النخلة أو التمرة ...

Quote: الشمس تتهادى نحو أفآق الغروب بين الجبال في مساحات الصحآرى المترامية، ملقية بما تبقى من أشعتها على حقول القمح. ونسمات الشتاء الباردة تداعب الحسن وهو جالس على بساط النجيلة فوق حجرة النيل ساهماً بنظره في الضفة الشرقية، وقد بداء خلفه نبات الجروف يتداعى للنعاس، بينما غابات النخيل قد سفرت عن جدائل شعرها وإسترخت لمداعبة نسمات الشتاء. النيل ساجٍ هادئ وقد بدأت بعض السمكات الصغيرة تتلاعب قاذفة بنفسها في الهواء وراجعة للماء مخلفة دوائر فوق صفحة النيل الهادئة. في هذه اللحظات بدات ذاكرة الحسن تسحبه نحو أبواب ذكريات الماضي. تذكر كيف أنَّ جده كان حريص على أن يأخذه معه دوماً للحواشة يفلح معه الأرض بيديه الصغيرتان، ويركض خلف أسراب الفراش المستطير في حيضان البرسيم. تذكر يوم ناداه جده ليساعده في غرس شتلة نخيل. بداء الحسن يهيل التراب في الحفرة بعد أن ساعد جده على وضع الشتلة داخلها. ثمّ بعد أن غسلا أيديهما في الجدول، قال الجد للحسن وهو يمطر تراب الشتلة بالماء: الشتلة دى شتلتك يا الحسن، أبقى عليها عشرة. لم ينسى يوم أتى مهرولاً فرحاً إلى جده، وهو يصيح: جدي، جدي، تعال شوف شتلتي قبضت! وأستجاب لِندائه الجد وهو ضاحكاً، ثمَّ أخذ بيد الحسن إلى مكان الشتلة، وبعد أن تفقدها قال له: بكرة إن شاء الله يا ولدي شتلتك دى تبقى تمرة وناكل من تمرها. ظلَّ شريط الذكريات الجميلة يدور في ذاكرة الحسن وهو يرى التمرة تنمو، ويحس بساعده يقوى. كم كانت فرحته عارمة في ذلك اليوم وهو جالس مع جده تحت ظل النخلة يأكلان اوّل قطف من تمرها. فال له جده: ما تبضع في التمرة دى يا الحسن، التمرة دي تمُرتاً مبروكة، وأبقى عشرة على طين أجدادك. الحسن لايشك في بركة التمرة، ويعلم بينه وبين نفسه أنَّ البركة قد حلّت في التمرة من جده. ذاك الرجل الجميل ، العفيف، الطاهر، المبروك. ثمّ جالت بخاطره لحظات محزونة في ماضيه، حينما فارق جده الحياة، تذكر عندما ساعد الخزين في وضع جسده الطاهر في القبر وبداء يهيل عليه التراب، عندها جالت بخاطره ذكريات الطفولة وكيف كان يهيل التراب على الشتلة بعد أن أودع جده ساقها باطن الأرض. عندها عرف قيمة الأرض، وكيف أنها تحمل فوق ظهرها معاني الحياة وتحفظ في باطنها أجساد طاهرة وعفيفة. تذكر كيف أنَّ فرحته كانت عارمة كفرحة جميع أهل البلد بمبادرة الحكومة بقيام مشروع في البلد، وأنَّ الأهالى إستبشروا به خيراً وجنو ثماره لفترة من الزمن، سرعان ما تحول الأمر بعدها إلى جبايات وضرائب، وكميات من الإهمال والضغوط التعسفية على أهل البلد، مما أصاب الزرع بالجفاف، والضرع بالنشاف، الشئ الذي جعل الأهالى يبكون وتعصف بهم دواعي الحنين لأنين السواقي. رنّت في سمع الحسن مقولة ود مختار: ( الحيكومة سوتلنا شرك بالداهى الأسمو المشروع ده. ). أثقل وقع الواقعة كاهل الحسن وأصبحت أمآله وامآل ناس البلد كهشيم المُحتظر، تذروها عواصف الرياح. ضاقت سبل العيش بالحسن وناس البلد تحت وطاءة ضغط الحكومة حتى باع الناس أراضيهم لسماسرة الشئوم الذين يجيدون الصيد في الماء العكر. تذكر حاج الأمين وهو يساومه على بيع أرضه وتمرته، ويعرض عليه مبلغ من المال لايستهان به في ظروف كان هو فيها أحوج ما يكون إلى أبسط مبلغ، السبب الذي جعله قاب قوسين أو أدنى من الموافقة. حاج الأمين واقف بجوار الحسن والمبلغ في يده، والحسن سارح بفكره في الماضي البعيد وساهم بنظره في التمرة التي غرسها مع جده، وكلمات جده الآتية من الماضي السحيق، تصادم كلمات حاج الأمين الحاضرة، ومرارة العوذ والحوجة تغص حلقه. حاج الأمين: أمسك القروش يا الحسن... صوت الجد يرن في سمع الحسن، ويخالط صوت حاج الأمين: يا ولدي لاتبضع في تمرتك وأرضك. حاج الأمين: يا زول أمسك القروش قبل أغير راي... صوت الجد: التمرة يا الحسن، الأرض يا ولدي، الطين، التمرة، البلد، التمرة... فجأة إلتفت الحسن نحو حاج الأمين صائحاً: يا زول أنا وأطاتي وتمرتي مانِ بايعن... حاج الأمين: باكر بتيجي براك، وباخُدها منّك بأقلَّ من التمن ده. الحسن: يا زول قُت لك، أنا تمرتي مانِ بايعا. إستنشق الحسن هواء النيل البارد الممزوج برئحة نوار الجنائن ونظر حوله في المكان. الجروف مُخضرّة، وأشجار النخيل تتمايل مع نسمات الشتاء، والأرض عابقة برائحة الأهل وطيب المكان، والتمرة التى كان قد غرسها مع جده قد أصبحت مُحاطة بثلاث شتلات جميلات، صِرن مرتع طفولة لأِبنائه، ومصدر بهجة كلما حضروا من ديار الغربة لِقضاء الإجازة بين الأهل. إنداح صوت الجد مع نسمات الشتاء الباردة منساباً بين جدائل النخيل وغصون أشجار الليمون والبرتكان:،،،الأرض، التمرة، ألأهل، الطين، البلد، التمرة، التمرة، التمرة، الحسن.......... الحسن: أرقد عافية يا جدي، وصيتك ما وقعت وآطه...