إني لأجد ريح نهلة..
صدر كاعب. ملامح دقيقة. خصر قال الوهاب له كن فكان ولا أضيق. على كتفيها.. حيث أضاف الصانع لمسته الأخيرة.. ثمة شعر فاحم ينسدل مثل ليل سرت بين حلكته دعوات القائمين الثلث أو يزيد قليلا. أما إبتسامتها.. أما إبتسامتها "الساحرة الرقيقة الحانية".. أما إبتسامتها "ذات الصفاء والبهاء والرواء".. أما إبتسامتها "التي أذابت ركبتي على سعير الدهشة ومارأفت.. فلا حول ولا قوة إلا بالله"!.
كذلك.. في زحام ذلك العرس.. حين بدأ يخرق الأرض بشاربه الوليد بالغا به جبال العاديات طولا.. رأى نهلة.. شقيقة العريس.. كما لم يرها من قبل. "أجل نهلة.. نهلة نهلة.. وماأدراك ما نهلة".
"تبارك الله أحسن الخالقين".. همس في نفسه. ثم شرع يترصدها فيما تبقى من نهار أترعت جوانحه بالولائم وأنغام الصبايا وزغاريد النسوة الجميلات. وقد أدرك.. دفعة واحدة.. أن ماهز كيانه على ذلك النحو كان ولاريب أوان زراعته.. بذرة إحساسه العذب تعلن عن ذاتها.. فيما هي تتوغل هناك.. بعيدا بعيدا.. شاقة طريقها إلى أعماقه السحيقة بيسر ولاهوادة.. قبل أن تتلألأ في الحال زهرة معطارة زكية.. تزين أرض عواطفه البكر.. حيث لا إختلاج نما.. حتى تلك اللحظة.. سوى دغل "كراهية الشيطان" وأعشاب "حب الوالدين وتقاة الناس وخالقهم من عدم". لكأني به يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ليلا.. قبيل زفاف شقيقها.. بعد محاولات أمسكت الرهبة والحياء بأقدامها.. نجح أخيرا في الدنو منها. بينما كان يتناهى من مكان أشبه بعبق تاريخ حميم.. مبينا الغاية والوسيلة.. شارحا الهامش والمتون.. واصفا الطريقة والطريق.. صوت شيخه ابن حزم الظاهري: "وأقصى أطماع المحب ممن يحب المخالطة بالأعضاء.. إذا رجا".
"مبروك".. قال. ولم ينس: "إن شاء الله عقبالك". سحبت راحتها الدقيقة من باطن كفه في دلال. وقالت إذ كابد وهج الأنوثة المتدفق من وجهها حديثا: "الله يبارك فيك.. وإنت كمان عقبالك". كان بهاء الحفل وضجيجه يختفيان في ظل كلماتها الحيية الوامضة".
منذ تلك اللحظة.. ولسنوات ملء أيامها الإشراق.. صار مسكونا بعشق نهلة. "أتتبع فقر حركتها وغنى سكناتها. أجردها بعين خيالي فأراها كملكة ساعة الوصل مغسولة ندية. أسرج بعير إنتظاري خلف نافذة دارنا المطلة على دارها. أترقب طلعتها تاليا ما تيسر من آيات الهوى والصبر الجميل:
ولما أن جلتك لي اختلاسا
أكف الدهر للحين المتاح
رأيت الشمس تطلع من نقاب
وغصن البان يرفل في وشاح
فلو أسطيع طرت إليك شوقا
وكيف يطير "مقصوص الجناح"
أجل.. لأسباب.. ما زال يخجل من ذكرها.. كان يكتفي من الحب بالنظر. وحين تغيب من مجاله البصري محتجبة داخل دارهم لأيام.. ويمضه رهق الشوق إليها.. كان يخلع نعليه.. كي يقابله هناك.. في سجوده الطويل.. طالبا منه.. وهو المانع العاطي.. أن يتقبل منه دعوتين إثنتين.. ولا ثالثة:
"اللهم.. خالق الذكر والأنثى.. اجعل نهلة من نصيبي.. وأرزقنا ثلاثة أبناء من الذكور.. واحد لنصرة المسلمين.. الآخر لرعاية والديه.. أما الثالث فأنت أعلم به منا........ واللهم.. رب ابن عباس حبر الأمة.. وعلي بن أبي طالب باب مدينة العلم.. إدخلني جامعة الخرطوم.. فهي مفتاح الفرج لعبد فقير مثلي.. فمن لم يدرس باللغة الإنجليزية وأنت العليم بباطن الآمور فلا مستقبل له". لكنه لحكمة لا يعلمها إلا هو أدخله " دار العلوم".
في هذه اللحظة.. أذكر رنين ساعة حائط انجليزية قديمة.. إرتعاش حافة شاربي الذي نما.. وسحابة من حزن غامض عبرت سماء عينيها السوداوين.. عندما أخبرتها في حشد من الجيران بسفري الوشيك إلى أرض الكنانة. وحتى الآن.. ما زال يتساءل آناء الليل وأطراف النهار: "هل كانت تهجس لحظتها بكل ما سيجري أثناء غيابي الطويل".
في سنوات الدراسة المتخمة بالرسوب.. بعيد خيام الجرجاني.. أوشام قواعد الخليل بن أحمد.. أوحتى عند شروح ابن طباطبا.. كان يتلقف أخبارها.. يتسقطها من هنا وهناك. وفي كل مرة.. لذات الأسباب ربما.. كان يسلك للسؤال عنها طرقا ملتوية وصيغا غامضة.. وكان طيفها يطل دائما دائما.. من أروقة "دار العلوم".. مثل نسمة صبر تمنح المعنى لكلمات "جعجع" و"مجمجم" و"عقنقل".
وما إن يحل عليه مساء آخر حزين.. حتى يكف عن عادة الدوران حول غرفة السطح المؤجرة.. يغالب هوان الغرباء.. دمع البين.. وأشياء أخرى. وإذا المآقي نضبت.. وغار ماؤها في صحراء الفقد ولا أمل.. يبدأ النظر في أسى إلى سماء القاهرة المضيئة.. وليس ثمة من عزاء سوى النشيد:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
هكذا.. عند تشابك الهواجس واضطرام الضعف اللذيذ.. كنت أخلع نعلي.. كي أقابله هناك.. داخل صحن الجامع الأزهر.. طالبا منه هذه المرة إستجابة دعاء من أهلكه ثقل الحنين: "اللهم.. رب السبعة.. الذين ستظلهم بظلك.. يوم لا ظل إلا ظلك.. لو لا تصرف عني سحر المصريات.. أصبو إليهن.. وأجهل حب نهلة.. فثبت أقدام العاشق.. واحفظ نهلة في غيابي.. وقها.. مجيب الدعوات.. شر غريم أجهله.. آمين
..............................................................................................