النهـــــــود الجمــــــــيلة ..

Quote: عندما ألقى بنا (مشترك نيالا) في محطة ( أبوزبد) ونُقلنا إلى استراحة الحكومة في ليلة خريفية في منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، لم أك أتوقع أني في طريقي إلى بلد سيحقن شرياني التاجي مباشرة بحب وتعلق لاينمحي أثره حتى ما بعد البرزخ، بلد يمثل في الواقع نموذجا للسودان في الزمن الأخضر، بلد يحتفي أهله بكل ضيف ويوسعوا له في القلوب قبل المجالس ويقدموا له وثيقة تأمين ضد كافة الرزايا – إن كان ثمة رزايا في دار حمَر - ويدفعوا عنه أقساط تلك الوثيقة من مخزون الجود التاريخي فيهم. لم يدهشني – وأنا بعد صبي يافع يرافق أسرة بقيادة الوالد مفتش التربية والتعليم إبن أمدرمان المنقول لغرب كردفان - لم يدهشني ما حدث في مدينة (أبوزبد) صبيحة قدومنا حيث صحونا من النوم ووجدنا حوش البيت يحتشد ب (صواني) الشاي واللقيمات التي يحتار خبراء المالتيناشونال أمثال DUNKIN DONUTS في سر طعامها ولا يعرفون أن السر يكمن في أنها معجونة بحب الصانعين ضمن مقادير أخرى من مكونات المودة والطحين، قدموا لنا طعاما يكفي لعشرين أسرة في (صواني) مغطاة بالأطباق المزركشة النظيفة الجميلة وعلى رأس المينيو المشمول بالنفاذ المعجَّل دجاج تغذى بالطبيعة والتآلف أعده أهله بأسلوب تحسدهم عليه KFC وسواها من أدعياء النكهة المستوحاة من الكتب بعيدا عن الفؤاد وما تمليه غدد الذوق والتذوق. لم نعرف كيف بلغ أهل (أبوزبد) في الليل البهيم وقبل الواتساب والهواتف النقالة المتنقلة أن هناك موظفا حكوميا وصل إلى الإستراحة في الليل مع أسرته ومن ثم قاموا بإعداد هذا القدر من الطعام الذي لم ولن أتذوق مثله في أي بقعة في الأرض ، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإمعانا في الكرم لم يحضر أي شخص من أولئك النادرين ليقول لنا أنه صاحب اليد الندية ، فقط جاءنا شيخ وشاب وامرأة ليطمئنوا على أن الأمور تجري على ما ينشدون وما إذا كانت ثمة حاجة تتطلب تدخلهم السريع فهم في وضعية استعداد وجاهزية بأعلى مما يتصور المارينز. أقول أني لم أندهش لهذا الكرم لأني عشت في مناطق أخرى في كردفان ودارفور في طفولتي وبواكير صباي وأعرف المبادئ الأساسية التي تحكم أهل تلك الأقاليم تجاه الجار والضيف وأبناء السبيل غض النظر عن أصولهم العرقية أو ما يعتقدون، وما حكاية سلاطين باشا في ( السيف والنار في السودان) عن شيخ قرية دارفورية والذي رفض صكا (إقرار بتكلفة إطعام جيش بحاله لتدفعه له سلطة الخرطوم) باعتبار أن بيع الطعام للضيف عيب ، فالكرم في تلك البقاع أصيل لاعلاقة له بالصناعة والشوفانية ، وخصلة إيثار الذات في حالات الخصاصة يشكل بعضا من خلايا الأقوام في تلك الأماكن الأثيرة للنفس وهرموناتهم. [/ ]