ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله:

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-26-2024, 07:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-25-2008, 11:45 AM

zumrawi

تاريخ التسجيل: 08-31-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: (Re: zumrawi)

    من هو يحيى الطاهر عبد الله ؟
    منتدى القصة العربية > منتديات القصة العربية > أَعـــــــــلام و إِعــــــلام
    سمير الفيل17-05-2005, 08:20 pm


    سيرة حياة


    * ولد عبد الفتاح يحيى الطاهر محمد عبد الله فى 30 أبريل 1938 بقرية الكرنك - مركز الأقصر بمحافظة قنا ، وكان أبوه شيخاً معمماً يقوم بالتدريس فى إحدى المدارس بالقرية .

    * ماتت أمه وهو صغير فربته خالته التى أصبحت استمراراً لأعراف مورثة زوجة لأبيه فيما بعد . وله من الإخوة والأخوات - الأشقاء وغير الأشقاء ثمانية هو الثانى فى الترتيب .

    * تلقى تعليمه بالكرنك حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة وعمل بوزارة الزراعة فترة قصيرة ثم انتقل إلى مدينة قنا عام 1959 وهناك التقى بالشاعرين عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل فامتدت علاقتهما فى رحلة صداقة طويلة .

    * كان يحيى الطاهر شغوفاً بكتابات العقاد والمازنى وكان الأبنودى مهتماً بالموروث الشعبى العامى أما أمل دنقل فكان اهتمامه بالموروث العربى الفصيح ، وفى ذلك الوقت لم يكن يحيى الطاهر قد مارس أى شكل من أشكال الكتابة ، وبعد فترة من هذا اللقاء نظم الثلاثة أمسية أدبية ثابتة فى الجامعة الشعبية (قصور الثقافة حالياً) .

    * فى عام 1961 كتب يحيى الطاهر أولى قصصه القصيرة (محبوب الشمس) وأعقبها بقصة جبل الشاى الأخضر .

    * فى نهاية 1961 انتقل الأبنودى إلى القاهرة وانتقل أمل دنقل إلى الإسكندرية بينما ظل يحيى الطاهر مقيماً مع أسرة الأبنودى فى قنا لمدة عامين .

    * فى عام 1964 لحق يحيى الطاهر بالأبنودى فى القاهرة وأقام معه فى شقة بحى بولاق الدكرور حيث كتب بقية قصص مجموعته الأولى « ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً » .

    * بدأ يحيى الطاهر يتردد على المقاهى والمنتديات الثقافية وعرف كظاهرة فنية متميزة حيث كان يلقى قصصه التى كان يحفظها بذاكرة قوية إلى حد الغرابة ودنما اعتماد على أية أوراق ، وكان يحيى الطاهر يرى فى ذلك محاولة لتقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين.

    * قدمه يوسف إدريس فى مجلة «الكاتب» كما قدمه عبد الفتاح الجمل فى الملحق الأدبى بجريدة المساء وسرعان ما احتل مكانته كواحد من أهم وأبرز كتاب القصة والروائيين المصريين الذين عرفوا بجيل أدباء الستينيات .

    * فى أكتوبر 1966 صدر أمر باعتقال يحيى الطاهر ضمن مجموعة من الكتاب والفنانين فهرب لفترة ثم قبض عليه وأطلق سراحه فى أبريل 1967 .

    *تزوج يحيى الطاهر عبد الله فى مارس 1975 وأنجب بنتين هما«أسماء » و«هالة » وابناً سماه «محمد» ، توفى بعد ميلاده بفترة قصيرة

    * ترجمت له أعمال كثيرة إلى لغات مختلفة

    * لم ينشر له فى حياته سوى حوار صحفى وحيد أجراه معه سمير غريب ونشر فى العدد الثالث من مجلة خطوة فى 1982 .

    * صدر عن أعماله القصصية كتاب نقدى وحيد هو «شجو الطائر .. شدو السرب» لصديقه الدكتور حسين حمودة عام 1996 عن هيئة قصور الثقافة .

    * كتب يحيى الطاهر عبد الله فى بداية حياته بعض القصص والسيناريوهات لمجلة الأطفال المتخصصة «سمير» .

    * تعتبر قصة «الرسول» آخر ما كتبه يحيى الطاهر إذ كتبها فى الأيام الأولى من شهر أبريل 1981 .

    * توفى يحيى الطاهر عبد الله فى حادث سيارة على طريق القاهرة - الواحات ، يوم الخميس 9 أبريل 1981 ودفن فى قريته الكرنك .


    أعماله الأدبية :

    - ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً - 1970 .

    - الدف والصندوق - 1974 .

    - أنا وهى وزهور العالم - 1977 .

    - حكايات للأمير حتى ينام - 1978 .

    - الطوق والأسورة - 1975 .

    - الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة - 1977 .

    - تصاوير من التراب والماء والشمس- 1981 .

    - الرقصة المباحة (مجموعة قصصية ، كان يحيى قد أعدها للنشر فى مجموعة قبل وفاته ).

    - حكاية على لسان كلب .

    مصدر : الثقافة الجديدة ( المصرية ) ، العدد 178 ، مايو 2005.
    محمد عبد الله الهادي18-05-2005, 12:29 am
    شكراً أخي العزيز سمير
    أحببت يحيى الطاهر وقرأته في بداياتي ، رحل مبكراً في حادث سيارة ، فكتبت قصة بعنوان ( الصباح رباح ) علي غرار طريقته في قصته ( حكاية علي لسان كلب ) .. أهديتها لروحه .. وفازت القصة بجوائز.. وأكملتها بجزء أخير وأسميتها ( الدنيا سيرك كبير ) ..
    لو نوه إخواننا في الثقافة الجديدة عن ملف عنه لأرسلتها إليهم ..
    القصة هاهي .. ولتكن عودة واستعادة ليحيى ..
    قصة
    الدنيا سيرك كبير
    بقلم
    محمد عبد الله الهادي
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    مفتتح :
    " لعقتُ الدورق الكبير الذي يطفح منه اللبن الدافئ ـ لتهدأ أعصابي الثائرة ، ونظرتُ إلي المرآة ـ وأنا أكلم خيـالي : قل لي يا خيـالي : خيال من أنت .. خيال ميزو أم خيال محفوظ ؟! "
    { يحيى الطاهر عبد الله في حكاية علي لسان كلب }
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    " دنـــيا "
    ــــــــــــــــــــــــ
    1 ـ فرفور
    أنا فرفور .. أنا جحش وابن حمار ، أمي تناديني بـ " فرفر " ، وقصة قدومي إلي ظهر البسيطة قصتها أمي لي :
    ـ " أبوك هو حمار العمدة .. أنت صورة منه يا فرفر .. في يوم ربيعي أسلمتُ لأبيك نفسي عندما رغبني وأودعك أحشائي وحملتك في بطني .. عند قدومك يا فرفر فرح صاحبنا فرحاً عظيماً .. صاحبنا فلاَّح فقير والعمدة صاحب أبيك رجلٌ غني .. أنا وصاحبنا نشقى أجراء في الأرض وأبوك لا يتعب مع العمدة الذي لا يعمل .. صاحبنا لا يملك الأرض فيرضى بالقليل والعمدة صاحب أبيك لا يقنع بالكثير ..
    يا فرفر : صاحبنا أحب شقاوتك وهو الذي اسماك فرفور " .
    قلت لأمي :
    ـ " لكني أريد أن أرى أبي يا أمي " .
    قالت :
    ـ " أبوك يحمل العمدة فقط للأفراح أو المآتم أو الأسواق " .

    2 ـ أبــي
    في عز الظهر القاسي كان الطريق الترابي مغبراً ، الشمس الكبيرة تحلب الحر والصهد والشعاع الأصفر ، أشعر بالضيق وأنا أمضي خلف أمي يمتطيها صاحبنا ، جلباب صاحبنا الكتَّان مصبوغ بلون النيلة الأزرق الكالح ، ويقي رأسه الصغير بمنديل عريض " محلاَّوي " ، أمي تعرف الأصول لمَّا سارت بمحاذاة الطريق تحت ظلال الكازورينا والكافور ، غمزت أمي بعينها وقالت بلسانها :
    ـ " أبوك قادم يا فرفر " .
    قفز صاحبنا للأرض لمَّا رأى أبي قادماً يحمل العمدة بملابسه الزاهية ..
    حزنتُ لمَّا رأيته يحني رأسه ويميل علي يد العمدة بشفتيه والتي سحبها مستغفراً ، لكني فرحتُ لمَّا رأيت أبي يشمخ برأسه للسماء ، لون شعره بني مثل لون شعري ، أبي بلونه البني يبدو فتياً بعكس أمي التي كانت تبدو عجوزاً وأحزنني أن أراها تطأطأ رأسها للأرض ، دنوتُ من أبي ، شممته ، أحسستُ بشفتيه وأنفاسه تمسح ظهري ، كان صاحبنا منهمكاً في حديث مع العمدة عندما نهرني وأبعدني عن أبي ،طيبتْ أمي خاطري ولعقتْ شعري الناعم بلسانها وأعطتني أثداءها الوفيرة ..
    كان لقائي بأبي مفعماً بشعور يتأرجح ما بين الحزن والفرح ، لقد أدركتُ أن عينيه وقلبه معي .
    * * *
    " مسرى اللعين "
    ــــــ
    1 ـ مـرض
    لمَّا حلَّ شهر " مسرى " اللعين مرضتْ أمي مرضاً شديداً ، ظللتُ بجوارها عندما رفض صاحبنا النطع أن يحضر البيطار ، أتتْ زوجته بمسمار " حدادي " له رأس كبير ، دفنته في الجمرات الملتهبة ، تشاءمتُ عندما أمسك صاحبنا المسمار بخلقة قديمة ، وبرأسه المتوهج رسم علي ظهر أمي " رجل غراب " ، أناخت أمي للأرض ، أنَّتْ أنيناً أوجع قلبي ، نامتْ .

    2 ـ لــص
    لم تذق عيناي طعم النوم طوال الليل ، كان تفكيري يتراوح ما بين أمي وصاحبنا تارةً ، وأبي والعمدة تارةً أخرى ..
    تحت جنح الظلام قفز الرجل سور الحظيرة الواطئ والمكشوف ، أقبل ناحيتنا ومدَّ يده نحو مقود أمي ، حدقتً في وجهه الغريب ، أدركتُ أنه لص فصرخت وعضضتُ يده الآثمة فولَّى مدبراً ، لكن أمي المريضة لم تحرك ساكناً .

    3 ـ رحيـل
    في الصباح رحلت روح أمي من عالم الباطل إلي عالم الحق ، بكيتها بحـر الدمع وفيما تفيد الدموع ؟ ، سحلها أولاد صاحبنا إلي التلال البعيدة وأنا خلفها أبكي ..
    " الغرابلي " : صانع المنخل والغربال شحذ مشرطه اللامع علي الحجر الصوان وراح يعمله في جلدها الذي يبتغيه ، حزنتُ ونهقتُ في وجه الكلاب أبناء الكلاب الذين كانوا يتقافزون بسعادة ويسنون أسنانهم وينتظرون ، لمَّا رأيت " غراب البين " يحجل رجليه بالقرب مني قلت في نفسي : هذه أيام شؤم وطالعها أسود ..
    وكانت الحدأة .. وكان الصقر الجارح .. يحومان في الأفق بعيداً ويقبلان .

    4 ـ الصبر والسلوان
    عدتُ وأنا أتمتم : عزائي يا أمي أنني سأذكرك وأرى طيفك مع كل هزة غربال أو منخل في أيدي الفلاَّحات في صحون الدور أو علي المصاطب أو في ساحات الأجران .

    * * *
    " أمور جديدة "
    ــــــ
    1ـ الهروب الأول
    امتطى صاحبي ظهري ليعلمني الخطو المنتظم بين المسالك والدروب لأحل محل أمي الراحلة ، كان يوجهني بعصا قصيرة ، قلت : " العيش معك حرام أيها النطع " ، رفعتُ قدميَّ الأماميتين في الهواء ثم قفزت عالياً وأطحتُ به أرضاً وفررت هارباً ..

    2 ـ مناقشة وقرار
    كان أبي تحت النخلة الحياني للعمدة وأمامه مزود يمتلئ بالتبن والفول ودلو كبير يطفح بالماء ، قال أبي بلهجة ناصحة :
    ـ " عُدْ إلي صاحبك يا فرفر ، لا تكن طائشاً ، نحن لم نخلق سوى للعمل والصبر " .
    صحتُ في وجهه :
    ـ " لستُ طائشاً يا أبي .. لكني أرى في بني قومي " العبط " والغباء .. كيف ترضون حياة الذل والهوان يا أبي ؟ " .
    قال أبي بلهجة تحذيرية :
    ـ " اليوم هو سوق القرية .. لو رآك رجال " الشفاخانة " لن يتركوك يا ولدى " .
    قلتُ بلا مبالاة وقد جاءتني الفكرة :
    ـ " شكراً يا أبي .. سأذهب إليهم بنفسي ولن أرجع للنطع مرة أخرى .

    3 ـ رحيـل
    تصنعتُ المرض ، سعلتً مراراً ، بصقتً ، دفعني رجال " الشفاخانة " داخل العربة الكبيرة بين أقراني ، ضحكتُ لمَّا رأيتُ صاحبي يضرب كفَّا بكف والعربة تمضي مسرعة صوب المدينة ، علي الطريق كان التعارف مع أقراني سريعاً ، لمَّا كان البغل أكبرنا حجماً فقد بايعناه قائداً لنا نجتمع حول كلمته في الرحلة المجهولة .

    * * *
    دار الشفاء " الشفاخانة "
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    1 ـ عناية
    الإسطبلات واسعة ، الحيوانات كثيرة علي كل شكل ولون ، العناية مركزة من البيطريين المهرة والممرضين الأشداء ، جاء دوري فوضعوا عصا قصيرة بين فكيَّ ، فحصوا أسناني وجسُّوا جسمي وأنا مقيد تماماً ، رشقوا سائل الحقنة في كفلي ، أغرقوا جسدي بسائل لبني له رائحة نفاذة ، وأخيراً فكوا قيدي وقدموا لي الطعام والشراب .

    2 ـ ليلة التسليم
    قالت حمارة عجوز سوداء :
    ـ " صاحبي لا يرحم شيخوختي فأنا أعمل ليلاً ونهاراً " .
    وقال حمار حصاوي :
    ـ " لا يهمني جهد العمل .. مشكلتي قلة الطعام والضرب بلا مبرر " .
    بكتْ حمارة أخرى وقالت بخجل :
    ـ " ابن صاحبي غير متزوج .. جلف مثل أبيه ، يرفع ذيلي في الظلام ويواقعني رغم أنفي".
    تعجبتُ من قائدنا البغل الذي قهقه ضاحكاً حتى بانتْ نواجذه ، فقلتُ :
    ـ " ماتت أمي وصاحبي لم يعتن بها في مرضها " .
    كان البغل ما زال يسمع ويفتح فمه بابتسامة بلهاء أغاظتني ، قلت له :
    ـ " ما رأيك يا قائدنا .. يا كبيرنا .. يا حكيمنا ؟ " .
    نظر نحوي بسذاجة ، ضرب حافره في الأرض ، قال :
    ـ " لكم الجنَّة معشر الحمير .. هذه حياتكم .. هذا قدركم ! " .
    قلت في سري :
    ـ بغلٌ وأمك حمارة عرجاء " .
    وانتحيت بباقي المجموعة نتدبر الأمـر .

    3 ـ الهروب الثاني
    لمَّا رأيت صاحبي واقفاً مع الآخرين في انتظار تسلم حيواناتهم ، نفر الدم في عروقي فنهقتُ معطياً الإشارة المتفق عليها ، صرخ الجميع وهاجتْ معاشر الحمير في ثورة عارمة ، تقطع القيود وتتخلص منها ، ترفس وتركل وتعض ، تصدر نهيقاً مدوياً يشق عنان السماء . جرى الأطباء وانزوى الممرضون في الأركان وتفرق الجمع ، اختلط الحابل بالنابل عندما انطلقنا كل في اتجاه ، الوحيد الذي لم يتحرك كان البغل فقلت : بغل وابن عرجاء ، نجحت خطتي الثورية وانجلى ليل الذل وكُسرت قُيود الهوان في هروب جماعي من قيود الأسر .

    * * *
    " عالم الحريَّة ـ ما أحلاه "
    ما أروع عالم الأحرار وأنا أسرح بلا قيود في شوارع المدينة البعيدة ، أشم نسيم الحرية وأمتع عيني بالنظر للمعروضات خلف زجاج " الفترينات " ، لخلق الله من كل لون وكل ملَّة ، المركبات التي تروح وتجئ بكافة الأحجام والألوان ، تمنيتُ أن يمنحني الله جناحين لأجوب الأفق مسافراً وأرى هذا الكون البديع ، ظللت أمشي وأمشي وأمشي ، من شارع إلي حارة إلي زقاق حتى هدَّني التعب ، عند طرف المدينة ملتُ بجوار أحد المنازل وغفوتُ .

    " اللص مرة أخرى "
    أفقتُ علي يد تهزني وتجذب حبلاً حول رقبتي ، عرفته : كان اللص نفسه مرة أخرى ، قلت لنفسي : كمن يستجير من الرمضاء بالنار جئتك أيها اللص ، والمكتوب ليس منه هروب .

    * * *
    " حياة الليل والسهر والشهرة "
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    " أ " السـيرك
    ساوم اللص علي ثمني مع صاحب السيرك الذي اشتراني طعاماً من أجل أسوده ونموره ، ندبتُ حظي وقلت الهلاك قادم لا محالة ، لكني تبينت الفرج كضوء الصبح ينبلج من ظلمة الليل ، عندما رآني المهرج وتوسم في وجهي نباهة وقال : " اختبره " فقلتُ : " إني لها " ..
    وقفتُ علي رِجليَّ الخلفيتين ، هززتُ ذيلي تارة لليمين وأخرى للشمال ، لعبتُ أذنيَّ ، أغمضتُ عينيَّ ثم فتحتها .. لكني لم أفتح فمي ، قال المهرج لصاحب السيرك :
    " فرفور هو المطلوب " .

    " ب " صرتُ نجــماً
    ـ 1 ـ
    في المساء أدخل الحلبة مسرعاُ ، أجري علي محيط دائرة حول صديقي المهرج الذي يصبغ وجهه وملابسه بألوان صارخة ، أحبائي الأطفال يصيحون : " فرفور .. فرفور .. فرفور " ، يمتطي المهرج ظهري بخفة وأنا أجري ، تطير ملابسه الملونة في الهواء ، يضحك الأطفال وهم يصيحون باستجداء : " فرفور .. فرفور .. فرفور " ، ينتظرون مني ـ بفارغ صبر ـ أن أرفع قدميَّ في الهواء ليسقط المهرج أرضاً وليغرقوا هم في ضحك متواصل لا ينقطع .

    ـ 2 ـ
    طاب العيش ، أحببتُ الشهرة ، أدمنتُ السهر ، الأطفال يعشقونني ، يحتفظون بصوري التذكارية معهم موقعاً عليها بحافري ، السائس يقدم لي البرسيم الأخضر صباحاً والفول المدشوش مساءاً مع اللبن والماء ، صديقي المهرج يلف يده حول عنقي في صورة كبيرة تتصدر واجهة السيرك ، صار اسمي مع صورتي " ماركة مسجلة " فوق لعب الأطفال ، وجهي المبتسم مرسوم علي قمصانهم وسراويلهم وفوق زجاج السيارات ، صنعوا لي التماثيل من الحلوى والجص والطين الصلصال ، أقيم الآن في مسكن خاص مزود بكافة الضروريات والكماليات .

    ج ـ أنا ابن أبي
    أطلب من السائس أن يأخذني ـ بين الحين والآخر ـ إلي حظيرة الحمير التي تنتظر الذبح من أجل وحوش السيرك ، أنتقي أنثى تروق لي وترافقني ليلة أو ليلتين ثم أتركها لمصيرها وأنساها ، أنا ابن أبي ، لقد غلفت حياة الليل قلبي بغلالة من حديد .

    * * *
    " دوام الحال من المحال "
    ـــــــــ
    1 ـ سياسة .. لعنها الله
    هاجتْ المدينة وماجتْ ، الانتخابات علي الأبواب ، صفق صاحب السيرك وهلل وألقى المفاجأة :
    ـ " حزب الحكومة اختار الأسد شعاراً له .. وحزب المعارضة اختار فرفوراً شعاراً له " .
    قلت له :
    ـ " لا جديد تحت الشمس فأنا أصلاً معارض قديم .. ورحم الله أيام صاحبي النطع " .

    2ـ مناظـرة
    أمام كاميرات التليفزيون الملون قال الأسد وهو يزأر :
    ـ " أنا الملك .. أنا الحكومة .. أنا القوَّة .. انتخبونا أيها السادة وأيتها السيدات .
    قلتُ بتواضع :
    ـ " أيها الشعب .. نحن ممثلوكم الشرفاء .. نحن الذين نعمل بصبر وأناة ولا ننتظر جزاءاً إلاَّ من الله " .
    زأر الأسد ساخراً ، أردفتُ بلسان فصيح :
    ـ " الأسود ينامون .. لا يعملون .. هم عالة علي المجتمع " .
    قال الأسد غاضباً :
    ـ " أنا السيِّد .. نحن السَّادة " .
    قلتُ :
    ـ " انتهى عصر السادة ومضى زمن العبـيد " .
    وصرختُ بأعلى صوتي :
    ـ " يحيا الشعب .. يحيا الشعب " .
    نظر الأسد نحوي غاضباً وكشَّر عن أنيابه وزأر زئيراً مخيــفاً ، لكني أخرجتُ له لساني ولعبتُ أذنيّ وهززتُ ذيلي وقلتُ :
    ـ " طـــز "
    جرتْ المناظرة الانتخابية علي كل لسان في المدينة .

    2 ـ مؤامـرة
    المؤامرة : شممتُ رائحتها بأنفي ورأيتها بعيني وسمعتها بأذني ..
    ثأثأ وفأفأ صديقي المهرج بلسان الخوف :
    ـ " فرفور كبر وخرف وشاخ .. فرفور غير قادر علي أداء النمرة .. سأستبدله بمعزة " .
    قال صاحب السيرك :
    ـ " ما أكثر الحمير .. الباب الذي يأتي منه الريح .. سدُّه واستريح " .
    قال مدرب الأسود بخيلاء :
    ـ " السيرك هو الأسد والأسد هو السيرك " .
    بعيني رأيت صورتي تنزل من واجهة السيرك ، بعيني رأيت اسمي يُشطب من فقرات " البروجرام " .

    4 ـ الصباح ربــاح
    من مقامي المريح إلي حظيرة الحمير أنزلني صاحب السيرك انتظاراً للذبح من أجل عيون الأسود ، كنت ما زلت مذهولاً من هول المفاجأة وشارداً عندما رفسني أحدهم بغلظة ، انتبهتُ وعرفته : إنه البغل ابن العرجاء ، قلتُ بدهشة :
    ـ " أنت مرة أخرى " .
    قال :
    ـ " باعني صاحبي للسيرك فلم أعد قادراً علي العمل " .
    ـ " وماذا أنت فاعل ؟ " .
    ـ " هذا حال الدنيا فالكل إلي زوال " .
    لم أحتمله هذه المرة ، صرختُ في وجهه :
    ـ " اصمت أيها البغل .. يا ابن العرجاء " .
    ضحك ساخراً مني وانكمش بعيداً ينظر نحوي في بلاهة ، لكنني تبينتُ أن لسان حاله يخاطبني قائلاً :
    " ماذا ستفعل هذه المرَّة يا فرفور ؟ .. أنت مُحاط بأسوار عالية وقيود وحرَّاس .. ليس معك سوى عجزة الحمير ومرضاهم .. هل تنتظر النهاية المحتومة ؟ .. عينا الأسد تحدقان فيك من وراء القضبان ولا تناما .. إنه ينتظر ليشفي غليله عندما ينهش لحمك ويمزقه بأنياب من حديد .. " .
    هززتُ رأسي أنفض عنها الوساوس والأفكار السوداء وخاطبتُ داخلي :
    " لماذا لا أنام الآن والصباح رباح ؟ .. والصباح رباح .. رباح .. رباح ..

    * * *
    " اللهم اجعله خيراً "
    ـــــــ
    1 ـ غفـوة
    .. أمي تموت وصاحبي لا يحرك ساكناً .. أمي تستغيث .. تناديني بصوتها الذي يقطر لوعة فيتقطع فؤادي .. صوتها ينسحب رويداً رويداً : " فرفور أنقذني .. فرفور أنقذني " .. العجز يكبلني ولا أدري كنهه .. كلما هممتُ بالتدخل لأحول بينها وبين الموت عجزتُ .. أطرافي لا تتحرك وكأنها مثبتة بأثقال من حديد .. أمي تموت وصاحبي يلقيها للكلاب أبناء الكلاب .. صارت أمي وليمة فصارت شمس النهار في عيني سوداء ..

    2 ـ لعبة الموت
    .. فجأة كانوا حولي في دائرة .. أبي تلومني عيناه بينما قلبه يتحسر عليَّ .. البغل ابن العرجاء تستفزني بلاهته .. صاحبي قاتل أمي .. اللص وصاحب السيرك والمهرج صديقي الخائن .. يحيطونني في حلقة جهنمية محكمة الحصار .. الأسد يطاردني بلا هوادة .. يلاعبني لعبة الموت .. لا فكاك .. بقفزة واحدة لو أراد يكون فوقي لينهش لحمي بمخالبه وأنيابه .. أهو يسليهم أم يسلي نفسه ؟ .. أيلعب معي لعبة " حاوريني يا طيطه " أم أنها لعبة الموت ؟ .. يتلمظ ويتناثر لعابه كأنني قطعة حلوى في يدي طفل يستعذب حلاوتها .. كلما دنا مني فررتُ من جهة إلي أخرى .. هم يسدون المنافذ .. أعرف أنها حلاوة الروح التي تتشبث بالحياة قبل العـدم ..

    3 ـ صحـوة
    .. كدتُ أموت في جلدي عندما لمسني في قفزة فكاد يقضي عليَّ .. لعبة الموت مستمرة .. هم يتفرجون ويهللون .. الأسد في قمة انبساطه .. مع كل اقتراب منه وقفزة هروب مني يذكرني بالمناظرة إياها .. يتهكم باللوم والتوبيخ والسؤال الاستنكاري :
    " أنا عالة علي المجتمع ؟! .. الأسود ينامون ؟! .. انتهى عصر السادة ؟! " ..
    يبدو أنه قد ملَّ اللعبة .. أُدرك هذا من نظرة عينيه وهو يقفز نحوي قفزته الأخيرة .. قفزة هائلة حمَّلها كل غضبه وقوته .. علا عالياً ثم هبط نحوي كمصارع هائل يريد إنهاء الجولة بتثبيت الأكتاف .. قبل أن يهوي فوقي صرختُ بأعلى صوتي ولمحتُ وجهاً مألوفاً يشق صفوفهم نحوي .. من هو ؟ .. لم تسعفني اللحظة القاتلة بالتذكر .. سحبني في سرعة البرق من تحت الأسد الذي هوى علي الأرض يصرخ متألماً .. حدث هذا في لمح البصر .. فصحوت ..

    الهروب الثالث
    ـ 1 ـ
    صحوتُ علي صوتي المنفلت والحيوانات الفزعة حولي ، عيناي تتآلفان مع المرئيات ، البغل يسألني :
    ـ ما بك ؟ .. هل تحلم حلماً مزعجاً ؟ " .
    يشد انتباهنا الحائط الخشبي الذي يحيط بنا وهو يتململ من موضعه ، ماذا يحدث يا ربي بالخارج ؟ ، فجأة سقط الحائط فوق رأس البغل فخر ساقطاً ، ورأيته مقبلاً نحوي ، نفس الوجه المألوف الذي حلمتُ به ، لكنني الآن عرفته ، إنه : " الحمار الحصاوي " الذي عرفته من قبل في " الشفاخانة " ، الذي قاد معي ثورة الهروب الجماعي من قيود الأسر ، كان يجذبني وهو عجول ويهمس لي :
    ـ " هيا .. هيا قبل أن ينتبهوا .. هيا .. " .
    رحتُ أعدو خلفه وأنا غير مصدق ، كان يعدو ويحثني وأنا أجاهد بالجري وراءه ، ننعطف من شارع لآخر ، الدموع تتساقط من عيني ، ونفسي تحادث نفسي متسائلة : هل ما زلت أحلم أم أنني أعدو في اليقظة والصحو وأتحرر ؟ ، الدموع تتبعثر فوق الأرض ..
    لقد أرهقتني الأحداث فلم أعد قادراً علي التمييز بين الحلم والحقيقة .

    ـ 2 ـ
    كنا قد خلفنا المدينة بأضوائها وصخبها وخرجنا إلي طريق يخترق الحقول ، هدأنا قليلاً ورحنا نمشي بتؤدة بعدما أحسسنا بالآمان ، نلتقط ما تبعثر من أنفاسنا المتعبة ، كان صديقي الحصاوي يحدثني وأنا غير مصدق ، جاءني صوته في هدأة الليل كأنه صوت كروان يصدح :
    ـ " لقد سمعت بمناظرتك للأسد يا سيدي .. إنني معجب علي نحو خاص بتجربتك الثرية ، بل إنني أعتبرك مثلي الأعلى في الإقدام واقتحام المجهول .. لم يكن ليرتاح ضميري يا سيدي أن أتركك لهم .. نهباً لمؤامراتهم .. لقد كانوا ينوون القضاء عليك لا محالة .. لقد عتَّموا علي أخبارك في الصحف المحلية .. لكنني سمعتُ بها في الإذاعات الأجنبية .. لهذا فكرت ونفذت .. تركت الوسيَّة في أول الليل دون أن يشعر أحد بي واتجهت للمدينة صوب السيرك .. هانحن قد نجحنا أخيراً .. حمداً لله علي سلامتك سيدي فرفور " .
    استمع إليه صامتاً ، تمنيت أن يعضني الحصاوي أو يركلني حتى أتأكد أنني لست نائماً ، لكنه لم يفعل وهو يواصل :
    ـ " لماذا أنت صامت يا سيدي ؟ .. هل تشعر بالتعب أو وعكة بسبب ما بذلناه من جهد ؟ .. لا عليك يا سيدي لقد اقتربنا وسنستريح " .
    كنت آنئذ أخاطب داخلي :
    " لقد تحول نصف حلمي إلي حقيقة " .

    ـ 3 ـ
    جلسنا بجوار قناة ، أرتشف الماء الزلال وأرتوي ، أنظر للسماء مبهوراً ، الليل يؤذن بالرحيل ، نجمة وحيدة في ركن السماء ، افتح صدري وأستقبل أريج النوَّار في الحقول ، يصافح سمعي أصوات حيوان الليل ، انبلج نور الفجر ، تبينت وجه صديقي المخلص الحصاوي ، كافور عملاق ونخيل باسق وصفصافات متهدلات الأغصان ، حقول ممتدة علي مدد الشوف ، طيور تستيقظ من أعشاشها ساعية لأرزاقها ، آخذ نفساً عميقاً من الهواء النقي المندَّى ، أخذتني ذاكرتي لأيامي الخوالي حيث أمي وصاحبنا وأبي والعمدة وقريتنا الجميلة ، هل كنت علي صواب في هروبي الأول من القرية إلي المدينة ؟ ، خرجتُ مؤملاً بالأماني العظام لكنني لم أحصد سوى الرياح ، رحت أعزِّي نفسي قائلاً لها : إن شجرة " يا ليت " لا تثمر بتاتاً ، وقلت لها أيضاً إن هذا هو قدري وذاك هو نصيبي ، كنت أحدق مبهوراً في جمال الطبيعة الساحرة عندما أخرجني الحصاوي من شرودي :
    ـ " هل أنت بخير يا سيدي فرفور ؟ " .
    قلت له :
    ـ " نعم .. ولكن دعك من سيدي هذه .. أنت أخي وصديقي المخلص .. لقد أنقذت حياتي" .
    قال لي :
    ـ " لقد أنقذت أنت يا سيدي حياتي من قبل وأنا مدين لك " .
    قلت وأنا أشيح بوجهي عنه :
    ـ " أوه .. سيدي مرة أخرى ! أنا جائع يا صديقي " .
    نهق ضاحكاً وهو يقول :
    ـ " أنت الآن في الوسية يا سيدي " .
    وأشار لحقل البرسيم فاندفعت نحوه ، برسيم الصبح أحسسته في فمي أجمل طعام الدنيا .

    * * *
    الوسـيَّة
    ــــــ
    1 ـ زواج
    أحواش وإسطبلات ومزارع ، حيوانات من كل جنس ولون ، قصر كبير وباشا له كرش وفلاحون فقراء أجراء ذكروني بصاحبي القديم ، تهت في هذه المتاهة ، العمل في الوسيَّة لا أعرف بدايته من نهايته ، أعمال كثيرة تصب في مجاري صغيرة ، تتجمع بدورها في مجرى أكبر ينتهي مصبه في كرش الباشا ، نفترق ـ أنا وصديقي الحصاوي ـ في الصباح ونلتقي في المساء ، هذا يحمل العلف وذاك يذهب للحقول وآخر يجر العربات وهكذا ..
    ذات مساء ، لاحظ صديقي شرودي فسألني ، صارحت بالقول :
    ـ " العمر يجري سريعاً وأنا لم أعقب لي ولداً حتى الآن .. ولداً يحمل اسمي ويكون امتداداً لحياتي .. علاقاتي بالجنس الآخر كلها علاقات عابرة .. صخب ومجون .. لم أتزوج حتى الآن وأعتقد أن الوقت قد حان " .
    ضحك الحصاوي وفهم مقصدي ، لكزني بحافره وغمز لي بعينه وأشار ناحية الركن ، كانت حمارة بيضاء وشابة لم انتبه لوجودها من قبل ، أحببتها من أول نظرة ، تابعتها كظلها في الغدو والرواح حتى اطمأنت لي وأحبتني ، وفي يوم ربيعي ، وفي حقل برسيم ، أسلمتْ لي نفسها فأودعته أحشاءها .

    2 ـ صرتُ أبـاً
    جاء ابني للدنيا وقد أخذ من أمه لونها الأبيض ومني شقاوتي وعفرتتي ، أسميته " فرفور الصغير " أحبه الكل وهو يتدلل عليهم جميعاً ، قلتُ لنفسي : هو " ابن عِـز " ، جاء ميلاده في وسيَّة وليس في كوخ فقـير ، رحتُ أعلمه وأمنحه خبرتي وتجاربي في الدنيا ، وراح هو يكبر أمام عينيَّ وأنا أحوطه برعايتي .
    لكن لأن دوام الحال من المحال فقد تغيرت الدنيا فجأة ما بين عشية وضحاها ، اندلعت في البلاد ثورة كبرى غيرتْ كل الأوضاع ، لم تعد المدينة ملكية ، صارت جمهورية ، ولأن كل الأشياء تغيرتْ فقد جاء الوقت علي الوسيَّة ، تفتتْ بقوانين قيل أنها اشتراكية ، ولم يعد الباشا باشا ولا لكرشه وجود .
    كنت أسأل نفسي : هل تحقق النصف الآخر من حلمي أم لا ؟! .

    3ـ مـزاد
    " آلا أونا .. آلا دو .. آلا تري " ..
    هزَّ الخبير المثمن جرسه فصلصل وهو يصيح :
    " آلا أونا .. آلا دو .. آلا تري " ..
    كانت دموعنا تتساقط حزناً ، الدنيا دنيا الفراق كما قالوا ، هاهو المزاد يُفتح ، هانحن نُباع لمن يدفع أكثر ..
    " آلا أونا .. آلا دو .. آلا تري " ..
    عندما أشارا لـ " فرفور الصغير " ورسا المزاد عليهما ، عرفتُ واحداً منهما : صديقي المهرج ، معه رجل آخر لا أعرفه قيل أنه : مدير السيرك الجديد بعد تأميمه ..
    فرفور يا ولدي الصغير هل ستعيد سيرتي الأولى مرَّة أخرى ؟ ..
    فرفور يودعنا بالبكاء ويمضي معهما ، حمدت الله أن المهرج لم يعرفني فلابد وأنني قد تغيرتُ كثيراً ، لكنه يذكرني من خلال ولدي الصغير ، أمَّا صديقي الحصاوي فقد اشتراه رجل غني من أثرياء العصر الجديد ، وبيعت الحيوانات الأخرى ولم يبق إلاَّ سوانا : أنا وزوجتي الحمارة البيضاء ، رسا مزادنا علي مندوب مجلس المدينة بأبخث الأثمان ..
    هكذا افترقنا كل في طريق ، وكل الطرق انتهتْ عند المدينة ، حمدنا الله أننا لم نبتعد كثيراً .
    في مجلس المدينة تم تسجيلنا في الدفاتر الرسمية ، صار لكل منا ملف يحمل الاسم والعمر والدرجة المالية والعمل المكلف به حسب اللوائح والقوانين ، صرنا موظفي حكومة والحمد لله الذي لا يُحمد علي مكروه سواه .

    * * *
    " موظفون في الأرض "
    ـــــــ
    خُصص لكل منَّا " عربة كسح مجاري " لكسح المجاري ، نجرها في أوقات العمل الرسمية للأماكن التي لم يدخلها الصرف الصحي بعد ، عمل وضيع لاشك في هذا ، لكن ما باليد حيلة كما يقول المثل ، ماسح الأحذية ـ مثلاً ـ ينحني علي أحذية القوم ينظفها ويلمعها لهم مقابل قروش قليلة ، فليكن ، نحن ـ أيضاً ـ ننحني خلفهم لننظف ما تجود به مؤخراتهم ، قائد عربتي كأنه " رومل " في زمانه ، متجهم دائماً ومكتئب ، كأنه غير راضٍ مثلي عن عمله ، يُفرغ شحنات همومه فيَّ بالطبع فيلهب بسوطه ظهري وهو يتنقل من مجرور إلي آخر ، هكذا الأمر من الصباح إلي آخر النهار ، عمل لا يكف وكأن الناس تأكل آخر زادها ، نكسح المجرور ونخرج من المدينة لنتخلص من حمولتنا في أحد المصارف أو الأنهار البعيدة ، أحياناً يكثر العمل فأشقى أنا ويسعد هو بـ " البقشيش " الذي يحصل عليه ، آنئذ ، يعطي لذمته إجازة فلا ينظف الخزانات تنظيفاً جيداً ، ولا يبعد كثيراً عن المدينة مكتفياً بإلقاء الحمولة في مكان مهجور أو علي جانب الطريق ، المهم لديه أن يتخلص منها بسرعة ثم يسرع بالعودة قبل أن ترصده العيون ، كما إنه رجل "طِفس " ، أي يستكثر عليَّ نعمة الوظيفة ، فهو يعرف أن الموظف المختص بنا يسرق نصف العلف المخصص لنا ، ويأتي هو ليسرق نصف النصف ، فلا يتبقى سوى القليل من الطعام الذي يقيم بالكاد أودنا ، شكوتُ لزوجتي الحمارة البيضاء منه في مرَّة فعرفتُ أن الحال من بعضه ، بل ربما كان حالها أسوأ ، قالت بصوتٍ كسير :
    ـ " تقدم العمر يا فرفور .. لمن نلجأ ؟ .. لنحمد الله إننا موظفان وعلي درجة " .
    رضيتُ بواقع الحال ، لم يكن هناك ما يرطب حياتي الجافة إلاَّ سماعي بأنباء نجاح فرفور الصغير في عالم السيرك .

    * * *
    ربَّ صـدفة
    ـــ
    كانت مصادفةً عجيبةً حقاً تلك التي جمعتْ بيننا ، التقينا جميعاً مرَّة أخرى بلا ميعاد ، أنا وزوجتي نجر عربتي الكسح لننزح مجرور السيرك ، ولدي فرفور والسائس ينزهه في الهواء الطلق أمام السيرك ، الحصاوي يجر " كارتة " جميلة تحمل طفلين كملاكين جميلين .
    اهتز قلبي لرؤية السيرك ، لأول مرَّة أعود إليه منذ تركته هارباً ، يا لها من سنوات مرَّتْ أخذتْ معها العمر ومضتْ كأنها سويعات قلائل ..
    صاح الحصاوي مبتهجاً باللقاء :
    ـ " الدنيا حقاً صغيرة " .
    لكني كنت أشبع عيني برؤية ولدي فرفور الصغير ، أشفقتُ عليه من مغبَّة رؤيتنا بعد كل هذه السنوات علي هذه الحال التي لا تسر عدواً أو حبيباً ، كانت عيناه تشرقان بالدمع وهو يخاطبنا بصوت متهدج :
    ـ " كيف حالك يا أبي ؟ .. كيف حالك يا أمي ؟ " .
    لم نكن بالطبع نود إحراجه بهمومنا الكثيرة ، قلنا له :
    ـ " بخير يا ولدي .. تسعدنا أخبارك دائماً " .
    وانتبهتُ للحصاوي الذي كان يمعن النظر بي فاتحاً فمه بدهشة وبلاهة ذكرتني بالبغل ابن العرجاء ، وكان سؤاله :
    ـ " كيف يحدث هذا ؟ .. كيف ترضى بهذا يا سيدي ؟ .. إن صاحبي خصص لي هذه " الكارتة " .. إنني أحمل الطفلين للمدرسة أو التنزه فقط .. فقط يا سيدي .. كيف ترضى؟!"
    شر البلية ما يُضحك ، أأضحك علي حالي أم أضحك علي هذا البغل الذي يناديني بسيدي ؟! ، أشحتً بوجهي بعيداً عنه وقلت لنفسي : السكوت من ذهب ، لحرج الموقف تطوعتْ زوجتي بالرد ، لا أدري لماذا كان صوتها عالياً ؟ :
    ـ " الحمد لله .. آه .. ألا تعرف يا سيِّد حصاوي إننا موظفان بالحكومة ؟ .. لكل منا ملف خدمة ودرجة مالية .. مرتبات وعلاوات وحوافز و.. و.. " .

    " الدنيا سـيرك كبير "
    ـــــــــ
    الدنيا دنيا الفراق
    مضــوا جميـعاً ..
    الحصاوي بـ " الكارتة " ، فرفور مع السائس ، زوجتي بعربتها ..
    أمَّا أنا فقد حرنت ، تسمرت حوافري أمام السيرك والرجل ينهال عليَّ ضرباً ، اخشوشن جلدي من كثرة الضرب وماتت خلاياه ولم أعد أحس ، تمنيتً أن يخرج الأسد الآن من عرينه بالسيرك لكي ينهش لحمي بأنيابه ، ويقضي عليَّ كي استريح من هموم الدنيا ، لكنه أسدٌ جديدٌ ، لا أعرفه ولا يعرف هو تاريخي المأسوف عليه ، ظلَّت الدموع تنهمر من عيني والرجل يرفع السوط في الهواء ويهوي به فوق جسدي وأنا واقف لا أتحرك ، يأخذ أنفاسه وهو يضرب كفاً بكف ويتعجب من حالي ، كنت أنهنه كالمرأة المكلومة وأبكي حتى جفَّتْ منابع الدمع في عيني فلم يعد هناك دمعٌ ولا يحزنون ، كففتُ ، رفعتُ رأسي لواجهة السيرك ، طالعتني الصورة الكبيرة :
    " المهرج يلف يده حول عنق فرفور الصغير وهو يبتسم ابتسامة وسعة "
    كأني أعود لسيرتي الأولى وروحي المسحوبة تعود ، اغتصبت شفتاي بسمة ولعقتُ بلساني بقايا الدموع ، تمتمتُ أطيب خاطري :
    ـ " فعلاُ .. الدنيا سيركٌ كبير "
    ومضـيتُ ...
    ــــــــــــــــــــــــــ




    د. حسين علي محمد11-07-2005, 10:27 am
    الأستاذان سمير الفيل ومحمد عبد الله الهادي
    أشكر لكما هذه الحفاوة بيحيى الطاهر عبد الله

    المصدر : منتدى القصة العربيةhttp://www.arabicstory.net/forum/lofiversion/index.php/t2273.html
                  

العنوان الكاتب Date
ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-06-08, 10:29 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-06-08, 10:32 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-06-08, 10:45 AM
    Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: عبدالله شمس الدين مصطفى05-07-08, 07:04 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: أحمد طراوه05-07-08, 10:04 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-08-08, 09:32 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-08-08, 09:36 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: أحمد طراوه05-10-08, 08:32 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-14-08, 04:00 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-17-08, 10:45 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: Solafa Alagib05-17-08, 02:22 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-18-08, 04:34 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-18-08, 04:42 PM
    Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: jini05-18-08, 04:48 PM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: shaheen shaheen05-19-08, 09:10 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-19-08, 09:14 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-19-08, 09:20 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-21-08, 10:08 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-21-08, 10:14 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-21-08, 10:14 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-25-08, 11:39 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi05-25-08, 11:45 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi06-02-08, 09:09 AM
  Re: ربع قرن على رحيل يحيى الطاهر عبدالله: zumrawi06-02-08, 09:10 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de