|
|
 بعض من تيه الروح شىء من ارتجاج الجسد ... (Re: احمد ضحية)
|
نرميه فى البحر
انكسر الصمت
سقط حجر فى عمق تفكيرهم الراكد المتبلد. تدورة موجة؛ سرعان ما لاحقتها إخواتها. هدأت نفوسهم التى انجرحت.تشبثت بالفكرة . أصبح بالإمكان مناقشة الاقتراح المهين ؛ مع أنه ، وفي زوايا أخرى من نفوسهم ، كان يتبلور سؤال ملح عن معنى الرحلة العبثية . حملته مآقيهم المحروقة واتجهت مباشرة إلى الجسد المسجى.
__ لا..لا ….
__ لكنه سيتعفن
__ يمكن أن يصمد يوما آخر حتى ..
__ أبو دقن ماذا ترى , أفتي ؟ إكرام الميت دفنه .
ثم غمغم .. تلى ذلك صمت خلوى على المركب المتجه صوب الساحل الشرقى ، وعلى متنه بضع وعشرون رجلا وجثة لم تبرد بعد .
نظر الربان المدبوغ الوجه إلى رفيقه بعينيه الحادتين فأحس الجميع بالمكر , بادر أصغرهم سنا وبحدة لم تتوافق مع مرحه المعتاد:
__ سيمنع هذا الأجاج تعفن الجثة حتى جزيرة ,, ميدى .
ضبط محمود بصره وهو يحوم حول الجثة المسجاة فى زاوية المركب . أشاح بعيدا فى اللازورد المتلاطم . صفعه الأفق العاري ، صعدت أحشاؤه إلى حلقه ، أفرغ معدته . عيون مطفأ تحدق بتحجر في فراغ المركب تتأمل فراغها الداخلى . أغمض عينيه. ضغطهما داخل محجريهما بغية إفراغ المشهد .
,, يارب الفرج .. يارب ،،.
احتوته السماء السماء الصافية ؛ فاض برجاء لاحدود له.
كأنه أودعنا أسرار عمره ورحل. من يعيل؟ … هل … و … ارتدت إليه إجابات غامضة من العباب الذى يمخره المركب .
أربعة أشهر ماذا لو…. .
مصوع* تذهب بعيدا باتجاه المغيب … البحر أنشوطة تضيق كلما اتسعت بصيرته . وامتدت الرحلة . خوف يتسرب من مكمن خفي ؛ يتغلغل فى الأطراف . ينحشر بين اللثة والأسنان . جزيرة ميدى* أمنية تتوقف عليها الحياة.
لهدأت الليل البحري رائحة غامضة اختزنتها ذاكرته … رائحة هي مزيج من هواء البحر، والأسماك . ورائحة الموت والصخور التي كلما اصطدمت بها الأمواج شهقت .
رائحة خيش مبلل بالرطوبة والدماء … رائحة مدينة رحل عنها أصحابها … رائحة الليل البحري رغم التباسها لا تثير الفزع ، ولا تطمئن من روع.
أي متعة تلك التي كانت تتمد فيه وهو يقرأ أو يؤازر الطروسي . أو ذلك الشيخ الهمنغواي العنيد . بهجة تلك الرائحة التى كانت تنفذ من زوربا فى مجادلاته الليلية . أطلق عينيه في غياهب الظلمة الكثيفة . هرش مقدمة شعره يبحث عن مكان يلتجىء إليه . ذاكرته يتوغل فيها الليل ، يلامس لحمها الطري يعبث بسنواتها ، يرج بحيرتها الراكدة تتطاير كالقطن المندوف ، تحلق بعيدا تتجمع كأطراف طيور خريفية .
طط طاططط طا طط طا ططط طا …… .
الجمل المعافى يدور ببطء حول المحور الضخم للمعصرة.. وبرغاء كظيم يستجيب لأنين الأخشاب طراخ … خ خ خ..ا خ …..
التجاني بكرشه المندلقة ،و صدره العاري يفرقع سوطه في الهواء ، يهرب وسط أترابه وهم يتصايحون.. جلبتهم توقظ (( عم سعيد الجبلى))2 من غفوته الضحوية… فى كرسيه الخشبي الكبير يشيعهم بعينين منتفختين ويعود إلى إغفاءته مغمغما..
طط..ط..ط..
المركب يبحر باتجاه الشرق في غفلة من العالم ، جبال تتشكل ، تسير قليلا ، وتصبح سرابا كانهمار .الآمال جبال زبد الرائحة تتكثف أكثر…
البحر الاحمر بدا أبيض ثم تدرج… أصبح كحليا داكنا ليصبح أسود… الرائحة تزداد كثافة((أية رائحة تلك؟؟))
قفزت إلى ذهنه مرة أخرى رائحة الخيش المشبع برائحة السمك..والطحالب والأشنيات، الرطوبة المتصاعدة والحشائش الصغيرة فى البنايات المهجورة… رائحة الكاكي بعد المطر حول دفاعات المقاتلين تفتح الحياة استمرارها.
النهار ليس بطيئا لكن الليل ليس طويلا… وفي الليل معارك أخرى…
(( المنطقة تشهد نهوضا ثوريا…الشعوب أدركت معركتها الحقيقية،ومواجهة بحرب شرسة من قبل الدوائر الرأسماليةوربيباتها فيالمنطقة…))
(( حق تقرير المصير ليس مفهوما مطلقا وحوار روزا لكسمبورج مع…))
((أمن البحر الاحمر مرتبط بأمن الثورة فى المنطقة…))
(( حزبان ماركسيان في مكان واحد وبآن معا يعتبر أحداهما انتهازى" ..و..))
(( لمصلحة الثورتين وتطورهما…))
(( الرفيق (( منقى))3 فى خطابة الأخير أمام المركزية.. دولةالعمال والفلاحين…)) توقف لهاث الرجل واستقر شنبه الكث فوق شفتيه . مسح رغوة البيرة . مد أنامله لعلبة (( المارلبورو)) وأزاحها جانبا… استوقفته أنثوية أنامله وهي ترتجف برقة أثناء اشعال اللفافة كان يستخدم عينيه بطريقة فذة ومثيرة للاستفزاز..
كلماته تخرج من بين شفتيه وأسنانه لزجة.. وباردة….
(( لكم تتحمل هذه المقاعد كأنه يسمع أنين الطاولات.. وتحت وطاة الأذرع القوية وحياكة المؤامرات الصغيرة..
والمفردات ا لملتهبة…))
- أبو جورج :((…))
أبو جورج يتحرك بخفة لا تناسب ما ينوء به كاهله من سنين.
مسح الموائد التى يحركها أبو جورج بفواتيره، وطلباته..الدخان يحوم على المكان تتقاطع الأيدى يتراشفون..أبو جورج دائما معهم كأنه يفك الاشتباكات الصغيرة.
هم دائما نفس الرواد… ففي مقهى (( أم نبيل البيروتي))
(( أنساك دا كلام))
أنساك يا سلام
(( أهو دا اللي مش ممكن أبدا..))
الأيدي تشتبك ..يتم الفك يتلاطم الدخان… أم كلثوم تبث أحزانها تفتت أكابدهم الوجه يزداد اصفرارا يتطاول…الأسنان تطل مدببة خضراء..تتطاول الأنياب.
أم كلثوم تصدح.. يتجاوبون باهات عاشورية …تصب الكؤوس تطفئ بعض أحزانهم(لابد لهذى الأمة أن تأخذ درسا في التخريب) تضج القاعة بالتصفيق..والشاعر الثمل يلتقط أنفاسه ويعبىء كأسا أخرى..
غليان الدم يزداد.. ويتدافع من بين فوديه الرجل، يزبد…تنمو قوة ((جهنمية))في ذراعه التي ظلت مستريحة فى الطاولة ترتفع قليلا… قليلا… صدره يضج تبتعد دقات قلبه يحس به عاريا إلا من القوة الخارقة التي تحرك ذراعه.
أبو جورج يهزه بعنف ، وهو يمسك بذراعه .انتبه إلى كفه المعلقة في الهواء وقد ماتت فيها القوة .
وصلنا… وهجم عليه احتضنه الفتى يقوة وهويجهش بنحيب حاد…
(( خطأ صغير يمكن أن يحطم حياته. ويسفح أمنياته على قارعة هذا الصحراء التي تبدو ساكنة )).
أصاخ السمع:
(( عواء الذئاب يعني أن بالقرب من المكان بشر)) الكثافة المصمتة تحيط بالمكان.. و بالرجال الذين ينزلون بحذر من المركب الراسي.. سار بضع خطوات والتفت ،التمعت عيناه في الفضة المتماوجة .
في هدأت الغسق الأول لامست قدماه البحر العاري سرت اللذة وئيدة وقاسية وزاخرة باليقين. يقين وجوده الآن .
صرخة مكتومة متوحشة متقطعة تشبه خوار بعير…
انتهره القبطان……
تجلت أمامه كل مباهج الحياة وفتنتها ..تدافعت الأمنيات تلوت وجرت كثعبان أمامه مخترقة الصمت الذي يرابط أمامه .
احتضنت كفه الثلاثينية المبنى كف الصبى الغض .
وفي الغبش المبدد والمتلاشي، دخلا جوف الصحراء المسيجة بالصمت تاركين خلفهاالليل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت اقدام البحر .
- هامش: أهو في حكم المتن فىمبنى قصة محمود (…)
إنه وفي الشهر السادس لرحيله صوب البحر،كانت صحيفة يومية تحمل فى إحدى صفحاتها المهملة العنوان الآتي:
إعلان محكمة:
محكمة( …) الشرعية
النمرة27 ق 1997م
إلى محمود….
لقد أصدرت هذه المحكمة حكمها الغيابي الآتي نصه فى مواجهتك لصالح المدعية(…) ولك الحق والمعارضة والاستئناف خلال خمسة عشر يوما من تاريخ نشر الإعلان.
الحكم:
حكمت غيابيا للمدعية( زهراء…)/ على/ المدعى عليه محمود…الغائب عن المجلس بتطليقها منه طلاقا بائنا للغيبة وخوف الفتنة مسندا لتاريخ 1997م/ وأمرتها بإحصاء العدة.
………
قاضي محكمة… الشرعية
دائرة شؤون الأسرة الأولى.
--------------------------------------------------------------------------------
1- ميدى: جزيرة صغيرة في البحر الأحمر تستخدم للتهريب.
2- الجبلي:اسم يطلق على اليمني في أرتريا.
3- منقى: اسم تصغير لمنقستو هايلى ماريام حاكم أثيوبيا السابق.
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
احمد ضحية
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست