|
يومٌ من أيام العُمر
|
[RED/] يوم من أيام العُمر
نهضت عند صُبح تَسلل من عباءة الليل و عَبَر سَحراً دامٍ ، ثم صُفرة يانِعة بين الكآبة والإشراق . حاولت تذكر أحلامي ففي نفسي يقيناً ما إن بذاكرتي ثقوباً تهرب منها الأحلام . تتشقق الحكايات و تتناثر الأحداث . ربما هي تقدم العُمر ، أو أن ذاكرتي لا تُحسِن الإمساك بالفرح إلا لتفارقه إلى حُزن مُقيم . انتصبتُ واقفاً ، ونهض معي وهج غامض ، يلتف كهالة تطوقني . اختلط الحُلم بالصحو ، و تراقص الجسد قليلاً ، ثم اتزن بعد جُهد . هاجس نـزل على نفسي : ـ
إن الهموم ستصحب يومي . رفقة الجسد مُتعِبة ، تتساقط الخلايا من صفحة الجسد تباعاً بعد نفاد عُمرها عند كل بُرهة وتنبُت أخرى من جديد . ففي سٌنن الكون يتم التغيير غَصبا. أغسل كل ذلك عند حمام الصباح ، وأنتقل من عالم ناعِس إلى عالم أكثر صَحواً . ابتلعت كبسولة مع قليل من الماء الفاتر ، وفق إرشادات طبية مُسبَقة . لجسدي أن يلبس قالباً يُناسب العمل . حميمة هي ألبِسة الداخِل ، ربما تعلقت بي رغبة في البقاء نصف يوم معي قبل الفراق . من بعدها لبِست قميصاً قصير الأكمام وربطة عُنق و بنطال وبعض الإكسسوارات التي تقتضيها الضرورة . إنهم جميعاً يعملون بجِدٍ على تَسويقي فرداً ضمن خلية النحل اليوم ، وكل يوم عمل . أنا أتبدل ، وجسدي و ملابسي تتبدل كذلك .
انتهت طقوس الصباح ، ودبّ النشاط صديقاً للكآبة يلازمانني . إنها نفسي تنقسم بين فرحٍ موءود يتطلع وحزنٍ يدعو للانهيار . أغلقت باب الشقة في الطابق الثامِن من البِناية ونـزلت عبر المصعد ومنه إلى صالة الاستقبال ، ثم عبرت إلى الطريق العام . خمسمائة متر تبعد بناية السكن عن مبنى العمل . رفعت يدي تحية لمحمود وهو يجلس على طاولة الاستقبال عند المدخل الثامن للبلدية . هز رأسه باسِماً وافترَّ ثغره بكلمات التِرحاب .
قصدت صندوقاً مثبتاً على الحائط صنعته التكنولوجيا لضبط الحضور والانصراف ، يرتفع متراً ونصف المتر عن مستوى بلاط الأرضية . إنه في حجم حقيبة يد متوسطة الحجم لسيدة في مُقتبل العُمر . حملت بطاقتي ، وعَرَّفتها على عينٍ صغيرة حمراء مستديرة ، مثبتة على أيمن الصندوق ، صُمِمت هي لتتعرف على موظفي الدولة عند قدومهم . تغير لونها أخضراً وظهرت كتابة تقول : ـ
ـ ضع إصبعك المُعتاد على المكان المُخصص لتتعرف الآلة على ملامِح البصمة. فَعلت ما طُلِب مني ، وجاء الرد كتابة على لوحة بلورية صغيرة : ـ ـ قبلناك . حضرت اليوم مُبكِراً . التوقيع اليدوي أيضاً وكتابة زمن الحضور ، حتى يكتمل الطقس . القديم لا يرغب الزوال ، والجديد تنقصه الثقة بالنفس . أدرت المفتاح ودخلت مكتبي ، لا أحب أن يخدمني أحد من عمال النظافة ، تُضجرني يد الآخرين عندما تتدخَل للرصف والترتيب . رغم جمال التنسيق وإبداعه لا أجد نفسي إلا قلقاً حتى أصفو بعيداً عن الضوضاء .
لحضوري المُبكِر مَيِّزات تفوق زيادة ساعات العمل بلا مقابل ، هي فسحة للتطلُع في عالمي ، أرتب مقالاً كنت قد كتبته أمس ، أو أتصفح ردود على صفحة في السماوات ، كُنت قد سجلت عندها خواطِري ، أو صفاء السكون قبل بدء دولاب العمل .
ليس هُنالك من داعٍ لتلفنة السودان ، لم يزل الوقت مُبكراً ساعتين وفق تقويم الشروق الشمسي ، وساعة واحِدة وفق (صَرعات ) السودان التي لا تنتهي . على صفحة ماء الذِكرى كان الحوار في يقظة حُلم ، وفي اللغة الشِعرية ما صاغه الرائع إدريس محمد جمَّاع واختلطت الأشياء . نهضت سيدة من أحلام اليقظة تقول : ـ
ـ من عينيك وهج ٌ و قوىً تأسرني .
قلت لها : ـ
ـ قال الشاعر :
هي نَظرةٌ تُنسي الوَقارْ وتُسعِد الرُوح المُعنى
قالت وقد أسبلت جَفنيها خجلاً : ـ
ـ إنني مُرتَبِكة من نظراتِكَ !
قلت : ـ
ـ قال الشاعِر :
دُنياي أنتِ وفَرحَتي ومُنى الفُؤادِ إذا تَمَنى .
فقالت بعد تأنٍ :
ـ أنا أخاف عينيك فنارهما الحارقة تدفئاني حتى من برد الزمهرير .
قلت : ـ
ـ قال الشاعر : و نظَرتُ في عَينَيكِ آفَاقاً وأسراراً و مَعنى .
قالت : ـ
ـ كوب الشاي .. يكاد يَبرُد !
قلت : ـ
ـ قال الشاعر :
نِلت السَعَادَة فِي الهَوَى و رَشَفتَهَا دَناً فَدَنا و سَمِعتُ سِحْرِيَاً يَذُوبُ صَدَاهُ في الأسمَاعِ لَحنا ردت وقد غَضِبَت من مُخاطَبتي الشِعرية : ـ
ـ ( دَمَّكْ تَقِيل ) .
ضحِكت ، وقد أخذتني عُذوبتها ، فقلت لها : ـ
ـ كيف أتذوق الدنيا ونعيمها يستحِق سجوداً مُطولاً ؟ . إنني أسبَحُ في بِركَة سِحرٍ هَزَّ جِزعِي . لم تَعُد الدُنيا كَما عَرَفتَها ، أصبحت أنتِ دُنياي و راحَتِي . الدُنيا قَبلك كُرة رَمَادِية غطَتها الأترِبة . كانت الحياة ثوباً من الاعتياد ، لا لون و لا طَعم ولا رائحة ، حتى نهض شَخصَكِ باسِقاًً واستقر قاع النفس وأزهرت المحبة . نهضت حلاوة الدنيا وموسيقاها المُبدعة ، ورسم جمالها يُطرِب النظر ، فعرفت أن الإله قد مَنحني فُسحة جديدة . تَخَير لي عالماً أرحب ، وسَعَادَة استَعجَلَ قدومها ليُغسل عني بؤس أيامٍ مضت .
قاطعتني قائلة : ـ
ـ غريب أنت اليوم !
قلت لها : ـ
ـ أين أنا منكِ يا مَجدولة الجَسد ؟ يا فادِحة النِصال . أ تُغرزين أسيافَك في جسدٍ هالِك ؟ قمرٌ لكِ على اليسار ومثلَه على اليمين كأوتادٍ لبِسنَّ ثوب شهوتي . أتأذنين بالسجع المموسق في إيوان معبدكِ ؟
صَمتُ برهَة ، ثم صحوت من غفوتي و قلت لنفسي : ـ
ـ هذا يوم لا يشبه أيامي ، أسكرتني خاطرة ممتعة ، و نفسي تتحرر من جسدها ، فمدينة العُشاق قد طافت بذهني فَرِحة ، نهرها لا يروي عطشاً ....
عبد الله الشقليني 28/03/2005
|
|
|
|
|
|
|
|
|