|
نقلاَ عن سودانايل ... كلام في الاغنية... بين محمد حلا وجماع مردس
|
دور فن الغناء في بناء الوحدة الوطنية جماع مردس في اطار اهتمامي بالفن وقناعتي بقدرته علي القيام بدور محوري في بناء وحدة وطنية حقيقية تجسد مبدأ التسامح بين الثقافات المختلفة في التعبير عن نفسها وخلق توافق بين الأطروحة السياسية والموضوع الثقافي ، ولعلمي بأن الشعوب مهما اختلفت تكون متفقة حول فنونها في مجالاتها المختلفة ، الغناء والموسيقي ، التشكيل ، المسرح والدراما ، الأدب ، الفلكلور والفنون الشعبية...
ولقناعتي بأن المشكل السوداني في تجلياته المختلفة هو مشكل ثقافي لا يمكن حله الا بتشريحه في جذره الثقافي بعيدا عن ثقافة فرق تسد التي تجسدها بعض الكلمات مثل كلمة (جلابي) و(غرباوي) (أدروب) و( جنقاوي) ، وهذه كلها تعابير لها أبعاد في الثقافة السودانية ولها أثرها السلبي في عدم الأندماج القومي و تحول بيننا وتجعلنا نبدو مختلفين وكأن الحياة الحقيقية في السودان تجرفها بعيدا أجندات أخري بقصد تجريدها من متعة الأحساس بالمجموع.
وليس ادل علي دور الفن في توحيد الأمة من دور الفنان خليل فرح الذي استطاع بحسه الفني الرفيع ان يعبر بالكلمات ما يوحد به امتنا بعد غروب شمس دولة المهدية و بعد ان خرجت الأمة مستعمرة و منكسرة ومضعضعة الحال ومنقسمة بل عادت لأحضان القبلية والجهوية البغيضة ، وحدها بالفن فأنشدت معه ( نحن ونحن الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل ) ورددت بأشواق ( الضريح الفاح عطره عابق السلام يا المهدي الأمام ) ثم غنت :
عزة ما سليت وطن الجمال ** ولا ابتغيت بديل غير الكمال
وقلبي لسواك ما شفته مال ** خذيني باليمين وانا راقد شمال
ونذكر في هذا المقام الدور التعبوي الذي نهض به الشاعر ود سعد (مادح المهدية) في توحيد قلوب اهل السودان حول الدولة الوطنية الفتية في ام درمان ، كما لا ننسي دور (فن) المديح في تعلق قلوب أهل السودان بمحبة رسول الله ، لهذا عندما تزور المدينة المنورة تشاهد صفوف السودانيين يتحلقون في خشوع وأدب جم حول ضريح المصطفي صلي عليه وسلم ، وهذه مسألة شهد بها أهل القبلة .
كما لا ننسي دور فن الحقيبة سرور وكرومة وغيرهما في السمو بالروح والوجدان الوطني ، ثم مدرسة الكاشف ، ثم احمد المصطفي انا ام درمان وجيله العملاق ثم توحدت القلوب كلها حول (مسنكيل الفن) وردي إذا افصح بالغناء أو رطن (من غيرنا يعطي لهذا الشعب معني ان يعيش وينتصر ).
ولما لفن الغناء من دور كبير في تشكيل وجدان هذه الأمة تبنت جماعات أيدولجية وأخري حكومية بعض الفنانين واستهدفت ان تجعل منهم صوتا لها فأفسدت الصورة الزاهية للفنان وجعلت منه حلية في مجالس السياسيين او مسامر يسري عنهم فأصبح يغني في حدود المطلوب والمألوف لتأمين الرؤية السياسية الضاغطة ، فأنصرف الناس عن الفن الذي لا يحمل ملامح مغنيهم وقضيتهم وأشواقهم لوطن واحد متعدد ديمقراطي ، مغنيهم كان المجاهد ود سعد والثائر خليل فرح والمناضل محمد وردي والمبدئي سيف الجامعة ، وأمثالهم من (الذين اقتحموا النار فصاروا في يدي الشعب مشاعل ).
الفن في بلادي رسالة ومسؤولية وقضية والتزام كالذي وجده الناس في (ودالناس) مصطفي سيد احمد الذي ترك عشقه السرمدي (ام درمان ) وهاجر في ارض الله الواسعة رافعا شعلة النضال والتمرد والأنفراد و التجديد مثله مثل كل المصلحين وكل الذين انتقلوا من المكان للمكانة ، فقد مر مصطفي في الأرض سريعا كما تمر نغمة موسيقية أو كما يمر لحن او نسمة و مات شابا (كأبي تمام والتجاني يوسف بشير واندرية شينيه والشابي) وترك في نفوسنا صدي يتردد مدي الحياة والناس لن تنسي مصطفي ما دام للغناء قضية وفي الغناء غناء ، ولن تنسي الخرطوم حزنها يوم وصول نعشه الطاهر للسودان وكيف توحدت الأمة حوله ولفته في علم السودان (نصف مليون سوداني) شيعوه ولسان حالهم يقول ما قاله الشاعر محمد المكي ابراهيم :
لفوه في علم البلاد ودثروه بحقدها وعويلها
بتأجج الغضب المقدس فوق تربتها وملء سهولها
بشموخ وثبتها إلي الحرية الحمراء تقطر بالنجيع
وتدفقوا متظاهرين محطمين العار والذل الطويل
وكل ألوية الخنوع
لا البطش يرهبهم ولا الموت المحدق بالجموع
هذا المشهد ، مشهد الحزن العمومي علي موت مغني الشعب قال عنه الشاعر الطيب برير :
وقفوا على شط الوداع دموعهم في قبضة الأمل الذبيح
لو كان يملك أن يكون فدائكم لرأيتهم كل خلاص في عذابات المسيح
العين ما وسعت تضيق إذ ترى وطنا يضيق بنعشك المحمول في القول الصريح
وهذا مما لا شك فيه تقدير شعبي للفن النبيل المبدئي الذي وجد فيه الشعب تعبيرا عن همومهم وتطلعاتهم ومخاوفهم .
الأمة السودانية التي ولدت مصطفي وولدت ود سعد والخليل ووردي (ولادة) ، ولدت للمستقبل ولهذا الجيل الأستثنائي ، و هذا الزمان الإستثنائي ، وهذه الظروف الإستثنائية ، ولدت الفنان الهادي حامد (هادي الجبل) فنان ألحانه مستمدة من طبيعة الحياة والأحياء مزيجا من شخصيته وروح الأمة السودانية وطبيعة بني الإنسان ، ألحانه تستوعب تنوعنا من حيث المقامات العربية والأيقاعات الأفريقية وايقاعات المردوم والسيرة والدليب .
بمجرد سماعك ألحانه بجملها الموسيقية المختلفة وصوته المترف الغني ، تتأكد من صحة مقولة أن الفن هو تقليد للطبيعة، كما تدرك معني قول الدكتور حسن عباس صبحي (من يولد في غرف مستطيلة أو مربعة وفيها مقاييس يصعب عليه ان يكون مبدعا بعكس الشخص الملتصق بالطبيعة تجده اكثر إبداعا وتمعنا في ملكوت السموات والأرض ) فتري اثر طبيعة ربوع جبل الأولياء الساحرة بنيلها وخرير مياهها وفضائها الرحب وحدائقها الغناء الجميلة وأصوات طيورها البهيجة ، الخصيبة ، والخالية من أي نشاز ، تجد أثر هذه الطبيعة في ألحانه وكيف انها أغنتها بهذه الألحان الجميلة و أبعادها الواسعة التي استوعبتها قدراته الصوتية الرحبة ، وحين تقابله لأول مره تشعر كما لو أنك تعرفه وأن بينك وبينه حديث انقطع وتود لو أنه طال و تود لو اتصلت بينك وبينه الأسباب لتعرفه اكثر وتألفه اكثر مما تألف وحين يغني يمطرك سحرا ويتلاشى استغراقا ، انه يسعد النفس ويملأها روعة، حتى يهيأ إليك انه مزمار نبي الله داؤد ، تلك اللحظة تظل بصمة في الذاكرة.. فنان لا تحتاج لأذن لسماعه إن كنت سليم القلب فهو يغني لفؤادك ولحبيبة بملامح الوطن ، بكلمات فيها شفافية وعمق عالم عباس محمد النور، رمزية محمد الحسن سالم حميد ، مبدئية خطاب حسن احمد ، روعة قاسم ابوزيد ، ألق ازهري محمد علي ، سودانية المكاشفي محمد بخيت ، سحر الطيب برير ، جاذبية الصادق الرضي ، جمال عاطف خيري ، منهجية عثمان البشري ، ورقة عبدالعال السيد ، إنه فنان في داخله مشروع فني متكامل ملم بحركة التاريخ ويحمل رؤية للمستقبل ، هذا فنان العصر ، عصر الفن الراقي النخبوي والراديكالي التحديثي الشعبوي ..الفن الأستثنائي
الموسيقار والمؤلف والناقد الموسيقي المعروف يوسف الموصلي قال عن الأستاذ الهادي الجبل (إن أسلوب الهادي في التأليف والأداء و طريقة اهتزاز الصوت التي تميز ألحانه وطبقات صوته (الباريتون) أحدثت تحولا نوعيا ومنهجيا في الغناء السوداني وأحدثت هزة فنية لا تعادلها إلا الهزة التي أحدثتها فرقة البيتلز في الموسيقي الغربية ، لذا انه من الخير ومن الواجب علي الذين يعنون بأمر الثقافة والنقد الفني في سوداننا أن يدرسوا تجربة هذا الفنان الموهوب ، كيف نشأت وتطورت وانتهت بصاحبها إلي هذا المستوي العظيم من التفرد والروعة ).
إن غياب النقد الفني الحقيقي في السودان بعد هجرة من هم في قامة الموصلي وهيمنة شركات الكاسيت علي معظم النقاد أفسدت فينا حاستي السمع والتذوق حتي سمعنا أن جائزة فنان القرن في السودان نالها مطرب شعبي اسمه (حسين شندي) ( كده مره واحدة!! لمائة سنه ) منذ خليل فرح مرورا الكاشف ووردي ومحمد الأمين ومصطفي سيد احمد وفي وجود سلطان الغناء الشعبي صديق احمد .
إننا ان أردنا ان يكون للفن دوره الرائد في بناء الذات السودانية وتعميق معاني الإنتماء والوحدة الوطنية ، وإن أردنا أن نرفع مستوي فننا وانتشاره عالميا ، علينا ان نثقف المتذوق السوداني أولا بحيث يحسن استعمال حاستي السمع والبصر التي يعتمد عليهما في الأحساس بالجمال ونبدأ من وقت مبكر فيستطيع الطفل ان ينمو ويكبر ويكون له ذوقه .
وأختتم مقالي برأي د. احمد صقر استاذ الدراما عن التذوق والنقد الفني (أن المنظرون للدراسات النقدية يعتقدون ان قضيتي التذوق والنقد لم تحسم في النقد الفني ، ذلك لأن التذوق يظل عملية استيعابية شخصية للمتلقي لا تتطور الي ما تتطور اليه عملية النقد ، أما النقد الفني فأنه يتطلب من الناقد الموسوعية في الإطلاع والمعرفة كي يتمكن من إرساء القواعد الأساسية في عملية التلقي الفني نظرا لما للناقد من دور مهم وحيوي في دفع العملية الفنية تقدما ).
من خلال ما تقدم نلاحظ ان الفن قد لعب أدوارا مختلفة في تشكيل المزاج والوجدان السوداني وهذا يثبت أن الفن يمكن أن يؤدي أدوارا إيجابية وتنويرية تعمق من مفهوم الوحدة الوطنية و تعجل بالأندماج القومي ، لذا ينبغي ان يوظف الفن ايجابا فيما يشبع حاجات الأنسان الروحية واشواقه لوطن معافي (وطن حدادي مدادي) .
وختاما وفي ذكري ثورة ابريل أغني لكم ولأبناء بلادي الشرفاء رائعة محمد المكي ووردي:
إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي
وبأبناء بلادي البسطاء
وبأبناء بلادي الفقراء
الذين اقتحموا النار
فصاروا في يدي الشعب مشاعل
والذين انحصدوا في ساحة المجد
فزدنا عددا
والذين احتقروا الموت فعاشوا ابدا..... ولأبناء بلادي سأغني ..
|
|
|
|
|
|
|
|
|