|
Re: المسرح في الحياة السودانية - دراسة (Re: عماد البليك)
|
الطقوس والخيال والتحولات الحديثة: لابد من الإشارة إلى أن الحالة المسرحية الواقعية أو التمسرح الواقعي في الفضاء السوداني وسواه، مرتبطة إلى حد كبير بأمرين: الأول هو الطقوس المتوارثة والثاني هو الخيال أو القدرة على إنتاج وقائع جديدة في اليومي والمعاش. هذا بغض النظر عن الهدف إن كان موجودا في الرسالة المسرحية أم لا. في حالة الطقوس نكون أمام ممارسة مجترة ومعادة ولسنا متأكدين عن مدى تقاطع الذات الفاعلة مع الفعل، هل هي مقتنعة به أم لا، ولكن عليها أن تؤديه باعتباره على الأقل عادة كما يحدث مع الكثير من الأفعال، مثلا عادات الزواج والختان ولباس العروس وغيرها. أما الخيال فيأتي ليلعب الدور المركزي في نقل الطقوس إلى الوضع الدرامي الذين يجعلها محتفيا بها بشكل أكبر، ولهذا فإن بيوت البكاء أو الأعراس على سبيل المثال تلعب دورا في التسلية والتزجية عن النفوس وتمثل فضاءات مسرحية حقيقية بما يتحرك فيها من حكايات وقصص ومرويات وأداء تمثيلي، كما في فعل البكاء عند النساء وما يصاحبه من حركات وتجسيدات أو فعل الفاتحة عند الرجال ومن ثم طريقة الجلوس وتقديم الشاي ورواية حكاية الموت "كيف مات المتوفى؟"، وسيكون الأمر مؤثرا ومحمولا بالمشاعر والأداء الحركي إن كانت للحكاية توابع سردية ملغزة كما في الوفيات بالحوادث أو الغرق حيث لابد من سبر أغوار القصة للتعرف على التفاصيل من قبل المتلقي. هذه الطقوس تمارس ويلعب الخيال دورا فيها دون أن يكون ثمة أدنى شعور بالحالة المسرحية أو التمثيلية، حيث يتعامل الجميع مع الأمر على أنه واقع معاش. لكن تجريد المشهد يكشف عن مسرحة كاملة مستوفية الشروط من حيث القصة والفراغ أو الفضاء المسرحي والجمهور المتفرج من الحضور والراوية الممثل، ولايحتاج المشهد لسوى قليل من الإضافات ليصبح مسرحية بمواصفات الفنون المسرحية الحديثة. وهذا يفتح الباب إلى تأمل هذه الطقوس والتفكير في إعادة إنتاجها بحيث تصبح فنونا على المسرح بالمعنى المألوف. والطقوس بشكل عام بقدر ما تبدو ثابتة في مبادئها، إلا أنها متغيرة مع الزمن نتيجة للمتحركات في الحياة، وهذا واضح وجلي في ما شهدته طقوس الزواج مثلا من تحولات كبيرة في عدة عقود وهي مترادفة مع المتغيرات ماديا وتاريخيا أي سياسيا، وكذلك في نطاق ما يحدث في العالم بشكل عام باعتبارنا جزءا منه لاسيما مع وسائط الانفتاح الجديدة. فقبل فترة تحدثت وسائل إعلام عن عروس يتم استقبالها من قبل "الجمهور" وهم الأهل والمدعوين، في تابوت. وهو طقس في الأساس جنائزي ومحزن ولا يليق بالمناسبة التي سمتها الفرح والطرب، ما يشير إلى دلالات تحتاج التوقف عندها، في ليس ما يوصف بمجرد الاختلال في الرؤية وإنما انعكاس في الأداء الممسرح على الواقع نتاج تقاطعات لأمور أخرى استجدت في الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث أن الدراسة المتعمقة لمثل هذه الطقوس كـ "طقس تابوت العروس"، يشير إلى تحولات في المزاج وأيضا دلالات غير مرئية لما يتحرك في المجتمع السوداني. كذلك أشير إلى فيديو متداول على الإنترنت لمجموعة من الشباب يرقصون وهم متماسكين على الطريقة الغربية على أنغام مكبر الصوت بجوار النيل في منطقة قريبة من الخرطوم كما قيل، وبغض النظر عن الموقع فالرقص مستوحى من الموسيقى نفسها التي هي أغنية مايكل جاكسون الشهيرة " you are not alone" حيث أن فتاة تصعد إلى المسرح بعد أن تشق طريقها وسط الجمهور بقوة وترقص مع مايكل جاكسون بطريقة "خاصة"، بمراجعة الفيديو سوف نكتشف أنها الطريقة نفسها التي يرقص بها الشباب السودانيون بجوار النهر. هذا الاختلاف في الأداء الراقص ما بين طقوس الرقص السوداني التقليدي والحديث.. بل والمخصص في الفيديو هو ثيمة لعصر الميديا وتأثيرها الواسع الانتشار، وهو يعني أن الخيال نفسه يعاد إنتاجه وفق مؤثرات أكثر حداثة، بحيث من الصعب الحديث عن خيال سوداني بحت أو حالة ممسرحة ذات طقوس سودانية خالصة. غير أن المفارقة أنه في الوقت الذي "يتطور" فيه الأداء المسرحي على المستوى الواقعي بغض النظر عن رؤيتنا له من حيث التقييم بطريقة عرفات مع عبد الله وبحثه "عما يرضي الله" أو "الإتقاء"، فإن المسرح كـ "فن" في السودان يظل متخلفا. فنظرة بسيطة تكشف كيف أن المجتمع باتت له أنظمة جديدة ورؤى أكثر حداثة ومخيال معقد ومعولم، يتجاوز المكان والسلطة في محاولتها لتأطير كل شيء. في الوقت الذي يحتفظ فيه المسرح كفن على الخشبة بحكايات تقليدية وأسلوب "بدائي" في المحاكاة قياسا إلى المتغير على مستوى الحياة السودانية، بحيث يمكن القول إن الأسلوب التمثيلي والأدائئ لرئيس الدولة في الخطابات الجماهيرية والذي بات يعرف به على مستوى العالم، من حيث الكلام ومن ثم الرقص بالعصا على الأنغام المحلية لاسيما "الجهادية" وطريقة تحريك الجسد وغيرها.. هذا الطقس يكاد يكون رفيعا في قراءته من حيث بعده الممسرح، أكثر مما تقدمه مسارح البقعة وقاعة الصداقة. ما يؤكد خاصية المسرح في الواقع السوداني على مستوى المواطن العادي والقيادات السياسية، وتعقيدات ذلك المشهد بدرجة تفوق الأداء الفني، وهو ما يشابه الحالة الشفاهية في المعرفة والثقافة السودانية التي يتحول جزء يسير منها إلى كتب ومسطورات.
|
|
|
|
|
|
|
|
|