|
كان .. فقراً .. مدقعاً .. دون شك ..!
|
البحث عن المال لم يكن من بين اهتماماتي .. ولي مع الفقر الكثير من الأحداث التي باتت محفورة في ذاكرتي الخربة .. فلا أجد بداً من تكرارها كلما خلوت لنفسي .. أحببت أن أشارككم بعضها .. لا بد أن يكون فيها ما يسلي أحياناً وما يحزن أحايين كثيرة .. قال لي صديقي ذات مرة ..!
: ـ الغنى دا بالدور ... دورنا بجي ... بنغنى بنغنى ... فلا تبتئس ...!
صدقته آنذاك اذ ليس بيدي سوى أن أكون مؤمناً صديقاً .. وقد كنت كذلك كما أظن ... بعض أحداثي فقط تكشف تلك العلاقة غير المشروعة بيني وبين ذاك المدعو ( الفلس ) بفتح الفاء واللام وتسكين السين تسكيناً مريحاً ...!!
كم كنت أعبث به كثيراً ذلك أنه كلما أمسكت يدي بعضه أنفقته دون خشية املاق .. تكرماً أحياناً ... وسداداً للديون أحايين كثيرة وان لم يكن هذا أو ذاك كانت نفقتي له .. رداً لجميل بعضهم معي فكم طوقني أندادي بجمائلهم لهم محبتي .. فلا تجدني مضطراً لهذه الدنانير إلا ويرسل الله لي من يسد حاجتي ...!!
في النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم .. عندها كنت طالباً .. هممت بالرجوع الى بغداد .. إذ كنت وما أزال أحبها كانت رحلتي اليها عبر سوريا ومن ثم الأردن فبغداد ... وحيث أن تلك البلاد الهاشمية .. بلاد ملوك .. كانت اجراءات دخولها وخروجها أشد وطأة على نفسي .. ولعب صديقي اللدود ذاك الفقر دوره المعهود ايضاً ..إذ أنني احتجت لمبلغ زهيد لعمل تأشيرة مرور للأردن وكان جيبي ساعتها أخوى من فؤاد أم موسى ....!
فكرت كثيراً وتوصلت الى أنني حتماً سألج ديارهم حتى ولو من سم الخياط .. إذ لا مكوث لي معهم ... انه مجرد مرور الفقراء حتى وليس مرور الكرام ..!
تحملت عبء تهوري عندما فوجئت برفضهم دخولي من سفارتهم في دمشق .. وحينما تذكروا جدهم .. حاتم الطائي .. عرضوا عليّ ثلاثة خيارات أحلاهم ... علقماً ...اما أن أبقى بسوريا لمدة أربعين يوماً .. حتى ترسل سيرتي الذاتية وبعض المعاملات الى الداخلية الهاشمية ومن ثم تبت في امكانية مروري .. أو ... أرجع أدراجي الى الخرطوم لعمل تأشيرة المرور من سفارتهم هناك .. وثالث خياراتهم أن أسافر جواً .. وهذا يعني أن أشتري تذكرة الطائرة بالعملة الصعبة جداً قاتلها الله .. فيكون مروري على ديارهم جواً فقط ..!!
كان بحوزتي ساعتئذ .. شيك درافت .. يمنح للطلاب وقتها بمبلغ مئتان وستون دولاراً .. صرفت منه بسوريا .. مائة دولار .. وكانت قيمة التذكرة منقذتي هو ( مائة وواحد وستون دولاراً ) .. كم تعبت قدماي وأنا أبحث عن هذا الدولار الوحيد ...!! قمت بشراء تذكرة الطائرة بعد أن ( جربت لحسة كوعي ) ..!! وحينما خطت قدماي مطار دمشق .. فاجأني ضابط المرور .. بضرورة دفع مبلغ مائتين ليرة سورية للمغادرة .. فأسقط في يدي ... دخلت المطار وفي معيتي ( هاند باك ) تحمل بعض ملابسي .. و( كيس ) به تبغاً أحرق به فؤادي ويعينني على وحشة الطريق .. وضعت ما بيدي أمامه .. وتوكلت على الله باحثاً عن أبناء جلدتي .. عسى أن أجد منهم من يتفهم حالتي .. فأستدين منه ذلك المبلغ الجلل .. وقتها والذي لا يعدو أن يعادل مبلغ عشرة آلاف جنيه سوداني أو يقل قليلاً ...!
|
|
|
|
|
|
|
|
|