انتهينا في المقال الماضي إلى أن الآية الحاكمة لعلاقات المسلمين بغيرهم هي قول الله تعالى:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 256. وذكرنا أن هذه الآية تعتبر من آيات الإسماح. وذلك حسب معناها الذي ينهى عن الإكراه في الدين. وأيضا حسب تقسيم محمود محمد طه لأى القرآن الشريف بخصوص موقفه من الجهاد. ولكن وجه المفارقة (ومعذرة من استخدام إحدى مأثورات الجمهوريين الأثيرة في التعبير!) يبدو في أن هذه الآية مدنية لا مكية. بل إنها نزلت في أواخر سورة هي من أواخر سور القرآن نزولا. وبهذا الخرق الموضوعي والزمني معا ينتقض التقسيم المحمودي المفتعل، الذي يتحدث عن آيات إسماح مكية نسختها آيات جهاد مدنية انتقاضا كاملا. وتنهار من ثَمَّ الأطروحة الجمهورية التي تتحدث عن نسخ القرآن المدني لحالة السلم واعتماده لحالة العنف ضد الكفار. وقد شاء الجمهوريون بهذا التقسيم المغرض الذي يبعِّض مبادئ الإسلام ويبغِّض فيها أن يقدموا دليلا تعضيديا - من داخل الفكر الإسلامي! - يدعمون به محاولات المنصِّرين والمستشرقين والشيوعيين لإشاعة هذه الصورة الكريهة عن الإسلام. ولكن المتدبر لآي الذكر المدني الشريف لا يمكن أن تخدعه هذه المحاولات التمويهية المغرضة. لا سيما محاولة الجمهوريين التي تدعي أنها تنطلق من داخل فضاء الإسلام. فإن القرآن المدني يفيض بالآيات الكريمة التي تدعو إلى السلم والعدل والقسط والرفق بالناس خصوما وأولياء. ولنتأمل هذه الآية الكريمة من القرآن المدني، فإنها أشد دِلالة من الآية السابقة، على خلق الإسماح الذي يتحدث محمود عن أنه كان حكرا للقرآن المكي، وأنه لم يرد له ذكر في القرآن المدني. يقول الله تعالى:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحَنة: 8. ومعروف أن هذه السورة نزلت قبيل فتح مكة، أي في أواخر العهد المدني. وقد ذكر شيخ المفسرين الإمام الطبري عدة أقوال في تفسيرها ثم استخلص القاعدة الشاملة منها قائلا:" وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) من جميع أصناف الملل والأديان (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) وتَصِلوهم، (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ). إن الله عز وجل عمَّ بقوله:(الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض". (محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ج /23، ص 8). ولنرجع الآن إلى الآية الكريمة الحاكمة للموضوع كله، وهي آية سورة البقرة (رقم 256)، لأننا نريد أن نربطها ببقية آيات الجهاد التي تحتكم إليها. وسنقدم بين يدي ذلك مقتطفات يسيرة من تفسير أئمة السلف من العصور الغابرة ممن تحدثوا في فقه هذه الآية الشريفة وفي فقه الجهاد عموما حتى يتبين لنا معناها الأصيل. وحتى تنكشف لنا صور زاهية من تقدمية الدين الإسلامي برسالته الأولى التي يشنِّع بها الجمهوريون. وحتى نتحقق من مدى رعاية هذا الدين الكريم لمفهوم الحرية الإنسانية، ومدى احترامه وضمانه لكافة حقوق الإنسان. وحتى يدرك غلاة الجمهوريين المضَلَّلين - من أمثال (البروفيسور) الكويتب أحمد مصطفى الحسين وعامة من ضُللوا بالقول المشقق الزائغ - مدى الزيف الذي انطلى عليهم من كتابات زعيم الجمهوريين. لقد نقل الإمام محمد بن علي الشوكاني، وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري، قول الإمام جار الله الزمخشري، وهو من أعيان القرن السادس الهجري:" قال في (الكشاف) في تفسيره هذه الآية: أي لم يُجْرِ الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله:(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) يونس: 99. أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار". (من كتابه: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، دار المعرفة، 1423هـ، ج/1، ص 176). ونظر كبير فقهاء المذهب الحنبلي، وهو الإمام ابن قدامة المقدسي، من رجال القرن السابع الهجري، إلى هذه الآية الشريفة نظرة فقيه عظيم يحترم حرية الفكر والاعتقاد واستنتج منها أنه:" إذا أُكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمِن فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا". (من كتابه: المغني، عالم الكتب، بيروت، 1417هـ، ج/10، ص 96). فدلَّ بهذا الرأي الفقهي السلفي التقدمي أنه لا يجوز إكراه الناس على قَبول الإسلام بحكم السيف! ويلاحظ أن رأي هذا الفقيه السلفي مخالف على طول المدى للرأي الرجعي الذي أفضى به زعيم الحزب الجمهوري في كتابه (الرسالة الثانية من الإسلام) وخلاصته أن القتال بالسيف قد شرع في القرآن المكي لمصادرة حرية من لا يحسن التصرف فيها حتى يرده بأس السيف إلى الصواب! ومن أئمة السلف العظام ذكر إمام الشافعية الكبير عماد الدين بن كثير الدمشقي، وهو من رجال القرن الثامن الهجري، في تفسير آية البقرة (رقم 256):" أي: لا تُكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّنٌ واضحٌ جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا". (من كتابه: تفسير القرآن العظيم، دار طيبة، 1422هـ،ج/ 1، ص 283). وأما إمام الحنابلة الأكبر الداعية السلفي شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية فقد ألف كتابا كاملا في هذا الموضوع لا نريد أن ننقل عنه شيئا لأن عنوانه ينبئ عن محتواه. وعنوان الكتاب التيْمي هو (قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم). ومن المعاصرين قال الشيخ الزرقاني (وهو ليس الزرقاني بتاع داعش!):" أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس، ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة، ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده، وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله". (من كتابه: مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، بيروت، 1995م ج/2 ص 406). وإذن فالقرآن المدني ليس قرآن سيف وقهر كما ادعى زورا وبهتانا زعيم الجمهوريين. وكما بقي يردد من خلفه تلاميذه غير الفاقهين. ومنهم هذا البروفيسور الذي انبرى ليجادلنا بغيرعلم ولا هدى ولا كتاب منير.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة