س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-25-2024, 06:59 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سودانيز أون لاين دوت كم
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2006, 00:34 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18729

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)

    المَشْهَدُ الأوَّل: عَشِيَّة الكَارِثة

    تميَّز الانقلاب الأخير في السُودان عمَّا سواه من الانقلابات الماضية, بأنه الأول الذي تواترت أخباره من وراء الحدود.. وخلالها، كان هناك من يُحاول القيام بواجبه, وقرع ناقوس الخطر قبل فترة طويلة, مُستشعراً السُلطة التنفيذية التي يقف على رأسها السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء.. «في يوم 18/3/1989في حديث عابر مع سفير دولة أوروبية, سألني عن الأوضاع بالسودان, وقال لي إنه سمع من بعض المسئولين المصريين أن انقلاباً سوف يحدث بدون شك, وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على تلك الحالة, وبعدها حدثت محاولة انقلاب صلاح الضوي والمرحوم الزبير محمد صالح, وبعدها قمت بإرسال تقرير ضافٍ باليد للسيد رئيس الوزراء, مقيّماً الوضع بين السودان ومصر على ضوء التصريحات المتبادلة بين البلدين, وأشرت فيه إلى موضوع الانقلاب». ثم بعدئذٍ تكاملت الرؤى والمعلومات والوقائع مع ما كان يجري داخل الحدود.

    صباح الجمعة، 23 يونيو/حزيران 1989، تحلَق حول السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء ”المُنتخبُ“ آنذاك، بعض ضيوفه، في منزله الكائن بمدينة أمدرمان ”حي المُلازمين“.. دخل عليه ضابط من ذوي الرتب الوسيطة في القوَّات المسلحة، وكان يتأبَّط خبراً مزعجاً، تشيبُ له الولدان، وقد جاء تحديداً لإبلاغ المهدي به، فقال له: «هناك ترتيباتٌ تَجرِي لتنفيذ انقلابٍ عسكري لتَغيير السلطة الديمقراطيَّة»!!

    سألَه المهدي في البداية -ولم يُبدِ اكتراثاً ملحوظاً لمجالسيه- عن مصدر معلوماته.. فقال له الضابط: «ليس هناك مصدر معيَّن».. لكنه شرح للمهدي أنه، بعلاقاته المتشعِّبة وسط زملائه من العسكريين، استطاع التقاط كثير مِن الهمس الذي يدور بين ضبَّاط المؤسَّسة العسكريَّة, لدرجة أصبح ذلك في حكم اليقين.. وأضاف أنه لا يعلمُ متى سيحدث الانقلاب، ولا كيف؟! وبعد فترة ران فيها صمت رهيب على المكان, باغته المهدي بسؤالٍ استنكاري: «تفتكر مُمكن ضابط يغامر ويهِد الشرعيَّة الدُستورِيَّة؟!».

    لم يكن المُساءل في حالٍ يستطيع معها أن ينفى ولعاً شرهاً وطموحاً أرعن، أصاب كثيرين من منتسبي تلك المؤسَّسة بداء الانقلابات العسكريَّة, عبر سنوات من تأسيسها، لحماية ”الأرض والعِرْض“.. فردَّ على سؤال المهدي بقوله: «يا سيِّد الصادق، الضابِط المُغامر عندما يركب الدبَّابة، لا يعرِف ”المؤسَّسة الشرعيَّة“, وكلُّ تفكيره يكونُ مركَّزاً في اتجاه أن حياته في خطر، ممَّا يحفِّزه لتنفيذ تلك المُهمَّة فقط»!!

    عاجلَه المهدي بسؤالٍ تَقريري آخر، ينضح تواضعاً: «تفتكر ما الذي يمكن عمله؟».. لَم يتحذلق المُساءل في سؤالٍ يعلم أن سائله بمقدوره أن يؤلِّف فيه كتباً, فحصر اجتهاده فيما يعلمه، وقال له: «مِن الناحِية العسكريَّة، أستطيع أن أقول لك إن قادة الوحدات العسكريَّة يجب أن يكونوا ملازمين في وحداتهم بدرجة استعدادٍ قُصوى، وتَأهُّبٍ كامل, كما يمكن أن توضع كتيبة، أو أكثر، في منطقة ”فتَّاشة“ تحسُّباً».

    بدا السؤال الذي ألقى به المهدي فضفاضاً، يغري بالاجتهاد, فكسر حاجز الصمت الذي خيَّم على الحاضرين, وتمطَّى الحديث بنهمٍ، تنظيراً وتفعيلاً، باستدعاء كل شاردة وواردة.. فمن قائل بأهمية تسريع خطى اتفاقية السلام, ومن رأى ضرورة طواف السُلطة التنفيذيَّة -التي على رأسها رئيس الوزراء- على الوحدات العسكرية المختلفة، لتوضيح أهميَّة الحفاظ على النظام الديمقراطي، وحماية ”الشرعيَّة الدُستوريَّة“.. وشمل الحديث ضبط الأسعار الفالتة في الأسواق، لإشعار المواطنين بأنَّ هنالك سلطة ترعى شئونهم!!

    كان المهدي يصغي -كعادته- بإيحاء من تدبَّر لغده أمراً، أو هكذا ظنَّ مجالسوه, فانفضَّ سامرهم، كلٌ مضى إلى حال سبيله، بِما فيهم ناقل ”الكُفر“ بالنظام الديمقراطي.. ونودي على المهدي ليدرك صلاة الجمعة.

    بعد يومين مِن ذلك التاريخ، وتحديداً في يوم 25 يونيو/حزيران 1989، كان بِضعة أفرادٍ مِن جهاز الأمن الداخلي يحاولون رصد وقائع اجتماعٍ هام لعدد من قيادات ”الجبهة القومية الإسلامية“ في ضاحية ”المنشيَّة“، شرقي الخرطوم، منزل ربيع حسن أحمد, وكانت الإجراءات التأمينيَّة لهذا الاجتماع مثيرة بدرجة تثير الفضول, وتَشي باحتمالات حدثٍ قادم.. «ومن المفارقات العجيبة، أن يمر بهم السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز أمن السودان، في ساعةٍ متأخرة من الليل، وهو في طريقه إلى منزله بالمنشيَّة, وحرص أحد هؤلاء الضباط على إطلاعه على مهمَّتهم، وتنويره بما يجري في هذا الاجتماع المصيري.. ومن أطرف الحوارات التي دارت في تلك الليلة، المشحونة بالتربُّص، حوارٌ بين رئيس الجهاز وذلك الضابط، الحريص على أداء الواجب في تلك الساعة المتأخِّرة من ليلٍ خانق، اشتدَّت فيه وطأة الأحداث، ووطأة الحرِّ.. في هذا الحوار، قال الضابط، وهو برتبة نقيب أمن، لرئيسه: يا ريِّس، نحن الآن نقوم بِرصد اجتماعٍ هام لقيادات الجبهة الإسلاميَّة.. وعلى الفور سأله رئيس الجهاز: وما هي الأسباب من وراء هذا الرصد؟ أجاب النقيب: سعادتك.. الجماعة يرتبون لشيء ما.. أعتقد أنه انقلاب.. وقد وزَّعتُ القوة لمعرفة ما يدور، ولمتابعة الأمر.. ضحك عبدالرحمن فرح، وقال باستخفاف: الجماعة ديل يعملوا انقلاب؟! ثم تابع قائلاً للنقيب: إنتو مشغولين بالفارغة.. عينكم لـ”المايويين“ متحرِّكين وبيعملوا في انقلابات، وإنتو ترصدوا في ناس الجبهة؟ ثم طلب رئيسُ الجهاز في هذا الحوار القصير من ضابط أمنه أن ينهوا هذه المهمَّة، ويعودوا إلى أشغالهم، والاهتمام بالمايويين».

    ”المايويُّون“ الذين عناهم رئيسُ جهاز الأمن، هم بقايا الرئيس المخلوع جعفر نِميري, وقصد بحديثه ذاك محاولة انقلابيَّةَ مزعومة، قيل إنها كان ينبغي أن تحدث في يوم 18 يونيو/حزيران 1989، لتغيير الحكم, وكان اللافت فيها صمت كل المسؤولين في أجهِزة الدولة، بأجنحتها المختلفة, عدا ثلاثةٌ من الجهاز التنفيذي، جميعهم بهويَّة حزب الأمَّة, انبروا في الحديث عنها بسيناريوهاتٍ مثيرة, وتفاصيل استخفَّت بالعقل الجمعي لأهل السُودان بصفة عامة، وساسته بصفة خاصَّة.. ابتدرها السيِّد مُبارَك الفاضل المهدي، وزير الداخليَّة آنذاك، بالحديث إلى عدَّة صحفٍ محليَّة ودوليَّة، مؤكداً أن الخطة الانقلابيَّة كانت ستنفَّذ يوم 18/6/1989، لتتزامن مع مخاطبة رئيس الوزراء للجمعيَّة التأسيسيَّة, حيث كان من المتوقع أن تهاجم المجموعة الانقلابيَّة البرلمان، وتقضي على القيادتين، العسكريَّة والسياسيَّة، وتشل الحركة في الدولة، فيما يعود نميري.. ثمَّ أضاف شيئاً من ”المشهِّيات“ اللازمة، بما يجعل من السيناريو حدثاً مهضوماً!! فيما رأى رئيس جهاز الأمن، المسكون بـ”فوبيا المايويِّين“، أن الأمر يتطلب مؤتمراً صحفياً, عقده بالفعل يوم 20/6/1989، واسترسل فيه بخيال خصب, بدءاً مِن اكتشاف مبالغ مالية كبيرة في حوزة المعتقلين, مروراً بخططهم, وانتهاءً باتخاذ الحكومة لإجراءاتٍ أمنية مشدَّدة، في المطارات والموانئ، لئلا يهرب ”المتورِّطون والمتعاملون معهم“ من البلاد.

    أما رئيس الوزراء، الصادق المهدي، فلم يتوان في خلع جلبابه المدني، وارتداء بزَّة الجنرالات، وهو يخاطب الجمعية التأسيسية صباح اليوم التالي 21/6/1989، فأكد أن الانقلابيين كانوا يزمعون إطلاق قذائف مدفعية على مبنى البرلمان، للقضاء على السلطة التنفيذية والتشريعية, وتحريك الوحدات العسكرية المختلفة، والمبعثرة في أرجاء العاصمة وضواحيها، للاستيلاء على مبنى الإذاعة.. وتجاوز رئيس الوزراء في حديثه سقف الخيال، في التأكيد أيضاً بأن الانقلابيين، حال ما تؤول لهم السلطة، فإنهم سيقومون: «بإحضار السفاح نميري، وتصفية كل المعارضين, وبعد ذلك تتم تصفية السفاح نفسه»!! وأحكم رئيس الوزراء الحبكة الدرامية، بتحديد ساعة الصفر، والتي قال إنها: «الحادية عشرة صباحاً».

    واقع الأمر، كان ذلك أمراً عصياً على الفهم والإدراك، في روايات المسؤولين الثلاثة, ولكن بغضِّ النظر عن خيالاتها الشاطحة, وبرغم المثالب التي اعتورتها, فقد كان من الطبيعي أن يستدعي الحدث -بمقاييس الفعل ورد الفعل- الشروع في تحوُّطات عسكرية وأمنية وسياسية, تحمي ”الشرعية الدستورية“ وتكسبها واقعاً مُهاباً. غير أنَّ البديل، كان ”استرخاءً“ سمجاً، حشرت السلطة نفسها في دولابه, ونام كل من أدلى ببيانه للناس قريرُ العين، هانئها, علماً بأن الفارق الزمني بين الانقلاب المزعوم والواقعي الذي حدث بعدئذٍ, لم يتجاوز العشرة أيام.. والمسؤولون الثلاثة، هم المُناط بهم بالدرجة الأولى السهر لحماية ”الشرعية الدستورية“.

    أكد كثيرٌ من المراقبين، والمحللين السياسيين أن الانقلاب الحقيقي في 30 يونيو/حزيران 1989، استخدم الانقلاب المزعوم كغطاء تمويهي لتعزيز نجاحه, وهو افتراضٌ -بغضِّ النظر عن جدليته- يوضح مدى استخفاف الانقلابيين بـ”الشرعية الدستورية“، لأن الفاصل الزمني يستلزم التحوطات التي ذكرنا، وليس العكس.. بالتالي، فالذي أقدم على ”مغامرة“ كتلك، كان يدرك تمام الإدراك أنها سلطة لن تحرِّك ساكناً، طالما أن ”حرَّاسها“ في أوهامهم سادرون.

    سواءٌ كان الانقلاب المزعوم غطاءً تمويهياً للانقلاب الفعلي، أم لا, فالأنكى والأمرُّ في كل تلك الرواية, أن الانقلاب المزعوم نفسه, والذي تبارى السادة المذكورون في رسم سيناريوهاته بخيال ”هوليودي“ استند من جهة في حقيقته على طموحٍ أقرب إلى الهذر والسذاجة، ممن سُمِّي بقائد المحاولة، ”العميد أحمد فضل الله“، نائب مدير كلية القادة والأركان.. ومن جهة أخرى، ألبس ذلك الطموح ”اللواء صلاح مصطفى“، مدير الاستخبارات العسكرية، ثوباً فضفاضاً، وقدَّمه لمرءوسيه في هرم القيادة, حيث التقط القفاز بعضهم، وطرحوه طازجاً بين يدي السلطة التنفيذية, والتي أضافت له من خيالها الخصب ما جرى ذكره.

    كنا قد توقفنا حيث أنهى نقيب الأمن مهمة مجموعته، استجابة لطلب رئيس الجهاز عبدالرحمن فرح.. انصرفوا لقضاء ما تبقى من الليل مع أسرهم, على الرغم من أنهم كانوا قد استيقنوا -دونما تفاصيل تشبع رغبتهم- بأن الاجتماع كان محوره الأساسي التخطيط لتنفيذ انقلابٍ عسكري لصالح الجبهة القومية الإسلامية.

    بَيْدَ أن المهمة لم تنته في صباح اليوم التالي 26/6/1989، بالنسبة لمدير إدارة الأمن الداخلي، اللواء صلاح الدين مطر, الذي أعدَّ تقريراً ”خاصاً وعاجلاً“ إلى رئيس الوزراء، بنسخة منه إلى وزيري الدفاع والمالية، رصد فيه بصورة شاملة ردود الفعل المتباينة في أوساط الأحزاب، والتنظيمات النقابية والعسكرية، وكذلك آراء المواطنين، بالنسبة لما أُعلِنَ عن المحاولة الانقلابية المذكورة، جاء فيه: «يرى بعض العسكريين أن القوات المسلحة كان لها رأى واضح في الوضع الراهن بالبلاد, عكسته مذكرة الجيش في فبراير 1989, وما أوردته من أسباب موضوعية فيها -على حد تعبيرهم- يجعل أمر التحرك العسكري لتغيير الحكم شيئا متوقعاً, وأنه سيلقى الدعم من الوحدات».. وخلص فيه إلى أنه: «ظل يتردد أن بعض قيادات الجيش صرَّحت بأنها لن تتمكن من السيطرة والتحكُّم في من هم تحت إمرتها، ومنعهم من المغامرة، طالما أن الأسباب لقيام الانقلابات قائمة».. وأورد التقرير أيضاً مواقف الأحزاب المختلفة، بما فيها الجبهة القومية الإسلامية, ثم آراء المواطنين بصورة شاملة.. وختم مدير الأمن الداخلي ما جاء في التقرير بتعليقٍ وضع فيه قلمه على الجرح النازف، ذاكراً: «من خلال استطلاع آراء المواطنين، اتضح أن الكثيرين، وبسبب المعاناة المعيشية والحياة, أبدوا تعاطفهم مع ”التغيير“، وليس ”الانقلاب“».. ثم أسدى النصح لرئيس الوزراء، الذي لم يستبنه إلا ضُحى الغد: «والبعض الآخر يرى، ولتفادي السلطة لأي مغامرة جديدة, أن تعالِجَ مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية، وتحارِب الفساد، وعلى أعلى المستويات، وتقديم كل من يثبُت فساده للمحاكمة، وأن تمضى قدماً في مساعي إحلال السلام في الجنوب والغرب».

    هذا التقرير، الذي أصبح يُعَدُ من أهم الوثائق التي تجاوزت أحاديث الشفاهة, فيما كان يصل إلى مسامع رئيس الوزراء في شأن الذي كان يجري فوق -وتحت- سطح الواقع السياسي السُوداني, ماذا كان حظه؟! كتب السيد الصادق مُلاحظاته عليه بخط يده، ووجَّهه إلى ”أخي الحبيب“.. ورغماً عن أن الوثيقة المنشورة كشطت الاسم, إلاَّ أن قرائن الأحوال تشيرُ إلى أنه واحدٌ من اثنين، لا ثالث لهما: إما وزير الداخلية نفسه، السيد مُبارَك الفاضل، بحُكم أن إدارة الأمن المذكورة تقع تحت دائرة مسؤولياته, أو رئيس جهاز أمن السُودان، السيد عبدالرحمن فرح، الذي تتكامل مسؤولياته مع الإدارة المعنية, وكلاهما من قادة الحزب العتيد.. بل إن رئيس الوزراء وصف التقرير لأحدهما، بأنه: «كالعادة، مُبتسرٌ من حيث الحقائق والتحليل»!! وتساءل باستخفافٍ مُمعنٌ في السُخرية: «متى يرقى الأمن الداخلي للإحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل؟».

    تساؤل لم يكن الله وحده -جلَّ شأنه وعلا- يعلمه، كما قال المهدي في ختام تعليقه, فالثابت عندئذٍ أنه هو أيضاً كان يعلمُ إجابته.. والمُوقنون بهذه القدرية -فيما نعلم- يشمِّرون عن سواعد الجد، ليدرأوا الشبهات بالحيطة والحذر, ويَعمَدون إلى السياسات التي تطعم المُسغبين, وتحارب المُفسدين, وتبُثُ الأمن والطمأنينة في نفوس المُتعبين, وتُعِدُّ القوة ورباط الخيل للمستهترين بمصائر الخلق, وبعدئذٍ سيجدون أن الخالق الذي سألوه إلهاماً وإلحافاً أقرب إليهم من حبل الوريد!!

    في اليوم التالي لتقرير مُدير الأمن الداخلي, كان ثمة سيناريو يجري في موقع آخر.. فقد أورد سياسي ينتمي أيضاً للحزب الكبير شهادته عنه, ولكن بعد عشر سنوات من وقوع الطامة الكبرى، إذ قال: «في يوم الثلاثاء 27/6/1989، زرتُ الأخ إدريس البنَّا، ممثل حزب الأمة في مجلس رأس الدولة (قيادة جماعية) في مكتبه بالقصر الجمهوري، للتشاورِ معه حول ما كان يتردَّد عن انقلابٍ يوشك أن يقع، فيما رئيس الوزراء لا يحرِّك ساكناً.. اقتحم علينا خلوتنا الأخ أحمد عبدالرحمن محمد، وهو من قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وهو يقول ”قفشتكم يا رجعيين, قاعدين تتآمروا على كيفية الفرار من الانقلاب؟ والله جاييكم.. جاييكم“.. هكذا أكد لنا عن مرئياته حول المتوقع».

    غير أن السيد إدريس البنَّا نفسه كان أكثر تحديداً في تحميل رئيس الوزراء -وهو رئيس حزبه أيضاً- المسؤولية، حيث قال في حوارٍ نشر مبكراً, بعد نحو عامين من الانقلاب, في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 7/11/1991: «ذهبتُ إلى المهدي في مكتبه قبل خمسة أيام من وقوع الانقلاب، لأخطره بمعلوماتٍ تؤكد حدوث انقلابٍ وشيك, إلا أن المهدي لم يهتم.. بل استبعد تلك المعلومات». ولعل المُفارقة الغريبة فيما أدلى به من اعتراف, أنه بالرغم من عُضويته في أعلى هرم سيادي في السلطة الديمقراطية, إلا أنه، هروباً من المسؤولية التاريخية أيضاً، جعل من نفسه رسولاً يلقي البيان المُبين على مسامع رئيس الوزراء، دون إقرارٍ بمسؤولية المجلس الخماسي نفسه، فيما يمكن اتخاذه من تدابير، تقطع الطريق على الانقلابيين, علماً بأن ذات المجلس كان قد فاجأ المواطنين السُودانيين, بعد نحو عام ونيف من اختياره, وتحديداً في 25/7/1987، باستلهام آليات النظم الديكتاتورية، وتلبيسها للنظام الديمقراطي، حيث أصدر بياناً أعلن فيه فرض حالة الطوارئ: «تأميناً للجبهة الداخلية في مواجهة أعداء الديمقراطية والوطن».. والمُدهش أن الأعداء المُفترضين والمُتربصين بالوطن، وديمقراطيته, كانوا في واقع الأمر طلاَّباً ومواطنين، قاموا بتظاهرات تطالب أُولِي الأمر برفع أعباء المعيشة المُتصاعدة عن كاهلهم، المُنهك أصلاً ببلايا ورزايا من انتخبوهم لتمثيلهم.

    ما أكثر الرواة، والحدث واحد.. فقد تعدَّت أخبار الانقلاب دوائر الخرطوم العاصمة، التي لا تعرف الأسرار، والتي ”نامت نواطيرها عن ثعالبها“, ووصلت إلى بعض الأقاليم، فشاطرتها العلم بها.. ففي مساء الثلاثاء 27/6/1989 أيضاً، كانت نذرها قد وجدت طريقها إلى راعي الحزب الشريك في الائتلاف.. جاء قادماً من مدينة كسلا العميد محمد عثمان كرَّار، حاكم الإقليم الشرقي، إلى الخرطوم، وقصد منزل السيد سيد أحمد الحسين, وزير الخارجية والأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي, ووجد معه أحد كوادر الحزب ”محمد المعتصم حاكم“, وأوضح أن سبب مجيئه تواتر أخبار مؤكدة عن حدوث انقلاب, فاقترح عليه الحسين إبلاغ السيد الميرغني بذلك، فذهب ثلاثتهم إليه، وأطلعه اللواء كرَّار على المعلومات التي من أجلها قطع الفيافي، وترك تصريف شئون الإقليم، وهو يقود سيارته بنفسه.. كان رد الميرغني عليه: «الحديث عن انقلاب مالي البلد.. لكن دا ما حيحصل.. مُجرد إشاعات»!! وكرَّر الأخيرة هذه ثلاث مرات، حتى يبث الطمأنينة في نفوس زائريه, وطلب من اللواء كرَّار العودة صباح اليوم التالي إلى إقليمه، لأن هناك مهام كثيرة في انتظاره!!

    ثم جاءت شهادة أخرى ”بعد أن حلب الدهر أَشطرَهُ“، كما تقول الأعراب, وقائلها هو من وردت مسئوليته فيما سبق, ولكنه هنا أراد التحلحل منها، ورميها على كاهل رئيس الوزراء، وصنوِّه الآخر، الذي يحلو له إدارة الشأن السياسي من وراء حجاب.. ففي أول إفادة مقروءة له، بعد عقدٍ ونصف من وقوع الكارثة, قال السيد عبدالرحمن فرح: «كنت مستشاراً، أو وزيراً مركزياً للأمن، وكنت أعلم بالكثير، حتى بهذه الإنقاذ وخلافها, غير أنني كنت مغلول اليد, مبتور اللسان.. ورغم ذلك بلَّغتُ لطرفي الحكم في ذلك الوقت، رئيس الوزراء السيد الصادق المهدى، والآخر السيد محمد عثمان الميرغني يداً بيد, ولا أملك غير التبليغ». ويضيف بما هو أسوأ: «سقط الحكم على يد الإنقاذ, وإن لم تفعل كان سيسبقها عليه آخرون».. وبالرغم من إقراره -أو إن شئت- علمه بأن السُلطة المسؤول عن أمنها قد تزلزلت هيبتها، حتى تبارت فيها الحركات الانقلابية.. وبالرغم من رد فعله حيال الذين كانوا يرصدون اجتماع قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وفق ما جرى سرده من قبل, فهو يقول إنه كان ”مبتور اللسان“, ”مغلول اليد“ و”لا يملك غير التبليغ“!! والذي أوصل من خلاله الرسالة إلى المصب، الذي تتجمَّع فيه أسرار الدولة العليا.. ومن عجبٍ، لعله هنا قد روى الرواية أعلاه، ليضاعف مسؤولية رئيس الوزراء، ويستثني نفسه منها.

    كانت المعلومات تتدفق، حتى قبل ساعاتٍ من ساعة الصفر.. ففي يوم الخميس 29/6/1989، الساعة الواحدة ظهراً, كان السيد جيمس جرانت، مدير اليونيسيف، على موعدٍ مع رئيس الوزراء.. قبيل ذلك بلحظات قليلة، لاحظ السفير علي حمد إبراهيم، رئيس مكتب التنسيق بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وأحد قيادات حزب الأمَّة, أن ضابطاً برتبة عقيد -سقط اسمه من ذاكرته- يذرع ردهات مجلس الوزراء جيئة وذهاباً, بصورة قلقة، تلفت الانتباه.. فسأله عن غرضه, فقال إنه يريد مقابلة رئيس جهاز الأمن لأمرٍ هام, ثم أفصح له عنه، دون مُداراة: «أنا ضابط ملحق بمؤسسة الزبير رجب, وبناء على معلومات توفَّرت لي، هناك انقلاب سيحدث غداً».. أبدى السفير اهتماماً شديداً برواية الضابط، وأثناء ذلك، دخل إلى المبنى السيد عبدالرحمن فرح، فانتحى بحامل الرواية جانباً، وقضى معه وقتاً ليس بالقصير، غادر بعدها الضابط المبنى، بعد ما أفضى بمكنون صدره.. فسأل السفير السيد فرح، الذي قال له: «المعلومة ما جديدة عليَّ.. الحاجة الماعندي هي ساعة الصفر.. وأنا رئيس جهاز، لا أستطيع أن أعتقل, وإنما لدي سلطة تبليغ مجلس الأمن الوطني». ثم دخل على رئيس الوزراء, ولا يُعرَف إن كان مجيئه لهذه الغاية, أو تداول معه المعلومة؟! وبعده حضر السيد جرانت محمَّلاً بعرضٍ جاذب لرئيس الوزراء، وهو تخصيص الهيئة الأممية لمبلغ 500 مليون دولار للحكومة السُودانية، لتعمير ما دمَّرته الحرب في الجنوب, إن هي مضت في اتجاه تنفيذ مبادرة السلام!! وأيضاً لا يُعرَف إن كانت أخبار الانقلاب قد طرقت آذان المسؤول الأممي، وبناء عليه جاء بذلك العرض المُغري, أم أنها الآلية الوحيدة التي تعرفها الأمم المتحدة في مثل تلك المواقف؟!

    ثم جاء التوثيق الأخير -بعد أن سبق السيف العذل- وكان أكثر شمولاً، لأنه أُثير في جمعٍ من المُصابين بتعدُّد مشاربهم السياسية, وقد أمَّن على تفاصيله كل من كان عليه شهوداً.. ففي إحدى حلقات النقاش التي دأب المعتقلون على عقدها داخل سجن كوبر، بعد الانقلاب, بُغية طرد الملل وتبديد السأم الذي يضجر النفوس, صَدَرَ عن السيد الصادق المهدي قولٌ أراد به تعميم المسؤولية، فقال: «كلنا مسئولون عن الانقلاب».. فبادره السيد محمد إبراهيم نُقد بعبارة اعتراضية، قائلاً له: «الحقيقة أنتم لوحدكم المسئولون».. فسأله المهدي قاطباً جبينه، كتعبيرٍ عن حالة الضيق التي اعترته: «كيف؟!».. فقال نُقد: «أبلغناكم به».. فردَّ المهدي: «أبلغتم مَن؟!».. فرد نُقد: «أبلغنا صلاح عبدالسلام (أحد قيادات حزب الأمَّة وكان يشغل منصب وزير شؤون الرئاسة) الذي يجلس بقربك»، مشيراً نحوه بسبابته.. فسأل المهدي الأخير: «صحيح الكلام ده يا صلاح؟!».. فقال صلاح: «نعم»!! ساد صمتٌ عميق، تبَعثرت خلاله نظرات الجالسين، واهتزَّت له جدران السجن العتيق، والمتشققة أصلاً من هول أحداثٍ جسام، عَبَرَت خلالها طوال عقود زمنية.

    ذلك غيضٌ من فيض.. ولو شاء المرء حصر كل الشواهد والأدلَّة, لما وسِعَه هذا الكتاب.. ويمكن القول بأن تداعي النظام الديمقراطي, والترتيبات التي كانت تجرى لتنفيذ الانقلاب, كانتا كتاباً مفتوحاً، قرأه معظم السودانيين, أو بحدٍ أدنى غالبية المُتابعين للحراك السياسي. ومن المؤكد أن الروايات السابقة، المثبتة، ليست هي كلُّ -أو جُلُّ- ما وصل لمصبِّ رئيس الوزراء، والآخرين الذين يشاطرونه المسئولية.. ولعلَّ القليل الذي وصل، واستنطق الصخر العصيَّا، كان المهدي قد عالجه -بما جرى سرده- بكثير من اللامبالاة, وهى الوجه الآخر للعجز في الأداء، والفشل في اتخاذ القرار.

    غير أن المُفارقة، أنه لا يرى الأمر كذلك, حينما عزا العيب إلى البلاد التي اضطر لإدارة شئونها: «إنني كنت أتمزَّق ما بين 1986-1989 وأنا مضطرٌ لإدارة بلادٍ معجِّزة، وظروفها لا تسمح بمواجهة قَدرها بحزمٍ, فاضطررتُ لتسيير البلاد بالاستجداء، والصلات الطيبة». وبالطبع يعجز أي كائنٍ أن يفسِّر مغزى هذا الاضطرار!! ليس هذا فحسب، فهو يلقي بعجزه على الديمقراطية نفسها.. ففي سؤالٍ استصحبه الصحفيون دوماً في حواراتهم معه، منذ أفول نجم الديمقراطية الثالثة، حول مسئوليته في التفريط الذي أدى إلى سقوطها, يوردُ المهدي -في سياق مبرِّراته غير الواقعية- تناقضاً عجيباً، فيقول: «أما مسألة التفريط في الديمقراطية, فهي مسألة تتلخَّص، وببساطة شديدة، في عجز أي حكومة ديمقراطية في مقاومة الانقلابات العسكرية, ومن الصعوبة بمكان أن تحول، من خلال وسائل قانونية، دون وقوع انقلاب عسكري, وإزاء وجود تآمر من بعض القوى الحزبية غير الملتزمة ديمقراطياً. لقد كان في إمكاننا وقف أي انقلاب عسكري خلال الفترة الماضية».

    وبغض النظر عن جدلية أن الديمقراطية تحميها الوسائل القانونية، أو المواثيق الوضعية وحدها, لكن فيما بدا أن الصحفي الذي أجرى الحوار بُهِتَ في تصحيف عبارته الأخيرة، التي ادعى فيها أنه: ”كان بإمكانه وقف الانقلاب“.. فأردف الصحفي متسائلاً: «كيف؟!».. فأجابه المهدي: «من خلال اتخاذ وسائل غير قانونية.. كأن ننشئ مليشيات مسلحة.. كان بالإمكان عمل ذلك, لكن النظام الديمقراطي يفترض مبادئ معينة.. افتراض أن القوى المدنية ملتزمة ديمقراطياً, أي ليست لها مطامح في استلام السلطة عن طريق العنف, وافتراض أن القوى العسكرية منضبطة, فإذا رفضنا هذين الافتراضين، سوف تصبح لدينا قوى ضاربة خارج الجيش, وعمليات استقطاب من داخل الجيش. مشكلتنا الأساسية أننا أطعنا القانون, على الرغم من أن لدينا [50] ألف مسلح ”تحت الطلب“»!! بالرغم من أن المهدي افترض خطأً بأن الخروج على القانون هو السبيلُ الوحيد لتحصين النظم الديمقراطية، من داء الانقلابات العسكرية, لكن لو سأله الصحفي: «أين؟!»، تعليقاً على عبارة ”50 ألف مسلح تحت الطلب“ لما وجد عنده إجابة شافية, وذلك استناداً إلى ما جرى على لسانه يوم أن كان على سُدة الحكم، وقبل ثلاثة أشهرٍ فقط من الانقلاب: «لا وجود للمليشيات في حزب الأمة، فكيان الأنصار قام برفع السلاح ضد نميري, ولكنهم قاموا بتسليم ذلك السلاح للجيش عند عودتهم من الخارج، بعد سقوط نظامه».

    هكذا ينسخ رئيس الوزراء أقواله, ويجعلُ لكل مقامٍ مقالاً.. ومرة أخرى ينسى أنه قائل النفي أعلاه، وبمهارة لاعب سيرك متمرِّس، يتلاعب بالأرقام، قال: «نحن باختيارنا لم نقم بعمل عسكري, كرئيس وزراء كنت أستطيع إنشاء جيش فيه عشرون ألفاً من المليشيا من دون صعوبة مادية أو بشرية.. هم يعلمون أننا كأنصار في دمنا تربية جهاديَّة، يمكنها بسهولة أن تتحول إلى طاقة قتالية, لكننا علقناها كي نلعب في المجال السياسي بالقواعد الليبرالية». ويمضي في محورٍ آخر من الحوار، بنفس الحيوية، فيقول: «نحن لدينا إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية كافية لأن نقهرهم سبع مرات».. والمُبشَّرون بـ”القهر“ هنا هم الذين اغتصبوا السلطة!! وبالنظر لتاريخ الحوار، سنرى لاحقاً ما الذي حدث، حينما طبَّق المهدى نظريته، و”تمرَّد“ على القانون الذي لم يكن بوسعه أن يتمرَّد عليه وهو في السلطة, وذلك حينما دعا أنصاره ”المنتظرين تحت الطلب“ إلى ”الهجرة“, بغية قهر النظام، لمرة واحدة، وليس سبعاً كما تمنى وأكَّد!!

    من جهةٍ ثانية، لم يجد المهدي حرجاً في سرد بعض الوقائع، فيما حدث يومذاك، بطريقة لولبية: «في مارس من عام 1989، زارني السيد أحمد سليمان، وعرض عليَّ أن نقيم نظاماً رئاسياً أقوده ليحكم البلاد، ويحسم مشاكلها، وتدعمه الأمة والجبهة، ويُفرَضُ على الآخرين بالأغلبية النيابية، إن أمكن، وبالقوَّة إن لزم.. رفضتُ ذلك الاقتراح, وأوضحتُ أني مع إدراكي لعيوب الديمقراطية، أرى أن إصلاحها ينبغي أن يكون بالوسائل الديمقراطية, ولكن التسرُّع المعهود، والإعجاب الخفي بالوسائل اللينينة والبعثية العراقية, دفعتهم نحو مغامرة الإنقاذ, فأقاموا نظاماً ألحق بهم كحزب سياسي ذي برنامج فكري، وبالإسلام، أذىً بالغاً». المُفارقة، أن المهدي يُسمِّي ”التآمر“ اقتراحاً, ولا غروَّ إن بلغت الجرأة بأقطاب الجبهة الإسلامية أن يطرحوه مُباشرة على رئيس الوزراء، ولا يحرِّك هو ساكناً!! وكُتِبَ على أهل السودان، أن يطالعوا ذلك في مُذكراته، مقروناً بتفسيراتٍ لن تحرِّك شعرة في رأس أحد, سيَّما وأن النظام ألحق أذىً بالغاً بالسودان والإسلام، فذلك لن يختلف فيه اثنان, ولن تنتطح فيه عنزان.. ولكن، من المسئول؟!

    لأسبابٍ غير مفهومة، أسقط المهدي اسم د. حسن الترابي من تلك الزيارة, وكأن أحمد سليمان -الذي جاء بصحبته- قد عرض ذلك ”الاقتراح“ عليه قبل مجيئهما معاً، مؤكداً للترابي بأنه لن يرفضه: «لأن به وَلعاً للرئاسة، بغضِّ النظر عن النظام الذي يستند عليها».. وقد استحسن الترابي ”الفكرة“، رامياً بأثقالها على صاحبها.

    بَيْدَ أن هذه الرواية، رغم ما احتشاها من هزال، إلاَّ أن لها تكملة أخرى، لم يشأ المهدي أن يذكرها، لأن فيها طرفاً كان يهمه أمره، يومذاك.. فقد قدِّم له نفس ”الاقتراح“، مرة أخرى، وبذات السيناريو، في أواخر مارس/آذار نفسه من السيدين مُبارَك الفاضل، وزير الداخلية، وأحمد عبدالرحمن محمد، قطب الجبهة الإسلامية.. حضرا إليه معاً، لإقناعه بما تمنَّع عنه من قبل, وكان ردَّه مكرَّراً.. وتلك مثالية، وإن كان البعض لا يسميها كذلك، ويُسبغون عليها النقيض الذي لن يُرضي متوخيها.. لكنها على كلٍ، محمدة تنقصها الشفافية مع المحكومين, وينقصها التدبير، تحسُّباً لما هو قادم!!

    وأيضاً يجافي السيد مُبارَك الفاضل الحقيقة، بمكافيليته المعهودة، في تغبيش وقائع التاريخ, ويدَّعي أنه نصح رئيس الوزراء يومذاك، في مذكرة 5/5/2004، أي وثيقة اللواء شرطة صلاح مطر التي تمَّت الإشارة إليها.. وذلك خطلٌ في أحاديث السياسة، فالمسئولية -كما هو معروف- طالته أيضاً.. إلاَّ أنه يجافي الحقيقة مرة أخرى، فيقول: «الذي قطع شعرة معاوية بيني وبين الجبهة الإسلامية، هو من خرج عن الخيار الديمقراطي, لذا اتخذتُ موقفاً حقيقياً، حتى من أصدقائي الشخصيين المنتمين للجبهة». وتلك فرية، ظلَّ يردِّدها منذ وقتٍ مبكر، وأراد بها أن يدحض ما عُرِف عنه، إبان الفترة الديمقراطية، بأنه ”رجل الجبهة الإسلامية في حزب الأمَّة“، وهو الاتهام الذي وجَّهَهُ له المؤلف من قبل، فجاء رده على النحو التالي: «القضية بالنسبة لي قضية مبدأ, وأنا ملتزمٌ لمبادئ حزب الأمَّة، والديمقراطية التعدُّدية, وبالتالي تلقائياً أجد نفسي في مواجهة أي جماعة أو نظامٍ يدعو لمصادرة حقوق المواطنين، وإقامة نظام ديكتاتوري تعسُّفي, وفى إطار هذه المواجهات، أنهيتُ كل علاقاتي الشخصية مع قيادات الجبهة الإسلامية، باعتبار أنهم خونة, وأنا أرى أن العلاقة الشخصية لابد وأن تقوم على الصدق والأمانة، وطالما انعدمت المصداقية والأمانة، بالتالي تسقط كل الاعتبارات الشخصية, ومنذ يوليو 1989 رفضتُ رفضاً تاماً مقابلة أي من قيادات الجبهة الإسلامية، التي اتصلت بي في الخرطوم قبل خروجي إلى طرابلس، وفي لندن، وغيرهما». بالطبع لن يحتاج القارئ لمصباح ”ديوجين“ لاكتشاف الصدق فيما ظلَّ مُبارَك الفاضل يردِّده، دونما اكتراثٍ للواقع، الذي ناقض أي حرف فيما ادعاه, وفي ذلك تفاصيل سنأتي على ذكرها لاحقاً.

    مواصلة للمبحث الذي ابتدرنا به هذا الفصل، يمكن القول بأن مسئولية رئيس الوزراء لم تتوقف عند حدود العلم المُسبق بالانقلاب, أو عجزه ولا مُبالاته في اتخاذ التدابير المُمكنة, وإنما في الإسهام الفعلي في الأزمات التي صاحبت النظام الديمقراطي، وهيَّأت المناخ للانقلاب, وذلك في محورين أساسيين:

    • سياسياً: ثمة افتراض ردَّده كثير من المراقبين السياسيين، حتى بات في حكم اليقين, وهو التأكيد على أن انقلاب الجبهة الإسلامية تم لقطع الطريق أمام تنفيذ ”اتفاقية السلام“, باعتبار أن مجلس الوزراء كان سيجتمع صباح الجمعة 30/6/1989، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتزويد اللجنة الوزارية للسلام، بما هو مطلوب في اجتماعها المشترك مع الحركة الشعبية يوم 4/7/1989، والذي افترض أيضاً أنه سيُفضي إلى الموافقة على ترتيبات انعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989، كمحطة نهائية لرحلة مرهقة، وضعت لبناتها اتفاقية السلام, المُسمَّاة بـ”اتفاقية الميرغني- قرنق“ في 18/11/1988.

    واقع الأمر، إن وضع الوقائع بالطريقة أعلاه، ينطوي على قدر كبير من اختزال ما كان يجري حقيقة في دهاليز صناعة القرار, منذ توقيع الاتفاقية، وحتى لحظة تنفيذ الانقلاب.. فقرائن الأحوال تشير أيضاً إلى أن تلك الصورة المتفائلة, يقابلها، على قدرٍ سواء، احتمالات مواصلة الأمور لجريانها في ذات الحلقة المُفرغة، التي رَدَحَت فيها طوال تسعة أشهر, ولم يرشح عنها شيء ملموس.

    في الأصل، فإن انعقاد ”المؤتمر الدستوري“ المذكور كان قد تحدَّد له تاريخ 31/12/1988.. استقال وزراء الحزب الاتحادي قبله بيومين، لأن حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية صوَّتا في الجمعية التأسيسية ضد المُبادرة, وكان علاج رئيس الوزراء لتلك الأزمة، الاستمرار في التحالف مع الجبهة الإسلامية، تحت مظلة ”حكومة الوفاق“, أو بالأحرى ”حكومة الحرب“ كما نُعِتت, وذلك بالرغم من أنها لا تملك من أدواتها نصباً, سوى الصوت الجهير المؤجِّج لنيرانها!! ولم يكن ثمَّة منطق يدعو الطرفين إلى رفض الاتفاق، سوى النزعة الذاتية, التي لم تكترث لأشواق غالبية أهل السُودان للسلام, خشية أن ترتفع أسهم الغريم السياسي.

    وبرغم المواقف التي وحَّدت القوى السياسية، والنقابية، والعسكرية فيما تلا من شهور, إلاَّ أن موقف رئيس الوزراء، حيال الاتفاقية، ظلَّ مبهماً ومراوغاً, وأهدر كثيرٌ من الوقت والطاقات، فيما لا طائل من ورائه.

    بناء عليه, فالزعم بأن اجتماع مجلس الوزراء ”الطارئ“ ذاك، في صبيحة الجمعة 30/6/1989، كان مُخصَّصاً لتحضير ملف الحكومة الخاص بتنفيذ بنود اتفاقية السلام, أمرٌ فيه نظر, ودوننا في ذلك ما خطَّه بنان رئيس الوزراء نفسه، توثيقاً لتلك الفترة: «كتبتُ إلى رئيس الوزراء المصري، د. عاطف صدقي، بشأن قرارنا الخاص بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, والتي صار إلغاؤها رسمياً تقنيناً لواقع ماثل, وقد ردَّ عليَّ بالموافقة على ذلك، ما دامت هذه هي رغبة السودان, أما البروتوكول السوداني- الليبي الذي وقَّع عليه من الجانب السوداني وزير الدفاع في الفترة الانتقالية، اللواء عثمان عبدالله, فقد استنفد مدَّته, وبهذا أعلَنَت ليبيا، على لسان العقيد أبوبكر يونس، ترحيبِها ودعمها لمساعي السلام السودانية».

    أما بشأن تجميد الحدود، فقد مضى رئيس الوزراء في تفسير الماء بعد الجهد بالماء، بقوله: «رأينا أن يكون تفسير التجميد بعد تداول وتقنين ذلك الإجراء كالآتي: 1- توقيع العقوبة على الجرائم الحدية تعزيراً دون الحد وتقنين ذلك الإجراء. 2- يُصدِر رأس الدولة عفواً عاماً على المحكومين بالقطع وذلك على أساس أن العيوب الموجودة في قوانين سبتمبر شبهة تدرأ الحد. 3- الذين عليهم دِيات وظلوا في السجون لمدة طويلة، لأنهم لا يستطيعون دفعها, تدفعُ عنهم الدولة دياتِهم من الزكاة».

    إذا ما كان ذلك هو الملف، الذي ستحمله اللجنة الوزارية للقاء نظيرتها في أديس أبابا، يوم السبت 4/7/1989، فذلك أدعى للقول بأنه مرفوضٌ سلفاً من الطرف الآخر, وذلك لعدَّة أسباب، منها إن الاتفاقية تحدَّثت في موجز يسير عن قضايا أوضح من الشمس في رابعة السماء: «1- تجميد الحدود وكافة المواد ذات الصلة في قوانين سبتمبر 1983 إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري.. 2- إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تؤثر على السيادة الوطنية.. 3- رفع حالة الطوارئ.. 4- وقف إطلاق النار».

    حتى ذلك الوقت, بل حتى بعد وقوع الكارثة، فالسيد رئيس الوزراء يتحدَّث عن حيثياتٍ وإجراءات في البند الأول، مع أن الاتفاقية تشير إلى ”التجميد“، ولا شيء غيره. ويتحدَّث عن ”إلغاء نظري“ من الأطراف المعنية في الاتفاقات العسكرية, علماً بأن لمثل هذه الاتفاقات طرقاً قانونية معروفة في إبرامها ونقضها, دائماً ما تكون موضَّحة في ذات النصوص.. ولا يحسبُ المرء أن ذلك أمرٌ تغفله دائرة المعارف الخاصة بالسيد رئيس الوزراء, الذي استهان بالأمر، لدرجة اعتماده على حديث طيَّره الهواء لمسؤولين ليس بينهم وبينه حجاب.. وحتى افتراضه في اتفاقية الدفاع المشترك، فقد نسخه السيد مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور, والمقرَّب من دوائر صنع القرار في مصر, في مقالٍ له صادف نشره يوم 30/6/1989, أورَدَ فيه ما قاله الرئيس حسني مبارك لوفد نقابة الصحفيين السودانيين، الذي زار القاهرة تلك الفترة، حول مسألة الإلغاء: «إن مصر ليست غاضبة من طلب السودان بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, ولكنها غاضبة لأن حكومة الخرطوم طلبت من مصر اتخاذ الخطوة الأولى باتجاه إلغاء الاتفاقية».. ذلك ما يؤكد أن للإلغاء طرقاً معروفة، لم يجتهد فيها رئيس الوزراء، لغرض في نفسه يعزُّ عليه الإفصاح عنه.. والمعالجة ”النظرية“ تنطبق على البروتوكول مع ليبيا، اعتماداً على حديث الشفاهة الذي أدلى به مسؤول للإعلام، ويمكنه التنصُّل منه ببساطة النطق به.

    أما السبب الثاني، فقد ذكرَته الحركة الشعبية في بيان، نشر على الملأ يوم 13/6/1989، أي قبل أن يصلها وفد اللجنة الوزارية للسلام بجناحٍ مهيض: «اتفق الطرفان على الخطوات التي اتخذتها الحكومة فيما يتعلق بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر, وأصرَّت الحركة على تأكيد ذلك بقرار من الجمعية التأسيسية. أما محضر الاتفاق العسكري مع ليبيا، فقد اختلفت حوله الآراء, حيث أكَّد وفد اللجنة الوزارية أن الإجراء الذي اتخذ يفي بالمطلوب, بينما رأت الحركة أنه غير كافٍ».

    كان ذلك مهرجان المُزايدات الكبير, والمُماحكات التي تدثرت بها الأجندة الخفية, وعليه فالصورة لم تكن وردية بالكامل، كما رآها كثيرٌ من المتفائلين يومذاك. ذلك حتى لو افترض المرء جدلاً أن تنفيذ بنود الاتفاقية تمَّ وفق ما هو مطلوب، بحذافيره, وحملته اللجنة الوزارية، والتقت به الحركة الشعبية, فهل يظنَّن أحدٌ أن ذلك سيقع موقع صدقٍ في قلوب قادة الحركة، ويكون بمثابة فصل الختام في كتاب الحرب والسلام؟! افتراضٌ كان يمكن أن تكون إجابته ميسورة بـ”نعم“، إذا ما أغفل المرء ظروف الحركة يومئذٍ, فقد كانت في أوج تماسكها التنظيمي، وقمة عنفوانها العسكري, حيث كانت الحاميات والمدن في أعالي النيل والاستوائية تتساقط على يدها، كما أوراق الأشجار الذابلة، بصورة وصلت في مُنتهاها إلى إحكام الحصار على مدينة جوبا, وأدركت من خلال عملياتها العسكرية أنها تواجه خصماً مفكَّك الأوصال, بلا عدة سياسية ولا عتاد عسكري، علاوة على إدراكها أيضاً أن الحكومة التي تواجهها غرقت في لججِ الخلافات الائتلافية، بقيادة ربَّان تمرَّس في خلق الأزمات, ولا يهنأ له العيش إلاَّ في كنفها.

    إلحاقاً بالسؤال السابق، هل يمكن القول إن القضايا الأربع المحدَّدة، والبسيطة، التي تضمنتها الاتفاقية تمثل طموحاً أعلى بالنسبة للحركة الشعبية آنذاك؟ وبما أنه سؤالٌ افتراضي، فإجابته بالطبع اجتهادية، وإن كانت مُستندة على مُعطيات الواقع في تلك الفترة, والتي تشير إلى النفي, باعتبار أنه لو كان الطموح بتلك السهولة، وذاك اليُسر, لأمكن التوصل إليه, بل ربما إلى أفضل منه مع القوى الوطنية والديمقراطية، عشيَّة سقوط الرئيس المخلوع نِميري العام 1985.. ولربما كان ذلك من شأنه أن يلقي بظلال كثيفة على كثير من القضايا, بدءاً بتغيير موازين القوى في النظام الديمقراطي, مروراً بتغيير خارطة التحالفات, وانتهاءً بقطع الطريق على القوى الظلامية التي باضت فساداً، وأفرخت سِفَاحاً في 30/6/1989.

    من نافلة القول، إن الموقف السلبي للحركة الشعبية ساعد في تعميقه، ولأسباب ذاتية بحتة، الدكتور منصور خالد.. فبعد سقوط نظام نميري، جاء إلى الخرطوم منتشياً، وكان يظنُّ أنه سيُحتفى به، بفضل ما جاد به قلمه -في الساعة الخامسة والعشرين- من مقالاتٍ ناقدة للنظام.. وعوضاً عن ذلك، وجد نفسه يقف في مواجهة حملة عاصفة، قام بتحريكها بعض السياسيين والصحفيين, باعتباره أحد الموصومين بلفظ ”السدانة“, فغادر الخرطوم إلى نيروبي، ليستعصم بكهف الحركة الشعبية المنيع, حيث لا يمكن لأحد بعدئذٍ أن يعيدها على مسامعه, لا سيَّما وأن في الحركة نفسها من تنطبقُ عليهم الصفة، ولو بصورة نسبية.

    عموماً، ما سبق أسئلة تتدفق, ليس من باب نكئ الجراح, وإنما لتنظيفها.. وليس من زاوية التباكي على الماضي، وإنما للنظر إليه بموضوعية, إن كان حسبُنا وضع الأمور في نصابها الصحيح، حتى يستقيم تحليل المواقف بشفافية.

    عوداً على بدء, يحق للبعض الاستغراق، في الصورة الوردية المتفائلة، التي أكدت أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مُبادرة السلام, إلا رئيس الوزراء، الذي كانت أقواله وأفعاله تسبح في وادٍ آخر. وواقع الأمر، أن تأزيم السيد المهدي للواقع السياسي, بدأ مُباشرة عقِب تسلمه لمسئولياته, فكانت أولى خطواته هي تنكره لبرنامجه الانتخابي.. فقد فوجئ الناس بارتفاع بورصة ”قوانين سبتمبر“ في أجندته, وأصبح ثمنها عنده يساوي أضعاف ”ثمن الحبر الذي كتبت به“.. ثم تعثرت خطواته السياسية في عقد التحالفات، وفض الائتلافات، لأسباب لا علاقة لها بنبض الشارع، أو قضاياه الحقيقية, مثل شخصنته لمسائل بعينها مع الحزب الشريك في الحكم، مثل موضوع د. محمد يوسف أبوحريرة، ود. أحمد السيد حمد، والتي أدَّت إلى اهتزاز النظام الديمقراطي بأكمله, في حين اتهم صراحة -حتى من قِبَل أعضاء في حزبه- بالتستر على مُمارسات السيد مُبارَك الفاضل في الفساد, فكان جزاؤه الانتقال من وزارة إلى أخرى، برشاقة الفراشات.. الصناعة, فالتجارة, ثم الداخلية.. وكدأبه دائماً في الهروب إلى الأمام، عندما يقف عاجزاً أمام قضايا من صميم مسئولياته, امتدَّت يد التأزيم إلى خارج الحدود, فتسمَّمت علاقات السودان الخارجية.. فمع مصر، وصلت إلى درجة المُكايدات, مُستذكراً ومُسقطاً دوماً ثورة جدِّه الإمام محمد أحمد المهدي على العلاقة هناك: «قطاع من أهلنا في مصر ممَّن يصرون على رفض فهم الشعب السوداني.. هذا القطاع فشل في فهم أكبر الثورات في القرن الماضي بالسودان، وثورة أكتوبر، وثورة رجب/أبريل». وبادلته مصر ذلك العداء, واجتهدت أجهزتها في البحث عن الكيفية التي توقفُ بها ذلك الصداع, ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تكون تلك الأجهزة على علم بالانقلاب قبل حُدوثه.. ولكن الغريب حقاً، أن ذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات ”الأزلية“ بين البلدين, علاوة على أنه كان أمراً نشازاً في العلاقات بين الدول, وإن تَكرَّر حدوثه في بعض البلدان العربية والأفريقية: «...والمدهش أنه في يوم الانقلاب، كان معي عدد من السودانيين بالمنزل لمعرفة الأحداث, وعرفتُ من المخابرات المصرية، وقبل إذاعة البيان الأول اسم قائد الانقلاب وأعضاء المجلس، وحينما اتصل بي زميلنا ميرغني سليمان سفيرنا بتركيا يستفسر عن الانقلاب، وذكرتُ له الأسماء, أبدى دهشته. وحينما ذهبت لمقابلة اللواء التيجاني آدم الطاهر وإخطاره بما حدث، وأنه أصبح عضواً بمجلس قيادة الثورة, سألني عن بقية الأسماء!!».

    تفسير تلك المُلابسات سبق أن أجلاها آخرٌ من قبل, وإن لم يُشِر صراحة إلى مصر لأسباب موضوعية، بالنسبة له، تتعلق بزمان ومكان نشره لها: «كانت تقف سيارة مدنية بلوحة تحمل رقم 5757 أمام سفارة دولة عربية, حيث ذكر تقرير أحد ضباط جهاز أمن السودان -القسم الخارجي- أن جهاز الأمن كان يراقب السفارة منذ فترة طويلة وأنه رفع تقريراً بأن العميد حقوقي أحمد محمود صاحب السيارة يتردد على هذه السفارة, وأنه في هذا اليوم، 29/6/1989، ظلَّ هناك إلى ما بعد الساعة الثانية بعد الظهر ثم عاد مرة أخرى في مساء نفس اليوم, ويرجَّح أنه قام أثناء الزيارتين للسفارة بإطلاع عناصر مسئولة بأن هناك تحركاً وسط الضباط يستهدف الاستيلاء على السلطة دون تحديد الموعد وأن مجموعة الضباط هم من الوطنيين الذين يستهدفون التخلص من حكومة الصادق المهدي فقط وبناء علاقات متوازنة مع مختلف الدول العربية بعيدا عن المحاور». وسواءٌ بدوافع العِلم، أو التنسيق, وبالوقائع التي ورد ذكرها -بلا شك- فإن رئيس الوزراء مسئولٌ بالدرجة الأولى عن هذه المُلابسات، التي أدَّت إلى أن تكون مصر طرفاً في الحدث.

    إضافة إلى ذلك، شمل التوتر العلاقات مع دول الخليج، وبخاصَّة المملكة العربية السعودية، والكويت, ولحقت بهِم العراق، إثر انحيازه - بلا مُبرِّر- لإيران، خصمها في حرب الخليج الأولى!! ولم تكن دول الجوار الأفريقي استثناءً, فطال التوتر إثيوبيا, كينيا, وأوغندا.. أما تشاد، فقد انتفخت حكومة حسين حبري، وحاكت صولة الأسد، وهى تطارد معارضيها (قوَّات حسين جاموس الذي منحته الحكومة السودانية اللجوء السياسي)، وأعلنت -من غير أن تخشى في ذلك لومة لائم- توغلها لمسافة 150 كيلومتراً داخل الأراضي السُودانية.

    الجديرُ بالمقارنة، في هذا الصدد، أن الدول التي عكرت سياسات رئيس الوزراء صفو العلاقات معها, كانت سبَّاقة في الاعتراف بالانقلاب، قبل أن تعرف هويته؟! ومن المُفارقات، أن القادمين الذين جاءوا على أنقاض حكومة رئيس الوزراء، شاركوه الرذيلة نفسها, وإن اختلفت المشارب!! وبالطبع، انعكس كل ذلك على قضية الحرب والسلام، ويتحمَّل الطرفان بعدئذٍ مسئولية أقلمتها، ثمَّ تدويلها، وتوابع الأمرين.

    كانت مُبادرة السلام بمثابة الماء البارد، الذي انهمر على رأس رئيس الوزراء.. وعوضاً عن إيقاظه من سباته العميق, كانت ردود فعله تكريساً للعجز والفشل معاً.. بدأها -كما أشرنا- بالتسويف والمُكابرة, ومن ثمَّ وضع العراقيل أمامها, إزاء تزايُد ضغوط القوى المؤيِّدة لها.. خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية في 14/12/1988، راهناً قبولها ”بتوضيحاتها“، وهى الكلمة الجدلية التي رمى بها في حلبة الصراع, وصرفت الأنظار عن القضية الأساسية, حتى مضى التاريخ الأول المفترض لانعقاد ”المؤتمر الدستوري“ في 31/12/1988، دون سميع أو مجيب.. ومع اتساع دائرة الضغوط -بعد مذكرة القوَّات المسلحة- خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية مرة أخرى في 27/2/1989، حيث قرن أيضاً موافقته بطلب تفويض لتوسيع قاعدة الحكم، والمُضي في تنفيذ سياسات عامة, وأكد أنه في حال عدم توفر التجاوب والسند العسكري والنقابي الذي يروم إليه، بما يمكنه من تحقيق تلك الغاية, فإنه سيتقدَّم باستقالته للجمعية في 5/3/1989!! وعندما جاءته ردود الفعل من ”المثلث الذهبي“ الذي حدَّده, بعدم منحه التفويض الذي طلبه, حبست البلاد والعباد أنفاسها.. فرئيس الوزراء وضع نفسه في موقف لا يُحسد عليه, ولجأ إلى وسيلة غالباً ما يُلَوِّح بها الديكتاتوريون، إما توخياً لشرعية معدومة, أو استدراراً لتعاطف مُرتجى.. ومع ذلك، فحينما نطق بها لأول مرة في تاريخه السياسي, استحسن الكثيرون صواب رأيه, لأنه من جهة أكد لهم عكس ما يشاع عنه، بأنه يحب السلطة حباً جماً.. ومن الجهة الأخرى، فقد كانت الحتمية سلوكٌ طبيعي مفترضٌ في أي سياسي عَجِزَ عن إيجاد الحلول الناجزة لقضايا بلاده المصيرية.

    بقدوم التاريخ المذكور، استفتى رئيس الوزراء قلبه، إذ عقد مؤتمراً صحفياً، خيَّب فيه ظن الذين استحسنوا الفكرة, وقال إنه عدل عن الاستقالة، وأورد روايات ألجمت الألسن، وألبست الدهشة ثوباً مزركشاً!! قال إنه كان يتجوَّل في يوم الجمعة مع د. علي حسن تاج الدين، عضو مجلس رأس الدولة, ممثلاً لحزب الأمَّة في العاصمة, وقابل شيوخاً وأطفالاً، وجد منهم دفئاً، وطالبوه بعدم الاستقالة.. وإنه استلم رسالتين، واحدة من رجل دين مسيحي، وأخرى من رجل دين مسلم, يطالبانه فيهما بعدم الاستقالة أيضاً, ويصفانه بالوطني الغيور على بلاده.. من أجل تلك الرجاءات، قال إنه باع نفسه لمشاعر أهل السودان.. ولم ينس أن يؤكد - حتى تكتمل المُعادلة- أنه تلقى تأكيدات من مجلس رأس الدولة بالتزام القوَّات المسلحة بالديمقراطية والشرعية الدستورية, والتزام النقابات والاتحادات بوقف الإضرابات!! لا يسألَنَّ أحدٌ عمَّا كان يمكن أن يجنيه رئيس الوزراء، في حياته السياسية، لو أنه نفَّذ وعده، أو وعيده.. أمَّا ما كان يمكن أن تجنيه البلاد، التي باع نفسه لمشاعر أهلها, فذلك لن يعجز أي مجتهد في رصده، وأدناها ما كان يمكن أن يقال: «جاءت توضيحات الصادق المهدي إضعافاً لحيوية الاتفاقية، وسبباً في إحداث بلبلة وسط الرأي العام, وعاملاً إضافياً في تآكل شعبية الحكومة, فقد كانت الاتفاقية تُرضي طموح الشعب السوداني في ذلك الوقت، وتوفر له أملاً كاد أن يضيع نهائياً بإمكانية تحقيق سلام لدولة افتقدت السلام أزمانا طويلة». وأعلاها، كان يحق لكثيرين أن يقولوا إن استقالة رئيس الوزراء قد غيَّرت التاريخ السياسي للقطر كله, حيث أنه من المؤكد أن الأمور كانت ستتجه نحو شاطئ آخر، أكثر هدوءاً من الشاطئ المُضطرب، الذي سبحت فيه بعدئذٍ لأكثر من عقد ونصف، تحت إبط الجبهة الإسلامية.

    تلك التساؤلات، التي أرَّقت البعض، شملت آخرين أعياهم البحث عن السبب أيضاً.. «تساءل الناس عن الحكمة من رفض اتفاقية لا تلزم بأي شيء سوى توفير الظروف الملائمة لعقد المؤتمر الدستوري بمشاركة كل القوى السياسية والنقابية في البلاد, وتساءلوا بشكل خاص عن أسباب رفض الصادق المهدي لاتفاقية هي تتويج لجهود مضنية شارك هو وحزبه في كل مراحلها، بدءاً من كوكادام في مارس 1986 وحتى اتفاقية الميرغني- قرنق في العام 1988؟ وتزامن هذا الموقف مع تصاعد عمليات العنف المسلح في الجنوب واتساع الحرب الأهلية واحتلال حركة قرنق لعدة مواقع ومناطق في أعالي النيل والاستوائية, الأمر الذي أدى لحالة من الإحباط العام وسط قطاعات واسعة من جماهير الشعب امتدت إلى صفوف القوات المسلحة».

    آخرون حاولوا سبر غور تلك التساؤلات باجتهادات مقاربة.. «الذين يعرفون تطلعات وطرائق تقييم السيد الصادق المهدي للأشياء, وهذا ما لا ندعيه, يقولون إنه نظر للمبادرة المذكورة بمنظار محض في الشخصانية والذاتية, فقد أرَّقه تمكن (مولانا) الميرغني من تحقيق مثل هذه الخطوة الجبِّارة التي عجز فيها هو, رئيس الوزراء المنتخب ورئيس حزب الأمة، والمنظِّر والفيلسوف والمفكِّر للكثير من قضايا العالم الثالث التي عرفها وخبرها منذ أن تولى رئاسة أول وزارة وهو لم يبلغ الثلاثين بعد, وبرغم كل هذه الخلفية فشل في حل أكبر قضية تتهدَّد حكمه, وفي المقابل يتمكن منافسه الحزبي, الذي لا يتقلد منصباً, من صياغة أول حل محدَّد على درب السلام, وعلى المستوى (المقارن) فإن (مولانا) لم يتتلمذ مثله في أكسفورد, ولا تعرفه السمنارات الدولية في مراكز البحوث المتخصصة والجامعات, خطيباً في منهجية التشخيص الأكاديمي, لما يعرف بـ”حل الصراعات“-”Conflict Resolution“، كل هذا تحليلياً ربما كان مدعاة لاستكثار الإنجاز ومحرِّضاً لإفشاله».

    ذلك ما كان يجري على الصعيد السياسي.. أما ما كان يدور في المحور الآخر, فقد كان أشد مرارة, وأكثر إيلاماً, وأفدح أثراً.. شاطر آخرون فيه رئيس الوزراء المسئولية, وأصبحوا مثله، يبحثون في كيفية استرداد ما فرَّطوا فيه بالأمس.

    • عسكرياً: كانت الحركة الشعبية قد استثمرت أجواء الخلافات الحادة في الخرطوم, والمُماحكات السياسية التي كان رائدها رئيس الوزراء، بانتصارات عسكرية متتالية.. وبدون استغراق في تفاصيل كثيرة، تلاحقت على المؤسسة العسكرية, نقف على نزر منها، حدثت في ربع الساعة الأخيرة من النظام الديمقراطي.

    كانت مذكرة هيئة القيادة، التي سلَّمتها لمجلس رأس الدولة ورئيس الوزراء يوم 20/2/1989، تمثل حداً فاصلاً للمواجهة السياسية والعسكرية, بوقائعها المُعلنة والمُستترة معا.. غير أنه قبل ثلاثة أيام منها، وتحديداً في 17/2/1989، ثمة حدث كان ينبغي أن يسترعي انتباه رئيس الوزراء, ويُحيطه بكثير من الاهتمام، لأنه كان بمثابة المقدِّمة للنتائج.. فقد وضع الفريق عبدالماجد حامد خليل، وزير الدفاع، استقالته بين يديه.. ويُذكر أنها حملت نفس مضامين مذكرة هيئة القيادة، بل تجاوزتها بالإشارة الواضحة لمكامن الداء, وسَمَّت الأشياء بمُسمَّياتها الصحيحة.. ويُذكرُ أيضاً أنها تزامنت مع استقالة كوادر قيادية في حزب الأمَّة، لأسباب اقتربت وتباعدت مع استقالة وزير الدفاع.

    أورد الفريق عبدالماجد أربعة أسباب، حملته على الاستقالة, قال فيها ضمناً إنه يرى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون له ضِرام, وذلك عندما أكد بأن انعكاساتها السالبة لم تكن وبالاً على المؤسَّسة العسكرية فحسب, وإنما على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية:
    1- سياسة البلاد الخارجية أدَّت إلى إضعاف قدرة السودان على استقطاب العون العسكري والاقتصادي, وذلك ما انعكس سلباً على القوات المسلحة.
    2- تباطؤ الحكومة في التحرك الإيجابي نحو مبادرة السلام.
    3- هيمنة الجبهة الإسلامية على مركز القرار، وتوجيهه إلى الوجهة التي تريد، مما أضعف مقدرة الحكومة في التحرك داخلياً وخارجياً.
    4- تضييق دائرة المشاركة في الحكم خلق استقطاباً وتمزقاً داخلياً (المشاركة المذكورة كان يتناصفها حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية، فيما سُمِّى بحكومة الوفاق، بعد انسلاخ الاتحادي الديمقراطي من الائتلاف مع الأول).

    ربما لأن مُغنِّي الحي لا يُطرِب، أو لأن الفريق عبدالماجد عزف ”مارشاً“ عسكرياً لأُذنين أصابهما وقرٌ سياسي، أو لأن رئيس الوزراء استحسن في دواخله تقريع د. الترابي (وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء) للفريق عبدالماجد، قبيل تقديم استقالته في آخر اجتماع حضره لمجلس الوزراء، أو ربما لكل هذه الأسباب مجتمعة, وافق رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع بسرعة من كان يتمنى حدوثها, دون أن يُكِر البصر مرتين في الأسباب الموضوعية التي أوردها.. وأقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها قرعت ناقوس الخطر بعنف, قبل وقوع الكارثة.

    كان رئيس الوزراء يعلم تماماً تلك الأسباب, ويعلم تفاصيل أخرى لم يشأ الفريق عبدالماجد الخوض فيها, لا سيَّما ما حاق به شخصياً في التقريع المذكور في اجتماع مجلس الوزراء.. ففي تلك الجلسة، تحدَّث وزير الدفاع بإسهاب حول ضرورة السلام، بعد أن شرح الأوضاع العسكرية المتدهورة، لمؤسَّسة يتحمَّل مسئولية قيادتها, فتصدَّى له د. الترابي بتهكمٍ لاذع، وقال إنه كان آخر ما يتوقَّع أن يتحدَّث وزير الدفاع عن السلام.. وأضاف بأنه إذا كان وزير الدفاع يتحدث عن السلام, فعن ماذا يتحدث وزير السلام؟!

    لم يجد المهدي غضاضة في أن يُسَطِّر تلك الخطيئة في مذكراته لاحقاً، بعد أن أصبحت مجرَّد ذكرى في أرشيف الحكم الضائع، فقال: «كان وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل يشعر بالآثار السلبية لبروز الجبهة الإسلامية, ويحاول موازنة الموقف، بكثرة الحديث عن السلام وضرورته، والتزام الحكومة به, فتصدَّى له بعض وزراء الجبهة الإسلامية في الحكومة، وعلى رأسهم د. حسن الترابي, وأخذوا عليه تكرار حديثه عن عمله, وأنه لا يترك مهمة السلام للآخرين, وتناول إعلام الجبهة ”غير المهذب“ الخط، وفتح تهجماته على وزير الدفاع».

    بالرغم من أن لا شيء يمنع وزير الدفاع من تكرار حديثه عن السلام, بغضِّ النظر عن الظروف السيئة للمؤسَّسة العسكرية, إلا أن المهدي لا يجد حرجاً في التأكيد على أن الوزير -وحده- هو الذي استشعر تلك الآثار السلبية.. كما أنه لم يقل ماذا كان رد فعله وقتئذٍ, خاصة وأن الظروف تحتم عليه نصرة وزير الدفاع، ظالماً أو مظلوماً.. وصمته في الحالين، يؤكد ما ذكرنا، بأنه استحسن التقريع المذكور في دواخله!!

    واقعُ الأمر, لا رئيس الوزراء، ولا نائبه -وزير الخارجية- ولا أي من حاضري الاجتماع، كان بمقدوره أن يشكِّك في صدقية وزير الدفاع، في حديثه المُتكرر عن السلام, بدليل أن الرجل تخلَّص من أي مشاعر إنسانية سالبة, وغَلَّب حسَّه الوطني، والمهني، في لحظة تاريخية حرجة, وذلك إثر نجاته من كارثة مُحققة, بعد يومٍ واحد من توقيع اتفاقية السلام, أي في 17/11/1988.. «كان الفريق عبدالماجد في زيارة تفقدية لمدينة واو، وبصحبته القائد العام للقوات المسلحة، ووفد عسكري كبير, عندما أصاب صاروخ سام 7 المضاد للطائرات - أطلقه أحد مقاتلي الحركة الشعبية- طائرة الوفد، عند اقترابها من المطار. كادت أن تسقط الطائرة، لولا براعة وحنكة قائدها، العميد طيار عامر الزين». وعند عودته إلى مطار الخرطوم، تحدَّث الفريق عبدالماجد للصحفيين، وأورد تعليقاً حصيفاً من وزير دفاعٍ يتعرَّض لمثل ذلك الحادث، فقال: «إن الحادث لا يشكل عائقاً أمام عملية السلام، أو إجهاضاً لمساعيها, والمؤسسة العسكرية لا زالت عند موقفها، من أن الحرب ليست هي الوسيلة التي تحقق السلام, بل إن الحل السلمي ما زال خيار المؤسسة العسكرية لحل مشكلة الحرب في الجنوب».

    بعد سنواتٍ من الحدث، أضفى صحفي أبعاداً شخصية عليه، باعتبار مواقف الفريق عبدالماجد الاعتراضية على منحة التفرغ التي طلبها د. جون قرنق، لتحضير درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية, عندما كان الأول نائباً لرئيس هيئة الأركان للعمليات, والثاني ضابطاً في القوَّات المسلحة، إثر انضمامه لها بعد اتفاقية أديس أبابا, وهو افتراضٌ يصعب التحقق منه, مثلما يصعُب التحقق من آخر ناقضه في الرؤية.. «كان من بين هؤلاء الدكتور جون قرنق، الذي أثنى على اختيار عبدالماجد، ليس فقط وفاءً لضابطٍ كبير، تولاه بالرعاية عندما عمل تحت إمرته, وإنما تقديراً لقدراته المهنية، وحسه السليم في تقدير المواقف».

    أياً كان التأويل، سلباً أم إيجاباً, فالحركة الشعبية نفت وقتها تورُّطها في الحادث, لكن قرائن الأحوال تؤكد بأنها الجهة التي أطلقت الصاروخ.. لربما أن الذي صوَّبه لم تصله أنباء التوقيع على الاتفاقية.. أو لربما أن بنود الاتفاق ما زالت حبراً على ورق، ولم تدخل حيِّز التنفيذ بعد, والمتصارعون يخوضون حرباً - شأنها شأن كل الحروب- لا أخلاق فيها.. غير أن المهم أن وزير الدفاع، بردِّه المذكور، حاول أن يمنحها تلك الصفة المستحيلة.

    استناداً على كل هذه الوقائع، لم يكن من اللائق سياسياً، أو أخلاقياً، أن يمر رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع مرور الكرام, ناهيك عن أنه ليس وحده الذي استشعر التوجهات الخطيرة للجبهة الإسلامية, سيَّما وأن العمل الجاد في اتجاه معالجة أسبابها، كان كفيلاً بتغيير المسار السياسي للقطر كله.

    ليس هذا فحسب, ففي إطار رصدنا لتداعيات الأحداث, ثمة اجتماعان هامان كان رئيس الوزراء قاسمهما المشترك, وهما بالضرورة يجسِّدان الكيفية التي تعامل بها إزاء الأوضاع، على الصعيد العسكري, وهما بالضرورة أيضاً كانا نتاج استقالة وزير الدفاع، ومن بعده مذكرة هيئة القيادة.

    كان الأول بعد سقوط عدة حاميات في الجنوب, آخرها ”ليريا“ في يناير/كانون الثاني 1989, حيث اجتمع السيد الصادق المهدي بهيئة القيادة, ممثلة في وزير الدفاع والقائد العام، ورئيس هيئة الأركان، ومدير العمليات، ومدير الاستخبارات، ونواب هيئة الأركان, وذلك لأن «تقريرها الذي رفعته له اعتبره سطحياً».. ولأن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم.. انتقدهم رئيس الوزراء انتقاداً شديداً, وألحق نقده بنصائح عسكرية, سلسلها بطريقته المعهودة, غير عابئ بالأوسمة والنياشين التي رصَّعت صدورهم، وقال لهم:
    - هناك انهيارٌ في المستوى القيادي الميداني، في كثير من المواقع, والدليل على ذلك ما حدث في كبويتا، وليريا، ولواء الردع، والكتيبة 118, هذا الانهيار جعل المعدات الموجودة لا تستعمل بكفاءة, بل جعلها مصدراً لتسليح العدو.
    - هناك هبوط مريع في الروح المعنوية, فبعد أن كان مجرَّد ظهور قواتنا يُرعِب العدو, انعكست الآية، وصار ظهور العدو يرعبها.
    - إن خطتنا القتالية قائمة على الدفاع وحده, فالعدو هو الذي يختار متى وكيف وأين يهاجم، ونحن لا نهاجم معسكراته, ولا خطوط إمداداته، ولا نهاجمه من خلفه, ولا نبادر بشيء، بل نترك زمام المبادرة له، وهذا يُلحِق بنا الهزائم.
    - إن طبيعة القتال الذي نواجهه تقتضي تجنيد عناصر فدائية، تدعم القوات المسلحة.
    - إن نظام مايو استغلَّ القوَّات المسلحة، واستخدمها لأغراضه السياسية، مستبيحاً كل قدراتها.

    ثم تحدَّث عن تدني الأداء العسكري الذي سمح ”للعدو“ بإيقاف العمل في قناة جونقلي، وفى استخراج البترول، ووقف الملاحة بين الشمال والجنوب.. وكذلك تحدَّث عن التسليح شرقاً وغرباً، والعلاقة مع المعسكرين، والدعم والمساعدات, وخلص إلى أنه: «في هذا المناخ، توالت أنباء التردي العسكري في شرق الاستوائية, وأخيراً حامية ليريا، ذات الموقع الحصين والمحاط بالجبال.. إن المسألة لم تعد مسألة معدات، بل مسألة انهيار في القيادة الميدانية وفي الروح المعنوية».

    ما أسهل الحديث عن الحرب من على الكراسي الوثيرة.. وما أصعبُ الحديث عن السلام من قلب ساحات المعارك.. خطبة عصماء كان يمكن أن تجد طريقها إلى أكبر الأكاديميات العسكرية, ولهذا صمت حيالها العسكريون المُحترفون، بعد أن ألقى بهم رئيس الوزراء مكتوفي الأيدي في اليم, وقال لهم إيَّاكم أن تبتلوا بالماء.. والأدهى أنهم يعلمون أن واقع الحرب، الذي أشبعه رئيس الوزراء تنظيراً، عَجِزَت في مثل ساحاته دولٌ تملك ما هو أكثر من العدة والعتاد.. ويعلمون أيضاً أن تقريرهم ”السطحي“ الذي رفعوه له, لا يحتاج لكل ذلك العناء، لأنه ببساطة تلخَّص في موبقاتٍ ثلاث: «تفرُّق الجبهة الداخلية, الإعلام السلبي, وضعف الإمكانات العسكرية».

    لكن، وللتوثيق، ما الذي حدث يومذاك في ”ليريا“، التي خصَّها رئيس الوزراء بالاسم، والوصف الإستراتيجي؟!

    حاولت هيئة القيادة بخطة عجولة استعادة مدينة توريت، بعد سقوطها في يد الحركة الشعبية, فأعدَّت لواء كاملاً، سُمِّي بـ”قوات الردع“ تسَّلم قيادته اللواء حسن محمد حسن علاَّم من مقر القيادة بمدينة جوبا: «فدفع بثلاث كتائب، كل منها في اتجاه، نحو المدينة المحاصرة، لتلتقي في حامية ”ليريا“. وفي منتصف المسافة بين القيادة والمدينة, تعثرت إحدى هذه الكتائب، نتيجة مكمنٍ أعدَّته قوات الحركة الشعبية, فتعثرت القوة بأكملها، وتبعثرت, وأراد بعضها العودة إلى جوبا, الأمر الذي لم يرُق لهيئة القيادة في الخرطوم, فأبرقت رئاستها في جوبا بعدم السماح لأيٍ من أفراد القوة المسحوبة بدخول المدينة, لحين وصول الفريق عبدالرحمن سعيد، نائب رئيس هيئة الأركان, لمعاينة الموقف ميدانياً، واتخاذ قرار الخطوة التالية, والذي كان قراره حينها التأكيد على عدم الدخول، لأسباب معنوية.. ثم عقد مبعوث هيئة القيادة لقاءً مفتوحاً مع ضباط وجنود كتيبة الردع، قال لهم فيه: إن مثل هذا التصرف يمثل هروباً من الميدان، لا يجوز وشرف الجندية, وكل ما جُبلت عليه القوات المسلحة من استبسالٍ وإقدام أمام العدو.. لقد كان حديث نائب رئيس هيئة الأركان لجنوده صارماً وعنيفاً, وكانت المفاجأة عندما أورد كلمة ”خوف“ في خطبته، متهماً رجاله بهذه الصفة المنغِصة، والتي تكتسب لدى الجندي ذات الدرجة في التشكيك في فحولة الرجل عند المدنيين.. انبرى له جنديٌ من آخر الصفوف، متقدماً بسلاحه إلى أن بلغه.. وحينما وقف في مواجهة الصفوف، حيَّا الجندي قائده, ثم أبدى اعتراضه على رميه بتلك الصفة الذميمة, وطفق يحكي: يا سعادتك، أنحنا رجال، وما فينا واحد بخاف الموت, ولو كنا بنخاف الموت، ما كنا من الأول دخلنا الجيش، وشِلنا السلاح.. إحنا يا سعادتك ما ناقصانا الرجالة, لكن ناقصنا كل شيء ثاني! ناقصانا التعيينات (الغذاء) وناقصنا اللبس وناقصنا السلاح.. وقد صَدَقَ الرجل الذي كان حافي القدمين، وعليه ”خرق“ عسكرية بالية, وهو في مقصده البسيط، كان يلومُ الدولة، في عجزها عن توفير الأساسيات لمن تناط بهم مهمة حماية ترابها، والموتُ بالوكالة عن الآخرين.. وبدون تردُّد أو مقدمات، أشهد الجندي الجمع الماثل إن شجاعة اتخاذ قرار الموت, حتى لو كان في حماقة تنفيذ الإعدام على النفس، لا يهابه رجال تلك الكتيبة.. أفرغ الجندي المجهول خزينة سلاحه على رأسه عياناً أمام قائده، وعلى مرأى من زملائه، وسقط ميتاً».

    عاد الفريق عبدالرحمن سعيد أدراجه إلى مقر هيئة القيادة في الخرطوم, وأبلغها بمذكرة تحوي مُجمل الأوضاع، بما في ذلك تفاصيل ميلودراما الجندي المجهول, الذي وُورِيَ الثرى في ذات الموقع الذي شهد ملحمته الشخصية, ووُرِيَت معه قصَّته بكل أبعادها، الإنسانية والمأساوية.. قصة لو حدثت في قطر يحترم ساسته إرادة أبنائه, لاستوجبت في حدِّها الأدنى استقالة عامودية، تبدأ من رأس الهرم في السلطة, مروراً بالجهاز التنفيذي, وانتهاءً بهيئة القيادة العسكرية.. وأما في حدها الأعلى، فذلك ما لا يخضع لاجتهادات بحسب المُثل والأخلاقيات في العمل العام.. لكن المُفارقة، أن شاهد المأساة, وقارئيها في التقارير, وسامعيها من على البعد, طَفِقوا جميعاً يبحثون عن دور جديد في سلطة قادمة.

    كانت رواية الجندي قد تعدَّت أروقة هيئة القيادة, واستقرت في أجهزة الدولة العليا.. ولم يكن رئيس الوزراء استثناء.. ذلك هو ما حدا بهيئة القيادة طلب اجتماع مع مجلس الدفاع الوطني, للتفاكر فيما آل إليه الوضع من بؤس وتردٍ, وقد سبق لها -أي هيئة القيادة- طَرق أبواب السلطة التنفيذية، بمذكرات متتالية، حتى كلَّ متنها.

    الاجتماع المذكور تمَّ في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 1989, وحضره من مجلس الدفاع الوطني رئيس الوزراء الصادق المهدي, د. حسن الترابي وزير الخارجية, إلى جانب وزراء المالية والداخلية والأمن الوطني.. ومن جانب هيئة القيادة، الفريق عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع, الفريق فتحي أحمد علي القائد العام, الفريق مهدي بابو نِمِر رئيس هيئة الأركان, ونوَّابه: الفريق عبدالرحمن سعيد ”عمليات“, الفريق تاور السنوسي ”إمداد“، والفريق محمد زين العابدين ”إدارة“.

    في بداية الاجتماع، قرأ الفريق فتحي أحمد علي بعض نصوص المذكرات التي سبق وأن أرسلتها هيئة القيادة, وتحدَّث الفريق عبدالماجد خليل مُستعرضاً الأوضاع التي وصلت إليها المُؤسسة العسكرية, مُؤكداً في ختامها على تعامل السلطة التنفيذية السلبي مع تلك المذكرات. إلاَّ أن رئيس الوزراء، غضَّ الطرف في تعقيبه عن تلك الملاحظات، وحوَّل حديثه إلى تقصير القوات المُسلحة في القيام بواجبها، بنفس التسلسل سابق الذكر.. أما د. الترابي، فقد التقط القفاز ليصُب اللوم أيضاً على هيئة القيادة، في تقصيرها بعدم متابعة تلك المُذكرات، لأن: «مصيرها دائما ما يكون في الأدراج». فأصبح الحديث بينه ووزير الدفاع سجالاً, لاسيَّما أنه سبق أن أنحى عليه باللائمة، في تكراره الكلام عن السلام وهو وزير دفاع, وفق ما ذكرنا آنفاً. وقبل أن ينفض الاجتماع، طلب الفريق زين العابدين السماح له بدقائق معدودات, فتحدَّث في نقاط ثلاث, مؤكداً على أن المعنويات العالية للقوَّات المسلحة تعتمد على تماسك الجبهة الداخلية, وطالب بجهود دبلوماسية لقطع الإمدادات عن الحركة الشعبية، والتي تتلقاها من دول الجوار, وختم بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها البلاد.

    لأن ما قيل في الاجتماع تبخَّر في الهواء, وما كتب في المُذكرات كان مصيره الأدراج, خرجت هيئة القيادة بقناعة مفادها أن السُلطة التنفيذية عاجزة تماماً عن تلبية متطلبات المؤسسة العسكرية.. أما على الصعيد السياسي، المرتبط بتماسك الجبهة الداخلية, فقد تفرَّقت أحزابه أيدي سبأ.. بين راغب، ومتمنِّع، ومعارض لاتفاقية السلام.. والمدهش أن رئيس الوزراء كان قاسماً مشتركاً أعظم في هذا الثالوث المتناقض.

    بعد ذلك الاجتماع بأيامٍ قلائل، رأى وزير الدفاع أن استقالته أمرٌ لا مناص منه.. وبعدها بثلاثة أيام، دعا القائد العام كل قيادات القوَّات المسلحة من كافة الوحدات للتشاور, وذلك ما أسفرت عنه المذكرة الشهيرة. ورغم أن الزيارات الليلية تفزعُ السياسيين, خاصة في السودان، الذي كثرت فيه الانقلابات العسكرية, لم ينتظر القائد العام صباح اليوم التالي, فحمل المذكِّرة، وبصُحبته رئيس هيئة الأركان للعمليات الفريق مهدي بابو نِمِر، وأحد نوابه, وسلموها لرئيس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني, ومن ثمَّ إلى السيد الصادق المهدي في الثانية عشرة منتصف الليل.

    بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».

    بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد.

    أجهضت هيئة القيادة توقعاته في اليوم التالي مُباشرة، وأعلنت في بيان لها أنها: «لا تفوِّض مطلقاً صلاحياتها ومسؤولياتها المنصوص عليها في المادة [15] من دستور السودان الانتقالي».. وعلى حذوها سارت القطاعات المهنية الأخرى, فوضعوا رئيس الوزراء في محك صعب, تحَلحَلَ منه بالرواية التي ذكرنا, والتي لم تخطر على بال بشر!!

    واقع الأمر، أن هيئة القيادة نفسها تراخَت في فترة الأسبوع الذي حدَّدته كإنذار, بدليل مُضي أكثر من شهر حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 26/3/1989.. والواقع أن التراخي انعكس على رئيس الوزراء برداً وسلاماً, ولربما تواترت إليه أنباء ”القسم الغموص“، فزادت من اطمئنانه, ولم ينس أن يُسمِّي كل ذلك ”تمريناً ديمقراطياً“.. مثلما أبدى قياديٌ آخر ارتياحه بالتقليل من شأن الإنذار, إذ نفى السيد مُبارَك الفاضل وزير الداخلية: «أن يكون لإنذار الجيش أي مدلولات، سوى الحصول على رد, بدليل أن الإنذار انتهى ولم يحدث شيء».

    ذلك ما كان من أمر القوَّات المُسلحة عشية دخول البلاد في متاهتها الكبرى.. وتلك بعض ردود فعل رئيس الوزراء إزاء التطورات التي كانت تمورُ بداخلها.. ومن المُفارقات، أنه بعد أن غادر كرسي السلطة، وركن إلى حالات التأمل التي يهواها، أصرَّ في تقييمه لتلك الأوضاع على ما لا رأته عين, أو سمعت به أذن, أو حسَّه مواطنٌ في بلد الثلاثين مليون نسمة: «حققتُ للبلاد أنا وزملائي تمويلاً تنموياً في حدود [3] مليارات من الدولارات, ولسد العجز السنوي والمعدات العسكرية تمويلاً بلغ في السنوات الثلاث [4] مليارات من الدولارات, أنا لستُ فخوراً بالحصول على هذه المليارات السبعة, وما مولتُ من تنمية وبترول وسلع تموينيه، واستهلاكية، ومعدات, وكنتُ أعتبرها مرحلة تنتهي بقيام الانتخابات العامة المتوقعة في أبريل 1990، ليواجه أهل السودان قَدرهم، وكان برنامجنا للانتخابات سيكون في هذا الاتجاه». وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فمن المؤكد أن رئيس الوزراء قد خلط بين التمنيات والواقع, الذي لم يشهد ولو قدراً ضئيلاً من تلك الإنجازات.. فعلاَّّم الانقلاب إن كان ذلك حقيقة؟! ولماذا يقف مواطن أترفته هذه الإنجازات موقفاً محايداً من الانقلاب بعد حدوثه؟!

    من جهة ثانية، يبقى اعتراف رئيس الوزراء بتأزيم فترة حكمه أمراً عصياً، رغم تمدد السنين، وتداخل الأحداث.. كذلك يصعب الطلب منه توجيه ذات النقد لنفسه، مثلما وجَّهه لهيئة قيادة القوَّات المسلحة, خاصة أنه تقلَّد، إلى جانب رئاسة الوزارة, منصب وزير الدفاع لعامين من أصل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر, هي فترة حكمه في الفترة الديمقراطية الثالثة, والتي شكَّل فيها خَمس حكومات، رأسها جميعها دون كللٍ أو ملل, وبهمَّة مَن ترجَّحت إنجازاته على إخفاقاته.

    غير أن المُتابع لمسيرة المؤسَّسة العسكرية نفسها، منذ سيل المذكرة الذي جرى من عَلٍ, لا يستطيع أن يتغافل عن مسئوليتها فيما حدث بعدئذٍ.. فهيئة القيادة رمت بتهديدٍ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فتقاصر فعلها عن قولها.. ومذكرتها، حتى لو حَسُنَت النوايا حولها كآلية ضغط، إلا أنها تحوَّلت إلى خطأ قاتل، تَجرَّعته قبل الآخرين.. فهي، وفق تقدير أحد منسوبيها: «هيئة القيادة جهَّزت المسرح تماماً لقيام حركة انقلابية بأي مجموعة منظَّمة, إن لم يكن باسم القائد العام كما حدث فعلاً, فقد خلقت لهم المبرِّرات والأسانيد التي جاءت في المذكرة». وكان لافتاً في أكثر من فقرة، تأكيد الدور المُناط بالقوات المسلحة، بما في ذلك حماية النظام الديمقراطي, لكنها في واقع الأمر: «وضعت الجمرة على أنف النظام الديمقراطي, ولم تفعل سوى تجهيز المسرح لانقلابٍ عسكري, قام بتسديد أولى لطماته إلى كل من ساهم، أو كتب، أو شاركَ في إعداد المذكرة». والحقيقة ليسوا كلهم, فبعضُ الذين تآمروا على النظام الديمقراطي، كانوا حضوراً, وآخرون مِمَّن غيَّروا ولاءاتهم، وانغمسوا في سلطة الإنقاذ، كانوا حضوراً أيضاً. لم يكن كل الذين شاركوا في عزف ذلك اللحن الجنائزي للنظام الديمقراطي، من المؤمنين قولاً وفعلاً بمنطوق المادة [15] من الدستور الانتقالي لعام 1985, والتي تمَّ الاستشهاد بها في صدر المذكرة.

    القائد العام، الفريق أول فتحي أحمد علي -رحمه الله- حتى بعد أن استنسرت بأرضه البغاث, عزَّ عليه الاعتراف بحُدود مسئوليته.. فردَّاً على سؤالٍ إن كان يشعر بالتقصير، أو المسؤولية، لأنه لم يكتشف تحرُّكات الانقلابيين، وهم ضباط تحت إمرته، قال: «أنا لا أشعر بالتقصير إطلاقاً»!! رغماً عن أنه من المعروف، لدى القاصي والداني، أن الاختراق الحقيقي للقوَّات المُسلحة من قِبَلِ الجبهة الإسلامية، انطلق من حصنه الأمين, بعد أن جنَّدت مُدير مكتبه، ”العقيد بحري سيِّد الحُسيني عبدالكريم“ لصالحها, فأمدَّها بكل حركات وسكنات المؤسَّسة العسكريَّة، التي كانت تصبُّ في مكتب القائد العام.. وقد ركن الفريق فتحي، بعد وقوع الكارثة، إلى تفسير ذلك بمثالية -عُرِفَت عنه- وكانت أقرب إلى ”ندم الكسعي“, وإن صَعُبَ عليه الإفصاح عنه, فكتب يقول عن مدير مكتبه: «مَثلٌ للخيانة والغدر بشرف المهنة، وقسم الولاء للوطن، ولقائده.. لقد باع الاثنين بعد مذكرة القوات المسلحة بمبلغ [3] ملايين جنيه.. لقد نسَّق مع المتآمرين، وأفشى أسرار القيادة، وتحركاتها، وساعد في خطة الخداع على باقي القيادات.. رجلٌ ضرب أمته، وخان أمانتها، وأذلها ببيع ضميره وشرفه وقسمه العسكري.. فهل يُرجى منه أي خير لوطنه وشعبه وجيشه؟! إن الخيانة قديمة قِدَم التاريخ، وبراعة الماكرين والمتآمرين تفوت ولو إلى حين, على الأذكياء».

    لأن التاريخ تسلسلٌ لا فجوات فيه, تلاحقت لعنة المذكرة - كما سنبيِّن لاحقاً- على القائد العام، وهو يخوض غمار العمل المُعارض، في تجربة القيادة الشرعية, فلدغ من ذات الجحر للمرة الثانية!! وإن كانت المسؤولية التاريخية قد أناخت بكلكلها يومذاك على القائد العام, إلا أنها شملت كل أعضاء هيئة القيادة تالياً, الذين ازدردوا كلمات المذكرة حرفاً حرفا, وناموا ملء جفونهم عن شواردها، حتى لحظة إنفاذ الانقلاب.. ويضاعفُ من حجم مسؤولياتهم، أن بعضهم كان بمقدوره أن يفعل شيئاً مضاداً يُربِكُ به - على الأقل- خطة الانقلابيين, مثل رئيس هيئة الأركان مهدي بابو نِمِر، الذي عيَّنته الإنقاذ وزيراً للصحة لبعض الوقت, وكان قد أُعتقل من منزله في وقت متأخر من صبيحة يوم الجمعة, بعد أن ذاعَ خبر الانقلاب، وعمَّ العاصمة والقرى، والعالم الخارجي.. فقد ثبت أنه كان بمقدوره -في إطار خطط الإرباك- تحريك بعض الوحدات العسكرية, خاصة تلك التي تقع في منطقة أمدرمان، مقر سكنه, والتي لم تكن ضمن خطة الانقلابيين بالكامل!! ولا يدري المرء إن كان قد استذكر ساعة اعتقاله قولاً مأثوراً، نطق به قبل أقل من أسبوع من الانقلاب, وذلك حينما انفعل في لقاءٍ تنويري بمنطقة الخرطوم بحري العسكرية، وهو يشرح ملابسات الانقلاب ”المايوي“، فقال: «مافي واحد يقدر يعمل انقلاب ونِحنا -أي هيئة القيادة- موجودين». ثم مدير الاستخبارات العسكرية، اللواء صلاح مصطفى, والذي برع قبل أسبوع أيضاً في متابعة سيناريو ذلك الانقلاب الوهمي, وعجز جهازه عن توفير دليل يعتقل بموجبه أصحاب الانقلاب الحقيقي!! أما بقية العِقد النضيد، من أعضاء هيئة القيادة، فلم يكونوا بأحسن حالاً, ”فقد وافق شنٌّ طبقه“.

    عوداً على بدءٍ, كانت تلك وقفات في المسارين، أوردناها كأمثلة لنوضِّح من خلالها -دون تعسف أو أحكام مسبَّقة- مسئولية رئيس الوزراء, وكذا الآخرين في ما حدث من تطورات سياسية وعسكرية، أجهضت النظام الديمقراطي، وغيَّرت مسيرة البلاد السياسية, بتأكيد أن مسئوليته تجاوزت حدود العلم المسبق بالانقلاب, وساهمت في تأزيم المناخ السياسي، الذي هيأ الظروف لحدوث الانقلاب نفسه.. وعليه، فلا غرو أن وجد رئيس الوزراء ضالته فيما ردَّده البعض، من أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مبادرة السلام!! وهو التفسير الذي استخلص النتائج دون النظر للحيثيات, ولا ينفي منطلقات الجبهة الإسلامية في تنفيذ الانقلاب حيث إنها أيضاً كانت ضمن الزاعمين بنجاح جولة المفاوضات في 4/7/1989، وانعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989.. غير أن انحياز رئيس الوزراء لهذا المذهب التفسيري، يجيء من منطلق عقدة ذنب سياسية اقترفها يومذاك، ولا يود الإفصاح عنها كحقيقة, أو الاعتراف بها كنقد ذاتي.. فكلاهما ليس لهما متسع في قاموسه.

    الهوامش:
                  

العنوان الكاتب Date
س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول بكرى ابوبكر08-04-06, 00:09 AM
  ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:17 AM
    Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:25 AM
      Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:27 AM
        Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:29 AM
          Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:31 AM
            Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:34 AM
              Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:36 AM
                Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:37 AM
                  Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:38 AM
                    المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة بكرى ابوبكر08-04-06, 00:40 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                        Re: المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد عاصم الطيب قرشى08-04-06, 01:33 AM
                      Re: المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة adil amin08-10-06, 02:22 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmuez08-04-06, 02:34 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عصام أحمد08-04-06, 03:32 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال تولوس08-04-06, 06:16 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال القلب النابض08-04-06, 06:51 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmosley08-04-06, 08:45 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عويس08-04-06, 09:27 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 01:28 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 02:02 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 01:46 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عبد الله محمود08-04-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 03:07 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abureesh08-04-06, 03:09 PM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-04-06, 03:26 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 04:25 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:04 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 07:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال غادة عبدالعزيز خالد08-05-06, 01:04 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال على محمد على بشير08-05-06, 10:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد اللطيف عبد الحفيظ حمد08-05-06, 10:58 AM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-05-06, 11:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:17 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:43 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:33 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:38 PM
  مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 04:08 AM
    Re: مذبحة الديموقراطية عبدالرحمن عثمان08-06-06, 06:15 AM
      Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 06:45 AM
        Re: مذبحة الديموقراطية Adil Isaac08-06-06, 10:34 AM
          Re: مذبحة الديموقراطية رأفت ميلاد 08-06-06, 02:38 PM
            Re: مذبحة الديموقراطية سعدية عبد الرحيم الخليفة08-07-06, 01:28 AM
              Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 04:13 AM
                Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-07-06, 04:38 AM
                  Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 10:13 AM
                    Re: مذبحة الديموقراطية saif khalil08-08-06, 06:28 AM
                      Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-09-06, 11:55 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال saadeldin abdelrahman08-08-06, 10:10 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عزالدين محمد عثمان08-08-06, 07:28 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-09-06, 08:38 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال اندرو كوات08-09-06, 12:54 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Muna Khugali08-09-06, 10:57 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-10-06, 00:22 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-10-06, 08:34 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 10:56 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kabar08-10-06, 01:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-13-06, 11:28 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 01:20 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد الخالق عابد08-14-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Bakry Eljack08-15-06, 03:37 AM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 07:06 AM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 09:20 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-16-06, 12:24 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-16-06, 12:59 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de