في النموذج السوداني الآني، وفي ظل السلطة الآنية الحاكمة، يبدو للبعض كما لو أن المثقف مستثنى وبعيد جدا. لكن الرؤية المدققة تكشف أن صورة المثقف يعاد إنتاجها وفق نموذج أكثر سلبية للمثقف من النماذج التأسيسية الانهزامية. فالمثقف حاضر ولكنه يكرس نفسه في خدمة السلطة لبسط أغراضها ونفوذها، بمعنى أن الفكر حاضر سواء كان هذا الفكر مقبول لنا كمعرفة أم لا. فنماذج كحسن مكي وعبد الوهاب الأفندي هي تدعم السلطة حتى لو بدت في بعض الأحيان كما لو أنها تعارضها. لأن خط السلطة الفكري هو نفس الخط "العقائدي" للمثقفين نفسيهما. وبالطبع هناك نماذج مباشرة في الدعم كما في الطيب مصطفى وأمين حسن عمر واسحق أحمد فضل الله، والأخير يكشف عن ذلك التداخل بين "الروحاني والإبداعي والفكري والعقائدي" بطريقة هي الأكثر تعقيدا، فهو قاص إذا عولجت نصوصه بمعزل عن سياقه العقائدي فهي تكشف عن ذات أخرى، غير "اسحق الجهادي". ما أعنيه أن هذه النماذج هي مثقفون حقيقيون في نظر السلطة، وهم وآخرون من يرسمون حركة الفكر السوداني ولهم تأثيرهم، ومن يتتبع خط الواقع الاجتماعي سيفهم كيف نشأت الحركات التفكيرية في المجتمع وكيف يعاد بناء الإنتاج الثقافي وفق قيم المثقف السوداني "الترابوي". دائما ولابد لأي سلطة أن تعيد توظيف المثقف لصالحها بهدف أن تبدو مشروعية وتكرس هيبة إلهية، وهؤلاء شئنا أم أبينا هم يفعلون هذا الشيء. ولهذا فإن مجرد الرفض والغوغائية في الأحكام لن يحل في إنتاج واقع جديد، ما لم نعيد التفكير في سياق المثقف السوداني "المعارض"، إذ كيف سيكون بإمكانه أن يبدو أكثر براغماتية وعملية ونقدية لذاته، ليس لكي يحل مكان السلطة ويكون أكثر سلطوية أو لكي يوفر مشروعية لسلطة جديدة "استبدالية"، وإنما ليعيد بناء الواقع السوداني والحياة الثقافية والمعرفية ويؤسس بنى المجتمع المدني الحديث. وهذا لا يتم بشروط مستعجلة كالتي يطرحها معظم المثقفين الآن. فالسؤال الأعمق والأكثر تعقيدا لا يتعلق بالسلطة الآنية أو حكومة البشير، وإنما بسياق عام يتعلق بمجمل الحياة السودانية. لأن مجرد استبدال "سلطة جاهلة" بـ "سلطة جاهلة" لن يحقق أي تقدم في بناء مجتمع حديث، بل سيزيد الأمور تعقيدا.. وما يبدو جليا لي أن "المثقف المعارض" هو مثقف سلبي تجاه كليات إعادة تشكيل السودان، فهو رهين معاش ووقتي وهو يفكر بنفس درجة تفكير "مثقف السلطة" في كيفية إكساب معارضته مشروعية لتكون فيما بعد سلطة مقدسة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة