا حزينة لأنو صاحبنا عيان وراقد في المستشفى.. ومافي طريقة نمشي نزوره..ما إنتو عارفين قوانين الداخلية الزفت دي. ده جومو يا عزة.. طبعاً نازك ما بتعرفو..

    قالت عزة:

    ـ تتذكري يا نازك الولد الكان بمثل خالد عبد الفراج ود التاجر في مسرحية الشماشة بتاعة السنة الفاتت؟؟

    ـ أيوة، أيوة.. بتذكرو! الود ده أن شفتو متين ياربي؟؟ أيوة.. قبل كم يوم كدة جا بيتنا عشان يشيل الغدا.. وهو بقى عيان متين ؟؟

    وأمسكت زهرة بالخيط:

    ـ ده ياهو.. والله ده ود!! إلا غايتو.. تصوري! عندو ملاريا، وليهو كم يوم راقد.. تخيلي الملاريا مخلية الناس الشينين الكتار ديل كلهم، وماسكة الولد العسل ده!!

    وهنا استعادت نازك صورة باهتة لذلك كالولد الذي فتحت له الباب يومذاك. كانت الصورة ضبابية.عادت إلى احتفال العام الماضي ولم تنجل الصورة بعد! وبدأ جهاز الفضول يرن في الدماغ بحثاً عن التفاصيل الكاملة للصورة!

    ومع جرس نهاية اليوم الدراسي، جاءت زهرة إلى عزة ونازك وقالت:

    ـ عزة.. ما يعني أن عايزاكي في خدمة صغيرة..

    ـ جداً يا زهرة من عيوني ..

    ـ وإنتي مارقة من هنا مش ممكن تتقدمي مع نازك؟ بس نحنا عندنا حاجة عاوزنك توصليها داخلية الأولاد. لـ(علي)، أصلو إحنا عايزين نرسل لجومو حاجة صغيرة كدة نعبر بيها. دي أقل حاجة.. وهو طبعاً عارف إنك صاحبتنا.

    أفرحت الجملة الأخيرة عزة. وتحمست للفكرة فأضافت زهرة:

    "أووف من السجن الإحنا فيهو ده .."

    أحست نازك، ولأول مرة بأنها تعيش في سجن أكبر من الذي تتحدث عنه زهرة. فبدا لها أن كل البنات لديهن علاقات (حب) و(صحبة) مع الأولاد إلا هي. وهي تستعيد تاريخها الشخصي ولا تجد فيه إلا صور الصبية الذين رافقوها في سنين مضت، ولم تستطع صنع التماثيل التي تريدها من تذكارات وجوههم. جاء بقية سرب العصافير، جلسن بعد أن بصمن على شيء لم يكن على دراية بخلفياته. جرَّت زهرة سُستة حقيبتها ببطء ثم أخرجت كرت البوستال؛ أزهار حمراء وصفراء وبيضاء على أرضية زرقاء، وقالت:

    ـ آها.. رايكم شنو؟؟

    ـ اللـــه.. والله حلو خالص، صحن بصوت واحد.

    أحست نازك بأنه فعلاً حلو. وزادت إلى حصيلة اكتشافاتها شيئاً آخر جيملاً.

    قلبت زهرة الكرت ووضعته على فخذها وأخرجت قلم الحبر الجاف الأخضر. فتجمعت الرؤوس وأنكبت العيون في انتظار ما سيكتب. وبعد مماحكة أثارت الأعصاب كتبت:

    سلام الله يغشاك ..

    وعين الله ترعاك..

    فإن غبت عن العيون فإن قلوبنا لن تنساك.

    صديقاتك المشتاقات لشوفتك مع الأصحاب:

    زهرة

    جليلة أنهار

    عزة ..

    ولما جاء الدور على نازك ماحكت زهرة قليلاً وهي تصلح إحدى الأزرة على صدرها، وهنا شعرت نازك بالخذلان، وقالت شبه محتجة:

    "يعني يا جماعة أنا كنت بتمنى أكون معاكم.. لاكين.."

    هنا تصرفت زهرة، وأدخلت تفاصيل جديدة للخطة، وأعطت القلم لنازك قائلة:

    ـ إنتي أهم واحدة! لأنك صاحبتنا الجديدة، عشان كدة أكتبي اسمك بخطك الجميل.

    ومدت إليها الكرت!

    فرحت نازك وكتبت:

    نازك ..

    وملأها إحساس، في تلك اللحظة، بأنها صارت كبقية البنات ولها أصحاب وأصدقاء من الأولاد.

    عقب إدخال الكرت في الظرف وتصميغه، شُيِّع بالنظرات الفرحة إلى حقيبة عزة، وتم الاطمئنان على سلامته وراحته داخلها..

    وهناك، كان جيش قرف قد شدد الحراسة على كل الطرقات والممرات. كانوا كذئاب جائعة تذرع المسافة جيئة وذهاباً، وسط جو من القلق باحتمال حدوث طوارئ أو خلل في الخطة، والقلوب ترتجف مع مرور كل سرب.

    صاح شربات محاولا ًتبديد القلق:

    ـ إنتو يا (معرّصين) خليكم أذكياء.. الجماعة ديل إتاخروا معناه الحاجات ماشة تمام التمام..

    فقاطعة أبو خمسين:

    ـ أنت الورَّاك منو؟ ما احتمال تكون الحكاية عصلجت. أو تكون حصلت شكلة. أو تكون المشرفة قبضتم ياخي؟؟

    فصاح شربات في وجهه:

    ـ أسكت يا شوم، إنت أصلوا ما بتتخلى عن الجبن بتاعك ده؟ يا خي خليك واثق.

    واضطر أبو خمسين ـ الذي بدأ يتعافى ـ للصمت وتسلق حبال التفاؤل.

    وبعد لحظات، أطلت العصفورتان تتهاديان "هناك".. في بداية الطريق المؤدي إلى "هنا" فعاد على إسماعيل إلى الداخلية، لكسب الوقت الذي تتم منادته فيه إذا كان في الأمر (سبع)، أما إذا كان في الأمر (ضبع) ليقوم بـ(تجهيز وسائل التهديد لأبو خمسين الرعديد).

    كان طاقم المناورة المشكل من شربات وفريني مرابطاً، وقد تم افتعال مشهد المتجادلين في أمر جدّي، غير العارفين بما سيحدث وراء الزاوية التي لا يستطيع أحد رؤية ما يجري وراءها.

    وبالفعل ظنت العصافير أن في الأمر صدفة جميلة، فهاهم رفاق (علي) في أول المشوار وفي مكان يسمح بتبادل التحايا والقصص الصغيرة..

    ـ السلام عليكم .. قالت عزة، إزيكم قالت نازك.

    ومثلتا أنهما لم ترياهما من قبل!

    ـ وعليكم السلام، قال فريني. أهلاً، قال شربات. ومثّلا عدم علمهما بشيء!

    ـ أسمعوا.. إنتو بتقروا في الشرقية؟

    ـ أيوة.. في حاجة؟؟

    ـ لا، بس إحنا عايزين واحد في الداخلية.

    ـ أيوة. نحنا في الداخلية، عايزين منو؟؟

    ـ على إسماعيل ...ممكن تناديهو؟

    ـ جداً.. جداً.

    وهنا تأكد شربات من نجاح هذه المرحلة من الخطة، وأمر فريني

    ـ اسمع، أمشي ناديهو ..

    ذهب فريني، وتمحرك شربات مع العصافير في (حق الله بق الله) وإزاي الحال. والمدرسة، والمذاكرة.. والسنة دي الامتحانات احتمال تكون صعبة، واحتمال تكون سهلة. وكسر حاجز (أول مرة). أسترق النظر ليقرأ ملامح (العدو) عن قرب، قال لنفسه: "أمانة ما وقعت يا أبو الشباب!!".

    زال توتر اللقاء واللحظة، ولكنه سمع الإشارة إياها، فافتعل حكاية (كدي نشوفو إتأخر مالو) وبعد قليل، جاء على إسماعيل لوحده، قدم نفسه لنازك واتعذر عن شربات:

    ـ أخونا ده نادوهو في الداخلية وبقول ليكم مع السلامة.

    ـ الله يسلمه.. الله يسلمه..

    هو أيضاً استرق النظر إلى نازك بحثاً عن تفاصيل إضافية. أخرجت عزة (الظرف) وكانت نازك تتلفت بعد أن احست بقلق إطالة الوقفة. قالت عزة:

    ـ ده من زهرة.

    ـ شكراً.

    ـ إلا صاحبكم العيان كيف هسّي؟؟

    ـ والله تعبان شوية.. إلا بدا يخف

    ـ عليك الله سلم عليهو، قالت عزة وإجتازت نازك باب الحرز وقالت:

    ـ سلم عليهو عليك الله

    ـ يوصل .. يوصل .. الله يسلمكم .

    وجرجرت نازك طرحة عزة، كناية عن (يالاّ إتأخرنا)

    ـ خلاص مع السلامة.

    ـ مع السلامة..

    عاد علي إسماعيل ظافراً ومعه بقشيش "سلم عليهو عليك الله". كان يغني هذه الجملة وهو يلز بقية أولاد قرف بكوعه ليفسحوا له الطريق إلى السرير، حيث قام بفتح الظرف وقلب الكرت وصاح:

    " ييهووو ... "

    ثم أضاف:

    ـ ده أكيد خط زهرة، وأنتو عارفنو، لكين عليك الله وحي من (عليك الله) دي: النا الحلوة دي. والآ الأحلى دي، والزا الشربات دي.. والكا أم ضنيب العسل دي.. يكون كتبهم منو؟ أحبك يا زهرة.. أحبك..أحبك.. وقبّل الكرت وحضنه وانبطح فوقه على السرير. وبعد (جهاد) طويل استطاعوا أخيراً تحرير الكرت. فقال شربات:

    ـ ياخي شربتو كلو!

    ـ ياخي بتشرّط ولا يتبرّط. هو أتعمل خلاص. لاكين ـ علي اليمين ـ زهرة دي خطيرة!! تعرفوا، خط نازك ده إنتو ولا كنتو متخيلنو!!

    في مساء اليوم الرابع، لما عاد جومو إلى الداخلية، بدأت مراحل (الفيء والغنائم). فبعد أن أقنعه جيش قرف بمشروعية ماحدث، طُلب منه أن يكتب رسالة (شكر وعرفان) لشلة (سرب العصافير). قاموا بإملاء بعضها..

    "...

    ...

    وفي النهاية

    ... وأخص بالشكر، الصديقة النبيلة (نازك)، التي منحتني الصداقة وهي لم تك تعرف عني إلا محنتي. فأرجو أن تقبل (معزتي ) لها، إلى أن (نلتقي)".

    ومع بريد السادسة والنصف صباحاً، وصلت الرسالة إلى زهرة، التي رقصت إلى أن اكتمل سرب العصافير ثم فتحنها:

    إلى الصديقات العزيزات:

    زهرة، جليلة، أنهار، عزة، نازك..

    ..

    ...إلخ

    ولأول مرة تلوي نازك عنقها باتجاه الداخلية وهي عائدة في دربها اليومي، الذي اعتادته منذ مئات الأيام وفي الخاطر، حلم بلقاء أو حتى نظرة عابرة. وفي الليل وعلى ضفة المانج ظهرت بعض ملامح الفارس.

    كان أولاد قرف (الملاعين) قد راقبوا النجم في مداره، ولما تأكدوا من (الذي في بالهم)، أصدروا الأمر الحاسم (لا ظهور على الشاشة)، ثم:

    ـ أصبر لينا يومين كدة. وبطل حكاية (جالس على الجمر) دي.. وخلي الحكاية تسخن حبتين.

    قاموا بعمل sharing بكل ما لديهم. واستهبل بطيخة والده في حسابات الدكان. وذهب شربات وخدع سائق اللوري صديق والده بأن "ناس المدرسة عايزين قروش الرحلة"! وذهبوا إلى السوق و اشتروا بالإضافة للجزمة (الكموش)، قميصاً وبنطالاً بمواصفات كموش. ثم أحضروا المقصات والأمواس "وساحوا في رأس الرفيق حلاقةً". ثلاثة أيام أخرى مرت وكانت نظرة العصفور تطول مع كل يوم. وفي اليوم الرابع، ونهاية الأسبوع، تم التوقيت لمنح نظرة عابرة.. ففي اللحظة التي مرت فيها العصفورة كان جومو في كامل أبهته على طرف السور ينفض منديله الأزرق من بلل الغسيل وكأنه غير آبه بما يجري حوله بعد الإخفاء التكتيكي البارع.

    استعادت (لحظة المنديل الأزرق) بعض الملامح الضائعة ولم تبق في الحس بقية عتمة. بقى أن تصدر الكواكب أمرها، ويتم الانتقال إلىحديقة السعادة الأبدية. وقد تدربت العينان الجميلتان على (قطر الندى) في ليالي المانج، وما على الأزهار إلا أن تنبثق.



    *******************




    في الرابع والعشرين من أغسطس، حُبس الناس داخل الجدران طوال ساعات النهار، بعد أن ظل المطر يهطل على المدينة منذ الحادية عشر صباحاً. وفي الثالثة بعد الظهر، وما يزال المطر يشرشر، خرجت نازك ـ عقب فشل سرب العصافير في إقناعها بالانتظار؛ فقد تجاوز الوقت حدود (قانون الحضور البيتي). كانت تحمل حقيبتها في حضنها، مغطاة بطرحتها، تاركة ضفائرها لبقايا الريح والمطر. تقفز فوق المياه هنا، وتضطر لمسايرة جدول إلى أن يرق قلبه ثم تعبر في لعبة الحبل الوهمي تلك.



    كان شربات، في وردية مراقبة الطريق بعد أن تجاسر أولاد قرف على البلل تاركين المدرسة قبل الساعة المرسومة تحسباً لأي تجاوزات قدرية. صاح شربات:

    "العصفورة ظهرت!!"



    ولما ظنوا أنها إحدى مقالبه ليحل محل أول كبكابة في تربيعة الكوتشينة، ليورطه في المراقبة، لم يأبه له أحد.

    فقفز صائحاً:

    "والله أنا بتكلم جد. قوموا يا جماعة!!"



    فقام على إسماعيل وهو يمسك بأوراقه حتى إن بدا في الأمر مقلب، يمكنه ممارسة (الخرخرة) وفي يده أدوات الضغط. ولما تاوق من النافذة وقذف بالأوراق؛ تأكد البقية من صدق الحكاية.



    تم إعادة إرتجال الخطة، فأمروا فريني أن ينتتحل شخصية (الصنفور) في الزاوية البعيدة التي اسمها اسكب (scope) على وزن الفيلم (أسكوب وألوان). وبعد اجتهادات مضنية، تم تأكيد المكياج:

    شربات يسرح الشعر.

    سيد شطة يصلح الشَّكة.

    وعلى إسماعيل (يقتنع).. ثم:

    "يالاّ يا بطل.. هيما ماليني قدامك .. وأوعك تنسي (الغُنا)".

    ذهب جومو إلى الزاوية الضيقة إياها، المقابلة للإسكوب. ومع شرشرات المطر، كان الارتباك يدب قليلاً قليلاً.. تداخلت خيالات لحظة اللقاء مع تهديدات قدرية محتملة.. الكلمات المرتبة بدأت تنفصل عقودها وتسبح في هلام.. في انتظار الأشارة. وفي اللحظة الحاسمة، أنزل فريني الصنفور. وخطوة، ثم يمين دور، ثم وجهاً لوجه مع (العدو)!

    لم تك نازك مستعدة للمفاجأة، فقد كان ذهنها مشغولا ًبقانون الحضور المنزلي. فتسمرت أما الماء الذي يسد الطريق عند العطفة. نظرت إليه ودق قلبها بعنف. فلاحظ هو الآخر، المرتبك، ارتجاف شفتيها. طارت كل كلمات (الأغنية) التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ولم يجد أمامه إلا صدقة الشخصي، وبات مشفقاً عليها. فوضع طوبة في الماء وغمس جزمته الجديدة في الوحل:

    ـ تعالي عدي ..

    ومد يده وأمسك بيدها، وكطفلة صغيرة يعلمها المشي، عبر بها إلى الطرف الآخر.

    قالت:

    ـ شكراً..

    فعادت بعض الأكاذيب:

    ـ لا... شكراً للصدفة دي.. قالها بارتباك ظاهر، ثم:

    ـ أنا.. أنا.. أنا عايز أقول.. ليك..

    كانت خائفة فقالت:

    ـ أنا إتاخرت ..

    تجاسر:

    ـ طيب.. أشوفك متين؟

    ـ بكرة.. بكرة..

    تورطت في الوعد هرباً من الخوف الذي لم يكن هذه المرة من قانون الحضور المنزلي، وإنما من هول الموقف.



    وفي الوقت الذي كان يستلذ فيه ويستعيد شعب جمهورية قرف (طعم) المسكة التي أكدها فريني، كان العصفور هناك يحسب الساعات بضربات القلب "يا يوم بكرة ما تسرع " ويفتش عن وسيلة لبراح في لقاء الغد. ولكن يفاعة التجربة، وتاريخ التوحد وآثار الإنضباط التربوي قد وقفت جيمعها أمام أي حل ولم يبق إلا الدعاء والتضرع إلى الله أن يحلها. ولأول مرة تخطر بالبال الفكرة المشؤومة: "طيب لو كان عايز يشكرك وبس؟ تموتي طوالي.. أيوة.. تموتي..". كان الليل بحر للنجيب الصامت المحاصر بأنفاس سلمى، الأخت الكبيرة، شريكة الغرفة. قبل الذهاب إلى المدرسة. دغدغت الأنثى فيها أكثر مما مضى ووقفت أمام المرآة لمدة أطول. لعنت حبة الشباب (اللئيمة)، ولم تك تعرف أن هذه اللئيمة بالذات لها شأن عظيم، أعتنت بضفائرها أكثرمن أي يوم مضى ولم تك تعرف ـ أيضاً ـ أن فوضاها أكثر وقعاً. خرجت وفي بالها الرسالة التي عند زهرة (أمينة أرشيف السرب). ولما عتبت خارج بوابة المنزل أبصرت فارسها ضمن أفراد الشلة. خافت لأول مرة من شيء مجهول! فعادت إلى الداخل تلملم نفسها ولما فاجأتها أمها، أجابت:

    ـ نسيت قلمي. وما كانت الأم قد لاحظت ما لاحظته سلمى من تغيرأت حدثت لأختها. وعلى الباب تلصصت من الفتحة الصغيرة التي فتحتها وقارنت اللحظة بيوم (الغداء). ولما اطمأنت من خلو الطريق خرجت ومشت بسرعة تاركة هذا المكان الذي صار كل شبر فيه يثير توترها.

    في المدرسة. لم تستطع أن تطلب من زهرة الذي في بالها. بالرغم مما صنعته الأيام القليلة الماضية من لطف. كانت زهرة هي مركز الدائرة ومصدر الثقة والجرأة. فدارت بينهما أحاديث خالية من الأسرار. إلا أن زهرة أحست بتطور المسألة بالرغم من أن بريد الصباح تغيب لسبب ما، ‍فساقتها إلى المكان إياه، ولوحدهما هناك، ثم سألتها:

    ـ إنتي يا نازك إحنا مش بقينا أصحاب؟

    ـ أيوة!

    ـ طيب إنتي ما بتحكي لي مالك؟

    وكان ذلك ما تحتاجه نازك في تلك اللحظة. بعد أن كانت عزة تغلق السيرة!؟؟ وبكلمات مواربة، استطاعت أن توصل لزهرة معلومة واحدة:

    "صاحبكم أمس كقطعني الموية".

    ـ أمس متين؟؟

    ـ لمن كنت راجعة من هنا..

    ـ إنتي ليه بتقولي صاحبكم؟؟ مش صاحبنا كلنا؟؟

    ـ أيوة. آسفة..

    ـ وهو قال ليك شنو؟؟

    ـ لا دة بس قطعني الموية ومشى..

    ـ أنا ما قلت ليك ده ولد زوق.. وإنتي لو عرفتيهو أكثر حتصدقيني..

    ـ قولي يا نازك. إحنا مش اتفقنا إننا أصحاب؟ وبعدين أهم شيء في الصداقة الناس يكونوا صريحين مع بعض؟؟

    ـ أيوة بس.. أنا كنت عايزة أقول يعني أنا عايزة أشكره على العملو معاي..

    ـ إنتي أمبارح ما شكرتيهو ليه؟

    ـ ما عارفه.. أنا كنت خايفة.. أقصد مستعجلة..

    ـ برضو كويس.. إنتي لمن تلاقيهو تاني أشكريهو.

    فكرت نازك قليلاً ثم قالت:

    ـ يعني يا زهرة، أنا بقول يعني عشان إنتي صاحبتم من زمان، تقولي ليهو أنا بشكره.

    ـ بس يا نازك الحكاية دي بسيطة. وإنتي عارفة أنا ما بمرق من السجن ده إلا يوم الخميس. وبعدين الشكر ده ما بنفع يوصلوا زول.

    ـ طيب يعني أنا ممكن أقول ليهو شنو مثلاً؟ إنتي عارفة أنا ما بعرف أتكلم مع الأولاد، وما بعرف أعبِّر؟؟

    فهمت زهرة الموقف فقالت:

    ـ شوفي يا ستي إذا إنتي خائفة ما تعرفي تعبري كويس لمن تلاقيه، أمشي أكتبي جواب قولي أي حاجة إنتي عايزاها بالراحة كدة. ولمن تلاقيه أديهو الجواب.‍

    ـ لا... لا.. ما بقدر! ‍‍

    ـ ما بتقدري على شنو؟

    ـ ما بقدر أديهو الجواب..

    ـ بسيطة يا ستي. إنتي بس أمشي أكتبيهو، ودخليهو في ظرف، وجيبيهو لي، أنا بعرف أوصول ليك.

    ـ والله جد؟! آآي يا زهرة ... أنا بحبك ..

    وذابتا في الأحضان.



    عند الغروب، كان أولاد قرف في سرادق العزاء!!‍ لم يبق إلا آخر أمل مع عودة على إسماعيل الكضاب، الذي ذهب (يشمشم) الأخبار. ففي آخر النهار، مر العصفور مختبئاً وسط سرب لا نهاية له! ‍ كان يبدو صارماً للغاية ـ في مشيته ـ ولم يلتفت أبداً كما كان يفعل! لقد ضرب كل خططهم التي وضبوها لساعات بعد أن خذلهم ساعي البريد في الصباح. فوضعوا كل الاحتمالات. ولكن وراء كل مكر مكر، وفوق كل طريقة طرائق أخرى. وأن للصدق الكامل أيضاً مكره الخاص به!!‍

    كان جومو جالساً على سريره قبالة الحائط كراهب لا يكلم أحداً. بطيخة وشطة قد تسيبا عن بيتيهما ذلك اليوم، ولم يتغد أحد. وظلوا في جمرة القلق إلى أن جاء على إسماعيل، فدخل ووقع فيهم ركلاً ولكماً من الأمام ومن الخلف حتى ظنوا أنه جنَّ، ففروا من أمامه بمن فيهم بطيخة، الذي كان يستغل حجمة للجم نزعات علي إسماعيل العدوانية. وبعد ابتعادهم عن حلبة الركل (الكضابي) ناداهم:

    "تعالوا هنا يا بجم .. تكتيك!!‍‍"

    وإخرج شارة النصر المبين. ولم يصدقوا أن هذه الرسالة من نازك مباشرة. فأخرج على إسماعيل الكرت وطالبهم بمقارنة الخط: (نازك) و(يجدك كما أود). واستناداً إلى قوانين (الإشتراكية الطبيعية)،نزع الظرف وقذف به بعيداً، ثم بسط الرسالة دون أن تجد نزعه (الملكية الفردية) أي مجال ..

    "بسم الله الرحمن الرحيم

    تحية أرق من النسيم

    صديقي الغالي

    سلام الله يغشاك

    وعين الله ترعاك

    و.... و....

    وانزلق القلب في القلم:

    ... ولو فرقتنا الليالي سيجمعنا الصباح..

    ... ولم تغيب عن تفكيري..

    آسفة لأني مضطرة رسلت ليك أقوالي في الجواب، لكن لما تعرف السبب تعذرني ..

    أرجوك تقبل (معزتي) لك

    و...

    و...

    صديقتك الوفية (نون)

    وقد تم تمرير القلم مرتين على كلمتي (الغالي) و(معزتي) ثم (الوفية). وانقلب سرادق العزاء الوهمي إلى هيصة كلفت أولاد قرف ثماني جلدات لكل، لما سببوه من إزعاج في الداخلية، بعد الوقت المسموح به ـ عرفياً ـ للهيّيص الممنوع أصلاً.

    وبين أستار الليل، تحول نشيد الإنشاد إلى (أعمال الرسل):

    نون "يا سوسنة الأودية" ..

    النهار ينطفيء، وها أنت نجمة تضيء عتمات الليل،

    نون يا أميرة البحار، ياوردة الزمان يا ..

    عصفورتي "اللائذة بشقوق الصخر ومخابئ المعاقل أريني وجهك"، خدك اللأيسر، وحبة الشباب ياجميلة الشباب. "أمسعيني صوتك لأن صوتك عذب ومحياك رائع".. عيناك وردتان، وأنفك شامخ كجبل (جلعاد)، ابتسامتك صلاة عيد، قامتك أشجار الجسر، ونهداك مثل العناقيد. أعبري قوس الليمون تعالي وأذهبي ..

    ...

    إن لحظة لقائنا ستكون الاحتفال

    محبك إلى الأبد (جومو).

    نفذ كتاب الحب (أمر التحرك) ووصل إلي زهرة. و هنا، أصبح التلصص قبل الخروج عادة.‍ فبعد أن تم مسح المكان جيداً والتاكد من خلوه ما يربك القلب والمشية، خرجت التي كانت نازك في طريق المدرسة، آملة أن لا تكون الرسالة قد أُرسلت‍ خوفاً على ما (تهورت) وصرحت به في لحظة صدقها وهي لم تعد متأكدة من أنها كتبت صديقي أم (حبيبي). ولكن زهرة عاجلتها بجرة كادت تسقطها أرضاً. وفي ركن العصافير، سلمتها الرسالة المنتفخة ومعها أول درس في كيفية إرسال الرسائل.

    أنجز أولاد قرف المهمة الضارية، وبعد الهيصة الجوانية، التي انتهت بالجلدة إياها، هاهم يستعدون للهيصة البرانية؛ والتغميس عند (بيت زوبا). ولكنهم هذه المرة فشلوا في إقناع (العريس) بالذهاب معهم!‍ فقد صرح بأنه ثمل بخمر الرسالة، ومغمس في البنفسج. وأنه لا يريد أن يلوث طعم الأنامل السحرية (الطاعمة) منذ ذكرى يوم المطر. وأنه صار أبو أولاد. فقال شربات:

    ـ إنت متين بديت!!؟ إنت باين عليك (راجل المرة الواحدة). ما ياهو الكضاب بجاي.. وبجاي؟‍

    فعلق سيد شطة:

    ـ تعرف دة باين عليهو قاعد يغمس في صابون نون البنفسجي..

    ثم أضاف:

    ـ ياخي بطِّل قوم أراح ..

    ـ ده إنت ياشطة القاعد تعمل كدة..

    ـ أنا براي؟؟ ما القطر ده كلو قاعد يعمل كدة!!

    تدخل شربات:

    ـ والله أنا غايتو بطلت أعمل الحكاية دي.. ومال قُداحة (فوق) دي البغمس فيها منو؟

    ولكن أبو خمسين استنفر أفكاره الخبيثة:

    ـ إنتو يا جماعة، خليكم من قداحة (فوق) دي.. إنتو القداحة الما شامة ريحة التغميس دي بتستعمل باتو صابون؟ معقول تكون قاعدة ساكت كدة؟؟

    ـ والله ده سؤوال!! ‍‍إنت يا أبو خمسين عبقريتك دي كانت وين؟ قال على إسماعيل مندهشاً.

    فعلق شربات:

    ـ يا ربي يكون بالداندرما؟؟

    ـ خبيث. عاجله شطة.

    ومضوا تاركين العريس مع (أعمال الرسل).



    *****





    كانت سلمى، بسبب فارق العمر، والمراحل الدراسية، قد توطدت علاقتها بحسني بنت أستاذ عباس ـ وكيل المدرسة ـ التي هي جارتها وزميلتها في الصف الدراسي. وبسبب هذه الوضعية، كانت الفرصة لطالبتي السنة الثانية الثانوية للخرق المتبادل لقوانين الحضور المنزلي؛ "ماشة وين؟"، "ماشة لحسني". "جاية من وين ؟"، "جاية من سلمى". وتم افتعال حكاية المذاكرة المشتركة، لصنع الحياة الخاصة. ولما كان لحسنى أفضلية (الحجرة لوحدها)، بالإضافة لليبرالية النسبية لأستاذ عباس، فقد تم التحول التدريجي إلى غرفتها. هذا بالإضافة طبعاً للابتعاد عن نازك، التي كانتا تعتبرانها (جاسوسة) محتملة. وقد كان لذلك الأثر في مط المسافة بين الأختين من جهة، ولكن من جهة أخرى فقد أخلى الجو لنازك. ففي أغلب الأيام حتى التاسعة والنصف مساء. وفي يوم الخميس، حتى الحادية عشر ـ عندما تكون سهرة الإذاعة (حلوة).

    وجدت نازك البراح ذلك المساء. وفي عمق تمثيلية المذاكرة، أو البنت الممتحننة، أخرجت الرسالة. مسدتها بأناملها الراعشة. بدأت تفتحها، وقد بدا لها صوت تمزيق الظرف مسموعاً لجهة ما‍! ففتحته بحرص حتى لا تتسرب الخشخشات إلى خارج الحجرة المغلق بابها بجحة جاهزة تحسباً للطوارئ "الكديسة دي جننتني".

    "نون يا سوسنة الأودية."

    طارت وجقلبت في أرجاء الغرفة، ثم عادت إلى السرير متجاوزة متن الرسالة إلى آخر صفحاتها..

    محبك إلى الأبد.. (جومو)

    لم تصدق ما رأت، وأدخلت الرسالة بين نهديها وضغت عليها بالوسادة. وغرقت في بحر الحلم الطويل. وقد كان ثمن هذا الحلم أن كلف (المحب الأبدي) يوماً إضافياً كان أطول من القرون، في أنتظار رد الرسالة. ولما دفعت سلمى الباب في العاشرة إلا الربع، وجدته متربساً من الداخل؛ مما أضطرها إلى طرقه بنزق أطار الحلم عن مخدعه. ومع شمس اليوم الجديد، غرقت زهرة في الأحضان والقبل ثم:

    ـ يعني أن ما قادرة أشكرك كيف يا زهرة!!

    ـ مش إحنا أصحاب؟ ما تقولي كدة تاني يا نازك.. إنتي فرحانة؟

    ـ أنا!؟ اللــــــه!! أنا بموت من الفرح..

    ـ خلاص.. ده أهم شي..

    ثم بحر أحضان وموج قبل.

    وفي تلك اللحظة أطلت عزة:

    ـ في شنو ياجماعة؟؟ ما تفرحونا معاكم؟ وإنتي يا نازك بقيتي اليومين ديل تجي أبدر مني.. الظاهر زهرة دي خطفتك مننا؟؟

    ـ لا والله ياعزة.. دة نحن كلنا أصحاب..

    ـ طيب احكوا لينا.. فرحانين كدة مالكم؟؟

    أحكيك.. أحكيك.. أحكيك.. وأسبلت الخيبة على المعزات التي كانت تنتظر لحظة عبور الجسر. فها هو (الجسر) قد وقع في الشرك قبل المجسور إليه!! وذهبت كل التفاصيل التي في الخيال أدراج الريح. أغمضت عزة عينيها بعد ومضة الصحو الصغيرة ولم تفتحها إلا في الليل وهي تنظر إلى اللوحة المعلقة على الجدران، وبها صورة النورس العائد إلى البحر. لم يعرف أحد تلك القصة قط!

    صارت لنازك عادة ثانية ـ غيرالتلصص قبل الخروج ـ وهي عادة إغلاق الباب (من الكديسة). وكان صريف القلم هذه المرة أكثر جرأة وصراحة:

    حبيبي (جو)

    ومن هذه اللحظة فصاعداً، فقد جومو نصف اسمه وصار يمشي في البرية هكذا!

    أسمح لي أن أهديك أعز ما أملك.

    فعاد كتاب (قصة حب على ضفاف المانج) أدراجه معطراً!

    ... وأرجوك أن تحتفظ به في كل أيام حبنا ..

    ...

    ...

    محبوبتك إلى الأبد (نون).

    قرأ جو الكتاب. هذه المرة بعيون أخرى، بالرغم من أنه كان يحفظه عن ظهر قلب من كثرة ما طالعه. ولكن ظهرت مشكلة!! فلم يستطع أحد التحديد القاطع إزاء لمن تكون ملكية الكتاب. أهي لعلي إسماعيل الذي اشتراه بحر ماله؟ أم لجو الذي أهدته له حبيبته معطراً؟ لكن، على كل حال، كانت الأغلبية قد انحازت لجو في النهاية.

    ولما حكى جو كيفية وصول الرسالة والكتاب إليه صرخ أبو خمسين:

    ـ بت الكلب! كنا قايلنها ملاك.. أتاريها إبليس أبو ضنيب!

    فرد عليه علي إسماعيل الذي لحقه طرف السوط:

    ـ بدون إساءات بالله.

    وفي ذلك المنعطف الذي التقيا فيه أول مرة على ذاكرة المطر، صار يتم تبادل الرسائل كل يوم:

    حبيبي جو

    ...

    ....

    إلى الأبد ..

    نون



    نون يا سوسنة الأودية

    ...

    ...

    ...

    إلى الأبد ..

    جو

    ولكن نون كانت لا تستطيع النظر إلى وجهه كاملاً! كانت نظراتها تقف عند الزغيبات التي (تدّعي) أنها شارب. فكانت تخاف عينيه. وحتى في الصورة، كانت لا تستطيع التحديق فيهما. أنهما (شيء) لا تفسير له! وخلال أيام، كانت نون قد طالعت كل ما توفر من كتب الرومانسية:

    مادجولين، روميو وجوليت، (بحيرة عصافير الجنة) و... و...

    وصار يتم تبادل الوعود في الوقفات القصيرة المسروقة من ذاكرة الزمان:

    ـ شايف الرز ده.. أنا الليلة حأتعشى ليك معاي!

    ـ شايفة الفستان الجميل دة.. أناحأشتريهو ليك.

    ـ شايف التنونين الصغار السمحين ديل؟ حيكون عندنا أولاد زيهم.

    وتغطي وجهها بطرحتها.

    ـ شايفة البيت الجميل دة.. حنعيش في واحد زيو..

    ـ شايف

    ـ شايفة

    ـ ...

    ـ ...

    في السادس عشر من أكتوبر، فوجئت سلمى، وهي عائدة من المذاكرة الوهمية ـ مع حسنى في غرفة الحرية ـ بالجاسوسة تمد إليها صورة طارق، الملقب بدون جوان، ورسالة مكتوبة بخط جميل!

    ولما لملمت سلمى نفسها صاحت:

    ـ جيبي هنا.

    ولما تاكدت من أن أدوات الجريمة بين يديها صرخت في وجه نون:

    ـ إنتي جبتي الحاجات دي من وين يا جاسوسة؟؟ أنا عارافاك يا حاقدة، تكوني فتحتي شنطتي وسرقتيهم.. هي وصلت لكدة!؟؟

    شعرت نون بالظلم وبكت ..

    ـ لا والله.. إنتي ليه بتعامليني كدة؟؟ أنا بس كنت بفرش في الملايات. وبصلح في المخدات، ولقيت (الحاجات) دي ودسيتها. لأني كنت خايفة تجي الخدامة ولا أي واحد وبعدين تحصل ليك مشكلة. ولما أحست سلمى بـ(شيء) من الصدق في كلام نون، راجعت في خاطرها ما لاحظته من تغيرات عليها، خاصة اهتمامها بنظافة ونظام الغرفة، ومسالة إغلاق الباب بحجة الكديسة ـ سألتها:

    ـ إنتي بتتكلمي جد؟

    ـ آيي والله... وأنا أكذب عليك ليه؟

    ـ شكراً يا نازك.. أنا كنت قايلاك لسة بت عويرة.

    ـ ...

    ـ ...

    والتقى الغرباء لأول مرة:

    ـ سلمى أنا بحبك.. إنتي بتعامليني كدة ليه؟

    ـ أنا ذاتي بحبك.. أنا آسفة.

    ومنذ تلك الليلة، خرجت الصحبة إلى بستانها وتفسحت. بدأت الحكايات تترى. ولما قرأت سلمى كتب نازك تمتنت الصداقة. وعرفت أن نازك صارت نون. وظهر جو في الشاشة. قرأت سلمى رسائله الملتهبة، فأعجبت بها أشد الإعجاب ونقلت منها عبارات كثيرة زينت بها رسائلها الغرامية بل وذهبت يوماً مخصوص لترى جو وتسلم عليه! ثم إنثال الحوار حول المصير المشترك ـ الذي كان مسكوتاً عنه. وناقشتا في ليال طويلة، مشكلة (السجن) الذي تعيشان فيه. ومع مرور الأيام صارت كل واحدة تعبر بصراحة عن حسرتها وهي تستعيد قصص صديقاتها حول التجول مع أحبابهن في العصريات وعبور الجسر..

    قالت سلمى:

    ـ ونحنا ما نمشي هناك إلا مع البوليس؟؟!

    ـ يخس عليك يا سلمي.. ما تقولي كدة على ماما..

    ـ أناما قاصدة..بس أنا زهجانة من الوضع ده. وكمان إيه قال! بعربية المدرسة، والسواق يؤدي ويجيب! في شنو عليك الله؟؟

    وهكذا يوم بعد يوم، إلى أن تجرأت سلمى وألقت بفكرة المغامرة المرعبة على طاولة المفاوضات.

    ـ إنتي عارفه يانازك أنا بحب طارق.

    ـ أيوه.. عارفة!

    ـ يرضيك أنا أقعد مسجونة كدة ما ألقى فرصة واحدة ألاقيهو؟؟

    ـ لا والله.. بس إنتي مش قاعدة تلاقيهو؟

    ـ أيوة، بس زي ما إنتي قاعدة تلاقي جو وبس.

    ـ وإنتي عايزة يحصل شنو؟؟‍‍‍‍‍‍

    ـ إنتي مش قريتي كتاب (روميو وجوليت)؟

    ـ أيوة!! ‍‍‍‍‍‍‍

    ـ بس دي الحكاية كلها.

    ـ لكين...

    ـ ما لا كين ولا حاجة. نازك يعني أن عايزة أكلموا بالليل، ونكون برانا. طبعاً إنتي عارفه الشباك دة فيهو (نملية).

    ـ أيوة!!

    ـ يعني ما حتصل حاجة. وبعدين اتجاهو كويس، يعني زول من جوة البيت ما حيشوف حاجة، بس المشكلة الباب بتاع الأوضة وإنتي. أما أي حاجة بي برة، طارق حيتصرف... آها؟ قلتي شنو؟؟

    ـ والله أنا خايفة يا سلمى ..

    ـ مافي أي حاجة بتخوف. إنتي بس تقعدي جنب الباب، ولو سمعتي أي حاجة كدة ولا كدة تنبهيني... وبعدين دة كله عشان الحرص بس، لأنو ما في حاجة حتحصل. قلتي شنو؟

    وعلى مضض وافقت نازك.

    في يوم الخميس، عادت سلمى مبكرة من برنامج المذاكرة، و(هاك يا استحمام وهاك يا روائح). في العاشرة والنصف بدأ العد التنازلي:

    "إنتي يا نازك خليك جنب الباب.. ولو سمعتي أي حاجة تقومي براحة وتنبهيني.."

    وتمت إماطة الكراسي والترابيز والشباشب، وكل أنماط (الأذى) عن الطريق.

    "ولو حصل أي حاجة، نعمل نايمين.. سامعة؟"

    وهكذا سمعت نازك لأول مرة وقع أقدام النمل، و(جعير) الريح، وكل أصوات الكائنات الليلية ـ ماخلق الله وما لم يخلق بعد ـ وهي جالسة قرب الباب. بينما سلمى تراقب الأشباح التي تمر من هنا ومن هناك. وتسمع أصوات أقدام في الظلام لا تأتي أبداً!!

    وظلتا هكذا إلى أن صعد صوت عم عبده الجليل أدراج الصمت الصاخب الطويل: "أسبحنا و أسبح الملك لله"، فأغلقت سلمى النافذة وبكت طويلاً على صدر نون.

    كانت نون أكثرحنقاً لدرجة أنها، في كابوس، رأت نفسها تخنق هذا (الطارق) (الخائن)، (الجبان)، بعد أن حكت لها سلمى قصة عذره (القبيح).

    "آجي ليه؟... إنتي عايزة يعضيني كلب؟"

    قد اضطرت هذه الإجابة نون أن تستلف الكتاب من جو مرة أخرى لإقناع سلمى بأن الحب (حقيقة). ‍ولم يعد إليه الكتاب بعد ذلك. وبعد أن اثبتت القصة نظرياً، أرادت أن تؤكدها عمليا ً‍ فطلبت من سلمى أن تساعدها كما ساعدتها هي في تلك الليلة (المشئومة). وبنفس الحجج ـ بالإضافة لحجة رد الجميل.

    وهكذا استجاب الله لدعاء جو. ولما كان الأمر هذه المرة في غاية الجدية، فقد جاء (الأمر) صريحاً بأن لا يعرف أي مخلوق بذلك.

    وعلى أساس كذبة سلوكية، وفي العاشرة النصف تحرك جو. وقد ظن على إسماعيل أنه ذاهب للقيام بـ(أعمال الرسل) كما كان يفعل في الأيام الفائتة. ولم يلاحظ أحد استلافه لساعة سيد شطة الذي بدوره لم يك يعرف إلى أين ساعته ذاهبة.

    أشعل جو سيجارة ومع ضوئها تأكد أن الساعة هي العاشرة والنصف إلا خمس دقائق، فأنتهت مهمة ساعة شطة، وبدأ الزمن الداخلي. حمل معه القلم والكراسة لزوم التضليل وخرج.

    وبينما كانت سلمى جالسة قرب الباب تراقب (بوفاء)، أبصرت نون وهي ترقص في الظلام.

    ـ نون ..

    ـ جو

    مسحت الأيادي النملية..

    ـ جو يا حبيبي.

    ـ نون يا حبيبتي

    ـ وقبلا بعضهما ـ من وراء النملية ـ طويلاً..

    ـ أحبك

    ـ أحبك ..

    ـ حبيبتي

    ـ حبيبي

    ـ آهـ

    ـ آهـ

    وكذلك مرت ساعات الليل سريعاً على المساجين.. سمعت نون هسهسة ونحيب سلمى الذي ظل يغالب نفسه لزمان طويل فقالت:

    ـ خلاص.. نتلاقى يوم تاني.

    ـ طيب خليني ألمسك..

    ـ لكين كيف؟

    ـ والله ماعارف.. بس أنا عايز ألمسك.

    فتذكرت نون الثقب الصغير أسفل النملية، الذي كانت تلقي عبره (اللبانة) إلى الخارج فقالت:

    ـ نزل يدك تحت.. تلقى (قدَّة).. لقيتها؟

    ـ أيوة.

    ـ إنت عايز تلمسني وين؟

    ـ أنفك.

    وانحنت نون، ولما كانت (القدَّة) قرب أسفل النميلة، أضطرت إلى (سجدة الخد)!

    فأدخل جو أصبعه وتحسس أنفها وهمس على طريقة الرسائل:

    ـ اللــه أنفك (شامخ) كجبل جلعاد...

    ـ خلاص؟؟

    ـ كمان شفتك..

    ومرر أصبعه على شفتيها..

    ـ خلاص؟؟

    ـ آخر حاجة بس عليك الله

    ـ وين؟؟

    ـ حلمتك.

    ـ لكين المحلة دي صعبة!

    ـ حاولي..

    وتعبت في (المحاولة) ثم:

    ـ ياها..

    فمسد عليها كتلميذ في ثالث أيامه المدرسية، يمسح من على كراسته خطأ في حرف (نا نمر).

    ـ آآخ.. خلاص... أنا تعبت.

    ـ تصبحي على خير

    ـ تص ...





    ****









                  

العنوان الكاتب Date
ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 05:16 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-23-04, 08:35 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-23-04, 10:19 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل mutwakil toum03-24-04, 07:41 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 08:28 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-24-04, 07:45 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل فتحي الصديق03-24-04, 12:39 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:44 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 09:13 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل tariq03-24-04, 10:30 PM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Mohamed Bang03-24-04, 10:59 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 03:57 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Nada Amin03-24-04, 10:56 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-24-04, 11:39 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-25-04, 04:43 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-25-04, 06:30 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل zozo03-25-04, 09:53 AM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-25-04, 05:03 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 00:47 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:15 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-26-04, 01:24 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل ابو فاطمه03-26-04, 08:35 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-26-04, 05:30 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل عبدالسلام الخبير03-27-04, 04:20 AM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-27-04, 05:18 AM
  السلام عليكم توما03-27-04, 10:19 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:08 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:17 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:33 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:38 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Amjed03-27-04, 11:42 PM
  Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-28-04, 06:58 AM
    Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ali Alhalawi03-29-04, 05:10 PM
      Re: ابحث عن رواية المدن المستحيلة للدكتور ابكر ادم اسماعيل Ehab Eltayeb03-30-04, 03:29 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de