دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-30-2024, 11:02 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-19-2013, 03:33 AM

طلعت الطيب
<aطلعت الطيب
تاريخ التسجيل: 12-22-2005
مجموع المشاركات: 5826

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار (Re: كمال عباس)

    من مساهمات المرحوم بشير اثناء مدلولات عضوية الحركة حول الورقة السياسية المقدمة للمؤتمر الرابع:



    أكبر كارثة في تاريخ السودان الحديث

    تمثل تجربة حكم المتأسلمين فيما اسموه بثورة الإنقاذ أكبر كارثة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأخلاقية تحل بالسودان في تاريخه الحديث. فقد فاقت الإنقاذ الاستعمار التركي في القتل والقمع والتشريد والظلم واستباحة الحرمات. كما فاقته في إثقال كاهل الشعب بالضرائب والجبايات الباهظة والإذلال في تحصيلها، مع الحرمان من الخدمات الأساسية المتمثلة في الصحة والعلاج والتعليم ومياه الشرب النقية وفرص العمل. و فاقت الاستعمار الإنجليزي المصري في القمع والاستغلال واستنزاف الموارد. وأصبح السودان في عهدها يصنف في ذيل قائمة أفسد الدول في العالم وأفشلها. وفاقت الإنقاذ جميع أنظمة الحكم المعروفة في تاريخ السودان في مسخ قيم وطبائع الشعب السوداني والوصول بها إلى الحضيض.
    ومن أبلغ الإدانات في تقييم تجربة الإنقاذيين ما كتبه د. الطيب زين العابدين، الأكاديمي المعروف، وأحد أقدم قيادات الحركة الإسلامية في السودان، حيث قال:

    "لم يخطر ببالنا طرفة عين، أننا عندما نحكم قبضتنا على مقاليد الدولة والمجتمع، سنضرب أسوأ مثل لحكم ديمقراطي أو عسكري شهده السودان علمانياً كان أم إسلامياً. فقد حدث في عهد الإنقاذ ما لم يحدث في غيرها من الكبائر: حارب أبناء الشمال لأول مرة مع حركة تمرد جنوبية يسارية كراهية في حكم الإنقاذ، وانقلبت الحرب ضد التمرد من حرب وطنية تحفظ وحدة السودان إلى حرب دينية جهادية ضد الكفار في الجنوب أدت إلى مقتل أكثر من عشرين ألفاً من شباب الإسلاميين، وألبت علينا الحرب الدينية عداء دول الجوار والدول الغربية الكبرى، وانتهى بنا الأمر إلى انفصال الجنوب الذي ظل موحداً مع الشمال أكثر من «150» سنة، وقام تمرد آخر في كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، وارتكبت الحكومة الكثير من الخطايا والموبقات ضد أهل دارفور، مما جر عليها قضايا جنائية دولية طالت حتى رئيس الجمهورية وبعض كبار المسؤولين، واستطاع أحد فصائل تمرد دارفور أن يصل مدججاً بالسلاح إلى قلب العاصمة المثلثة دون أن يتعرض له جيش البلاد المكلف بحراستها وتأمينها، وتبنت سياسة خارجية خرقاء ضد دول الجوار العربي والإفريقي وصلت إلى حد دعم جماعات العنف والاغتيال السياسي، مما أدى إلى عداء مبرر من تلك الدول، وإلى عقوبات دبلوماسية واقتصادية دولية ضد السودان، واستشرى الشعور بالعرقية والقبلية في كل أنحاء السودان بصورة غير مسبوقة، وسعت الحكومة الإسلامية إلى تسييس الخدمة المدنية والقوات النظامية والقضاء والمؤسسات الأكاديمية تحت شعار التمكين، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان الحديث، وبلغ الفساد المالي والأخلاقي مداه في ظل حكومة الإنقاذ بممارسات لم نسمع بها من قبل في العهود العسكرية السابقة."
    إن د. زين العابدين لا يصدق ما كان يقوله أهل اليسار، بل في الحقيقة كل معارضي الإسلاميين، بأن الحركة الإسلامية ما رفعت شعارات الإسلام السياسية إلا بقصد استغلالها لتحقيق مآرب مادية دنيوية شخصية وحزبية لا صلة لها بالدين. وذلك في إشارة ضمنية إلى حسن النوايا الذي أتى بنتائج عكسية. وقد قيل إن الطريق إلى النار محفوف بالنوايا الحسنة. وسنتناول في موضع لاحق الأسباب الأساسية التي أدت إلى ذلك الضلال الموبق الذي شهد به أحد قدامي الإسلاميين. وهو ضلال لا يتوقف على الإسلاميين السودانيين وحدهم وإنما يشمل بدرجات متفاوتة جميع حركات الإسلام السياسي والسلفي في العقود الأخيرة ولكن الإنقاذيين في السودان وحركة طالبان في أفغانستان وحكم الملالي في إيران جسدوا أسوأ نماذج واعطوا اوضح فكرة لما يمكن أن يحدث حينما يستطيع أمثال هؤلاء القوم الوصول إلى السلطة والتحكم في مصائر العباد والبلاد.
    إن الحركة الإسلامية بأكملها وجماعة الإنقاذ على وجه الخصوص تتحمل المسؤولية الكاملة عن انفصال الجنوب وتفكك البلاد الوشيك. لأنها جاءت بأجندة صريحة لفصل الجنوب حيث كان في نظرها يمثل العقبة الرئيسية أمام تطبيق الشريعة وقيام الدولة الإسلامية. قال ذلك الرئيس البشير منذ سنوات طويلة "إذا كان ثمن بقاء الجنوب هو إلغاء الشريعة الإسلامية، فليذهب الجنوب". ولم يتحرج البشير في يوم استقلال الجنوب من أن يطلب من الرئيس الأمريكي أوباما أن يفي بوعده لقاء تيسير نظام الإنقاذ لانفصال الجنوب، وقبلها طلب مندوبه في الأمم المتحدة مكافأة السودان لقاء انفصال الجنوب.
    وقد نفذ انقلاب الإنقاذ في وقته المحدد في 30 يونيو 1989 ليقطع الطريق على إجازة اتفاق الميرغني قرنق في البرلمان ومن ثم الشروع في تنفيذه، علما بأن كل ما تضمنه ذلك الاتفاق ، من أجل الحل السلمي لمشكلة الجنوب، هو وقف لإطلاق النار وعقد مؤتمر دستوري في سبتمبر من تلك السنة، ليتفق من خلاله جميع أهل السودان على دستور دائم لحكم البلاد، وتجميد قوانين سبتمبر القمعية وإلغاء الاتفاقات العسكرية الأجنبية المبرمة في عهد نميري لحماية نظامه من الشعب والتي تمس بسيادة السودان. ولم يتضمن الاتفاق أي مطلب أو إشارة إلى تقرير المصير أو الانفصال ولا اقتسام الثروة والسلطة وما إلى ذلك.

    دولة بوليسية وحشية تحت عباءة إسلامية

    لقد جاء النظام الإنقلابي إلى الحكم بدعاوى عريضة وكاذبة بأن عسكرييه قد أقسموا على صيانة وحدة التراب السوداني وعدم التفريط في شبر منه، وبأنه يريد القضاء على الفساد والعنصرية. فكان هو أول نظام بعد الاستقلال لا يفرط في وحدة البلاد فحسب، بل يتعمد تفتيتها ويسومها لكل مشتر. وهذا وحده كفيل بالحكم على زعماء الإنقاذ بالخيانة العظمى، ناهيك عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية الموجهة إليهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية والمجتمع الدولي.

    قطع الانقلاب الطريق إلى السلام وعمل على تصعيد الحرب بشكل لم يسبق له مثيل، وجعلها حربا جهادية باسم الإسلام ، يزف شهداؤها إلى الحور العين في احتفالات رسمية سميت بعرس الشهيد. وفي تلك الحرب المدنسة زعم المتأسلمون أن القرود أصبحت تساعد المجاهدين على استكشاف العدو أو أماكن الألغام. ولما طال أمد الحرب ولم يحسمها النظام عسكريا كما كان يتوهم، كان هو أول من عرض حق تقرير المصير على أهل الجنوب. ثم كان توقيع اتفاق نيفاشا، وما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية فالاستفتاء فالانفصال. أنفق النظام على الحرب بلايين الدولارات، وأزهق بسببها أكثر من مليوني نفس من أهل الجنوب وهلك فيها مئات الآلاف من جنود وشباب السودان، وتشرد أكثر من خمسة ملايين من مواطني الجنوب. وكانت النتيجة في النهاية فقدان ثلث البلد بسكانه. بل لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد خلق النظام بسياساته العنصرية الرعناء جنوبا جديدا تمثل في الحروب الدائرة حتى الآن في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. ومات في حرب دارفور وحدها ما يقدر بأكثر من 400 ألف بسبب الحرب وآثارها، وتشرد بسببها حوالي ثلاثة ملايين لاجئ إلى الخارج ونازح داخليا. ومات عشرات الألوف في حرب جبال النوبة والنيل الأزرق، وتشرد مئات الألوف ولا تزال الحكومة تستهدفهم بالقصف العشوائي وتمنع عنهم وصول الإغاثة الإنسانية.
    هذا علما بأن الحكومة هي التي بدأت هذه الحرب بعد أن تنصلت عن تنفيذ آخر بنود اتفاق السلام الشامل المتعلقة بإجراء المشورة الشعبية في الإقليمين وبالترتيبات الأمنية وزورت الانتخابات في جنوب كردفان. بل عندما توصل وفد مؤلف من 43 عضوا من حزب المؤتمر الوطني إلى اتفاق للسلام في أديس في أغسطس الماضي مع قيادة الحركة الشعبية في الشمال، بوساطة وشهادة من ممثل الاتحاد الأفريقي تابو مبيكي، لم يلبث الطرف الآخر من هواة الحرب أن ألغى ذلك الاتفاق في اليوم التالي. وقد تضمن ذلك الاتفاق آخر فرصة لمشروع حل سلمي وشامل ليس لمشكلتي جنوب كردفان والنيل الأزرق فحسب، بل وللخروج السلمي من الأزمة السودانية برمتها لو أن الطرف الحكومي مضى إلى تنفيذه بجدية واهتمام بمصير البلد وشعبه.

    ولم يكتف النظام بتفتيت البلد، بل جعلها نهبا للأطماع الخارجية وأرضا مشاعا للتنظيم العالمي للأخوان المسلمين وشركاته. سكت الإنقاذيون عن احتلال حلايب ثمنا لتجميد قضية محاولة اغتيال حسني مبارك في مجلس الأمن بل ذهبوا إلى إرضاء نظام مبارك ببناء سدود على أرض السودان ، مدمرة للبيئة ومتسببة في نزوح الألوف من السودانيين وفقدانهم أراضيهم بدون تعويضات تذكر، وكل ذلك لحل مشكلة الطمي في مصر وقبلوا بأن تحسب الكميات المتبخرة من حصة السودان المبخوسة أصلا. وبدلا من تشييد سد مروي الذي أقيم بدعوى انتاج الكهرباء كان يمكن تنفيذ تعلية خزان الرصيرص بتكلفة أقل وبانتاج كهربائي أكبر وبزراعة أراض ساشعة تعود بفوائد اقتصادية واجتماعية لا تقدر بثمن. وذهب الإنقاذيون في إرضاء النظام المصري السابق إلى بيع الأراضي في شمال السودان والنيل الأبيض بأبخس الأثمان، كما ذهبوا من ناحية أخرى إلى بيع الأراضي للمستثمرين العرب والإسلامييين على طول نهر النيل، ويعملون على بيع مشروع الجزيرة الذي ظل العمود الفقري للاقتصاد السوداني طوال أكثر من سبعين عاما. وتنازلوا عن أراضي الفشقة للنظام الأثيوبي.

    وفي سبيل البقاء في الحكم بأي ثمن راح قادة الإنقاذ يسومون ما تبقى من السودان إلى مصر علنا وبلا حياء. فكانت دعوة وزير الدفاع في مصر إلى توطين 5 مليون مصري لزعمه أن هناك خللا في التكوين العرقي للسودان. ثم دعوة الرئيس إلى توطين 10 مليون مصري. وسنوا قانون الجنسية الجديد الذي يمنحها للأجانب بعد خمس سنوات من الإقامة الدائمة، وأبرموا اتفاق الحريات الأربع التي يتمتع بها المصريون ولكنها لا تنطبق على السودانيين. وبدأ كلام صريح عن وحدة وادي النيل وتجددت أطماع المصريين القديمة بفضل مساومات الإنقاذيين، وتهافتهم على قادة مصر الجدد بالهدايا والزيارات المتبادلة بين الإنقاذيين وإسلاميي مصر. وتجددت أحلام الإنقاذيين السودانيين بمزيد من العمر في السلطة بتوقع وصول الإسلاميين في مصر إلى السلطة.
    لقد فشل ما يسمى بالمشروع الحضاري وتحول إلى مشروع همجي عنصري قائم على إدعاء حق إلهي وهوية عنصرية متوهمة. وكانت من نتائجه الكارثية العديدة إثارة النعرات العنصرية والقبلية والعودة بالبلد مائة سنة إلى الوراء. وكان من ثمراته المرة الفساد الأخلاقي والانحلال الذي حل بقطاعات واسعة من الشعب السوداني .أصبح جليا أن المسألة لا تعدو أهواء نفوس وطمع مرضي في السلطة والمال والجاه والدنيا وشهوة النساء ولا علاقة لها البتة بالدين. في الصراع على عظمة االسلطة أبعد الإنقاذيون شيخهم الذي رباهم وجعل لهم تنظيما أوصلهم إلى السلطة. وبعد عزل شيخهم همشوا نائبه في السابق الذي كانت له يد طولى في عزل الشيخ، بعد أن أبرم ذلك النائب اتفاق السلام الشامل مع قرنق مما اعتبره صقورهم هزيمة كبرى واستسلاما. واستمر بروز تيار عنصري متشدد منذ نيفاشا، حتى أصبح كأن البلاد يسوسها الطيب مصطفى ذلك الرجل العنصري المهووس. ومع ذلك استمر استخدام ورقة الدين والشريعة للبقاء في الحكم بأي ثمن. حتى لو كان ذلك الثمن ملايين القتلى من الشعب السوداني، و التخلي عن السيادة والأراضي في سبيل البقاء في الحكم.

    بعد أن بدأ النظام بخرق الدستور الديمقراطي وإلغائه والاستعاضة عنه بأوامر رئاسية عسكرية، قام بمصادرة الحريات العامة وحظر الاحزاب السياسية وإغلاق الصحف، وعمل منذ الشهور الاولى على إنشأء دولة بوليسية ذات أجهزة قمعية وحشية متعددة، ومليشيات متعددة خارج إطار القوات النظامية، ثم عمد لاحقا إلى تسليح الشرطة بالأسلحة الثقيلة مما جعلها قوة أخرى موازية للجيش، الغرض منها قمع أي مقاومة شعبية. وبعد أن أجرى تصفية واسعة لضباط الجيش واستبدالهم بآخرين موالين له ظل من حين إلى آخر يعزل حتى الذين كانوا موالين له خيفة أن يكونوا غيروا ولاءهم بعد أن حدث انقسام في داخل النظام. كما فصل مئات الآلاف من الخدمة المدنية وأفقر بذلك مئات الآلاف من الأسر وسيس الخدمة المدنية وأفسدها تماما.

    وأقام النظام لأول مرة في البلاد ما يسمى ببيوت الاشباح، وهي معتقلات التعذيب الذي تدرب المتأسلمون على فنونه على أيدي المخابرات الإيرانية والمصرية، وعذبوا المئات من المعتلقين السياسيين فمنهم من مات تحت التعذيب ومنهم من خرج بعاهة دائمة. وأصبحت الدولة كلها مجيشة لقمع المظاهرات ومطاردات الطلبة والشباب الذين لم يكفوا عن المقاومة والرفض كشأنهم في ظل كل العهود الدكتاتورية السابقة. بأختصار فعلت الانقاذ كل شىء من اجل البقاء ، ولكن كل شىء فى حدود الترتيبات الامنية لقهر الناس، ولم تفعل شىء واحد يمكن ان ينال رضا الناس عنها، وهنا تحديدا توجد مكامن ضعفها داخليا وخارجيا!
    سياسات الانقاذ وفلسفتها الاقصائية وفسادها وتاريخها الطويل فى القتل والتنكيل والترويع قد تسبب فى بناء حاجز شاهق من عدم الثقة وراكم المظالم والمرارات مما دفع شعب الجنوب الى التصويت بالاجماع تقريبا لصالح الانفصال وبناء دولته المستقلة .
    بعد انفصال الجنوب واجه النظام كل اخطائه السابقة المتمثلة فى اهدار العملة الصعبة من مبيعات البترول وتدمير البنية الانتاجية الزراعية والحيوانية اضافة الى الصناعية وهو امر تسبب فى موجة الغلاء التى يواجهها شعبنا اليوم.

    التمكين لدولة الفقر والجهل والذل والسل
    في المجال الاقتصادي سحقت الإنقاذ الطبقة الوسطى التي تمثل القاعدة الاجتماعية الرئيسية لدفع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات الحديثة. وزادت الريف فقرا على فقره المعهود حيث أهملت وحطمت القطاع الزراعي الذي كان يعيش عليه أكثر من 80 في المائة من أهل السودان. فهجر الناس الريف الذي فقد مقومات الحياة والخدمات ونزحوا إلى المدينة ليعيشوا على الأعمال الهامشية ويقيموا مدنا عشوائية من الصفيح والخيش وأكواخ الطين . أصبحت الغالبية العظمى من أهل السودان في عهد الإنقاذ تعيش تحت خط الفقر، الذي لا يتجاوز دولارين في اليوم. وازداد الفقراء فقرا كما ازداد الأغنياء غنى، حيث يستحوذ الآن أقل من 10 في المائة من السكان على أكثر من 90 في المائة من الثروة، بينما يتقاسم أكثر من 90 في المائة من المواطنين أقل من 10 في المائة من الثروة.

    في الموازنة القومية لعام 2012 يستحوذ قطاع الدفاع والأمن والشرطة والقطاع السيادي على 78,3 % من الأجور والتعويضات، بينما لا تنال الصحة سوى 2,6 % والتعليم 4,8 % من جملة الأجور. هذا إلى جانب أن القطاعات الأمنية تملك أكثر من 80 شركة تحصل على دعم مباشر من الدولة وهي تعمل في مجال خدمات البترول والالكترونيات والمطاعم والأنشطة الاخرى وتتمكن من الاحكتار بفضل سلطتها وتبعد المنافسين الأخرين لتفرض أسعارا عالية وتجني أرباحا خيالية على حساب مستهلكي السلع والخدمات.

    شهدت الدولة نموا سرطانيا تركز في أيدي الفئة القليلة المستفيدة من النظام وفي مناطق جغرافية بعينها مختارة على أسس قبلية وحزبية بحتة. ولولا الهجرة الخارجية الواسعة التي استنزفت زبدة أبناء السودان من الخبراء والشباب لمات أناس كثيرون في مدن السودان من الجوع، ناهيك عن المجاعات المستوطنة في الشرق والغرب ومئات الألوف الذين يموتون سنويا بسبب سوء التغذية وعدم توفر العلاج من أمراض يمكن علاجها. ظلت الملاريا تفتك بالشعب السوداني مخلفة آثارا صحية واجتماعية واقتصادية وخيمة، إذ يبلغ عدد الإصابات سنويا أكثر من 7 مليون إصابة، منها حوالي 35000 حالة وفاة. ويتصدر السودان القائمة الدولية في حالات الإصابة بالسل و سوء التغذية وفقر الدم الحاد والدودة الغينية.

    وفي مجال التعليم تقدر اليونسكو الفجوة في المواد الدراسية والمعلمين والاحتياجات التعليمية بـ 52 % وتتسع هذه الفجوة في المراحل التعليمية الدنيا حيث أن الميزانيات الحكومية تعطي أفضلية للتعليم العالي والثانوي، كما تركزت الفجوة في الريف حيث تركز الدولة الانفاق على قلته في المناطق الحضرية. ومؤخرا صرح مسؤول حكومي بأن نسبة الأمية ارتفعت إلى 57 % بين الرجال و 73 % بين النساء. ولم تتجاوز نسبة القيد في كل مراحل التعليم في السودان من الابتدائي إلى العالي 36 %، بينما بلغت نسبة الفاقد التربوي حوالي 25 %. ويبلغ متوسط الانفاق على التعليم كنسبة من الدخل القومي حوالى 0.3% في السودان مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 5.2 %. بل إن أقل الدول نموا في العالم مثل بعض الدول الافريقية وحزر الكاريبي تنفق على التعليم ما متوسطه 2.8 % من الناتج القومي السنوي. وانخفض الانفاق على التعليم في الميزانية العامة من 15 % عام 1978 إلى أقل من 2 % عام 1996. وتترواح معدلات البطالة بين الشباب حسب تقديرات مختلفة ما بين 30 إلى 40 في المائة. وتستورد الحكومة العمالة بمئات الألوف من بنغلاديش وإثيوبيا والفلبين وفتحت البلاد للإسلاميين وشذاذ الآفاق من كل حدب وصوب.

    في الحقيقة إن أخطر ما تم من تدمير للتعليم ليس في ضعف المستوى الأكاديمي على جميع المستويات وحرمان قطاعات واسعة من السكان بسبب الفقر والرسوم المفروضة على الطلبة فحسب، بل المسخ والتشويه الذي يجري لعقول الايفاع والطلبة من مناهج دراسية دينية تقوم على التلقين وبذر التعصب والكراهية والإنغلاق، بعد أن أصبح للوهابية باع طويل في وضع المناهج الدراسية. ويقوم الوهابية في غفلة الجميع بأخطر تشويه تربوي على مستوى رياض الأطفال حيث يتبعون خطة مرسومة تعمل على تبني وبناء رياض الأطفال في كل مكان استطاعوا إليه سبيلا، ولا تعوزهم الأموال المتدفقة من نظرائهم السعوديين والخليجيين، وتوسعوا في بناء المساحد في أقاصي القرى. والنظام يمد لهم وكأنه ينتظر أن يكونوا حركة سلفية جديدة بديلة لحركته الإسلامية المنهارة ليكونوا دعما له في مقبل الأيام. إن أيام السودان قد تكون حبالى بأجنة مثل طالبان والقاعدة.
    كل تلك مجرد أمثلة إحصائية توضح الخلل في أولويات الحكومة السودانية. أما الآثار الفعلية لتدمير التعليم والخدمات الصحية والغلاء الفاحش فإن الغالبية الساحقة من الشعب السوداني تعيشها يوميا في شكل مأساة بالغة القسوة ومعاناة لا تطاق.
    هذا التلخيص يحاول أن يعطى فكرة عن حجم الخراب الذي أصاب الناس جراء الانقلاب الأصولي الإسلاموي على الديمقراطية عشية 30 يونيو 1989م. وهو أمر يعرفه ويحسه كل مواطن وكل مواطنة، وهو أيضا شيء وارد الحدوث في بعض دول الجوار التي شهدت ما يعرف بثورات الربيع العربي حين أتاحت للتيار الديني السلفي الوصول إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، إذا لم تحدث إصلاحات حقيقية لهذا التيار تستطيع أن تستوعب قضايا العصر وفى قلبها قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وان تتعامل مع قضايا الحداثة بشكل أكثر ايجابية ومسئولية.

    جذور الأزمة السودانية وأزمة الهوية
    إن للأزمة السودانية جذورا قديمة بالغة العمق والتعقيد، تمتد في الماضي إلى بدايات دخول العرب والإسلام في السودان، وبالتالي تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بكل إنجازاتها وتنقاضاتها وصراعاتها، وأسبابا أخرى حديثة متعددة ومتشعبة لا تقل تعقيدا. وليس في وسع هذا التقرير ولا من طبيعته أن يستقصي تلك الجذور والأسباب بالدراسة والتحليل. ولكننا نشدد على الأهمية البالغة لفهم تلك الجذور القديمة والأسباب الحديثة، لأنه بدون الفهم العميق والصحيح للمشاكل لا يمكن الوصول إلى الحلول. نكتفي في هذا السياق بإشارات تذكيرية موجزة، ونأمل أن تعمل حركتنا وسائر القوى الوطنية المستنيرة ومجاميع العلماء الأحرار والمثقفين والدارسين السودانيين على إشاعة الوعي بجذور المشكلة السودانية من خلال الحوار والنشر والندوات التي تصل إلى جماهير الشعب السوداني في كل مكان.

    إن كل مرحلة من مراحل تاريخ المجتمعات البشرية تترك آثارا إيجابية وأخرى سلبية، تتفاوت في أهميتها وخطرها ما بين مختلف المراحل ومختلف المجتمعات. وتبدأ عناصر تكوين الدولة السودانية والمجتمع السوداني في العصور الحديثة بآثارها الإيجابية والسلبية بنشأة المملكة السنارية، وتمر بفترة الحكم التركي الذي وضع لأول مرة خريطة السودان بحدوده فيما قبل الاستقلال، ثم فترة الاستعمار الإنجليزي المصري، وبداية النضال ضد الاستعمار على أيدي طلائع مؤتمر الخريجين، ثم انهزام المؤتمر أمام رفض الاستعمار الاعتراف باعتباره ممثلا للبلاد، وانقسام المؤتمر وتوزعه بين الطائفتين الكبيرتين المعروفتين، وفشل النخبة السياسية الحاكمة منذ الاستقلال، بشقيها المدني والعسكري في حل مشكلة الجنوب وإأقامة دولة ديمقراطية حديثة. فالحكومات المتعاقبة عسكرية أم مدنية اتجهت إلى الحل العسكري لمشكلة الجنوب.

    لقد بدأ فشل النخبة السودانية الحاكمة منذ هزيمة مؤتمر الخريجين – الذي قام مستلهما تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي ثم المؤتمر الهندي - وتخليهم عن مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة واتباعهم لقادة الأحزاب الطائفية. إن ولادة الأحزاب السياسية في مهد الطائفية والعشائرية جعلنا نقيم ديمقراطية مظهرية زائفة وهشة. ظلت الانتخابات في العهود الديمقراطية تقوم على الولاء الطائفي والعشائري الأعمى وشراء الأصوات. وظل للتمويل الأجنبي دور كبير ومكشوف بدأ منذ تدخلات مصر في الانتخابات الأولى والثانية، حيث بلغ بها الأمر إسقاط عبد الحليم على طه، أول وزير للمعارف ومن أكبر رواد التعليمم والحركة الوطنية في السودان، في قلب السودان وفي دائرته (الحصاحيصا) بفضل الأموال المصرية. ثم دخلت لاحقا ليبيا وإيران في تمويل الانتخابات في السودان. أما دول الخليج فكانت لها اليد الطولى في رعاية حركة الأخوان المسلمين منذ أن نكل بهم ناصر في منتصف الخمسينات، وحتى دخول البنوك الإسلامية مثل بنك فيصل الإسلامي في السبعينات، مما جعل حركة الأخوان المسلمين قوة اقتصادية هائلة تنامت بسرعة بالمضاربات واحتكار السلع الأساسية في أواخر عهد نميري وهوسه الديني الذي بايعه فيه الإسلاميون إماما.
    إن الديمقراطية لم تفشل لأنها لم تجد فرصة التطبيق كما يزعمون بل لفشل القيادات بعد الاستقلال عن استيعاب جوهر الاستقلال والديمقراطية والالتزام بها وبناء مؤسسات ديمقراطية راسخة، وتبديد طاقاتها في صراع عبثي على كراسي الحكم مستعينة بالنفوذ الأجنبي. وكانت تحدث تحولات واسعة للنواب بسبب الأموال. ونتيجة للتدخل المصري وتهديده بإسقاط الحكومة المنتخبة آنذاك، سلم رئيس الوزراء عبد الله خليل الحكم للجيش في 17 نوفمبر1957، وبتدخل وسند قوى من مصر حدث انقلاب 25 مايو 1969 بقيادة الضباط القوميين العرب في الجيش. ومضوا في محاكاة النظام المصرى محاكاة عمياء، فكرروا كارثة التأميم في السودان وأقاموا نظام الحزب الواحد على نموذج الاتحاد الإشتراكي. ومرة أخرى، كان حسني مبارك أول من ذهب يروح لتأييد انقلاب الإسلاميين في يونيو 1989 بين الدول العربية. وظل النظام المصري السابق إلى جانب إيران وقطر، المركز الجديد لنفوذ التنظيم الدولي للأخوان المسلمين، من أقوى داعمي النظام والمدافعين عنه في المحافل الدولية.

    من ناحية أخرى فقد انصرفت الحكومات المتعاقبة عن بناء وترسيخ مؤسسات الحكم الدستوري الديمقراطي وقضايا التنمية وأهملت الإقاليم تماما وعجزت عن حل مشكلة الحرب في الجنوب إلا لفترة عشر سنوات، أثناء عهد نميري، الذي نقض اتفاق أديس أبابا المعقود في 1972، وتسبب في إشعال الحرب من جديد. لقد ظلت سياسة مختلف الحكومات تجاه قضية الجنوب هي العمل على حلها عسكريا.
    إلى جانب الأحزاب الطائفية نشأت أحزاب عقائدية باثر مباشر من مصر وجو الاستقطاب العالمي. فمن مصر استورد السودان حركة الأخوان المسلمين والحركة الشيوعية. وفي أواخر الستينات فيما عرف بمعركة الدستور الإسلامي المزيف كان للأخوان المسلمين دور سياسي أكبر من حجمهم الشعبي ونجحوا في ابتزاز الأحزاب الطائفية التي انساقت معهم إلى المزايدة على الإسلام والشريعة، مع أنه لم يكن للإسلاميين سوى نائبين في البرلمان. وتم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان. ولما حكمت المحكمة الدستورية ببطلان حل الحزب الشيوعي كان موقف السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء آنذاك، أن حكم المحكمة الدستورية حكم استشاري وليس ملزما. وانعقدت في نوفمبر 1968 ما تسمى بمحكمة الردة للداعية والمفكر الشهيد الاستاذ محمود . وكان موقف رئيسا الوزراء ايضا مؤيدا لتلك المحكمة.

    مع كل تجارب الخيبة والفشل كان الشعب السوداني سباقا للشعوب العربية والأفريقية والإسلامية بتمكنه من إسقاط نظامين عسكريين عن طريق ثورة شعبية في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، ولكن بسبب عفوية التغيير وعدم وضوح االرؤية والقيادة لدى الثوار، تمكنت الأحزاب الطائفية والقوى التقليدية من إجهاض الثورتين. جاء انقلاب الإنقاذ نتيجة طبيعية لتراكم فشل النخبة الحاكمة منذ الاستقلال ولو لم يقع النقلاب من الإسلاميين لوقع من جهات أخرى.
    الأزمة التي نواجهها في السودان إذن ذات طابع محلى و إقليمي تواجهه كل الدول الإسلامية تقريبا إذا استثنينا النموذج التركي، إننا مواجهون بارتداد حضاري كبير وانهيار تام في كل شيء ، وقد اتضح إن حركة الإسلام السياسي التي أدخلت البلاد في أزمة خانقة تجيد كل شيء من معارضة وانقسامات ولكن الشيء الوحيد الذي لا تجيده هو الإصلاح الديني، وهى سمة عامة لا تختلف فيها قبائل أفغانستان حيث الجهل والأمية والمرض عن السودان الذي ارتبطت فيه الحركة الإسلاموية منذ نشأتها وما زالت بالقوى الحديثة في الجامعات وبقية المؤسسات التعليمية الراسخة!. هذا الأمر يتطلب منا مواجهة شاملة لأن حركة الإسلام السياسي لا تختلف عن النازية في حقيقة الارتباط بالتراث بشكل مرضى يهدف إلى تجيييش الأفراد مثل القطيع في مواجهة الآخر المختلف داخل البلد وخارجها، ومن حيث تضخم الذات، ومن حيث انعدام الضمير وغياب الرحمة تجاه الضعفاء من أبناء وبنات شعبنا، بعد أن تسببوا في ذلك الضعف اقتصاديا ونفسيا واجتماعيا وثقافيا بفعل التهميش الجغرافي والمعنوي! ولأن الأزمات العميقة لا تولد إلا الحلول العظيمة ، فإننا ومن هذا المنطلق نشارك شعبنا التدبير في كيفية الخروج من المأزق السياسي الحالي ونتحمل نصيبنا من المسئولية.
    نعتقد أن الإنقاذ اليوم كنظام تنهض فلسفته على مفهوم الأمة القائم على الصفاء الديني والعرقي - وهو مفهوم يمكن أن ينطلي كما نرى على البسطاء من أبناء وبنات الشعب بفعل ظروف العزلة الثقافية والاقتصادية التي فرضها الانقلاب منذ مجيئه إلى السلطة وغسيل الأدمغة المستمر طوال عقدين ونيف - يواجه أزمتين، تتمثل الأزمة الأولى في قضية التعدد العرقي والثقافي في مناطق جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق وشرق السودان. أما الأزمة الثانية التي تواجهه فهي المتمثلة في العولمة، أي كيفية التعامل مع العالم المعاصر بعد انفجار محنة دارفور وطلب مثول رأس النظام أمام الجنائية الدولية.
    في مواجهة ذلك اختار النظام التكتيكات اليائسة وسياسة رزق اليوم باليوم بدلا عن الإصلاحات والدبلوماسية الهادئة .. فالنظام يواجه أزمة مشروعية كاملة لا يستطيع الخروج منها إطلاقا، وقد اتضح من التعديل الحكومي الأخير محاولاته للنيل من شرعية المعارضة ممثلة في حزبي الأمة والاتحادي ، بدلا عن معالجة أزمته المستعصية ، وقد نجح في ذلك إلى حد ما ، ولكنه نجاح مؤقت يضاف إلى النجاحات المحدودة التي لا تستطيع أن تفعل شيئا سوى أن تمد من عمره في السلطة أياما أخرى. كذلك تعمل الإنقاذ في ذات الإطار على بث الفرقة بين قوى وعناصر المعارضة الوطنية المخلصة والشعب السوداني ، والنيل من مجهودات بناء جسور الثقة التي تسعى إلى مدها مع الشعب، لتحول بينها وبين إحداث التغيير المطلوب وهو إسقاط النظام الفاقد للشرعية بواسطة انتفاضة شعبية.
    كذلك يسعى النظام داخليا إلى تصفية المعارضة المسلحة عسكريا وقد أثبتت الأحداث ذلك خاصة اغتيال رئيس حركة العدل والمساواة عليه رحمة الله في الأيام الماضية، ذلك المعارض الجاد والملتزم ، وفى اغتياله خسارة كبيرة للعمل المعارض . يتضح كذلك عدم حرص الحكومة على الحلول السلمية وتقديم التنازلات التي تتطلبها آلية حل النزاعات بشكل سلمى في أحداث النيل الأزرق حين قامت برفع سقف توقعات قائد الحركة الشعبية هناك باتفاق خادع مع نافع تنكرت له في اليوم التالي تماما، وقد كان واضحا أنها مسرحية معدة سلفا تهدف إلى قطع الطريق على التوصل إلى حل سلمى مع فصيل الحركة الشعبية – قطاع الشمال بشراء الوقت وهدم الثقة التي يتطلبها التفاوض، وهو شيء كانت قد فعلته مع نفس المنظمة في منطقة جنوب كردفان .
    من الواضح إذن أن نظام الإنقاذ يسعى إلى التصعيد العسكري لأنه لا يستطيع الإصلاح ويعجز عنه تماما في كل من الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية التي اشرنا إليها. فهو نظام أدرك انه في سبيل البقاء ليس أمامه سوى التصعيد واعتناق نظريات المؤامرة لمصادرة ما تبقى من حقوق ومن حريات كانت قد فرضتها العولمة وضغوطاتها في الستة أعوام السابقة.
    نسبة لتفشي الأمية والجهل حتى بين قطاعات واسعة من المتعلمين وأنصاف المتعلمين في السودان تمكن الإسلاميون والإنقاذيون والوهابيون من ابتزاز الأحزاب وشرائح كبيرة من المجتمع السوداني عن طريق الإرهاب باسم الدين والشريعة. والكل يعلم أن لا هؤلاء ولا أولئك يريدون غير تحقيق شهوات النفوس في السلطة والجاه والمال والنساء مستغلين الإسلام والشريعة، وقد اتضحت هذه الحقائق جليا في ممارسة عصابة الإنقاذ وممارسات جماعات الأخوان المسلمين في كل البلاد والجماعات التكفيرية التي انبثقت عنها وعن المذهب الوهابي. وقد كان اتجاه النخبة السودانية نحو مصر والدول العربية وإهمالها للبعد الأفريقي في علاقات السودان وفي تصور الهوية والثقافة السودانية اتجاها قاصرا مما جعل السودان تابعا في المحيط.

    إن ضلال الحركة الإسلامية كان واضحا منذ البدايات لمن يأخذ المقاصد الكلية للإسلام بالاعتبار. وذلك لغياب التربية الدينية لدى الإسلاميين وتعويلهم على طلب السلطة متمسكين تمسكا دوغمائيا بمقولات مثل "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" و "الحاكمية لله" و شعارات جوفاء مثل "هي لله لا للسلطة لا للجاه". واتضح ذلك الضلال في مشاركتهم نظام مايو وممارساتهم القائمة على المتاجرة بقوة الشعب واستعجالهم على السلطة ومجيئهم إليها بدون برنامج واضح للحكم سوى اقتناعهم بأنهم يمثلون الإسلام الصحيح وبالتالي هم خلفاء الله في الأرض وكل من خالفهم أصبح عدو الله ووجبت محاربته وقتله إذا اقتضى الأمر. سوء التربية زائدا الجهل بروح الإسلام والحضارة الإسلامية أنتج الكائنات المشوهة التي دمرت السودان وشوهت الإسلام بما يفوق تشويه أعدائه.

    من أين أتي هؤلاء؟؟
    من ظلام عصور الانحطاط وأحط ما في النفس البشرية أتوا

    في غرارة سن المدرسة المتوسطة والمدرسة الثانوية وجموح سنوات الدراسة الجامعية كان يبدأ تجنيد عضوية الإسلاميين وكوادرهم القيادية بعزومات الشاي و البيبسي والفانتا والباسطة، ثم الدعوة إلى الانضمام إلى الأسرة الأخوانية، حيث يظن بيت الدين وطاعة الله ورسوله. وفي سذاجة تلك السنين الغضة تبدأ صياغة وعيهم الزائف. لم يعرفوا عن تاريخ الأديان وعن تاريخ الحضارة الإسلامية بالذات إلا نموذجا مختزلا ومبتسرا لنهاية الكمال المتجسد يوما ما في الماضي، محاطا بالكثير من الخيال وأنصاف الحقائق بل وتزييفها في كثير من الأحيان وإخفاء كثير منها، ومحاطا بسياج محكم من التقديس والرهبة والتمجيد لذلك الماضي التليد، تمجيدا يلغي العقل في كثير من الأحيان، مستغنيا بالطاعة العمياء لأولى الأمر والتزام حرفية النص سواء كان قرآنا أو حديثا أو اجتهادا فقهيا، بغض النظر عن أسباب النزول والظروف التاريخية والاجتماعية التي صحبت نشأة النص واختلاف المفسرين والفقهاء والمتصوفة وأصحاب المذاهب المختلفة اختلافا واسعا في الفهم والتطبيق. استغنت أجيال الإسلاميين في العصر الحديث عن العقل بالنقل بعد أن قفل الأولون باب الاجتهاد في بدايات عصور الانحطاط السياسي والفكري والاجتماعي في الدولة الإسلامية . وتجسدت أوخم النتائج في تجربة الأخوان المسلمين وما تمخض عنها من جماعات التكفير وفي تجربة المذهب الوهابي وما تمخض عنه من نموذج مثل حركة طالبان الأفغانية. ومن عجب الأمر أن نفس النتائج المأساوية والمدمرة للشعوب والأوطان والمشوهة للإسلام كانت من نصيب أصحاب المذهب الشيعي في إيران.

    "لقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية في عهدها الذهبي (700-1000م ) حرية فكرية كبيرة لم يعرفها العرب و المسلمون المعاصرون. حيث نجد الكثير من التيارات الفكرية و الدينية مثل حركة القرامطة نهاية القرن التاسع الميلادي و كذلك المعتزلة وإخوان الصفا و حتى الدهريين و الشعراء الماجنين. كما كان لأبناء الطوائف و الأديان الأخرى كالمسيحيين دور متميز و معروف في النهضة العلمية التي قادتها دار الحكمة في بغداد عن طريق الترجمات والانفتاح على الحضارات الأخرى. كما برز مفكرون يهود في عهد النهضة تلك سواء في الشرق العربي أو في الأندلس. لقد كان هناك غليان و نشاط فكري كبير شارك فيه جميع ممن ملك القدرة الإبداعية. رغم أن الفترة تلك لم تكن بالبعد الزمني الكبير عن عصر الرسالة الإسلامية فإن التسامح الديني كان كبيرا و تقبل الآخر كان اكبر مما هو عليه الآن. و الدليل على ذلك هو وصول الكم الكبير من الانجازات التي لا تتفق و الفكر الإسلامي السلفي إلينا عبر هذا البعد الزمني. وقد خلت تلك الحضارة بقدر كبير من الردع والقيود الفكرية ذات الغطاء الديني كما عرفتها أوربا بظاهرة محاكم التفتيش. كما خلت بقدر كبير من ظاهرة التكفير السائدة ألان. ولاشك أن ظاهرة التكفير و تقييد الفكر نوع من الهيمنة الفكرية على الآخر وهي اقرب ما تكون إلى محاكم التفتيش. و رغم بدائية تلك الفترة بالمقارنة بما عليه العالم الآن فإن تلك الحضارة استطاعت استيعاب أفكار و تجارب الشعوب الأخرى و أضافت و أبدعت انجازات أخرى." (بتصرف، من محاضرة للعالم العراقي د. محمد عز الدين الصندوق).

    لم تكن لأولئك الفتية الذين أغلقت أمامهم أبواب التفكير النقدي الحر أي فرصة لأن يقفوا بعقل مفتوح ومتأمل لاستيعاب عوامل ازدهار تلك الحضارة وأسباب انحطاطها، وليأخذوا العبر في خبر من غبر عن تاريخ الفتنة الكبرى ولا السلسلة الطويلة من الانقلابات والحروب والفتن والثورات المتواترة في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، والتساؤل عن أسبابها ما دام الناس أمة واحدة وعلى دين واحد وتحت قيادة إمام واحد سواء كان خليفة أم سلطانا فيما بعد. لقد لقنوا شعارات مثل "الحاكمية لله" و "الإسلام هو الحل" أو "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك عم الكافرون" أو أحاديث مثل "إذا ذكر القضاء أو أصحابي فأمسكوا"، كما لقنتهم المدارس تاريخا مزوقا ناصعا ومنقى من أي شائبة أو خلاف أو صراع يستدعي الجدل والتفكير، فلم يكن لهم من سبيل إلى البحث والنظر في الأسباب الأساسية ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية الكامنة وراء الصراعات المذهبية والدينية البارزة في الواجهة وكأن القوم لم يختلفوا إلا حول تفسير ما قال الله ورسوله وليس لهم من غرض سياسي ومذهبي ودنيوي حتى في تفسير القرآن والاستدلال به وفي جمع الأحاديث وتصنيفها، وكل أغراض الجميع هي ما يرضي الله ورسوله ويصلح حال الأمة. وكما هي العادة دائما، فإن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ. انتصر مذهب الأشاعرة أو من يسمون بأهل السنة على المعتزلة والشيعة وغيرهم، فكتبوا التاريخ بما يناسبهم، واعتبروا كل ما خرج من دائرة أهل السنة وعارضهم بدعا وكفرا وهرطقة.
    لقد آن الأوان لنبذ التاريخ المزيف للحضارة الإسلامية وإعادة قراءة ذلك التاريخ يعقول نقدية تميز بين الطيب والخبيث منه وتستلهم أقيم ما فيه لدى قمم الفلاسفة مثل ابن رشد وابن سينا والمتصوفة مثل أبي القاسم الجنيد ومحي الدين بن عربي وآخرين لا حصر لهم، وتنبذ أسوأ ما فيه مثل فتاوى بن تيمية وبن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب وغيرهم.

    الخروج من التيه والطريق إلى البديل السياسي الصالح

    هناك حقيقة بديهية وواقعة لابد أن نواجهها جميعا بصراحة وشجاعة. وهي أنه لم توجد أصلا في السودان أحزاب ديمقراطية بمعنى الكلمة حتى نحلم بأن تكون هناك ديمقراطية قادرة على البقاء لأنها ذات مؤسسات راسخة. فإن لدينا إما أحزابا طائفية ورثت قياداتها نفوذا دينيا وسياسيا واقتصاديا لم تبذل فيه مجهودا يذكر. والمحافظة عليه تتعارض بالضرورة مع مصالح عامة الشعب و مبادئ الديمقراطية وتطبيقاتها، وإما أحزابا عقائدية شمولية يمينية أم يسارية. إن السودان ما زال ينتظر عهد الأحزاب الديمقراطية الحقيقية، إما بإصلاح جذري في الأحزاب الحالية، ولعل بوادر الثورة والمعارضة لمواقف رئيسي الأمة والاتحادي التي ظهرت مؤخرا تبعث بعض الأمل في إمكانية حدوث إصلاح في المستقبل القريب أو البعيد. فإن لم يحدث ذلك الإصلاح، ولا تبدو السبل أمامه ميسرة، فلابد من نشأة أحزاب ديمقراطية جديدة أو حزب ديمقراطي حقا على الأقل. قطعا لن تكون هناك ديمقراطية قائمة على مؤسسات مستقلة وراسخة ولن يتحقق استقرار دستوري وسياسي بغير وجود أحزاب ديمقراطية وطنية في بنيتها وبرامجها.

    إن هناك ضرورة ملحة لبروز المعارضة، بعد الفشل المزري لتجربة التجمع الوطني وما عرف بقوى إجماع جوبا، كقوة جدية مقنعة في الداخل والخارج من خلال التوحد على برنامج التغيير وإظهار القدرة على التعبئة على الحركة والمواجهة . وهناك ضرورة قصوى للتحرك المنظم والفعال على المستويات الإقليمية والدولية ونقد سياسة المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية تجاه السودان وتوعية من هم في مراكز القرار بالحلول المثلى لمشكلة الحكم في السودان. وهناك أهمية خاصة لدور السودانيين في المهجر أسوة بالجاليات الأخرى التي اطلعت بأدوار هامة في الثورات العربية الأخيرة.

    إن صعود هذه الحركات ووصولها سيكون هو المهدد الأساسي للديمقراطية. حتى التجربة التركية يمكن أن تتطور تدريجيا إلى محاولة إقامة دولة إسلامية على نمط إحدى الدول التي تقوم فيها حكومات باسم الإسلام: إيران أو السودان أو السعودية. ولا سبيل للجمع بين الإسلام والدولة الديمقراطية إلا في إطار دستور علماني يفصل بين الدين والدولة مثلما نشاهد في أوروبا، وبعدها يمكن للأحزاب أن تسمى نفسها مسيحية أو إسلامية ولكنها لا تمارس ولا تفرض تشريعا إلا في إطار دستور إنساني لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو العنصر أو الجنس ، ويضمن للجميع الحريات والحقوق الأساسية.
    إِن العلمانية عندنا تعني الفصل بين الدين والدولة، أي أن تكون الدولة ومؤسساتها محايدة تجاه أديان ومعتقدات مواطنيها، وألا تنحاز إلى أي دين أو مذهب معين، و ألا يكون الدين عامل تمييز في أي من الخدمات التي تقدمها الدولة ، أو في الحقوق و الواجبات الدستورية و القانونية للمواطنين ، و أن يكفل الدستور الديمقراطي حرية الفكر و التعبير و الحرية الشخصية للمواطنين و يحميها من أي تغول باسم الدين أو الأغلبية أو غيرها . وألا تتعارض نصوص الدستور أو أي قانون يتفرع منه مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية.
    إننا نرفض التصورات الشمولية للعلمانية ، انطلاقا من مبادئنا المتمثلة في الحرية و الديمقراطية ، فنرفض كذلك أي انتهاك للحرية الشخصية و حرية الفكر و التعبير باسم العلمانية ، و نقف مع حق الأفراد و المجموعات و المنظمات في ممارسة معتقداتهم الدينية و استلهامها في صياغة البرامج السياسية و الاجتماعية دون المساس بحريات و حقوق الآخرين .
    إن علمانيتنا لا تمنع من استلهام القيم الإنسانية الرفيعة المشتركة بين أصحاب الديانات و غيرها من نظم الأخلاق و الفلسفات الإنسانية ، و لكننا لا ندعي لأنفسنا ولا نسلم لأحد بامتلاك الحقيقة المطلقة أو قداسة هذا الاستلهام، فهو ككل الأفكار الإنسانية خاضع للنقد و قابل للخطأ و الصواب .

    إن البديل الثقافي للمتاسلمين لا يمكن أن يتأسس ويزدهر إلا في ظل حكم ديمقراطي يكفل حرية الاعتقاد والتعبير للجميع، مسلمين ومسيحيين ووثنيين ولادينيين. حينها يمكن للتيارات المستنيرة التي تعبر عن جوهر الإسلام حقيقة أن تجد فرصها في التعبير والممارسة ومواجهة تخر صات الإنقاذيين والوهابية وغيرهم من التكفيريين وبانتشار الوعي فقط يمكن هزيمة هذه الأفكار البائسة وتحرير عقول النشء والعامة منها.

    والتراث الإسلامي غني بالاجتهادات التي تجعل من كرامة الإنسان والعدل في الأرض غاية الدين. تضع الإنسان في موضع الغاية والدين في موضع الوسيلة. كما أن هناك الكثير من الاجتهادات العصرية التي يمكن أن توفق بين الغايات الكلية للدين والقيم الإنسانية في مختلف المذاهب والحضارات والحياة العصرية بحيث تغني الحياة بالرفاه المادي والروحي في آن معا. إن رواد النهضة، وكتابات مفكرين من أمثال الأستاذ محمود محمد طه، نصر أبو زيد، محمد أركون، ونماذج أخرى عديدة بالإضافة إلى تراث ذاخر من الفلسفة والتصوف يمكن أن تظهر مدى بؤس وضحالة وعقم وشقاء عالم تسوده فيه أفكار المتأسلمين والوهابية. وهناك الكثير مما يمكن أن نأخذه من الحضارة الغربية وسائر الحضارات الإنسانية لإثراء تجربتنا، مثل الديمقراطية وأسس الدولة الحديثة، والفصل بين الدين والدولة وحقوق الإنسان، والقانون الدولي الخ. أيضا الديمقراطية الاجتماعية ذات الاقتصاد المختلط، كتجربة إنسانية ناجحة وطريق وسط بين النظام الرأسمالي المتوحش والنظام الشيوعي أو الاشتراكي بالمفهوم الشيوعي التقليدي، كبديل للرأسمالية الطفيلية المتوحشة التي تعيث في السودان فسادا منقطع النظير.

    إن القوى الجديدة وقوى السودان الجديد أو قوى الهامش، وقوى الشباب وسائر الفئات المتطلعة إلى التغيير قد برزت بعد أن فقدت الثقة تماما في الأحزاب التقليدية السائدة في الساحة السياسية منذ الاستقلال. وفقدان الثقة في السياسة والسياسيين السودانيين أصبح سمة عامة وسط الشعب السوداني وهو السبب وراء الإحباط والسلبية تجاه أي عمل سياسي. واسترداد تلك الثقة يحتاج إلى مجهود جبار وتضحيات كبرى، من خلال صياغة برنامج وطني للتغيير الديمقراطي الحقيقي، تلتف حوله كل القوى المستنيرة وذات المصلحة في التغيير لكي تحتشد حولها الجماهير، كما يحتاج إلى بروز قيادات صادقة ومقدامة تكتسب ثقة الجماهير. القوى الجديدة وقوى الشباب، بما فيها شباب الأحزاب التقليدية ، وقوى الهامش بالإضافة إلى الجماهير الواقفة على الرصيف هي القاعدة الاجتماعية لأي حركة سياسية ديمقراطية جادة تستطيع مواجهة النظام.

    وإن ما نسميه بالقوى الجديدة هي في الحقيقة قوى ذات طاقات حيوية ومطامح كبيرة وحماس أكبر، لكن تنقصها التجربة والرؤية الواضحة والقيادة الناضجة التي تصوغ البرامج وترسم الخطط وتقوم بالتدريب والتأهيل والتربية الديمقراطية الحقيقية على أديم الخلفية الشمولية والطفولة السياسية. فقد ثبت لنا من خلال تجربة حركة "حق" وانقساماتها المؤسفة المتكررة أن كثيرا من العناصر التي تدعي الجدة والتجديد لا تملك منهما إلا الاسم. مع ذلك هناك الكثير من العناصر الخيرة والذكية التي تستطيع أن تفرق بين الغايات والوسائل بدرجة جيدة والقابلة لتعلم القيم الديمقراطية وممارستها. هذه العناصر ستكون هي موضع تركيزنا وسنعمل على الوصول إليها في كل مكان, في الجامعات والأحياء والأسواق والمدن الإقليمية والقرى.

    من ناحية أخرى هناك ضرورة ملحة لكي تواصل القواعد الشبابية والشعبية ضغوطها على القادة التقليديين من أجل الإصلاح أو تجاوز تلك القيادات، والبدء في العمل الجدي في مواجهة النظام للإطاحة به أو إجباره على تغيير سياساته. التعبئة الشعبية العامة مثلما تحتاج إلى برنامج وطني يلبي مطامح جميع أهل السودان، تحتاج إلى قيادات ذات رؤية واضحة وذات جرأة وشجاعة وقدرة على المواجهة وتقديم التضحيات.

    إن حركة "حق" ستعمل مع كل القوى الوطنية الجادة والمخلصة من أجل الاتفاق على البرنامج والتعبئة العامة وإبراز القيادات التي تتصدى لمواجهة النظام. وتعمل من الناحية الأخرى على إقامة كيان ديمقراطي اجتماعي سواء في شكل جبهة أو حزب يجمع كل القوى الديمقراطية الاجتماعية في السودان التي تتطلع إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وتتلخص ملامح ذلك البرنامج في وضع دستور ديمقراطي، تقوم فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، ويؤمن الحقوق والحريات الأساسية وجميع حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، ويتم فيه الفصل بين الدين والدولة، ويقوم على لامركزية الحكم في إطار دولة اتحادية. ونحن ندعو إلى الديمقراطية الاجتماعية التي تجمع بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وتقوم على نظام الاقتصاد المختلط الذي يسهم فيه القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع التعاوني في إطار من المنافسة الشريفة، وندعو إلى تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي ذي الشروط المنصفة في البنى الأساسية وفي الإنسان: التعليم، الصحة، فرص العمل وتحقيق التنمية المتوازنة.
    وندعو إلى إقامة علاقات خارجية متوازنة لمصلحة الشعب السوداني تقوم على مبادئ المساواة في السيادة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعاون والتكامل الإقليمي مع دول حوض النيل والمنطقة العربية والأفريقية والتعاون الدولي بما يحقق مصالح الشعب السوداني على خير وجه ويضمن استقلال القرار السياسي السودان من أي نفوذ أجنبي على حساب مصالح الشعب السوداني.

    حق تسعى في بنائها الفكري والتنظيمي وبرنامجها السياسي نحو بناء المجتمع والدولة الديمقراطيين، وتسعى للضغط على النظام القائم بكافة الوسائل من اجل تحقيق تحول ديمقراطي ملموس، أو إسقاط النظام الشمولي ونظام الدولة الدينية واستبداله ببديل ديمقراطي تقوم الدولة فيه على أسس المواطنة والعدالة والشفافية لا على الولاء الطائفي أو الديني، وتحقق من خلال هذا النظام النهضة الوطنية التي تقوم على الكفاية والعدل والتطور العلمي واحترام حقوق الإنسان.

    إن حركة القوى الجديدة الديمقراطية لها إنجازاتها المتواضعة ولها إخفاقاتها العديدة عن تحقيق أهدافها الوطنية، وهذه عندما موضع دراسة موضوعية وتقييم أمين سنصدره إلى الناس في حينه في المستقبل القريب. ولكن أقيم ما يمكن أن نقدمه للتجربة الحزبية هي أن حق رغم انقساماتها البادية للعيان هي التنظيم الوحيد الذي استخدم تحركا أفقيا ديمقراطيا لإزاحة القيادة أو تغييرها مرتين، إبراز هذه التجربة مسألة هامة للغاية حتى لا يظن الناس أو يقولوا أنتم تنتقدون الجميع وتنسون أنفسكم وتنسون أن حركتكم مرت بعدد من الانقسامات التي أضعفتها ونفرت الناس منها.
    إن حركة القوى الجديدة الديمقراطية، بعد أن خرجت من صراع تنظيمي امتد لسنوات، دار في جوهره الفكري والاجتماعي حول المضامين الجوهرية للديمقراطية، ومثل مخاضا وتجربة صاقلة لأفراد الحركة ليسلكوا هذه الدروب الوعرة التي حتما ستوصلهم إلى بر الديمقراطية الآمن، والحركة تؤكد إيمانها وإدراكها الدائم لذاتها باعتبارها مرحلة أولية لابد لها أن تصل إلى نهاياتها الحتمية وهي وحدة القوى الجديدة، وهو نضال عايشته منذ لحظاتها الأولى، فقد ظلت على الدوام تسعى لأن تكون منبرا مفتوحا للقوى الديمقراطية تمثل مؤتمرا فكريا واجتماعيا مستمرا لها، وبالرغم من المحاولات التي تعلمونها والتي كرست كل مجهوداتها لغلق الحركة وتحويلها لتنظيم سياسي لاستطيع أكثر من أن يلاحق ركب القوى القديمة التي همشت وهشمت الوطن، فقد ظلت على الدوام في وجدان عارفيها ومحبيها الفكرة الناصعة والساحة الواسعة التي تلتقي فيها الأفكار وتتمازج فيها التجارب وتتخلق فيها الرؤى والقدرات وتنبعث منها الوحدة الفكرية التي تقوم على التنوع مع إدراك المصالح المشتركة للقوى الجديدة.

    سنواصل بذل جهودنا لدعم العمل الوطني المعارض بهدف الارتقاء بمستواه ومستوى الجدية والصدق فيه لاستعادة ثقة الشعب، وبلورة برنامج عمل وطني للتغيير والتحول الديمقراطي مصحوبا بأنشطة جدية في مجال التعبئة العامة وتصعيد المقاومة، وإنشاء تحالفات جدية مع كل القوى الحية والجادة ذات المصلحة في التغيير. وسنعمل معا على قفل الطريق على أي تبريرات تمكن النظام من تقليص أو مصادرة هامش الحريات الضيق أصلا. ونشارك بفعالية في العمل السياسي المدني السلمي الذي يهدف للإطاحة بالنظام . سنواصل العمل على تجريد النظام من مشروعيته أمام اكبر قطاع ممكن من الشعب خاصة فضح انغماس عضوية الحزب الحاكم في الفساد وانهيار مشروعه الحضاري ، إضافة إلى فشله الاقتصادي غير المسبوق وموجات الغلاء التي بدأت تزحف لتشمل الجميع باستثناء إفراد الحزب الحاكم ، وفشله في تنفيذ كل ما وعد بتنفيذه تقريبا.
    وسنستمر في تطوير مشروع الاستنارة لتوعية الناس بضرورة التعددية الديمقراطية ، والعمل على توحيد قوى الحداثة والنهضة كهدف استراتيجي من أجل بناء حزب ديمقراطي حديث، بكل ما يتطلبه هذا العمل من مرونة واكبر إجماع ممكن حتى يستطيع أن يلعب دورا فعالا في التغيير وما بعده. إننا نعتبر أن تأسيس حزب وطني ديمقراطي هدف استراتيجي لنا لأنه يعد واحدا من أهم شروط نهضتنا الوطنية الشاملة المؤجلة، ولأنه ببساطة لم توجد أحزاب ديمقراطية حقيقية في سودان ما بعد الاستقلال، فإما أحزاب طائفية أو عقائدية شمولية يمينية أو يسارية. السودان ما زال ينتظر عهد الأحزاب الديمقراطية الحقيقية، إما بإصلاح جذري في الأحزاب الحالية أو نشأة أحزاب ديمقراطية جديدة. لن تكون هناك ديمقراطية قائمة على مؤسسات مستقلة وراسخة ولن يتحقق استقرار دستوري وسياسي بغير وجود أحزاب ديمقراطية وطنية في بنيتها وبرامجها.
                  

العنوان الكاتب Date
دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-15-13, 03:24 PM
  Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار معتصم احمد صالح06-15-13, 04:10 PM
    Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار معتصم احمد صالح06-15-13, 04:28 PM
      Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار معتصم احمد صالح06-15-13, 04:35 PM
        Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار معتصم احمد صالح06-15-13, 04:38 PM
          Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار معتصم احمد صالح06-16-13, 07:25 PM
            Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-16-13, 07:53 PM
              Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار محمد أبوجودة06-17-13, 00:29 AM
                Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار munswor almophtah06-17-13, 03:55 AM
  Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار عبدالله عثمان06-17-13, 06:37 AM
    Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-17-13, 02:11 PM
      Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار كمال عباس06-18-13, 02:25 AM
        Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-19-13, 03:33 AM
          Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-19-13, 03:49 AM
            Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-19-13, 12:31 PM
              Re: دعوة للكتابة فى الذكرى السنوية الأولى لرحيل الاستاذ بشير بكار طلعت الطيب06-20-13, 07:39 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de