|
الطيب صالح ... مسلم من غمار الناس يسدي النصح الى الترابي
|
الطيب صالح ... مسلم من غمار الناس يسدي النصح الى الترابي
خدمة "سودانيز أونلاين": وهل يحتاج أديبنا الكبير الأستاذ الطيب صالح الى تقدمة مني؟ وأنا واثق من أن غالبيتكم تتابعون مقاله الرصين الذي تنشره كل أسبوع مجلة "المجلة" السعودية. ومع أنه اعتاد أن يتطرق الى قضايا أدبية ومناسبات يدعى الى المشاركة فيها كمهرجاني أصيلة والجنادرية أو وفاة العلامة البروفسور عبد الله الطيب المجذوب، إلا أنه خرج هذا الأسبوع من غمار الأدب ليخوض معمعة السياسة بأسلوبه الجزل، وأدبه الجم، وبصيرته الثاقبة، وحديثه بلسان الجماعة السودانية على اختلاف سحناتها وقبائلها وأطيافها السياسية. اختار الطيب أن يكتب هذا الأسبوع رسالة الى الدكتور حسن عبد الله الترابي. ولا شك في أنها – مع قِصَرِها – ستبقى في وجدان السودانيين مثلما رسخت في ذاكراتهم كلمته السابقة حين تحدث عن "هؤلاء الناس". في المرة الأولى حاد عن مواضيعه الأدبية ليخوض في يمِّ السياسة بعدما أصدر قادة النظام الأصولي قراراً بمنع تدريس رواياته في الجامعات السودانية. وهذه المرة حفزه إطلاق الترابي من غيابة الجب ليملأ الدنيا ضجيجاً وأمانيّ وأحاديث صحافية لا تنتهي. ليس قصدي التقدمة، بل هو انفعالي بما قرأته، وأنقله لمتصفحي "سودانيز أونلاين" حرفياً عن مجلة "المجلة"، العدد 1237 بتاريخ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 الموافق 7 رمضان 1424 هـ:
الطيب صالح خروج الترابي من السجن الدكتور حسن الترابي رجل محظوظ، فإن الحياة تعطيه فرصة أخرى، والحياة عادة ليست سخية في إعطاء الفرص. إن الله سبحانه وتعالى أسبغ عليه نعماً كثيرة. أعطاه الذكاء والبيان والفصاحة، ويسر له تحصيل العلوم الدينية والدنيوية وجعله للناس حجة وإماماً. وقد يختلف الناس هل الدكتور الترابي قد أحسن استغلال هذه الهبات الإلهية أم لا؟ اليوم ينعم الله عليه نعمة إضافية. بعد أن مكّن له في بلاد السودان، يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويأمر لمن يشاء أن يعذَّب أو يسجن أو حتى أن يُقتل، ولمن شاء أن يذهب طليقاً. بينما هو كذلك شاءت له إرادة الله أن يسقط فجأة من عليائه، ويخرج عن جاهه وسلطانه، وجنده وأعوانه. أخذه أصدقاؤه وخلصاؤه بالأمس من كل ذلك وأدخلوه في غيابة الجب، وكأنها قصة يوسف عليه السلام معكوسة. وقد كان ذلك ولا شك امتحاناً عسيراً له. كأن الله سبحانه وتعالى أراد له أن يذوق على أيدي أنصاره السابقين بعض ما ذاق الناس على يديه. لم يكن حبسه القسري في مرارة بيوت الأشباح والزنازين التي وصفها الذين دخلوها بأنها لا تسمح للجالس أن يقف، ولا الواقف أن يجلس، ولا المضطجع على جنبه الأيمن أن ينقلب على جنبه الأيسر، وغير ذلك من أهوال يشيب لها الرأس. ولا يشفع للدكتور الفاضل أمام الله والناس أن يقول إنه لم يكن يعلم، وإنه ليس مسؤولاً عما حدث. إن الله يعلم، والناس يعلمون أن كل تلك الأهوال قد ارتكبت، إن لم يكن بتدبيره، فقد حدثت من دون اعتراض منه. كان الله رحيماً حقاً حين انتزعه من عالم الغرور والكبرياء الذي كان يحيط به، وزج به في غيابة الجب كي يثوب الى نفسه ويتمعن ملياً في كل الذي جرى له، وجري للناس على يديه. وكان المنفذون لإرادة الله أولئك الذين كانوا قد وضعوه في القمة من قبل. ولعله فعل، لأن بعض ما قاله إثر خروجه من الحبس كما أوردت الصحف إن الجبهة الإسلامية بزعامته اضطرت الى إحداث تغيير عسكري في البلاد قبل نحو خمسة عشر عاماً، ولكنها اتعظت من التجربة. ويعجب الإنسان: هل كان لزاماً أن تدخل البجهة الإسلامية في التجربة أصلاً؟ وهل كانت تحتاج الى خمسة عشر عاماً حسوماً لتتعظ من التجربة؟ كم ربح السودان في هذه الأعوام وكم خسر؟ وكم ربح الإسلام وكم خسر؟ وكم ربح الدكتور الترابي وكم خسر روحياً وعقلياً؟ إذ يفترض فيه أن يكون قبل كل شيء منبع إشعاع روحي وفكري كما يكون الزعماء أولو العزم. لكنني أرى أن النعمة الكبرى التي يسبغها المولى سبحانه وتعالى على الدكتور الفاضل، لأنه أخرجه اليوم من غيابة الجب. والدكتور أول من يعلم أنه كما تكون العطايا في حنايا البلايا، فكذلك تكون البلايا في حنايا العطايا. إنني بوصفي رجلاً مسلماًً من غمار الناس أرجو للدكتور كل الخير، وقد سعدت أنه خرج من ضيق الحبس الى براح الحرية، وأخذ من فوره كعهده دائماً يملأ الدنيا ويشغل الناس. لكنني أنصحه نصيحة خالصة لوجه الله، بوصفي رجلاً مسلماً من غمار الناس. إنك اليوم تواجه أصعب امتحان واجهته في حياتك. فكر جيداً ماذا تصنع أمام الله والناس. أي طريق تسلك؟ وأي وجهة تتجه؟ هل تعكف على عقلك وروحك فتنجو بنفسك وتصير نبراساً يستضيء به الناس؟ أم تنغمس مرة أخرى في مستنقع السلطة والحكم والتحالفات والمؤامرات؟ إنني أسأل الله لك العافية، وأسأله أن يهدينا وإياك لما فيه الخير.
|
|
|
|
|
|