المدينة الخلاسية ... سيرة مدينة ... كتاب

مرت مدينة كادوقلي في تاريخها القديم بمراحل عدة ساهمت في تطورها الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي فمنذ التركية الاولي آصبحت المدينة و ما جاورها تجمعا للحركات الرافضة للاحتلال عبر تمردات كثيره ساهمت فيها طبيعة المنطقة الجبلية حيث وفرت الجبال و كهوفها ملاذا آمنا منه تنطلق حملات المقاومة ضد جيوش التركية و حملاتها العسكرية التي تعبر الي عمق اقليم جبال النوبة من آجل الحصول علي الرجال الاشداء بغرض تجنيدهم في جيوش الامبراطورية كما قاومت المدينة في عهود سابقة حملات آصطياد الرقيق التي كانت تقوم بها القبائل الاخري
شكلت طبيعة المدينة الاستراتيجية حصنا منيعا لصد غزوات الغزاة و تجار الرقيق و منذ اوائل القرن الثامن عشر و مرورا بفترات التركية و المهدية ثم الاستعمار البريطاني فان كثير من مناطق جبال النوبة عاشت فترات من حروب المقاومة و شكل عمق المدينة مركزا مهما في الكر و الفر و حتي في حالات الخضوع الجزئية التي شهدتها مناطق الاقليم فان جذوة المقاومة لم تخمد و ذلك نتيجة للاحساس العميق بالاستقلال النسبي الذي عاشه سكان اقليم جبال النوبة طيلة تاريخهم القديم و قد مثلت فترات عدم الاستقرار خصما كبيرا علي حياة سكان الاقليم
فاعتصم بعضهم بالجبال الآمنة و تركوا زراعة السهول و اكتفوا بالزراعة المحدودة فوق اسفح الجبال

اضاف الاستعمار البريطاني في نهايات القرن الثامن عشر و بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بعدا مآساويا في حياة اهل جبال النوبة وذلك لما اتبعه من سياسات قمعيه قصد بها الانتقام و اخضاع مناطق اقليم جبال النوبة لسيطرته عبر الحملات التآديبية لقمع ثورات الاهالي المتكرره و بعد صعوبات بالغة خضعت اجزاء كبيرة من الاقليم لسيطرة الاحتلال و بذا عمد الي اخضاع النوبة التام عبر ما شرعه من قوانيين استعمارية و سياسات اقتصادية عمادها ضم كل مكوكيات النوبة الي مراكز كبيرة يسهل منها ادارة بقية مناطق الاقليم الشاسعة كما عمل الي ادخال محاصيل زراعية جديدة تخدم خططه في توفير القطن لمصانعه في اوربا و بذلك عمل علي انزال كثير من القبائل من مناطقهم الجبلية للتجمع في قري و مدن صغيرة و انشاء مشاريع زراعية لزراعة القطن و بذا اتسعت رقعة المدن
شهدت مدينة كادوقلي طفرات اقتصادية و اجتماعية كبيرة حين تم اعتمادها مركزا لاقليم جبال النوبة فشهدت المدينة طفرة عمرانية بانشاء محالج القطن وبناء الوحدات الحكومية ما جعلها مدينة جاذبة لكثير من سكان القري و المدن الصغيرة المجاورة و كذلك هاجرت اليها مجموعات كثيرة من مدن السودان الاخري بغرض الاتجار و الاقامة و اتسعت رقعة المدينة الجغرافية و اتسعت اسواقها وشهدت عمرانا و ظهرت لاول مرة فيها الطبقات الاجتماعية و الفرق الرياضية و تم تقسيم المدينة الي احياء سكنية متعدده وآصبحت مقرا حكوميا اسهم في استقرار المنطقة و تنميتها اقتصاديا و بشريا

تشكل الطبقة الوسطي عماد سكان اهل المدينة فاصحاب مشاريع القطن و تجار المحاصيل والموظفون الحكوميون وعمال المصانع و صغار التجار و اهل المهن الصغيره آصبحوا لاول مرة لهم وجودهم الاجتماعي الظاهر و المميز و آصبح لهم دورهم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي البارز في حياة المدينة و تطورها لتصبح علي الاطلاق عاصمة لاقليم جبال النوبة لا تزاحمها اي مدينة او مركز آخر في المنطقة و اصبح لسوق المدينة
المركزي شهرته الكبيرة لتنوع ما به من محاصيل زراعية وما به من متاجر متنوعه تبيع كل ما لذ وطاب من المنتجات المحلية و المستوردة كل ذلك اثر بشكل او بآخر في تنمية المدينة و تحسين احوال و ظروف انسان
المدينة التي اصبحت حاضرة و متحضره مثل بقيه مدن السودان الاخري

شهدت المدينة ايضا عمرانا وتخطيطا ولاول مرة في تاريخ المدينة تصبح للاحياء السكنية مسمياتها و تصبح
للطرق المشيدة اسمائها و للاسواق بنيانها المميز كما ان وسائل وسيارات النقل و الترحيل آضحي لها وجودها و لصوت ماكناتها مكانا في اذان سكان المدينة و اصبحوا يميزون بين صوت لواري التيمز و السفنجات و سيارات الجيش و ماكنات طحين الذرة هكذا اصبح للمدينة وجود و لانسانها حراكا يوميا منظم و آصبح لكل فرد في المدينة دوره الذي يؤديه و بذلك تغيرت وتيره حياة الناس
عبر السنين و الاجيال و القرون تطورت المدينة في كل المناحي و اصبحت مدينة ذات وجود فاعل لتسهم مع غيرها من مدن الاقليم الاخري في حياة انسان جبال النوبة و رفده بكل قيم الخير و الجمال و المحبة التي نسجتها من قماش التزاوج و الانصهار و خاطتها بخيوط المحبة و الامل هكذا ولدت المدينة من رحم الفراغ وعبر مسار مخاضها ووجعها الازلي تكونت لتكون وجودا ممتدا بلا نهايه
كامتداد اساطيرها في روح وعقل ابنائها لاجيال و اجيال

يقول الاثر ان آصل المدينة حجر وان اصل الانسان طين ولكن لاهل جبال النوبة قول آخر فهم يقولون بان آصل الانسان حجر كناية عن الفخر بقوة وصلابه بنيانهم الجسدي ولذلك فهم يطلقون علي الجبل مسمي الحجر وعلي سكان الجبال ناس الحجر مجازا وقد سمي آهل مدينة كادوقلي احياء مدينتهم بنسب اسم الحي الي الحجر اي الي الجبل الذي يمثله ذلك الحي فهناك حجرالمك " مقر مكوكية قبيلة كدوقلي التي سميت مدينة كادوقلي علي اسمها " وحي قعر الحجر "اسفل الجبل" وهناك حجر كليمو و حجر النار و حجر السما وحجر بليله "جبل الكجور"

اما الاحياء الاخري التي لا يسكنها من لا يمت الي اهل جبال النوبة بصلة قربي فلها اسمائها الاخري ونسبها الاثني او الجغرافي او الديني مثل حي الفقرا " المشتغلون بامور الدين " اما الاثني فمثل حي الجلابه او حي السوق " معظمهم ذوي آصول من خارج اقليم جبال النوبة " ويقيمون في وسط المدينة حول السوق الجوه و السوق البره " السوق الداخلي و الخارجي " وايضا حي الموظفين الشرقي والغربي وحي الملكيه " سكن المدنيين " وحي السلخانة " مسلخ الماشية" وهناك حي الرديف وحي زندية وحي الدرجات وحي العصاصير " معاصر الزيوت " وحي السرف 'مكان تجمع المياه"

هناك ايضا الاشلاقات الثلاثة اشلاق البوليس و اشلاق السجانه و اشلاق الجيش وحي حسيب الذي سمي تفردا و تيمنا باسم اول محافظ وطني للمدينة اما الوافدون من خارج المله فلهم احيائهم السكنية مثل حي الانجليز " مساكن جيش واداري الاحتلال الانجليزي " الذي مازال شاهدا بمبانيه الحجريه وشكله العمراني الفريد علي فترة الحكم الانجليزي للبلاد و ايضا لهم مقابرهم المسيجة باسوار حجرية سميكة مازالت تحمل اسماءهم كمقابر حي الانجليز تميزا لها عن المقابر الوطنيه الاخري للمسلمين و المسيحين او الاقباط و الاغاريق

مثلما للمدينة احيائها فان لها ايضا مساجدها وكنائسها العتيقة المتعددة فهناك الكنيسة القبطية " كنيسة الاقباط " في اقصي الشمال الشرقي للمدينه وهناك الكنيسة الكاثولوكية في اقصي الجنوب الشرقي للمدينه كما ان للمدينة مسجدها العتيق " الجامع الكبير " في وسط سوق المدينة وهناك بعض المساجد الصغيرة المتفرقه في الاحياء الشعبية التي يصغر او يكبرحجمها بحسب حجم الحي الذي تقع فيه وهناك ايضا زوايا الطرق الصوفية المتعددة مع انتشار واسع للخلاوي في الاحياء الشعبية

يحدثنا التاريخ ان الامم تبني حضاراتها وحواضرها علي ضفاف الانهار وفي السهول الرحبة الا ان اهل مدينة كادوقلي قد اختاروا لمدينتهم بعدا تاريخيا وجغرافيا مميزا فاختاروا ان يبنوا مدينتهم في مكان اشبه بجزيرة جبلية تحفها الجبال من زواياها الاربعه الا من مخارج بعضها ضيق و آخر متسع خاصة في الجزء الشمالي والشرقي فهي مدينة جبليه بل هي جزيرة شبه جبلية يزين شقها الشمالي رافد نهري موسمي صغير منبعه شلالات كولبا التي تقع في الشمال الغربي للمدينة حيث يعبر هذا النهر الصغير المدينة من شمالها الاعلي الي شمالها الشرقي متجها الي مصاب خارج المدينة في قري مجاورة حيث تتسرب مياه النهر في بطاحها الرملية

يشكل موقع المدينة موقعا استراتيجيا بين شبكة من الجبال المتعددة التي تحيط بالمدينة ما اهلها ان ينطبق عليها
لقب عروس الجبال ومنذ زمن بعيد لا احد يعرف تاريخ تآسيس المدينة تحديدا لكنها قديمة
قدم انسانها وجبالها ومنذ قديم الزمن آصبحت المدينة حاضرة لاهل اقليم جبال النوبة تجمع شتاتهم وتحتفي بتنوعهم وتقوي نسيجهم الثقافي والمعرفي فاضحت عاصمة ادارية وثقافية وتعليمية واقتصادية ليست لاهل جبال النوبة وحدهم بل لكل من يشاطرهم العيش فيها و يتخذها سكنا و بلدا هكذا تشكلت المدينة وصارت وطنا يسع بين جنباته كل نسيج الطيف الاثني والثقافي واللغوي والديني في السودان وغدت وحدة المدينة في تنوعها وتمازجها الذي قلما يوجد في مكان ما فكل اهل المدينة لهم نسب ما بكل قبائل اقليم جبال النوبة ولهم جذور ما في كل مكان قصي من الوطن

ان كان للتاريخ معني وشاهدا فان تاريخ مدنية كادوقلي شاهدا عليها فقد شد الرحال اليها كثيرين من اطرافها البعيدة ومن بقاع السودان الاخري القصية شمالها و جنوبها و شرقها وغربها فامست متحفا بشريا وكتابا تعدد صفحاته بسحنات وازياء كل مناطق السودان وتتمد روحانيات المدينة لتشمل كل الاديان وكريم المعتقدات في تجانس وتناغم وانسياب عذب جعل من سكان المدينة مثال رائع للتجانس ونبذ عصبيات الدين و الجغرافيا فاضحي التاريخ معبرا عن الحاضر والماضي والمستقبل في ارتباط وثيق يعجز عن وصفه علماء علم الاجتماع والمشتغلين بعلم الاجناس ولان المدينة اضحت لها بصمتها الخاصة وجينها الوراثي المميز الذي اضفي حنينا ابديا في انسان المدينة وميزه بعاطفه جياشه وحب خرافي للآخر " الغريب" فالاخر بعرف انسان المدينة هو الانا و الانا هي الاخر في تجلي انساني صوفي يتجاوز مسميات الاشياء ويغوص في عمقها العميق فحين يحن اهل المدينة اليها وهم بعاد عنها فانهم يقولون يا حليل الجبال وناس الجبال و بذلك يفصحون في خيالهم الجمعي عن الحنين الابدي الذي يربطهم بالمدينة التي اصبحت الاشارة اليها جمعا "الجبال ' امعانا في بلاغة عاطفيه وفصاحة تجعل منها وطنا ومعني لا يدرك معناه الا انسان المدينة
كثيرون ممن يزورون المدينة يغمرهم انطباع اولي بانهم في مكان خاص وتتجلي تلك الخصوصية في ان المدينه يزينها فضاء خاص من الصدي و التردد الصوتي بين ارجائها و اركانها الاربعة يجعل من البوح و الهمس و حتي الكلام الخافت امرا متاح يمكن للجميع سماعه فليس ثمة سر في المدينة فكل الكلام متاح وممسوع بفضل تقنية التردد الصوتي ذو الخاصية الفريده وبفضل الصدي الذي تتيحه شبكة الجبال التي تحيط بالمدينة من كل جهاتها
فروحانيات المدينة و اذكارها التي تبعثها المساجد اوقداسات الكنائس او حلقات الذكر الشعبية تجوب فضاءات المدينة و تدخل من كل باب وشباك دون استئذان وكذلك حفلاتها الليلية واصوات مغنيها تشنف اذان السامعين وحتي جلسات السمر وقهقهات وقفشقات المنتشون بمشروباتهم الروحانية يمكن سماعها بوضوح تام و لذلك فان سكان المدينة الآصليون تجدهم حينما يحدثونك فانهم يهمسون وآصبح كلامهم همسا و صارت لغتهم حالمة و هامسه