|
بين الدكتور طه حسين .. والدكتور عبد الله الطيب ..
|
كتب الدكتور طه حسين طه سلسلةمقالات نقدية أدبية ، يرّوج فيها لمذهب ارتضاه في الأدب ، نشرها في جريدتي الدستور والجمهورية المصريتين .. ثم بعد مدة قام بجمع هذه المقالات ونشرها في كتاب باسم ( من أدبنا المعاصر ) ..وقد تحدث في إحدى هذه المقالات بأسلوبه الماتع الجميل عن أديبنا الراحل الدكتور عبد الله الطيب ـ وكان إذ ذاك شاباً يافعا ، وطه حسين بالغ ذروة مجده ـ وعن أول دواوينه التي قام بنشرها ، وهو ديوانه ( أصداء النيل ) ، والآن أخي القارئ إليك بعضا من هذه المقالة .. انتزعتها من المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين (12 / 319 ـ 331 ) ، وقد جعل عنوانها ( أصداء النيل ) فهلمّ إليها :" ( أمّا اليوم فسأحدثك عن شعر جديد كل الجدة ، قديم مع ذلك ممعن في القدم .. هو جديدٌ لأنّ صاحبه معاصرٌ يعيش الآن وهو في ريعان الشباب ، وما أحسبه جاوز الثلاثين إلاّ قليلا . وموضوعاته كلها معاصرة ، نتحدث عنها حين يلقي بعضنا بعضاً ، يكتب فيهان كتّابنا .. وينظم فيها شعراؤنا .. وتضرب بها خواطرنا . فهو يذكر مصر المعاصرة التي نعيش فيها ، ويذكر السودان المعاصر الذي عاش فيه . وهو يذكر بلاد الإنجليز التى أقام فيها أعواما ، فعرف مدنها وقراها ومطرها وضبابها .. وبلا من خصال أهلها فنوناً وألواناً . وهو يبكي هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأخيرة رغم أقامته في بلاد الإنجليز واتصال الأسباب بينه وبينهم . وهو يصف أشياء كثيرة يألفها الناس جميعاً في هذه عالأيام . فليس في موضوعات شعره شيء تنبؤ عنه طباعنا ، أو تنفر منه أذواقنا . ولكنه على هذا كلّه ممعن في القدم ..!! لأنه يصطنع لغةً وأساليب لا يذوقها إلاّ الأقلّون الذين يذوقون الشعر العربي القديم .. والقديم جداً .!! هذا الذي نقرؤه للجاهليين والإسلاميين ؛ من شعراء القرنيين الأوّل والثاني ، و لابد أن أتحفظ حين أذكر شعراء القرن الثاني ..؟! فشاعرنا لا يصطنع لغة أبي نوّاس ومسلم ومن إليهما وأساليبهم ، وإنما هو يصطنع لغة الذين يؤثرون جزالة اللفظ والأسلوب منهم كبشّار و مروان بن أبي حفصة ، وعسى أن يؤثر الغريب أكثر من هذين الشاعرين ومن يذهب مذهبهما .. وهو لا يتعمد ذلك وإنّما يدفعه إليه طبعه وذوقه وبيئته جميعاً .. وهو لا يحسّ العجز عن سلوك الطريق التي يسلكها أهل هذا العصر في البلاد العربية ، وفي المهاجر الأمريكي .. وإنمّا يحس القدرة كلّ القدرة على ذلك ، وقد جرّبه وأطال تجربته ولكنه .. صد عنه صدوداً ؛ لأنه كرهه وضاق به ورأي أنه : لا يلائم طبعه .. ولا ذوقه .. ولا مذهبه في الجمال . ذلك أنه بدوي النشأة .. بدوي الثاقفة في الطور الأوّل من حياته .. درس اللغة العربية فأتقن درسها ، وتعمّق الشعر العربي القديم كما لم يتعمقه أحدٌ من المعاصرين ، وقرأ الشعر العربي في العصور المختلفة ، ودرس درسه المتقن له ، ولكن .. شعرنا القديم وحده هو الذي استأثر بمكان الرضى من قلبه وعقله وذوقه جميعاً . وقد خُلِقَ شاعراً دقيق الحس ثائر العاطفة ، حاد الشعور مرهف المزاج ، قويّ الخيال .. ولكنه حين أراد أنْ يُعْرب عن ذات نفسه اعراباً يلائم طبعه وهواه ، سلك إلي ذلك طرقاً مختلفة .. فلم يعجبه من هذه الطرق إلاّ نهج القدماء من شعرائنا ، فآثرها وأمعن فيها .. كأنه خلق لها .. وكأنها خلقت له .. والعجيب من أمره أنه وفقَ من ذلك إلى أروع ما يتاح لشاعرٍ أنْ يبلغه من الإجادة والإتقان .. وأعجب من هذا أنه طوّع الحضارة الحديثة للغته القديمة .. أو طوّع لغته القديمة لهذه الحضارة الحديثة ، فلاءم بينهما ملاءمة لا تحس نبوا و لا اعوجاجاً . وأنت حين تقرؤه حين يصف مظاهر الحياة في بلاد الإنجليز فلا تجد في وصفه تكلفاً ولا تعملا ، وإنما تراه يمضي مع طبعه الخصب في يسر واسماح لا يشق عليه وصف ولا يعييه تصوير ، وإنّما يشقّ عليك أنت في كثير من الأحيان أن تسايره أو تتبعه .. لأنك تشعر بالحاجة إلي أن تقف لتفهم عنه أو لتبحث جعن هذا اللفظ أو ذاك في معجم من معاجم اللغة .. أو لترد هذا الأسلوب أو ذاك إلي ما ألفت من صور التعبير .. فأنت لا تقدم على قراءته إلاّ إذا كنت من أولي العزم أولاً ، ومن أصحاب العلم الدقيق العميق الواسع باللغة العربية وأسرارها وغريبها ، وأساليبها حين يتلوى بها الشعراءُ عن منهجها الواضح المألوف . وليس في ذلك كله شيء من الغرابة ؛ فقد قلت إنه بدوي النشأة والبيئة والثقافة في الطور الأوّل من حياته … وأضيفُ إلي ذلك أنّي لا أعرف معاصراً عربياً تعمق مثله في دراسة الشعر العربي وأوزانه وقوافيه ودقائقه وموسيقاه . وهو قد درس هذا كله أوفى دراسة وأشملها في كتاب ضخم يقع ف جزأين عظيمين ، وهو كتاب : ( المرشد إلي فهم أشعار العرب وصناعتها ) ، وقد وصفت الجزء الأول من هذا الكتاب منذ قريب عامين . .. فأي عجبٍ أنْ يكون صاحب هذا الكتاب مؤثراً بطبعه لمذهب القدماء في شعرهم ..!! وهو قد فتن بالشعر العربي القديم فتنة لا حدّ لها و لا غاية ، فهو ينبئنا بأنه قرأ الشعر الإنجليزي على إختلاف ألوانه وعصوره ؛ فلم يجده قادراً على أنْ يثبت للشعر العربي ، ولم يستثنى من ذلك شعر شكسبير ..!! على غرابة الموازنة بين الشعر العربي والشعر الإنجليزي .وشعر شكسبير خاصة ، لأنّ الأمر مختلف بين الشعرين ، ولأنّ أسباب الموازنة بينهما لا تتصل ولا تستقيم .. فلم يخطر لشاعر عربي قديم أنّ من الممكن أنْ يذهب شاعر بشعره مذهب شكسبير أو ملتون أو بيرون أو غيرهم من الشعراء الإنجليز والأوربيين عامة … ) .. وللمقالة بقية طويلة طويلة يرجع إليها في المرجع الذي ذكرناه .
|
|
|
|
|
|