|
Re: رقصة الوَجْد المؤنَّث في الكتابة الصوفيَّة .... للكاتبة الصحافية مــروة كـريـديـة (Re: emad altaib)
|
ــــ مفهوم "الأنثى" عند ابن عربي
تحضر مسألة الأنوثة مع صاحب الفتوحات بخصوصيةٍ ميَّزتْه عن سابقيه، حيث تتخذ معه طابعًا معرفيًّا بشكلٍ واضح وصريح. فهو يخترق المثنويات المفاهيمية على المستوى الأونطولوجي والأنثرپولوجي والمعرفي واللغوي جميعًا. فـ"الأنثى" كمفهوم هي نقطة مِحرَق لاستقطاب التجلِّيات الإلهية، كونها تمثِّل البعد المنفعل في تلقِّي الأنوار الإلهية. وخطاب ابن عربي لا يكف عن الاحتفال بـ"الأنوثة" le Féminin، بحضورها الباذخ وبهائها اللامع، بحشمتها المضيئة وعتمتها الواعدة وسرِّيتها الكاشفة، من داخل صونها المحيِّر، ماهية الأسرار كلِّها.
يحضر مفهوم الأنثى في شكله الواسع والعميق إلى حدٍّ يمكن للباحث معه أن يعتبر أنَّ الخطاب الأكبري هو خطاب أنوثة. يقول ابن عربي في معرض مناسبة كتابته لـالفتوحات، التي هي مشاهدته القلبية للأنبياء، حين يصل إلى عيسى:
قد جثا يخبره بحديث الأنثى.[6]
فخطاب ابن عربي يمخر عباب الأعماق لينتشر على صفحات الكتابة: فهو ينكتب على صفحات الروح وما يُكتنَز داخل الجسد، كما ينكتب على برَّانيته في الآن نفسه، فيتم العبور من خلال الجسد نحو الطاقة الفعالة للفكر وممكناته دون أن يجعله جزءًا أساسيًّا من "الجسد المكتوب" corps écrit، فينفتح خطابُه على "الصيرورة الأنثوية" devenir féminin نحو خارج الكينونة، فيهز أساس اللغة ليبحر نحو سطح الوجود وأحداثه الخالصة.
والاعتراف بالأنوثة والذكورة قطبيةً تميِّز الوجود هو، في حدِّ ذاته، إعادة النظر في مبادئ الفكر "العقلاني" ( مبدأ الهوية، الخلق، إلخ). لذلك عمد ابن عربي إلى اعتماد مبادئ، منها التثليث والحب والرؤية، الأمر الذي سمح له بمرونة تقبُّل القضية ونقيضها معًا: فتتعدد الدلالات المتعلقة بالموجود نفسه وتتقابل، لتثير حيرة الفكر – هذه الحيرة التي يعتبرها عين الصواب والطريق إلى معرفة الكون، نظرًا للطابع "الخيالي" الذي تتَّسم به.
فالهوية عنده في تفتُّح مستمر ومتواصل: الذات حركة دائمة في اتجاه الآخر. ولكي تبلغ الذاتُ الآخرَ لا بدَّ من أن تتجاوز نفسها؛ أو لِنَقُل: لا تسافر الذات في اتجاه كينونتها العميقة إلا بقدر ما تسافر في اتجاه الآخر وكينونته العميقة:
ففي الآخر تجد الذاتُ حضورَها الأكمل. الأنا هي، على نحو مفارق، اللاأنا. والهوية، في هذا المنظور، هي كمثل الحب – تُخلَق باستمرار.[7]
لذلك يتميَّز الخطاب الأكبري بأنه "خطاب بلا ذات" discursivité sans sujet، تشتغل فيه سيرورة الكتابة على "الآثار" les traces أكثر مما تشتغل على ماهية معطاة، فيتجاوز محدودية الحدسيات والشطحات إلى العمل عليها ومحاولة فكِّ أسرها انطلاقًا من آلية تأويل مركَّبة. ذلك ما يسمِّيه جاك درِّيدا، في كتابه Eperons، العملية الأنثوية التي تَكتُب وتُكتَب في آنٍ واحد، وإليها يؤول الأسلوب[8].
ويتميز أسلوبُ الكتابة عن "الأنثى" عند الشيخ الأكبر بميزات جمالية، منها:
1. يتجاوز بالكلمة والمصطلح حدود التركيب والمعنى المألوف، ليجعله متناغمًا في صيرورة سحرية سرِّية: نجد في أسلوبه افتتانًا هرمسيًّا، غنوصيًّا، يلج نوعًا من الوَجْد اللانهائي. وهذا الأمر شبيه بما أسماه نيتشه في سياق آخر: "الرقص بالكلمات والأسلوب".
2. إن خطابه عرفاني فلسفي صوفي: لذلك يتجاوز محدودية الحدسيات والشطحات إلى الاشتغال عليها ومحاولة فكِّ أسرها انطلاقًا من آلية تأويل مركَّبة ومن أشكال تعبيرية متنوعة. فمفهوم "الأنوثة" عنده يتجاوز البُعد المادي والصورة ليتخذ بُعدًا غيبيًّا أونطولوجيًّا.
3. ينطلق في "خطابه بلا ذات" من خلال سيرورة الكتابة مما يترتَّب عليها أكثر مما ينطلق من معطيات محددة: لذا نجد أن أسلوبه لا قياس له ولا ينضبط لأنه انخراط في لانهائية النهائي. ويمكن لنا أن نصفه بالمقاربة المربِكة للحواس، المدوِّخة للفكر.
وتُطرَح المقاربةُ هنا كالتزام أونطولوجي: فالشغف الوَجْدي عند ابن عربي هو "انخطاف" ينغرس في أفق المعلوم إزاء ملفوظاته؛ وهو يختلف عن الانخطاف العاري الذي يبتكر الآخر، ينشغل به ويستحضره وفق نمط يجعل الكتابة رهينة الأنثوي. وهذا الأمر يجعل خبرة الوَجْد l'expérience extatique خبرةً مشروطةً بفاعلية التأويل، ويجعل العمق الأونطولوجي ملزَمًا باستدعاء المنطوق الملفوظ وباستخراج ممكنات المجاورة منه. فهو انخراط للكتابة في استدعاء الأنثوي واستثماره.
|
|
|
|
|
|
|
|
|