المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-30-2024, 03:12 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-16-2010, 02:56 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 37116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الكراســــة (2)

    كان أول ما فعلتُه بعد قبولي المبدئي, هو إقبالي على كتابة مذكرة طويلة, قيمَّـتُ فيها الوضع, وطرحتُ الأسئلة, وقلتُ وجهة نظري فيما يجري..وأول ما فعلتُه بعد قبولي المبدئي, ذهابي لدكتور النعيم أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسة السابق.. فهذا الرجل تربطني به علاقة صداقة خاصة لا علاقة لها بالسياسة.. لكني أعرف أنه رجل سياسة من الدرجة الأولى.. بدأت صداقتي معه ذات يوم بعيد, حينما جاءني لإجراء بعض الفحوص الطبية.. اهتممتُ به بالطبع, ولعل هذا الاهتمام كان مدخلاً للود بيننا..
    هو أول من أخبرتُه برغبتي, وقبولي المبدئي للانضمام للتنظيم.. علا وجهه البشر, وتهلل فرحاً.. بارك رغبتي, وعلمت منه أنه ينتمي إليه أيضاً.. ربما كانت صدفة مباركة, هكذا قلتُ في نفسي دون أن أعلنها.. سألت:
    - أترى في ذلك مخرجاً؟!
    قال, وقد أخذت ملامحه المستبشرة تأخذ مظهراً جاداً:
    - هي محاولة للعمل الجماعي الجاد..
    قلت:
    - ألا تعتبر الأحزاب عملاً جماعياً جاداً له تجربته؟
    أجاب:
    - هذه الأحزاب شاخت الآن, وأثرها كما ترى يكاد يكون منعدماً..
    قلت:
    - هل معنى ذلك تُترك, ام من الأفضل العمل على تجديد الدماء فيها؟!
    قال:
    - لو تم ذلك, لكان أمراً مثالياً!! لكن كيف الوصول إليه؟
    قلت:
    - الديمقراطية فيها هو السبيل!! فالأحزاب الغربية أحزاب قديمة لكن الديمقراطية فيها أصيلة.. وهي التي تجدد دماءها البشرية..
    قال:
    - نظرياً صحيح!! لكن عملياً غير ممكن, لسيطرة القيادات القديمة عليها!!
    قلت:
    - إذن فاقد الشيء لا يعطيه.. فالديمقراطية هي المنبع, ومع ذلك مفقودة
    ابتسم ثم قال:
    - صحيح!!
    قلت:
    - ما هي وسائلكم في التنظيم؟!
    - متعددة..
    - بمعنى؟!
    - إننا نتلمس الطريق, وكل الخيارات مفتوحة أمامنا!!
    - أخاف من العنف والتخريب..
    - أنا معك..
    - أكره التحريض على تدمير المنشآت..
    - وأنا كذلك..
    وبعد حديث طويل متشعب مع الدكتور, ودعتُه وخرجت.. ظللتُ لفترة أفكر في هذا اللقاء.. أنطبع الحوار بيننا في ذهني.. وترك أثره فيَّ بعد ذلك.. عدتُ إلى مذكرتي وأعدتُ قراءتها, وعدلتُ فيها, بما استخلصته من نتائج..
    أول ما حذرتُ منه, طريق العنف, واللجوء اليه.. وهذا الأسلوب له نتيجتان, إما الانتحار الماحق, أو النجاح الذي يقود إلى طغاة جدد, والبعد عن قلوب الناس وعقولهم ووجدانهم.. وهذه مصيبة لا تقل خطورة من الانتحار.. كيف نقيم الحُب الغاضب؟! هذه هي المعضلة التي نحتاج إلى فك طلاسمها, ومعرفة مفاتيحها.. هذا هو المدخل الناجح لأي حركة نضال سلمية.. فالحُب الحقيقي يتجرد من الأنانية وحُب الذات, ويجنح إلى التضحية.. ونحن نحتاج إلى هذا السلوك الأخلاقي..
    وركزتُ في مذكرتي على الإعداد الجيد, ليكون البداية الموفقة.. وتذكرتك وأنا في غمرة هذا البحر اللُجَّي, الذي اخترتُه مغامراً.. أنت والتاريخ شيء واحد.. فلا بد أن نختارك.. أن نجعل التاريخ جزءاً أساسيا وهاماً في الإعداد الجيد, ليكون البداية العقل.. ففي إرثنا حُب يضارع المحيطات إتساعاً وعمقاًُ..
    يبدو أن هذه المذكرة رفعت قدري.. لعلهم وجدوا فيَّ خامة طيبة يمكن توظيفها والاستفادة منها في قمة الهرم العليا, إضافة إلى مجال الخدمات الطبية..
    كانت غرفتك هذه, صومعتي التي أعانتني لأخرج بشئ رأيته مفيداً.. ظهر لي جهلي ً بقدر نفسي, كما كنت جاهلاً في أشياء كثيرة.. كنتُ كمحضر الأرواح, استدعي روحك لتكون سندي فيما أنا مقبل عليه, فلم تخذلني مطلقاً..انتابني الإحساس بأنني قد نجحت في ضمك لهذه المنظمة.. فكنتُ أراك وأنا داخل هذه الغرفة, وفي الاجتماعات, ومن خلال قراءة التقارير, بل حتى في مباشرتي لمهنتي, وأنا أسهم في التخفيف عن آلام الناس.. اكتشفتُ أن الوجود الروحي يغني في حالات كثيرة عن الوجود المادي, إذا كان القلب عامراً بالحُب والإيمان.. ربما كان هذا هو المنبع الذي يرتوي منه أهل الصوفية والتوكل..
    ذات يوم استدعيتُ لحضور اجتماع المكتب التنفيذي للمنظمة.. لاحظتُ من وهلتي الأولى, أنه يحاط بكثير من الحذر والسرية.. قلتُ في نفسي هذا أمر طبيعي في ظل الظروف التي نعيشها. فنحن تجمع محظور.. والنجاح المطلوب إذن, ونحن في مثل هذا الحال, هو البعد عن عيون الرقيب..
    كانت هي مرَّتي الأولى, التي أُستدعى فيها لمثل هذا الاجتماع القيادي.. قدرتُ بأن الأمر قد يتعلق بمناقشة مذكرتي.. وبخلاف ذلك, لا يوجد منطقياً, أي سبب يتطلب حضور شخص مثلي, إلتحق حديثاً بهذه الجماعة.. فأنا إنسان على الهامش..
    كان الاجتماع في ساعة مزعجة.. اندهشت من هذا التوقيت.. الساعة الثالثة بعد الظهيرة وشمس الخرطوم لا تزال بجبروت فتوتها الذي يشوي الأبدان.. استهجنتُ هذا الميقات.. كيف نتحمل أنفسنا, ناهيك عن جدل يناقش أصعب الأمور وأخطرها؟؟ بمرور الوقت أدركتُ سذاجتي وقلة خبرتي في مثل هذا العمل الذي يجري في ظل ظروف بالغة التعقيد والخطورة.. فمتطلبات الحذر والسرية تقضي باختيار أوقات تكون فيها عيون الأمن في وادٍ آخر, مثل الساعة الثالثة في نهار يوم قائظ, أو وقت مسلسل, أو مباريات الهلال والمريخ أو أي وقت أخر يتم اختياره بعناية.. فالناس في بلادنا لم تعد لهم تسلية يروحوَّن بها بخلاف المسلسلات, ومباريات كرة القدم.. كما أن قلة تجربتي, لم تتح بعد لمفهوم التضحية, أن يتجذر في وجداني, ويتأصل..
    في ذلك الاجتماع, كان الترحيب بي حاراً.. وتعرفتُ على شخصيات لها وزنها العلمي والثقافي.. عادت بي الذاكرة إلى أيام أكتوبر 1964م.. الفارق الوحيد, أن تلك الشخصيات كانت تعمل وتتحرك وتؤثر في العلن.. أما الآن,فان الدنيا تقهقرت بهم ليكون بذلهم تحت الأرض.. ما رأيت بلداً ينحط إلى أسفل مثلك يا سودان الخليل!!
    قال لي رئيس الاجتماع:
    - تمت مناقشة مذكرتك بما تستحقه من اهتمام, وقرر الجميع اعتمادها وأخذها في الاعتبار.. كما تقرر ضمك إلى المكتب التنفيذي..
    أثلج صدري هذا التقدير, بلا شك.. فهذه رفعة لم تخطر لي على بال.. هل الإحساس بالظلم هو الذي فجر فيّ كل هذه الطاقات, لأقدم عملاً, جعله هؤلاء الأخيار نافعاًَ؟ سرحتُ بعيداً!! فربما هذه هي محنة هذا البلد.. تحولت القوة الدافعة والمؤثرة فيه إلى بؤر سلبية, لا ترى أبعد من مواطئ أقدامها, فدجنتها السلطة أو أرهبتها.. وتحول الجزء الكبير من هذه البؤر, إلى مجموعات انتهازية تم شراؤها وتحقيرها.. والجزء الباقي, آثر السلامة, أو هكذا يبدو, لأن زمن التضحيات قد ولى..
    لعل ذلك الاجتماع كان نقطة تحول في حياتي, لأعمل مع هذه المنظمة بإخلاص, ما استطعت.. لم يكن هذا شعوري, عندما قررتُ الانضمام إليها.. صحيح أنني استعرضتُ الظلامات التي حاقت بي وكارثة اختفائك, وطردي من الخدمة, وموت فرحات, لكن كل تلك كانت دوافع ذاتية.. ربما لفعل شيء أثور به لكرامتي و(أفش) غبينتي.. أما الآن, وبعد مرور مساحة من الوقت, والصبر على المكاره, مع التأمل فيما يحيط بنا من جوانب شتى,فإن السلبية والفردية عندي, أصبحتا هما المهلكة عينها..
    لقد كنت تصحبني في كل إجتماعات المكتب التنفيذي, فاستلهم ذهنك المرتب الواعي بالتاريخ.. وقد ساعدني هذا الإصطحاب في تبيان الرؤيا وتفسير الأحداث..
    ما يهمني من ذلك كله, هو توظيف هذه الكراسة, لتكون شاهدة على كمية المعلومات التي وقفت عليها, من خلال هذه المنظمة.. وإتاحة الفرصة أمامي للإحاطة قدر إستطاعتي بما يجري في بلدنا.. وإيجاد تفسير للظاهرة التي أخذ الواقع يثبتها باستمرار, بأن أمسنا أفضل من يومنا.. وأن مستقبلنا غامض مجهول, لغياب العمل الجماهيري المؤسسي.. فإن غاب عني التفسير في بعض الحالات, فلا يجب أن أقف عاجزاً عن طرح الأسئلة وإثارتها على أقل تقدير..
    كانت لهم عيون, ولنا عيون.. وشتان بين عيونهم وعيوننا.. العمل من خلال مؤسسات, مدرسة تُعلم الكثير, وتُثرى الخبرة والتجربة.. ومن خلال العمل الفني المدروس, تعلمتُ حقيقة أزلية.. كيف يكون مكر البشر!!
    كان صديقي دكتور النعيم, الأستاذ السابق للاقتصاد والعلوم السياسية, يركز على ما أسماه (الإثراء بلا سبب تحت مظلة الشرعية).. وتحت هذا العنوان كتب مجموعة من المقالات, ضمَّنها معلومات موثقة بالمستندات والأرقام.. ورفع عدداً من التقارير للمكتب التنفيذي..
    (الإثراء بلا سبب تحت مظلة الشرعية) مصطلح جديد ومهذب لمفهوم الفساد.. فالثراء الحرام كما نعرفه يُرتكب من فرد أو إثنين أو عدد منهم.. أما أن يأتي بهذا الأسلوب الذي طرحه, فذلك ما لم يكن في سنة الأولين!! لأول مرة أعي الأسلوب الجهنمي الذي أُتبع بشأن القطاعات العامة لتصفيتها أو تهميشها لتضمحل وتتلاشى ببطء كقطعة الثلج.. المؤسسات والهيئات العامة التي ورثها العهد الوطني من الاستعمار شامخة وفاعلة, توارت وراء الحُجب المضللة من إدعاءات أخلاقية, ما ألفناها من قبل.. وبغياب تلك الأهرامات, توارت مدن كنا نعدها من ساطعات الشموس.. وتشرد وافتقر من كان (هاملاً) وما أكثرهم.. وبرزت فئات أثرياء جدد على سماء السودان مباشرة، نتيجة الزواج غير الشرعي بين السلطة والمال!!
    شرح دكتور النعيم, الأسلوب الذي اتبع لتصفية وبيع موجودات تلك المؤسسات والهيئات, العقارية منها والمنقولة, لشخصيات عربية وأجنبية, وبشراكة أهل حظوة سودانية.. كله تحت عنوان كبير وباهر, اسمه الاستثمار..
    وتحت هذا العنوان الكبير منحت الامتيازات والاعفاءات, وقبل ذلك وفوقه, كانت الصفقة بثمن بخس.. ولكن الذي باع لم يكن من الزاهدين, إذ أعيد البيع لمُلاك جدد بأثمان باهظة, تحققت من ورائها أرباح طائلة بملايين الدولارات..وحصل من أصدر القرار أو باع, على نصيبه, وكله بالقانون!!
    أما أراضي العاصمة المثلثة, فإن فيها العجب.. كانت كالتبر, فاغتنى منها شرْذمة قليلة, عرفهم الناس يوماًَ بالفاقة والعَوَز..
    تريفَّت الخرطوم, فانزوى أهلها.. وحل محلهم ريفيون صبغوها بصبغتهم القروية المتخلفة, وبعاداتهم القبلية الجلفة, وبسلوكياتهم المحدودة الأفق، والتملك القائم على وضع اليد عنوة.. وفي غفلة من أهل المدينة امتلكوها, فغابت فيك يا خرطوم كل قيمة حضارية إنسانية.. وسادت القشور في كل ما هو سوداني, بلا مضامين تعيد البعث..
    لم يهتم دكتور النعيم بالجانب الإقتصادي وتحليله فقط, وإنما جاء بفكرة جديدة وجريئة, ركز فيها على الجانب الجنائي.. فحدد الجرائم وفق قانون العقوبات.. وكانت رؤياه في هذا الخصوص, قوية البيان, دامغة الحجة..
    استفزنا ما سمعنا, فثرنا لحظتئذٍ في تعليقات غاضبة.. وتناثرت الآراء في عدة اتجاهات.. بعضها أقترح تحريك الشارع والجامعة, وبعضها ركز على توزيع المناشير, وجزء فضل أهمية الرأي في الصحافة العالمية, أما الباقي فكان صارخاً في ردة فعله, وقال ما زلزل الأعماق.. إقترح العمل الفدائي, تفجير أماكن مؤثرة في العاصمة.. فالعالم من حولنا يتفجر, فلماذا لا نكون مثل الآخرين؟! ولكن هدوء الدكتور, وقوة منطقه, وثبات حكمته, ووضوح رؤياه جميعها كانت كافية لتعيد إلينا فضيلة السكينة..
    وحين سكت عنا الغضب, قال: (علينا أن نعود لمذكرة دفع الله التي جعلناها جزءاً من إستراتيجية عملنا.. لهذا يجب ان تكون تصرفاتنا قائمة على الأسلوب المدني المتحضر..بعيدة عن أي عنف)..
    صمت الجميع وتراجع, وأنا زهوت بحضوري الساطع. رأى دكتور النعيم, أن تكون الطريق جديدة, لم نألفها من قبل.. صحيح أن التظاهر السلمي في الشارع والجامعة, وتوزيع المناشير, وتوظيف صحافة الرأي, كلها وسائل إعتراض سلمية ومتحضرة, ولكنها تقليدية.. علينا أن نأتي بشيء جديد لم يألفه الناس,إلى جانب تلك الطرائق, وبعيداً عن أي عنف مهما كان.. لأن الضحايا هم الأبرياء دائماً..
    وما رآه, هو, رفع الدعاوي المدنية والجنائية, ضد أي مسؤول مهما كان قدره وحجمه, يكون قد تلوث بأفعاله..ربما يبدو هذا الأسلوب غريباً في نظر كثير من الناس.. وهذا طبيعي في مجتمع, لا يزال القانون بعيداً عن وعيه واهتماماته, كأسلوب حياة.. لكن هذا لا يجعل منظمتنا تسقطه من حسابها, لتجريبه وتوظيفه..
    سرح ذهني بعيداً, فيما ذكره الدكتور.. هل ما سنقوم به لم يألفه أهلنا من قبل؟ برق في الذاكرة الدعوى الدستورية التي رفعها الحزب الشيوعي أمام المحكمة العليا, بعدم شرعية حله, ذات يوم, وبعد عِقد ونَيّف من الزمان منذ الاستقلال. كان سلوكاً متحضراً وجديداً في العالمين العربي والأفريقي.. ولعلك يا أستاذ التاريخ تفتي في هذا الأمر وتؤصله.. لكني كما أقدر, وحسب معلوماتي, لم يسبق السودان بلد عربي أو أفريقي في هذه السابقة التاريخية.. وكان القضاء السوداني وقتئذٍ قوياً وجريئاً.. فحدثت الأزمة الدستورية بين السلطات الثلاث ورأس الدولة.. وانتظم الشارع السوداني نشاط سياسي وقانوني مُلتهب.. وازداد وعي الناس بحقوقهم.. ولعلي هنا أتذكر استدعاء الدكتور فؤاد العطار، أستاذ القانون الدستوري من جامعة عين شمس، وحُمى الحوار الذي دار بشأن رأيه في الأزمة.. كانت أياماً لها صدى وذكرى!! فهل من مُدَّكر؟.
    إذن ما ستقوم به منظمتنا, قد ألفه أهلنا بطريقة ما.. وسيخلده التاريخ كما خلد تلك السابقة الدستورية, وإن طمرها النسيان, كما هي عادتنا..
    تحدثت في الإجتماع معززاً رأي الدكتور, وأعدتُ للذاكرة, السابقة الدستورية وتحمست لأهمية أن نضع تقليداً يؤسس لسابقة جديدة أخرى.. ونرسي تجربة سلمية مدنية وعصرية, حتى وان طغى علينا الإحساس, بأن الظلم الذي يظلل سماءنا لن يهدأ له بال, إلا باغتيال التجربة, والحؤول دون أن تترك بصماتها, وتؤتى ثمارها.. لكن هذا لن يتم,ولن يظل الظلم أبديا, لأنه ضد حركة التاريخ.. فالمسألة مسألة زمن.. فالوعي قدر حتمي,وإن تأخر أو تراجع..
    أحيل الأمر لمجموعة من المحامين, الذين شكلوا فريق عمل, كخلية نحل.. رفعت بلاغات جنائية للنائب العام ضد وزير المواصلات, ووزير الحكومات المحلية, وأخرى ضد وزير الدولة لشؤون الرئاسة, ومدير الأراضي, ووكيل الخدمة المدنية.. وأسست البلاغات باتهامات موثقة بالفساد, واستغلال النفوذ, وتبديد المال العام.. كما رفعت دعاوى مدنية وإدارية بالمطالبة بالتعويض واستحقاقات أخرى, وإعادة المفصولين..
    ما شدني في هذا الأمر, هو حماس هذه المجموعة من المحامين.. اجتهادهم لنجاح التجربة, التي تعد مدخلاً جديداً من أساليب المقاومة السلمية الرفيعة.. وتعزيز تجربة الدعوى الدستورية, التي ربما علاها الصدأ في الذاكرة الجمعية..
    ما تخيل أحد من منظمتنا, أن هذا السلوك الذي إبتدعه دكتور النعيم, سيكون له هذا الأثر الكبير في الشارع, وبين العامة.. بل إمتدت ردود الفعل إلى الخارج.. فتناولته وكالات الأنباء, والصحف والمجلات ومحطات التلفزة والراديو.. وتناقله الناس في أسفارهم.. وبه أصبح السودان مشهوراً, له ذكر يُعرف به..
    وفي هذه الجزئية الخالدة, تذكرت الفتاة الروسية (أولجا), فتاة القطار, وتجربتها المثيرة مع فرحات.. لعل الدعاوى القضائية قد أصبحت الآن من الأخبار العالمية المتناقلة.. وقد تعيد إليها ذكرى فرحات, ولحظاتها المثيرة معه.. أكيد أن السودان أصبح جزءاً من رصيدها الثقافي.. فهل يا تُرى بما سمعت من النشرات العالمية التي أصبح للسودان حضور فيها, أن أعادت لها ذكريات تلك اللحظات مع فرحات الباذخ؟؟
    أهتز أقطاب الدولة, وبدأت مراكز القوى في التحرك المضاد, دون أن تجروء سلطات الأمن على اعتقال أحد من منظمتنا أو المحامين.. فالقضية أصبحت الآن على العلن,فقد كُشف المستور.. ربما هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة..
    في اجتماع لاحق, ذكر دكتور النعيم, أن صدى تلك البلاغات والدعاوي, جاء مدوياً, وبأكثر مما كان متوقعاً.. وفي تقديره أن السلطات لن تدع هذا الأمر يمر دون أن تحدث فيه أمراً.. فقد نال منها أكثر من المظاهرات وحوادث الشغب والعنف.. وعادة ما يكون رد الفعل عنيفاً, خوفاً من تكرار ما حدث في الماضي.. فهذا الشعب غير مأمون الجانب.. ولا يعرف أحد متى يتحرك..
    حذر بضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة.. والاستعداد على أي حال لأي مكروه.. أما التجربة, فقد أحدثت أثرها الجماهيري المطلوب, رغم ان البلاغات والدعاوي قد نامت نومة أهل الكهف, في الزوايا المنسية من ديوان النائب العام والمحاكم.. بل ربما سُحلت وهي جنين قبل أن يأخذ دورة إكتماله في أحشاء, ذات ضمير حي..
    وحتى لا يسُحل التاريخ النابض لمنظمتنا, فقد حرصتُ يا صديقي أن تتضمن هذه الكراسة مرفقات من تلك البلاغات والدعاوى, وأدلتها, ووثائق إثباتها, لعل الأجيال القادمة تعرف, أن هناك من أهلهم, من رفضوا الضَيْم وناهضوه..
    وعادت بي الذاكرة يا صديقي إلى السابقة الدستورية.. ومحنتنا أننا, كما تردد أنت دائما, أننا لا نعيد قراءة التاريخ, ولا نسعى لاستلهام عبره وحِكمه.. ومن لا يدرك هذه الحقيقة الأزلية, تصبح تجربته هشة قابلة للإضمحلال والزوال..
    تؤكد الأيام الآن, أن الأحزاب التي تنكرت لمفهوم الديمقراطية وجوهرها الخالد, تدفع ثمن تآمرها غالياً الآن.. وانتهى بها الحال إلى هذا الوضع المتهالك, فضاع سلطانها الذي لم تعرف كيف تحافظ عليه.. نسيت أو تناست أن نجاحها وقوتها كانا نتاج سلوك ديمقراطي.. وبدلاً من المحافظة على هذا الأصل الذي يقوم عليه أساس وجودها, نبذته وراء ظهرها, فكانت النتيجة هي زوال مُلك فقد مقومات بقائه.. وتحقق المثل السائد في الناس: أكلت يوم أكُل الثور الأبيض.. وعجبي فيك يا سودان!!
    تنبؤات دكتور النعيم, في ملاحقة الناس, نتيجة لهذا الحراك المعارض, قد أمست حقيقة.. والفعل الباطش أصبح لا يفرق بين هذا وذاك.. فالأفعال تساوت, والنتائج توحدت, والأنفس تماثلت, لأن الباطش بلا خيار ثالث, إما أن يكون أو لا يكون.. هكذا كانت تقديراتنا..
    صرنا في كل يوم نفقد واحداً منا.. لا يُعرف أين هو؟ وكيف تم التغييب؟ وإلى أي مكان أُخذ؟ كأن الذي نحسه ونشعر به, ولا نراه, لا علاقة له بعالم الإنس, وإنما من شياطين الجن!!
    سيطر علىَّ خوف مفاجئ, ما شعرته من قبل.. رعب غائر في جوفي, يفوق بمراحل الخوف من الموت.. وهذا هو الشيء الجديد في الردع..
    قرر التنظيم أن يعمل المكتب التنفيذي من تحت الأرض.. وهذه حياة جديدة علىَّ ما ألفتها من قبل.. لي صداقات مع بعض أحزاب اليسار الذين كانوا يعملون تحت الأرض.. وكان الخبر يمر علىَّ عادياً, وبشكل تلقائي, دون أن أحس بغرابته وخطورته, ولكنني الآن أعيش الحدث.. وتحيط بي خطورته من كل جانب.. دخلت هذا التنظيم لأجد ذاتي.. بيد أني الآن مُقبل على فقدها, زوالها إلى الأبد,
                  

العنوان الكاتب Date
المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:51 AM
  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:55 AM
    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:58 AM
      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:59 AM
        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:01 AM
          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:04 AM
            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-08-10, 05:57 PM
              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-09-10, 12:30 PM
                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-10-10, 12:03 PM
                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-13-10, 12:07 PM
                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-14-10, 09:45 AM
                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-16-10, 02:56 PM
                        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-17-10, 12:04 PM
                          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-19-10, 10:53 AM
                            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-20-10, 11:17 AM
                              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:37 AM
                                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:40 AM
                                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:54 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 09:03 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-04-10, 07:43 AM
                                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-24-10, 09:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de