هنا فداسي-2

Quote: ليلة البارحة، في صحو لا في منام قابلت الشيخ عبد الله الطيب. برز إليَّ في أبهى حلة و أجمل منظر. حدثته عن كثير من الأمور ثم قلت للشيخ : هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم. ضحك الشيخ وقال: : وهل عندكم من شيء؟ ضحكت ضحكة أواري به سوءة خجلي من نفسي ولكن الشيخ استدرك وقال لي: ولكن تعجبني تلك التي سميتموها خربشات قلت له : إن اللبيب بالإشارة يفهم ضحك الشيخ وقال لي: ذلك هو الغبي الذي يفهم بالإشارة، بمعناها اللغوي و الأصم يفهم بها قلت فكيف يفهم اللبيب إذاً قال لي: اللبيب غني عن الإشارة والعبارة قلت فكيف يفهم؟ قال لي الشيخ هذه هي المهارة أو كما تسمونها الشطارة قلت له أتستنكرها؟ قال : ولا أنكرها، ولكنكم نحوتم نحوا في عاميتكم مزق ثوب عفتها.أنتم أقرب إلى الرطانة منكم إلى الإبانة قلت: كأنك لا تستطيب العامية قال كلا ، بل إني فسرت القرآن كله بالعامية قلت وما ذا عن الفصحى في كلامنا قال: ليست هنالك فصحى في حديثكم إنما أنتم تتحدثون شيئا من الفصيحة ، العربية الفصيحة لا الفصحى وسرحت في تفاصيل (الراء) الحبيبة التي ينطقها الشيخ، ثم انتبهت إلى انصرافي عن الشيخ فهتفت: يا بروفسور:... إنني قال لي الشيخ لا أخفي عليك فإن لقب الشيخ عندي أشمل من البروفسور قلت حسنا أيها الشيخ، كنت سأسألك عن خبر الفتى هيثم ابتسم الشيخ وقال: نعم، فهمت ذلك وقد أشرت إلى الخربشات و قد قال لك صاحبك ابن حسن خضر إنه تلقائي (يقصد الفتى هيثما) والتلقائية تكفينا شر التكلف والتكلف لا يأتي إلا ببضاعة مبتذلة وصنعة حقيرة ثم همس لي الشيخ بعد أن تلفت حوله في حذر: كنت تحدثني عن (مشروعه الكتابي) وتثني على ذلك فماذا جدَّ فيه؟ قلت له: إن الفتى تدثر بسر إبداعه و.. قاطعني الشيخ على غير عادته : وهذا من حسن حظكم لأن الدثار يظهر للعيان فإذا مر بكم فاح المسك من أردانه فتلذذتم بعطره والعين تشبع من النظر إلى طرز ثوبه. مثل هذا الفتى أُشَبِّهُ الإبداع عنده بالعطاس الذي لا يستطيع صاحبه أن يحبسه. هو الكأس يشف غصبا عما به. اصبروا على منعه و تمتعوا بما انفلت من سربه فجأة سمعت بوق سيارة أعلن حضور (ابنة جون)، في أدب، ثم صمت البوق. التفت الشيخ وشد يدي يودعني، لا بل يدعوني للذهاب معه ولكنني لم أركب. تحركت السيارة عبر شارع مامون البرير ببري ودلفت نحو شارع أوماك المشهور. كانت السيارة تسير بهدوء حتى لا تحرمني من رؤية الشيخ الحبيب العجبيب وزوجه الجوهرة (قريزلدا عبد الله الطيب) تلوح لي من نافذة السيارة. ولعجبي توقفت السيارة؛ فظننت أن عطبا أصابها فجريت أطلبها. قالت لي السيدة الفنانة التشكيلية قريزلدا وهي ترسم لوحة بالحبر الشيني: يقول لك الشيخ إنه قد نسي أن يقول لك شيئا عن هيثم قلت لها و كأنني أتهمها بالكذب: الشيخ لا ينسى مطلقا ردت بأدب جم: ربما نسيت أنا ما قاله لأنه كان بعربية فصحى، صعب علي فهمها ولكني قد رسمت ما قال. ومدت لي لوحة تشكيلية رائعة، لو كان بيكاسو حيا لأعياه الفهم كنت أتأمل اللوحة وأنا على الشارع العام، أفك رموز الفتى ، حتى أحسست بحرارة الشمس في امتداد ناصر تؤذي جسدي ويتصبب العرق من جبهتي على اللوحة. أخفى عرقي كثيرا من ملامح اللوحة؛ فالتفت إلى السيارة؛ لأطلب أمرا آخر من قريزلدا ، ولكني أكتشفت أن السيارة قد مضت منذ ثلاث ساعات وأنا أتأمل اللوحة. مضى عبد الله الطيب و لم أسمع منه ما زعمت قريزلدا أنه نسيه. ضاعت معالم اللوحة وتمدد الحبر بالعرق امتداد حيرتي. ولكني بعد اكتمال مشروع هيثم الكتابي، سأبحث عن الشيخ ، ليشفيني ويقول سره. سأدعو ببركة كل أجداد الشيخ (المجاذيب) أن يحفظ ذلك الفتى، وأدعوه بعد أن أراه في الوضع الذي أتمناه له أن يسمح لي بدخول ذلك البرج العاجي ، لأشهد مجلسه مع شيخ العربية الشيخ عبد الله البشير، الشيخ الطيب السراج وابنه فراج، معز مصطفى دسوقي، الشيخ مصطفى محمد إبراهيم، إسماعيل الوكيل وآخرين. حينها سأدعوكم جميعا لتسمعوا بآذانكم مقالة الشيخ عن الفتى ألا رحم الله الشيخ عبد الله الطيب وبارك في زوجه الجوهرة الطيب، كما اختارت اسمها