|
من يدري فربما من شابهت اباها .... نسرين عبدالهادي الصديق تكتب
|
خِلال رِحلةٍ عِلميةٍ لنا مع شُعبةَ الآثار قُمنا بزيارةٍ لقرية ( جبل أم علي ) لِمشاهدة بَعض الأضرِحة التي تُصنف مِن ضِمن ( الآثار الأسلامية ) و تَناولنا طَعام الإفطار بِها بعد قبول دَعوة أهالي القريةَ مِنْ أبناء جعَل و هُم يحتَفلون بزواجَ أحد أبنائهم .. الضريح هو للشيخَ حامد بن عمر بن بلال البادرابي الشهير بــ ( أبو عصا ) و هو عبارة عن مَجموعةَ مكونة من أربعة أضرحة للشيخَ و أبنائه كان أجملها و أبَرزها للشيخَ حامد أبو عَصاية ، يحيط بالمزَرات مَقابر يرجع شواهِد البعضْ مِنها إلى عصر الفونج .. لم يَكُنْ في خَاطري أبداً زيارة ضَريح من أضَرحة ( طبقات ود ضيف الله ) و لكن كانت تلك مِنْ نِعمْ دِراسة الآثار و أفضالها الكثيرة علّي ، كانت هذه الزِيارة أكثر مَا أدهشني في رِحلة العَجائِب تلكْ خصوصاً مقابلتنا لِشيخٍ أخضر اللون في لغَة أهَلنا درويشٍ في مظهرِهِ يجول في أنحاءَ القرية بجبتهِ المُهترئة و شعره الأشعث حاملاً عَصا في يده هَاتفاً و مؤكداً بأنه هو خَليفة الشيخ أبو عصاية و ليس بالضرورة أن يكون أولي العِلم خُلفائه .. بالطَبع لم يكترثْ أحداً لكلامِه .. و لكني و بحُبي الغريب للفكرة الصوفية و فِكرة الجذبْ الصوفي لدى الشيخَ و ثَرائِها الثقافي تخيلتْ حُواراً معه حَيثْ عُدتْ به إلى رؤية الشاعر و دعوتِه للعودةَ إلى سنار .. قُلت لهُ سِراً ( كُلنا خُلفاء للشيخَ و كُلنا زُعماء طريقة .. كُلنا نَبضٌ مِنْ رَحِم هذهِ الأرضْ التي قَام بناؤها على أسطورة .. كُلنا ذَلك الوثني الذي مَجد الأرضْ و ذَلك الصوفي الضَرير الذي مَجّد الرؤيا و نيران الأله ) كيف أننا مازلنا نتوهَم بأننا نَبحَثْ عَن السِر الكامِنْ في ( مملكة البراءة ) ؟! .. لم يسمعني الدرويش و لم أعر كَلامي الكثير مِنْ الإهتمام و إنصرفت لأمورٍ أخرى ..
في رِحلتنا تِلك بصُحبة أستاذنا و عَمنا و شيخَنا البروفسير ( علي عثمان محمد صالح ) ذَهبنا للتَعرف على مَدينة مروي ( أول كيان سوداني خالص ) و بِغرضِ التعرف عَن قُرب على الإله الأسد ( أبادماق ) و البَحثْ عن إمتداد لمدينة مروي .. هي رحلة خَيالية أكثر مِنها عِلمية .. فالخيال في عُرف الآثار هو أكثر مَا يُستحب بالأضافة للإيمان بالأساطير و الخُرافاتْ و أقوال عَامة الناس و خاصةً المُسنين منهم .. فما المَانع مِنْ أن يكون الجن حَارساً للكُنوز المروية ؟ و مَا المانِع مِنْ تَصديقْ أن اللعنة قد تُصيب كل من يُحاول الإقتراب مِن إكتشاف أسرار مروي و ملوكها العِظام ؟ .. الحلم يُبنى على الخيال و الخيال هو جزء من الأسطورة و الأسطورة كما قُلت و أكرر دائِماً هي التي قَامت عليها أرضنا مُنذ قدوم تاج الدين البهاري البغدادي و دخول الإسلام بالأسطورة و مع الأسطورة و إلى يَومنا هذا الذي يؤكد فيه ذلك الشيخَ رغم المعرفة و التطور و بِروحٍ تَعيش على السجية بعيداً عن زيف المدن و لعنة المادة في تلك القرية المنسية بأنه هو خليفة الشيخ (أبو عصاية ) العائد إلى سنار ..
كان أكثرُ مَا أفادني في حَظي في دِراسة الآثار هو تَعرفي على عَوالم أخرى لم أكُن لأكتشِفها لولا الآثار و أهل الآثار .. فقدْ تَعلمت أن أحب و أن أغير على الأرض التي أمشي عليها .. أن أسأل عَنْ مُستقبلها مِنْ مَاضيها .. تَعلمتْ الفضول لِمعرفة أحوال الناس و طُرق معبشَتِهم كيفْ يصبحون و كَيف يَمسون و هل هَذا تقليدهم منذ القِدم ؟ .. تَعلمتُ أن أغضب لأنني لم أكُن هُناك عِندما قَاموا بإغراق وادي حلفا .. تَعلمتُ من قَول عم علي عِند وصولنا إلى قَرية الكجيك ( هِنا في قَمر ) الإستمتاع بالقمر الريفي المُكتمل النَقاء و الضِياء .. تَعلمتُ السهر تحتَ ضوء النِجوم على أنغام عود ( هاشم ) .. تيقنتْ مِنْ أن جَمال صوتْ منال زَميلتي و إجادتِها للغناء و تَرنمها الدَائم ( يَا حَليف الخدري التائِه في نَعيمك .. مَادام هَاجرني أرسل لي نَسيمك ) نَابعٌ من أستنشاقها لرائِحة البرتقال الممزوجَة براحةَ الفُل في قريتها الزيداب ..
في خِتام زيارتنا لقرية ( جبل أم علي ) و كَان ذَلك قبل يومٍ مِن نهاية رِحلة الأساطير تِلك قُلت للشيخَ الدِرويش مُتوسلةً ( أرفع لي الفَاتحة ) فَفعل و دعا لي بالتوفيق أنا و كُل من كَان مَعي في تلك الرِحلة فتلقيتُ دَعوته و أنا مُقتنعةً تَماماً ببركتِه و بَركة شِيوخِه و بَركة والدي ( شَيخ طريقتي ) و بَركة أجدادي الشُعراء و كانت ..
الشَمسُ تَسبحُ في نَقاءَ حِضورها .. و على غُصون القَلب عَائِلة الطيور ولَمعةٌ سِحريةٌ في الرِيح .. و الأشياء تُبحِر في قَداستها الحَميمة و تَموجُ في دِعةٍ فَلا شئٌ نَشاز .. كُل شئٌ مَقطعٌ و إشارةٌ تَمتدُ مِنْ وَترٍ إلى وَترٍ .. على قِثارةْ الأرضَ العَظيمة
ثُم وَدَعنا الشيخ قائِلاً في رعَايةِ الله ...
إضاءة :
هذهِ الخاطِرة وَجدتُها بينْ أوراقٍ قَديمةَ و قَد دَارت بيننا أنا و شقيقتي الأصغر خلال الأيام الماضية حِواراتٍ عنْ الهَوية .. كَانت تفترشُ الأرضْ و تَطلبُ تَفسيراتٍ لوجود عِلاقةٍ بينْ قبائل البربر في المَغرب و بَعض القبائل في السودان .. وهي تَغرق في البَحث عنْ سِر العِلاقة بينْ حَضارات السودان القَديمة قَدْ تَجد تفسيراً .. من يدري رُبما فمن شَابهتْ أباها ...
إهداء إلى دلال عبد الهادي الصديق
نسرين عبد الهادي الصديق
|
|
|
|
|
|
|
|
|