|
Re: الخرطوم التى لا احبها ! . (Re: shaheen shaheen)
|
الفيل صديقى كلما سمعت كلمات الاقتصاد الحر والخصخصة والانفتاح الاقتصادى , تحسست مسدسى , هى كلمات مثل قميص سيدنا " عثمان " تنذر بالخراب والفتنة وأين يعشق البسطاء ويتنزهون ؟ , وحديقة الحيوان هى الان يا " صفية " برج مُنبعج غريب الشكل للأغنياء فقط , لعنة المبانى الحديثة الشاهقة , مثل لعنة ورمك السرطانى فى الثدى الايسر .
(1) اتذكر " الفيل " الافريقى والنظرة الاولى .. وانتِ تقفين لالتقاط صورة تذكارية , طالبة فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم , انزل الفيل خرطومه الضخم بكامله على كتفك الايمن دون مقدمات , اجلسك ارضاً من الخوف - سجمى .. سجمى . خطواتك المرتبكة خجلاً من الموقف السخيف .. ضحكت منك , تابعتك حتى قفص قرود تستجدى فى اذلال حبات من التسالى و فول الحاجات حديثنا الاول كان امام أسد كسر الاسر حدة زائيره , وخلعت منه القضبان الابدية صولجان الغابة الموروث ! - الزولة بتاعت الفيل . - ثقيل خلاص . من يتذكر الان يا " صفية " حديقة الحيوان ؟ وصمة عار ان تبيع دولة حديقتها العامة للحيوان من اجل حفنة دولارات خضراء , وهل يستطيع عاقل ان يعرض تماثيل المتحف القومى فى مزاد ؟ .. كيف يتم بيع التاريخ ؟ , ذكريات الناس ! الرئة الواسعة للتنفس رحلات مدرسية من اقاليم واطراف بعيدة .. اطفال بعيون واسعة مستديرة ينظرون للفيل صديق " صفية " فى انبهار - ماشيين جنينة الحيوانات . كورالات طفولية حمقاء صاخبة .. اساتذة فلت منهم العيار امام هوجة البهجة - يا يمة وين القى الشجر القى المياه الصافية القى الصحاب نلعب سوا فى صحة طيبة وعافية . صخب وضجة حبيبة , بائعى الترمس و الكبكبيه يفرحون بالعطلات الرسمية , ازدحام الناس .. اهلى الفقراء القادمين من البلد , عزومة فى قاعة الصداقة وقضاء نهار يوم بطوله فى الحديقة التى انقلبت برجاً بقدرة قادر كيف تبيعون تاريخ الناس للناس يا ناس ؟ .
(2) لغة المال لديها واقعية مُريعة , البيع والشراء والأرقام البحتة , لا تاريخ ولا جغرافيا او ذكريات , القانون الوحيد هو معيار الربح والخسارة اشتكى بطل رواية (غير المرغوب فيه) للمبدع الفرنسى الكبير " ريجيس دوبريه " من انه لا يتمتع بالغبار يغطى كتبه وأحذيته , يشتكى من عدم وجود سرير ثابت ينام عليه ووسادة يجد فيها رائحة عرقه , كان يسارياً مُطارداً يتنقل دون هوادة من مكان لمكان , يحلم بالثبات , ان يمد جذوره فى تربة راسخة .. مثله اموت عندما لا اجد حديقة الحيوان , بدلاً عنها يا " صفية " خرج ذلك الكائن الاسمنتى المشوه من بين صفحات الكتاب الاخضر , آليات كبيرة تنقل كتل من الحديد , تدوس على ارض مُشبعة بذكريات اللقاء الاول , اقتلعوا يا " صفية " اشجاراً حفظت مثل ببغاء حوارات الحب الصادقة ولمس الاصابع للاصابع رومانسيتى الغبية فى مواجهة لغتهم الغريبة , ارهقتنى حداثتهم المجنونة , مشاريعهم الربحية للترويح عن النفس , صالات بلياردو مُكيفة الهواء , كازينوهات تسد النيل عن العيون , اين يذهب اطفال المدارس البسطاء ؟ , اين تذهب تعليقاتهم الجارحة على مؤخرة شمبانزي كبيرة ؟ والشماسة والنوم تحت ظلال الحديقة البائدة , فحتى معهدهم الدائم لتعلم اللغة الهندية - سينما كوليزيوم - فى طريقه للاندثار الحداثة التى لا احبها , ابراج عالية تجعلنى مثل " جيلفر " فى بلاد العمالقة , قزماً يتخبط اين الخرطوم التى احبها ؟ اين خرطومى ؟ خرطوم فيل يضربك على كتفك يا " صفية " وانتِ تستعدين فى بلاهة للتصوير امامه , تجلسين على الارض فى هلع - سجمى .. سجمى . يرفع الفيل الافريقى انفه عالياً فى انتصار .. خطواتك المرتبكة تحمل الجسد الرشيق بعيداً عن ضحكات من شاهد الموقف - جسدك الذى سيخسر معركة اخيرة وفاصلة ضد سرطان الثدى - لخص صعلوك ضليع ما حدث فى عبارات حكيمة - تعرف يا معلم , حتى الفيل مُعجب .
(3) فى هوجة بيع القطاع العام , اعرف الارقام والضرر الاقتصادى , افهم بشكل نظرى للغاية معنى بيع وضياع السكة الحديد , واستطيع ان اتحدث لساعات عن شرور الخصخصة ولكن عند الحديث عن حديقة الحيوان , فانا اتحدث بكل بساطة عن نفسى , عن تاريخى الخاص جداً .. هو نفس الفرق بين ان تحزن لمشاهدتك جثمان داخل كفن وبين ان تكون انت نفسك داخل هذا الكفن برجوازيتى التى احبها فى العمل العام , الكتابة عن حديقة حيوان ضاعت فى وطن يتجه هو نفسه نحو الضياع النهائى افكر ان اكتب كتاب عن تاريخ هذه الحديقة , حتى لا تصبح الذاكرة مثل غربال يجب ان نكتب , ونكتب , ونكتب , حتى لا ياتى جيل ينسى ويُحب هذا البرج المنبعج .
(4) كان عندها عشق خاص للنعام , تُريد مشاهدته وهو يطير , تجمع حصى صغيرة تقذفها نحوه - طيروا .. طيروا . - يا صفية النعام ما بيطير . - ليه ؟ . - عشان جسمو كبير . يجرى النعام سريعاً فى رشاقة مُذهلة , ولكنه يكتشف الفاصل الحديدى , يتوقف بحسرة , يرفع الراس الصغير المثبت على الرقبة النحيلة , ينظر لـ " صفية " طالباً المساعدة , ترفع يديها للسماء فى تهليل صبيانى - طيرى .. عليك الله طيرى . سماء صافية زرقاء , وشمس حارقة فى رحلة سرمدية .. بلد بدون حديقة حيوان وجسد شابة بديعة انهزمت فى معركة خاسرة بالسرطان ترقد الان فى مقابر حمد النيل منذ سنوات .. و نعام لن يطير ابداً , وانا ما زلت على قيد الحياة ! .. يا فرحتى .
|
|
|
|
|
|