صديقنا الراحل المقيم / الأستاذ مصطفى سيد أحمد هل كنا ونحن في أرحام أمهاتنا موعودين بكل هذه التعاسة ؟ ها هي ذي الأيام قد عادت بنا ثانية لتدور تلك الساقية اللعينة دورة أخرى ، وها نحن أولاء ما زلنا مشدوهين من خليط الدهشة الأولى واحترافنا الحزن . تلك الأرض البكر المغطاة دوماً بالتعب ما تزال تشهق شهقتها المعهودة وتنبض تعباً بأنين مفجع هذه المرة ، فجرح السحاب نزف دماً .. وشليل وأبناء العم عبدالرحيم وأبناء الحاج ود عجبنا وفاطنة السمحة وأولادنا السمر تفرقوا أيدي سبأ .. فمنهم راحل في الليل وحيداً .. قطاراً أهوجاً وحقيبةً مثقلةً .. هماً .. ومنهم من لا يزال ينقرط للحمار ويزازي من عربية الكجر .. ومهم من لا تزال طوربته ضامة الطين .. "يا قمحاتنا هولب لب ، ويا سمحاتنا هولب لب .." وكلهم تحت ضل الرواكيب الصغيرة ، كوريته يابسة ومجدوعة وقدامه مدى السكة وندا المجهول .. يأمل في عودة شليل ولبنايةً تخدر فوق مسورنا الجاي .. ولمتين مواعيدك سراب ؟ عزيزي مصطفى .. ما زال شليل هائماً بين العمارات التي استطالت وأفرغت أطفاله الجوعى على وسخ الرصيف والذي ما تني أمطار الحزن تعاود الهطول عليه وتجدد عذاباته .. شفع العرب الفتارى أدركوا مؤخراً أن لا سراب الصحرا موية ولا حجار سلوم موائد ، وطفقوا يصيحون .. يا وطن عز الشدايد .. يا وطن عند الشدايد .. ليجاوبهم المدى الفاتح مدارج الهم .. فمحمد أحمد وملوال وأوهاج و"سيف الدين" أرادوها مصادمةً وما رجعوا السيف الجفير .. وأخذوا يتجاذبون أطراف ثوب نورا "الخرقة" .. وأعلنوا أن آخر العلاج الكي .. ولسان حالهم يقول .."طعنا الضل .. طعنا الضل .. وفي الأحلام طعنا الفيل" .. ويا دعواتنا هولب هولب ..! عزيزي مصطفى .. يا ضو شبابيك البيوت .. بالأمس ، بالأمس القريب فقط قلت لنا إنك عائد ، فصدقنا ، وظللنا ننتظر .. ومضت الأيام حتى خلناك لا تعود .. لكنك كنت كالعهد بك دائماً ، وعدت فأوفيت .. وتقاطر الأحباب من كل حدب وصوب .. وكما حملوك قبلاً في حدقات العيون .. احتملوك يومها على الأكتاف .. ويحي عليك يا مصطفى .. رحلت عنا تحمل همومنا على كاهلك المتعب .. وعدت إلينا رفاتاً فحملناك على كاهل حزين .. فهل كنا ونحن في أرحام أمهاتنا موعودين حقاً بكل هذه التعاسة ؟ لك منا تحيات كل الأحباء .. أسرة المرحوم العم عبدالرحيم وأسرة المرحوم عمك الحاج ود عجبنا .. نورا تحاول بمرارة ستر نصف جسدها بخرقتها الممزقة وتشكو المحل والابن العاق .. وتوصيك .. طرقة للسترة وغيمة تملا ماعونها خريف .. طيبة يبدو أنها ستظل تدخل بيوت الفقرا بيناً بيتاً .. لتجد في كل حتة خفوت خفوت .. وتنتظرك يا ضو شبابيك البيوت .. فعهدها بك دائماً أنك ما غيرت وراها الجتة ولا بدلت ملامح صوتك .. الأولاد السمر يطمئنونك على سامر وسيد أحمد ويعدونك بمسح أحزان الزمن من على وجهيهما اليافعين .. ويحاولون معهما أن يرسموا للوطن صورة زاهية بألوان باهتة وريشة مكسورة .. ويحلمون .. "الأفراح لابد من ترجع ، الأحلام الدونك غابت لو .. وقدر ما يمشوا في سور الزمن خطوات يلاقوا خطى السنين واقفات .." . وجيدة ما تزال تنتظر من ورا صفحة زجاج مبلول .. البت النيل احتملتك حزناً دفيناً تحاول جاهدة مسحه بضحكة أولادنا السمر .. سامر وسيد أحمد ، وبسمة في الخاطر قبل تمرق تموت .. وعبثاً تنجح .. كلنا نحاول عزيزي مصطفى .. كلنا نحاول .. وعبثاً ننجح ! "حاجة فيك" هي التي جمعت كل هؤلاء الأحباء السمر حولك .. حاجة فيك ، شدتنا جميعاً .. ما هي؟ .. لا ندري .. عفواً عزيزنا مصطفى .. فنحن نستطيع أن نتبين فقط ذلك الشجن الغريب الذي يتغلغل في أعماق كل من يسمعك تغني الوطن ، و (أو) الحبيبة .. كلاهما كان عندك سيان ، وتلك الإنتقائية المدهشة في اختيارك الكلمة .. وتلك الحميمية الودودة في حديثك العذب وكأنك تخاطب في المستمع صديقاً حميماً .. وتلك الشفافية الرقيقة في تعاملك الراقي .. وذلك الصبر المدهش على الألم .. وذلك .. وتلك .. ياه .. هل كنا ونحن في أرحام أمهاتنا موعودين حقاً بكل هذه التعاسة عزيزي مصطفى ؟ ورجع مليان الكلام فاضي !
تكرم الأستاذ أحمد عبدالمكرم مشكوراً بنشرها لنا في عموده "رؤى" بجريدة الخرطوم في عددها الصادر بتاريخ 16 يناير 1999م .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة