|
الـــــعـــم (كـــاونــــــدا) .. تــــرزى الــــعــيـــد
|
.....
العــــــم ( كــــاوندا ) .. تــــــرزى العيـــــــــــد
قبل أسابيع قليلة فاجأنا هندى قصير و مهندم ، يرفل فى زيه المرتب و بمعيته حقيبة أدوات ، دلف إلينا فى المكتب لأخذ قياسات الموظفين ، بغرض خياطة ملابس العمل لهم ، و المعروف أن اللبس الموحد للموظفين فى هذه البلاد التى نحن بها من الأهمية بمكان و الظاهر أن المؤسسات هنا تبدى إهتماماً بالغاً بمظهر العاملين لديها لدواعى حضارية أو دعائية أو حتى تسويقية ، و يوجد لدى هذه المؤسسات (أكواد) و لوائح خاصة بالمظهر العام و الإلتزام بالملابس المعتمدة للمهمات المختلفة ، المهم أخذ الهندى يختلى بنا الواحد تلو الأخر بهدوء شديد لا يؤثر على سير العمل- بالطبع – و طفق يسجل بيانات القياسات المختلفة لكل موظف على جهاز إلكترونى أشبه ما يكون (بالأيباد) .. أو ربما كان ( بى دى إيه ) مثلما تفضل زميلى بالتوضيح ، و بان لى فى تلك اللحظة و أنا أراقب الهندى و هو ينقر على شاشة الجهاز بقلم رفيع ليس به من حبر ولا يحزنون ، بان لى و أتضح أن علم الله وسيع و أن العلم لابد و أن يكون تطور تطورا شديداً فى الأونة الأخيرة .
هذا الترزى الإلكترونى ذكرنى بالعم (كاوندا) ترزى العيد ،و فى حقيقة الأمر أن إسمه الحقيقى كان (محمد) و لكن عرفه الجميع بكاوندا ، و كنت قد سألته ذات يوم عن أصل التسمية ، فقال أنها تعنى (حريف فى شغلتو) أو (الزول المجضمها) حسب تعبيره ، العم كاوندا كان من قبيلة الفلاتة و كان له بيت صغير فى (بركات فلاتة) و هى قرية نشأت قسراً خلف مركز بركات الذى به رئاسة مشروع الجزيرة ، نشأت بين العم (كاوندا) و بين أهل قريتنا و بقية قرى المشروع صلات عميقة لأن أغلب أهلنا كانوا يعملون فى بركات الرئاسة أو فى محالج القطن بمارنجان و كان الناس يقضون كثيراً من الوقت فى بركات فلاتة يرتشفون أفراحهم المعبأة فى الزجاج و يغتسلون من تعب العمل باللهو هنا و هناك فى غياهب مشروع الجزيرة التى كانت عامرة بالحياة فى ذلك الوقت ، العم كاوندا كان مليحا بهى الطلة و لبيساً من طراز رفيع ، و ليس هذا بمستغرب من ترزى بطبيعة الحال ، أتذكر و نحن صغاراً و فى مثل هذه الأيام من السنة ، كان كاوندا يهجر بيته الصغير فى بركات فلاتة ليحط رحاله فى ديوان ( جدنا بكرى) و كان يحضر معه كل ما يملك من أدوات مهنته كترزى و يقوم بتركيب (مكنة الخياطة) العتيقة و التى لم تكن تحتاج لكهرباء أو خلافه و تعمل فقط بتحريك بدالها بالقدم و كان لها صوت مميز يبعث الحياة فى أرجاء الديوان .
العم (كاوندا) كان وناسا و حلو المعشر ، و وجوده فى حلتنا كان مدعاة أفراح كثيرة للجميع فكاوندا فى الحلة كان يعنى قدوم العيد و الكسوة الجديدة و تحسين المظهر ، إضافة لما كان يشيعه وجود كاوندا فى المكان من ونسة و لمة للكبار و الصغار ، فليس هناك بقريتنا الصغيرة من (موضوع) و الناس تتشبث بأدنى باعث للحياة هروبا من الملل و الكلل و تجدهم يترددون على الديوان بدون داعى غير الونسة و اللمة و المحبة.
أتذكر فى ذلك الزمن أن الناس كانوا لا يشترون أقمشتهم للعيد حتى يتأكدوا من وصول العم كاوندا للحلة و منذ أن يبدأ شهر رمضان تجدهم يتساءلون ، متى يأتى كاوندا متى يأتى كاوندا ؟ و ما أن تحط رحاله حتى تبدأ المشاوير للبندر فى (ود مدنى) ، أقمشة الجلاليب البيضاء و أقمشة العراريق و السراويل الطويلة من سوق الجملة و المقاطع الحريمية الملونة من السوق الكبير و كان الناس لا يشترون أبدا من الملابس الجاهزة مثلما يفعلون اليوم ، رغم أنها أقل تكلفة من التفصيل عند الترزى ، و كان الخال (بكرى) عليه رحمة الله من القلائل الذين لا يلقون بالاً لتفصيل ملابسهم عند كاوندا و قبل يوم أو يومين من العيد كان يشترى ملابسه جاهزة من سوق الله أكبر ، و كان هذا الأمر مزعجاً للغاية للعم (كاوندا) ، و كلما وقعت عيناه على الخال (بكرى) أطال فى تشنيف ملابسه و جلابيته ، و يبرز له جميع عيوبها ، " ياخى هو العمود دا بيأملوهو كدا ياخى" .. بأدين الجلابية دا مالو مفتول كدا ، كلو اّلى واتى .. و الله دا شوال فهم ما يكويهو ليك يا بكرى ياخ " و الشهادة لله أن كاوندا كان بارعا بحق فى تفصيل الجلاليب و العراريق و ما كان هنالك من أدنى مقارنة بين ما تنجزه يداه و بين ما يجلبه الخال جاهزاً من البندر.
العم (كاوندا) كان كثير المراسيل و كان يتعبنى أنا بالذات بمراسيله الكثيرة رغم أننى كنت فرحا بذلك لأنه يؤثرنى على أندادى من الصغار ، "عمى كاوندا هسع أنا جيت ، عليك الله رسل (مختار) دا " .. " الحميل دا بتاع كُربّات أنا ما برسلو .. قوم أمشى إنت " ، أغلب مراسيله كانت من أجل السجاير ، و كان (كاوندا) لا يدخن إلا السجاير (البحارى) ، و أذكر أن هذا النوع من السجاير لم يكن يباع إلا فى دكان عمنا (البشير ود يوسف) فى أخر الحلة ، و ذات مرة تكاسلت من الذهاب إلى حيث يوجد (البحارى) و إشتريت لعمنا الترزى علبةً من (البرنجى) و من أقرب دكان " دا شنو دا يا ولد " أنا تجيب لى (برنجى) ؟ شايفنى مشاطة؟ .. أنا ترزى يا وهم " و بالضرورة أصبح المرسال مرسالين و كالعادة أصبحت هذه حكاية يحكيها لكل مرتادى الديوان حتى قلت فى نفسى يا ليته سكت .
أكثر من كان يحبهم (كاوندا) من أهل القرية هو الخال العزيز (حسن الزبير) و هو توأم والدتى العزيزة .. أمد الله فى أيامهما .. و كان (كاوندا) يحب الخال (حسن الزبير) للسانه السليط و لأنه الوحيد الذى كان يغلبه فى (المنضمة) ، الخال حسن كان (تمباكى) مخضرم و (كاوندا) مدخن مخضرم و لطالما إندلعت بينهما حرب حوارية شعواء فى هذا الموضوع ...
كاوندا: "يا هسن أليك الله ما تنجس لينا الديوان دا .. أمرق من هنا" حسن: "الديوان حق أبوك ؟ الديوان إنتا قلبتوا لينا (كمينة)" كاوندا: "برضو أهسن من أواليقك دا .. الجداد ما بياكلوا ياخى" حسن: " تعرف يا كاوندا .. أنا كان عندى زى شلاليفك ديل .. على الطلاق كان بمطروا فيهن جوة"
ولا تسمع بعد هذا الحوار غير الضحك و القهقة .. يكاد العم (كاوندا) يسقط من كرسيه و يهتز كل جسمه حتى (يشرق) و تدمع عيناه.
ليس أوضح فى ذهنى هذه الأيام من صورة العم (كاوندا) ترزى العيد ، بنظارته (الفوتوقراى) و التى لم يكن يخلعها حتى و هو فى نوم عميق ، و لكم أتذكره هذه الأيام فى خواتيم شهر رمضان المبارك و هو يضرب بقدمه على بدال ماكينة الخياطة و طرقات الأبرة السريعة وهى تحيك أطراف القماش بمهارة عالية و حرفية نادرة ، و لكم أتذكر فى هذه اللحظات تلك الدراجة الهوائية خاصته و التى لم يكن يرضى بأن نسميها بغير إسمها " ما تقول أجلة يا وهم .. دا أجلة دبل " تلك العجلة الدبل و التى كان (يتكلها) على حائط الديوان و التى تعلمنا عليها مهارات ركوب العجلة بديلا عن ركوب الحمير . العم (كاوندا) الذى كان يظهر مع هلال العيد و يختفى طوال العام و ظل هذا ديدنه لسنوات عديدة .. هذا رجل ندين له بالكثير.
ترى أين أنت الأن أيها العم العزيز (كاوندا)؟ أين هى أراضيك و ما هى أحوالك ؟ كل ما أرجوه هو أن تكون بخير .. و أن تكون لا زلت بصحتك و عافيتك و أن تكون لا زلت تحيك أفراح العيد فى مكان ما فى الوطن العزيز .. لشدما أفتقدك الأن فى خواتيم هذا الشهر المبارك و أنا أضطر لشراء جلابية العيد جاهزة من دوار الساعة بالشارقة ، غير مفصّلة و غير متعوب عليها و كلها عالى واطى و مكرضمة مثلها مثل كل ما تكرضم فى هذا الزمن اليابس.
أبو بكرى 20/ رمضان الموافق 8/8/2012
....
|
|
|
|
|
|
|
|
|