|
الجمل لا يقف خلف اشارة حمراء ..
|
يجب أن يغادرونا معظم من شاهدنا في ذاك الوضع غير المألوف – استغرب، أو ظن على الأقل ظناً من ظنون الحرية شديدة الخصوصية. يدي كانت تحت إبطه. سرنا ملتصقين متجانبين. ضحكنا في جلجلات صاخبة. مني تعوداً أن أترك ضحكتي تطير أينما أرادت، ومنه – كما رأيت – لا مبالاة بمن في الطريق. الشباب ابتسم البعض منهم، والبعض الآخر سار كالروبوط لا يرى خارجه ما يدفع لمجرد الالتفات. من كبار السن خرجت لعنات مكتومة، وتحركت رؤوسهم في هزات استياء ترفض أن يتلوث هدوء المدينة بهذه الجلجلات الأجنبية المؤذية.
- "إلى أين تذهب؟"
على غير ما تعودت في هذه المدينة الصامتة وجهت سؤالي إليه. كنا نقف وحدنا، وجهانا في الاتجاه نفسه. أمامنا إشارة المرور حمراء. نظر في اتجاه بعيد عني، ثم تردد قبل أن يسمع سؤالي الذي كررته مرة أخرى وأنا اقترب منه أكثر. قال:
- "حتى "فولكس تياتر" Volkstheater".
اخضرت الإشارة، وفي أدب المخاطبة بصيغة الجمع، التي لا أستسيغها، والتي حفرت نفسها في لغتي الألمانية رغماً عني، سألته:
- "هل أرافقكم؟ إنني أسير في الاتجاه نفسه".
- "بسرور!"
عبرنا خطوط المشاة وصعدنا على الرصيف، أكمل يعرفني بنفسه:
- "شنايدر. أعمل كمُدلك".
- "موسى!"
- "موزر!"
كرر اسمي بعد أن غيره إلى موزر. لم أصحح. سألني:
- "هل تعملون هنا في "نوي باو" Neubau؟"
- "لا، أنا أسكن هنا. أعمل في مصنع فني للخزف في "فافورتن" Favoriten". كنا بالضبط عند محطة الأوتوبيس، الذي وصل في تلك اللحظة. سألته:
- "هل تريدون أن تركبوا الأوتوبيس؟"
- "لا لا، الجو اليوم جميل. لنسر على أقدامنا أحسن".
كان الجو فعلاً مشجعاً على السير، ولم أكن متعجلاً في ذهابي إلى كشك الجرائد، لأحصل على مجلتي الأسبوعية التي تعودت شراءها من هناك، من أمام مسرح الشعب. سألني:
- "هل عملكم في صناعة الخزف ممتع؟"
- "في بعض الأحيان ممتع، وفي بعض الأحيان ممل. نحن مجموعة من الأصدقاء والصديقات نقوم بعمل منتجات خزفية ثم نحاول تسويقها، وفي هذه الحالة يكون العمل دائماً ممتعاً والتسويق مملاً. أما إذا كانت لدينا طلبيات محددة بكميات كبيرة، فيكون العمل مملاً والتسويق ممتعاً (سكت أنا قليلاً، ثم تابعت) كيف الحال عندكم؟"
كأنه كان مستعداً للإجابة بلا سؤال، أندفع:
- "عملي دائماً ممتع. أفضله في الشتاء عن الصيف. ومعظم روادي من النساء!"
ثم ضحك ضحكة خبيثة، قلت له:
- "أتعني أنكم تضعون يديكم دائماً في لحم طري ناعم؟"
ضحك بجلجلة وكأنه ينتظر هذه المزحة، أكمل:
- "طبعاً أحسن منكم. أنتم تضعون يديكم طول الوقت في الطين. (استدرك) إني أعتذر. إنها مجرد دعابة!".
ضحكت – قبل أن يعتذر – ضحكة عالية، أوقفت امرأة عجوزاً على الرصيف الآخر. تسمرت مكانها تنظر إلينا غير مصدقة ارتكاب مثل هذه الجريمة في وضح النهار، بينما مرافقي يكرر العبارة الأخيرة ويلكزني في جنبي بقوة لأشاركه الضحك. كنت أضحك بكل حواسي لما أرى وما أسمع وما أحس. سألني:
- "هل تكسبون جيداً من عملكم؟"
- "تقصدون من الطين؟"
جلجلت ضحكته أعلى مني هذه المرة، ثم كرر سؤاله:
- "إني أسألكم جد!"
ضحكت مرة أخرى وظل هو الآخر يضحك، حين أعدت:
- "تقصدون من الطين؟"
لكزني بالطريقة نفسها وهو ينفجر ضاحكاً، وأنا أيضاً أضحك، فأفسح المارة الطريق لنا ولضحكاتنا.
- "في الحقيقة، نكاد نكسب جيداً، ولكن الضرائب لا تنسى مخلوقاً يكسب شلناً. تكاليفنا عالية وبعد الضرائب لا يتبقى لنا شيء".
تجهم وجهه وهربت منه الضحكة. هز رأسه بالطريقة الفييناوية المألوفة في حالات الانفعالات الغاضبة المكتومة، وبدأ في حديث طويل، لم يرح نفسه فيه حتى ليتنفس. لم أقاطعه. تكلم كأنه يخاطب جمهوراً وهمياً:
- "هل تعلمون يا سيدي! هذا البلد ملعون! سيظل دائما ملعوناً طالما لدينا هذه السياسات العقيمة. إنهم يضحكون علينا في كل مكان أتعلمون! نستقبل اللاجئين بالمئات كل ساعة. نمنحهم مأوى وعملاً. نفتح البلد للأجانب ليأتوا كالجراد من كل مكان ولا يغادروا هذا البلد. يخطفون أعمالنا بمقابلهم الزهيد. ويسببون لنا البطالة وارتفاع الأسعار. الجرائم زادت في كل مكان يا سيدي بعد وصولهم. اغتصاب النساء والأطفال. سرقات البنوك. وماذا أيضاً (ضحك ضحكة مبتورة ساخرة) نفتح الحدود في الشمال والرق مثل بيت بلا أبواب. هذه يا سيدي باختصار المشكلة! هؤلاء الأجانب هم السبب في دفعنا لهذه الضرائب الباهظة. نحن ندفع لهم. هم سبب مشاكلنا. وجودهم لعنة! (أخفض صوته كأنه يسر لي بسر أعظم) يجب أن نفعل شيئاً! لن تستمر الأمور هكذا! يجب أن يغادرونا! يجب أن يغادرونا!"
سكت محدثي وبدأ يلملم أنفاسه التي نسيها في اندفاعته. تغيرت ملامح وجهه، بدا لي كريهاً قبيحاً. أحسست للحظة أنني أكرهه. شعرت بالذنب. تذكرت جدتي حين أجلستني إلى جوارها في أول يوم سمعت فيه من لساني كلمة: "كُره". كنت قد اختلفت مع جار لنا في اللعب وتعاركنا، وحين عدت قلت لها:
- "إنني أكرهه هذا القبيح الكريه!"
جلست معها جوار نخلة. ما زلت أذكر هذه النخلة وهذا المكان. كان الوقت غروباً، من أيام الصيف شديدة الحرارة. ما زلت أتذكر سخونة الرمال تحتي. بينما جمعت لي بعض حبات الرطب المتساقطة من على الرمال. وضعتها في حجرها. وظلت تقشرها وترمى منها النواة وتعطيني لآكل حتى نسيت أنني اختلفت مع جاري. قالت لي يومها:
- "أنت لساك صغير. أحفظ كلامي وما تنساه! ما تكره إنسان في يوم يا ولدي. اكره فعله. اكره كلامه. لكن ما تكره إنسان. كلنا واحد يا ولدي لكن كلامنا وأفعالنا دايماً مختلفين".
يومها لم أفهم تماماً ما قالت، ولكنها أصرت على أن أردد جملتها طوال الطريق، حتى حفظتها كالنشيد. وبقيت في ذاكرتي. عادت جملتها في اللحظة التي شعرت فيها أنني أكره إنساناً. وفي هذا الخليط من الشعور بالحيرة والتصديق وعدم التصديق، لحظة تفتت اللحظة وذوبانها، جاء صدى جدتي ليحميني من انزلاقة أولى يتبعها خروج الإنسان مني.
سحبت يدي من تحت إبطه. أمسكت ساعده لحظة عبرنا فيها معاً التقاطع، ثم اعتذرت له بأنني يجب أن أتركه هنا، فطريقي الآن يختلف.
افترقنا. تذكرت ما قيل لي مراراً، إن من يسمع صوتي في التليفون لا يعرف أنني أجنبي، فألمانيتي اختفت منها أية لكنة أجنبية.
بحث هو عن عصاه البيضاء التي كان قد علقها من كوعها على ساعد يده اليسرى أثناء سيرنا معاً. مدها أمامه، وفي حركة منتظمة يميناً ويساراً، بحث عن طريقه وأكمله وحده.
|
|
|
|
|
|
|
|
|