|
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)
|
الوداع الغائب
مات (أبو الدفاع).. من يصدق؟! مع أن الموت هو الحقيقة اليقينية التي لا يرقى إليها شك, إلا أننا لا نكاد نصدق حينما تدركنا مصيبته.. فقد أودع الله فينا حب الحياة إلى الدرجة التي تجعل الموت حدثاً جديداً ومتجدداً, رغم تكراره الذي لا ينقطع.. وعلى الرغم من طول الزمن الذي امتد على الفراق بيني وبين (أبو الدفاع) إلا أن إحساسي بحياته وبوجوده معي, كان يلازمني, ولا يكاد يغيب.. أما الآن فإن الزمن بيني وبينه قد إنقطع.. فوا لهفي عليه.. وفي غمرة حزني, وجدتُني أردد بصوت مسموع مرثية صلاح أحمد إبراهيم لجزيف قرنق الذي قُتل فيك مشنوقاً يا كوبر... فالأسباب فيك متعددة، والنتيجة متماثلة، والموت واحد: فتى (الجور) سار إلى حتفه وفي شفتيه هتافُ النضالْ وعلى وجهه نبلُ أسلافه يموتون لكنْ بحُسّنِ الفِعال وفي كفّه مواثيقه لرفاقِ الشمال.. وسار كما النيلُ عند الوفاءِ.. كما سار للنيل (بحر الغزال) ومن خلفه سار عبد اللطيف, وعبد الفضيل ومبيور والقرشى: لجنة الاحتفال يقولون: شرّفت أهلاً, بقينا في انتظارك جو.. هلمَّ, ولكن لدينا سؤال: أهذا جزاؤك والغادر المرتشى يُعدُّ له الغار, غار التامَر, والإنخذال فلا لا.. ولا لا.. وهذا محال أجودّ لهم, والجحود لجو؟ قتلوك خسة ونذالة.. قال عمر, عندما جاءنا في ذلك اليوم الذي لم تخرج من بعده شمس: إنه مات بالملاريا.. تركوها تنهش في جسمه النحيل, حتى تمكنت منه.. وحينما غاب عن الوعي, تركوه في هذيان الحُمى, إلى أن لفظ أنفاسه ذات ليل بهيم.. فاسودت الدنيا من بعده.. هذا ما قاله جاويش سجان من قريتهم.. جاء بالجثة, واخبرهم بالعذاب الذي لاقاه في بركة الماء الآسن, وجيوش البعوض التي كانت تنهش جسده العاري.. تجمع الأهالي ومعهم عيسى ومحمود وأخذوا الجثمان إلى قريته الصغيرة المنسية في النيل الأبيض, ليدفنوه هناك.. وبقيَ عمر لإنجاز بعض الأمور.. إيه يا صديق عمري!! كيف أقول عنك وأتحدث؟! ماتت الكلمة التي كنت تظن أنني أحد فحولها.. من أين لي, وقد ماتت هي الأخرى في خِدرها قبل أن تستبين, ولكن الذين غيبوك, سينزلهم المولى من صياصيهم, ويأخذهم إلى حيث لا شفيع ولا نصير.. صرنا لا نملك إلا مثل هذا الكلام العاجز.. فهل هناك مأساة أبلغ من ما نقول؟!! قفز إلى الذاكرة المأمور, ومجموعة بعوضه, والحفرة الضخمة التي حفرناها ذات أيام نحسات من عمري.. ملأناها ماءً من النيل الأزرق, حملاً على الأكتاف, مع العرق النازل هتوناً من الأجساد المنهكة.. إنها الحفرة التي أضحت بعد ذلك بركة لتوالد البعوض.. ومستودعاً للتعذيب.. ما جال بخاطري يوماً, أن أقف عليها, سبباً في إصابة رفيق شبابي ورجولتي بالملاريا التي أودت بحياته!! من القسوة الشاقة على النفس, أن تعرف يوماً, أنك أُستخدمت لتكون دون قصد منك, سبباً في موت عزيز لديك, بعملك في تجهيز أداة التعذيب والموت, ولو كنت فيه مقهوراً!! مصيبتي أن إحساسي بفقد صديقي قد تعاظم واستفحل من تأنيب الضمير.. ماذا سيحدث لو كنتُ رجلاً, وقاومتُ جبروت المأمور, وفقدتُ حياتي في سبيل ذلك.. لعلني وقتئذٍ, نلتُ نعتاً رفيعاً بالشهادة.. أو على الأقل ما ساهمتُ في قتله.. لم يتغير المأمور وزمرته.. فقد مات فيهم الضمير.. أخذوا صديقي كما أخذوا غيره من الذين وقفتُ على حتفهم, إلى تلك البركة الآسنة, حفاة عراة, إلا ما يستر العورة.. أدخلوهم فيها حتى منتصف القامة, وتبقى الجزء الأعلى منهم عارياً, لجيوش البعوض, تنهشهم بإبرها الحِداد, عند مغيب الشمس.. تلسع الأجساد العارية المهدودة, في كل بقعة فيها, دون أن يملك أحد قدرة على طردها, أو حك جلده.. فلسعات السياط الهاوية, أشد قسوة وألماً.. وبعد أيام قلائل ينهار الجسد ويتساقط, مرتعشاً من الملاريا.. فيتحول العذاب إلى نوع جديد.. تتولى أمره حُمى تأبى ان تبيت إلا في الحشايا.. وعندها, يقف المأمور الهمام منتشياً بفرجته, ولا يسمح وهو في غمرة سعادته, إلا بأمكانات طبيب كوبر المحدودة, بل المعدومة في احايين كثيرة.. لم يقله لي أحد, ولكني رأيتُ بأم عيني كيف يموت الرجال.. أكاد أرى جبروت المأمور, وهو يأمر (أبو الدفاع) وحده, ليدخل تلك البركة الآسنة, فتفترسه جيوش البعوض.. لعل صديقي فقد صبره ذات يوم, كما كان حال الفتى مساعد, حين قذفه بإبن الزانية!! إتخيل استئساده على هؤلاء العُزلَّ, مع كرشه الذي يسبقه اهتزازاً ورقصاً معربداً.. في ذلك اليوم غابت شمس الخرطوم, وجثمت فوقها ثلوج, لا عهد لنا بها!! وبكت سماؤها حين قُبض عليه في ذلك الاجتماع الأخير, قبل التمَّكن من الاختفاء, هو وزملاؤه.. ليت البشر يعاملون بنبل مقاصدهم, وصدق نواياهم.. قالوا: لولا الوشايات والرُعب, ما نالهم أحد!! ولكنه الزمن الذي يتجلى فيه الصقيع والجليد والسكون والإنهزام.. موت متلاحق يقود من زاوية إلى أخرى!! وحزن أصبح أبدياً حينما غابت شمس الخرطوم, وراء تلك الحجب الصقيعية الداكنة.. وحين افتقدنا هدى السماء,غابت الشمس التي كانت تبرهن وجودها فينا.. والدليل ما هو ظاهر من خلال سحناتنا.. فأخذت الملايين تنادي النجم من وراء المدى, وهو يسكب مناحته على أرض النيلين: ماتوا سمبلة ماتوا سمبلة فتناقلها المدى, وحفظها عالقة في الأفق, لتصبح شيئاً ما في وجدان الأطفال..
|
|
|
|
|
|