(كِتَابَةٌ تِذْكَاريَّةٌ فِى جَدَلِ التَّوَهُّجِ والاِنْتِحَارْ) ك. الجزولي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 03:42 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-21-2004, 01:47 AM

bunbun
<abunbun
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 1974

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
(كِتَابَةٌ تِذْكَاريَّةٌ فِى جَدَلِ التَّوَهُّجِ والاِنْتِحَارْ) ك. الجزولي

    نِهَايَةُ العَالَمِ خَلْفَ النَّافِذَةْ!


    (كِتَابَةٌ تِذْكَاريَّةٌ فِى جَدَلِ التَّوَهُّجِ والاِنْتِحَارْ)
    نقلا عن سودانيل
    كمال الجزولى
    [email protected]

    سبق أن نشر هذا النصُّ بمجلة (الخرطوم) فى منتصف تسعينات القرن المنصرم ، وفى أواخرها أعادت نشره كلٌ من صحيفة (الاتحاد) الظبيانيَّة ، وصحيفة (الخرطوم) إبَّان صدورها فى القاهرة. وأستأذنكم لأعيد نشره الآن بمناسبة الذكرى الخامسة عشر لرحيل الصديق الحبيب والشاعر والمترجم والعالِم الفذ عبد الرحيم أبو ذكرى الذى ترك فراغاً لن يملأه أحد ، والذى ما يزال فقده طازجاً يشقُّ علينا برغم كرِّ السنين وتعاقب الحادثات .. نسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضوان [ك. ج]

    "هَلْ صَحيحٌ أنَّه بعدَ الشَّبابيكِ ..

    التى نُغلِقُها دونَ الهَواءْ ،

    وكأنَّ الشُّهبَ والأفلاكَ فى الموتِ تنامْ ،

    وكأنَّ العَالمَ المُرهَقَ زنْزانةُ ثلجْ ،

    تُصبحُ اللحظةُ تَنويراً ..

    ورَسْماً وبَريقا"؟!

    ـ أبو ذكرى ، 1971م ـ

    (1 ـ أ)

    قبل أن يسدِّد "فلاديمير مايكوفسكى" فوهة مسدَّسه إلى جبينه ويضغط على الزناد كان قد فرغ لتوه من تسطير وصيَّته القصيرة الأخيرة:

    "إلى الجميع ..

    هأنذا أموت الآن!

    لا تتهموا أحداً .. ولا تثيروا أدنى لغط ،

    فالمتوفى كان يمقت اللغط

    يا أمى ، يا أخواتى ، يا رفاقى ،

    سامحونى ..

    هذا حل لا أوصى به لأحد ،

    ولكن لا مخرج لى سواه

    لقد قضى الأمر ، كما يقولون ،

    وقارب الحب تحطم ..

    على صخرة الحياة اليوميَّة

    كلانا ، أنا والحياة ، اقتضى حقه من الآخر ،

    ومن العبث أن نستعرض الآن الأحزان والملمات

    وما أنزله كلانا بالآخر من الأذى ،

    إنعموا بالسعادة"!

    ولأن مايكوفسكى كان ، قبل رحيله المأساوى بسنوات طوال ، قد أنجز حفر اسمه نهائياً ، وبأعمق الحروف ، فى خارطة الشِّعر العالمى ، ولأن وقائع التناقض المريع الذى كان قد عاشه ، طوال تلك السنوات ، ما بين (الحلم) وبين (الواقع) ، قد أتيحت معرفتها للكافة ، على الأقل بالنسبة للأوساط الثقافيَّة ومؤرِّخى الأدب تحديداً ، مما يسَّر فهم دوافعه وجعل تحليل الحدث نفسه ممكناً ؛ لكل ذلك فقد كانت الأمور واضحة تماماً أمام أعين من عثروا عليه فى صبيحة اليوم التالى غارقاً فى دمه ، فما احتاج أحد ـ مثلاً ـ لشهادة راشيل التى كانت آخر زوَّاره ، مساء 13 أبريل 1930م ، لتطلعه على الرُّسوم التخطيطيَّة لديكور مسرحيَّته (موسكو تحترق) ، والتى أفادت ، فى ما بعد ، بأنها ، وفى اللحظة الأخيرة ، لمحت المسدَّس على منضدته!

    (1 ـ ب)

    لكن عبد الرحيم احمد عبد الرحيم (أبو ذكرى) الذى انقذف من قمة مبنى أكاديميَّة العلوم السوفيتيَّة (1) ، ودوَّم مثل طائر الهمايون الأسطورى ، مخلخلاً بجسده النحيل ، لثلاث ثوان أو أربع ، هواء بواكير الشتاء فى موسكو قبل أن يتشظى نهائياً ، كما النيزك المنفجر ، على إفريز شارع أوسترافيتيانوفا المكتظ ، فى مثل ذلك الوقت من صباح الخامس من نوفمبر عام 1989م ، بمئات السابلة المشغولين ، أثناء هرولتهم والريح تسفو وجوههم ، بإحكام ياقات معاطفهم الثقيلة حول أعناقهم ، كان قد فرغ لتوِّه من احراق جُلِّ قصائده وأوراقه وقصاصاته. ـ "رأيته قبلها بساعتين فى مطبخ الطابق الخامس" ، أفاد باحث لبنانى يسكن الغرفـة المجاورة ، "كان يحرق أوراقاً كثيرة ويلقى بها فى أنبوب النفايات ، وما أن فرغ من ذلك حتى صفع صفاقة الأنبوب وراءه بتوتر ملحوظ" (2)

    وهكذا بدا ، للوهلة الأولى ، كما لو أن الشاعر والمترجم المتفرِّد ، الذى لم يعد يسمع عنه ، لأكثر من عقد من الزَّمن ، حتى أصدقاؤه وأبناء جيله من الأدباء السودانيين ، والذى ظلَّ سطوعه ثم اختفاؤه المتواليان بانتظام سمة ملازمة لاسمه وإبداعه ، تماما مثل نجم يغمز فى ليلة خريفيَّة عكرة ، قد قرر أن يحيط انتحاره بهالة كثيفة من الغموض والابهام! فالعثور على أوراقه التى تحتضن قصائده ورسائله المتأخِّرة كان سيعين ، يقيناً ، أيَّما إعانة على إضاءة الحدث نفسه ، بدءاً من نقطة النهاية ، ثم تتبعاً رجوعياً ميسوراً نسبياً ، كما فى حالة مايكوفسكى ، نحو البدايات الأولى. أما وقد استحال كلُّ شىء إلى رماد "فى أنبوب النفايات" ، باستثناء النذر اليسير (3) ، فلم يعد ثمة مناص من طرق السبيل الأصعب: الرجوع ، ابتداءً ، إلى البدايات الأولى ، فى محاولة للإمساك بأكبر قدر من الخيوط التى تقود إلى الختام المفجع. ويقينى أن العثور على مثل هذه الخيوط ممكن بإعمال النظر فى إبداعه الموثق ، من جهة ، وفى رسائله الشخصيَّة ، من جهة أخرى ، وفى إفادات أصدقائه ومعاصريه ، من جهة ثالثة.

    وقد يكون ، فيما أقترح ، من المشقة شيئاً. على أنه ، مع ذلك ، جهد مطلوب بإلحاح ، ليس من النقاد ومؤرِّخى الأدب ، فحسب ، بل ومن كلِّ أصدقائه ومحبيه وعارفى فضله فى المقام الأول. فمن حق أبى ذكرى على الجمـيع وصلُ إيماضه المتقطع ، مثلما هو حق له عليهم أيضاً ، ألا يسمحوا بانتزاع واقعة انتحاره من مجرى التاريخ الأدبى فى السودان ، لتقبر فى طوايا الحياء الاجتماعى المتخلف ، والنجوى الخاصَّة المحضة ، ولا خير فى كثير منهما‍‍!

    (2 ـ أ)

    كييف ، منتصف يونيو 1970م. الربيع على أهبة الرحيل ، والصيف يطرق الأبواب طرقاً خفيفاً يستأذن قبل الدخول. فجأة ، وأنا غارق فى لجَّة امتحانات نهاية العام الدراسى ، وصلتنى من موسكو ، من أبى ذكرى ، الرسالة التالية (4):

    [كييف 101

    شارع لومونوصوفا 32

    المسكن الطلابى 10 الغرفة 55

    كمال الجزولى

    الأخ كمال: رغم المشاكل الكثيرة التى تواجهها ورغم الامتحانات الا أننى أكتب لك هذا الخطاب لعله يخفف عنى قليلا. أنا الآن بالمستشفى بجامعة الصداقة مريض أخرج إن شاء الله بعد اسبوعين والمرض ليس مرضا خطيرا ولكنه مجرد ارهاق عصبى ولكن القصة مش هنا. القصة أن هذا المرض اللعين المسمى بالارهاق العصبى كان فى الاول نادرا ثم اصبح يكثر الزيارت "وينشك على روحى أوتاد وأخيرا لازمنى لا يبرحنى الا ساعات الميلاد" (5) المصيبة أن السبب هو أنا فاننى اما لضعف فى الاعصاب واما لnepravelnoe predstavlenya (6) عن العالم (كلمتان مشطوبتان) لا أشعر بأى سعادة فى هذا العالم لا فى النساء ولا فى الضحكات الصافية ولا فى الصداقة ولا حتى فى الكتب. أجلس مع الناس فأشعر بالضيق أجلس وحدى فأشعر بالتعب أقرأ الكتب فأموت من الضجر والارهاق حالتى حالة دبشليم الذى "ينام مهموماً ويصحو متعباً" (7) إن كل شىء تصور يؤلمنى. أفكر (جدياً ـ مشطوبة) أحياناً فى ذلك الشىء المخيف الذى تحدث عنه مايكوفسكى فى وصيته فقال "لا أنصح أحدا باتباعه ولكن لا مخرج (غيره ـ مشطوبه) لى سواه" المشكلة يا كمال هكذا: إننى شخص طموح جدا وأشعر بقوة بأن لى مكانا خاليا فى الحياة ينتظرنى وأن هذا المكان لن يملأه أحـد غيرى فى (1) الشعر (كلمة مشطوبة) (2) والترجمة ولكن مع ذلك أغرق كل يوم فى تفاصيل الحياة التافهة. أمرض فى اليوم عشرة مرات كأنما خلقت هكذا وكأنما أنا مجبر أن أكون هكذا رغم ارادتى. أهرم واشيخ كل لحظة. أعصابى كأنها عاملة كبانية مجبرة أن (توصل ـ مشطوبة) "تستلم" كل الاشارات "وتوصلها" الى امكنتها دون أن يكون لها الخيار فى الرفض. جسمى النحيل قد يتحمل لسنوات ولكن لكم من السنوات؟!

    لست ادرى لاى حد أنا مخطىء ولكن الحالة مع ذلك seryoznoe ( الان والـ facti astyoutsa factami (9) ليس عندى أى مخرج من هذا الحائط المغلق الاصم هل تتصور شخصاً يضيق بالحياة حتى أنه يفضل أن يكون وحيدا بلا أحد حوله؟ تلك هى حالتى خاصة أيام الارهاق العصبى هذه فزيادة عليها تأتى زوبعة الامتحانات وأكون أنا "كغردون" حين حاصر (هاء ـ مشطوبة) الدارويش قصره وقد حدث قبل يومين أن كنت فى أمتحان اللغة الروسية وأنا من خيرة الطلاب فى الفصل وقد كتبت suchinenya (10) قالت عنها الاستاذة أنها precrasnoe (11) (وقد ـ مشطوبة) ودخلت الامتحان الشفوى وهنالك هل تدرى ماذا حدث؟ لقد اضطربت وأخذت ارتجف وعرقت كلى حتى أن الاستاذة تعجبت واستلمت 4 رغم أن الـ 5 كانت بين يدى (12) أصل أحيانا (الى ـ مشطوبة) ـ كما فى حالة الامتحانات ـ الى درجة لا استطيع فيها السيطرة على نفسى مطلقاً. وذلك حين اريد أن استجمع قواى للكلام أو للخطابة أو للامتحانات أو حتى لقول نكتة كأنما هناك شخصين: شخص اسمه أبو ذكرى هو الذى يراه الناس وشخص آخر اسمه أبو ذكرى هو الذى يسير الاول دون أن يراه احد وهو الحاكم بأمر الله فى تلك المنطقة التى تسمى "أنا" يفعل ما يشاء وأنا أطيعه (فقط ـ مشطوبة) كالخادم.

    إننى بقليل من الجهد استطيع أن أفهم الكثير أن أساعد فى حل مشاكل السودان أن أبيعه دمى وكل ما عندى ولكننى بهذه الطريقة "أموت فطيسة" دون أن أحقق شيئا موتا شبها بموت أبطال (كلمة مشطوبة) "شكسبير" العظماء الذين كانوا يحاربون (....) والشياطين أنفسهم ولكن كانت فيهم خصلة واحدة رديئة هى السبب فى هزيمتهم عطيل: الغيرة هاملت: التردد لير: الطيبة الزائدة ماكبث: الشك الخ كان فيهم حصان طروادة الذى جلب لها الخراب. (أن ـ مشطوبة) والحل كما يقول الاطباء ، فى أن أمارس الرياضة الصباحية وأن أتنزه كثيرا وأن أصادق فتاة وأن اكون دائما وسط الناس وأن أجيئهم الى (كلمة روسية مشطوبة) المستشفى بانتظام لاخذ المسكنات وأن أبدأ الدراسة من أول السنة وكل هذه أشياء بغيضة الى نفسى أهرب منها كما هرب سكان المدن من الطاعون لانها تزيد من ارهاقى ... أننى واقع فى مطب! والحل فى أنا ولن يجدى الطبيب المداوى شيئاً ـ ولكننى أشعر بالعار لان الحياة نفسها ترهقنى رغم أنها يجب أن تمنحنى السعادة والروعة . فما العمل؟

    الحلول ثلاثة أو أربعة :

    (1) أن أنفذ كل ما قاله الاطباء

    (2) أن أعيش كما أنا واستمر فى هذا المطب

    (3) أن أرجع الى السودان

    (4) أن أترك القراءة والكتابة وأمارس حياة سهلة لا ترهق . فأرفت وأعود خالى الوفاض].

    بدون توقيع

    (2 ـ ب)

    هرعت إليه فور فراغى من الامتحانات ، وكانت قد سبقتنى إليه رسالة منى (13) حاولت أن أهوِّن فيها من شأن ما يشكو منه ، وأذكر أننى استعنت فيها بعبارة: "إن نهاية العالم يا صديقى ليست خلف النافذة"!

    ولهذه العبارة قصة. فقد التقطناها سوياً ، ذات مساء ، إثر مشادَّة نشبت بيننا وبين شابَّين روسيَّين أمام مسرح البولشوى. وتدخل كهلٌ ذو ملامح طفوليَّة عذبة محاولاً تطييب خواطرنا أجمعين. ولما رآنى الأكثر تشدُّداً ، وأنا أشرح له كيف أنهما هما اللذان بدءا بالخطأ ، إبتسم ، ورَبَتَ على كتفى قائلاً بحنان:

    ـ "ولو ، دعهما يخطئان اليوم ، وسيدعانك تخطىء غداً ، أفتظن أن هامش الأخطاء ، فى هذه الحياة ، ضيِّق لهذا الحد؟ إن نهاية العالم ، يا صديقى ، ليست خلف النافذة"!

    إستملحنا العبارة الأخيرة ، وضحكنا جميعاً. غير أننى أعتقد أنها وقعت لأبى ذكرى ، فى ما يبدو لى الآن ، بأكثر مِمَّا بدت ، ساعتها ، كمحض صياغة شعريَّة رائعة تزاوج بين عمق المعنى التربوى وبساطة التركيب اللغوى. لقد لمسَت فيه وتراً شديد الحساسيَّة ، فاستغرق فى الثرثرة مع ذلك الكهل الودود حتى كدنا نفوت عرضاً نادراً على الجليد لباليه تشايكوفسكى الرائع (بحيرة البجع) ، بعد إذ كنا حصلنا على تذكرتيه بجهد جهيد.

    منذ ذلك الحين صرنا كثيراً ما نتظارف بتلك العبارة فى تعليقاتنا وأحاديثنا ورسائلنا الخاصة ، جنباً الى جنب مع ذخيرة من التعبيرات والصياغات كنا ننتزعها ، كما الكهرمان ، من كتابات وأشعار أدباء سودانيين وعرب وفرنجة حبيبين إلى نفوسنا ، ومكانة مايكوفسكى أثيرة بينهم ، مثلما كنا نتسقطها ، أحيانا ، من أفواه أناس عاديين ، بل وعابرى سبيل مثل ذلك الكهل الودود الذى هزت عبارته أبا ذكرى هزاً ، حتى نسج ، بعد عام ، من خيوطها الرقيقة قصيدته الرائعة (دفء هذا المكان) التى اخترت أن أرصِّع جبين هذه الكتابة التذكاريَّة بمقطع منها ذى دلالة خاصة.

    ولعل من المفيد ، الآن ، أن أتوقف هنا لأسجل ملاحظة أراها على قدر من الاهميَّة. لقد ظلَّ أبوذكرى مشدوداً دائماً ، وبقوة روحيَّة هائلة ، إلى الأعالى بكل ما فيها وما يحيطها من مفردات ومعانى. إلى السماوات والكواكب والفضاءات اللامحدودة التى كانت تشكل لديه المعادل الموضوعى (للانعتاق) ، أو حلم (الوجود المُغاير) الذى عاش يتحرَّق توقاً إليه. وأىُّ قدر من التأمُّل فى قصائده كافٍ ليجذب فوراً إلى منطقة الانتباه احتشاد صوره الشعريَّة بمثل هذه العبارات والمفردات: (السماء الغريبة) ، (مركبات الشروق) ، (النجوم البعيدة) ، (أحزمة الطائرات) ، (الشبابيك التى تصحو) ، (الشبابيك الحديديَّة) ، (الشبابيك التى يظهر من خلفها الوجه الزيتى) ، (الاطلالة من الشباك) ، (الكوَّات التى تفتح نحو الله فىعليائه) ، (النيازك) ، (الأفلاك) ، (الشهب) ، (المدارات التى تنهدُّ) ، (الغيوم) ، (الشرفة التى تفتح للنور الجديد) ، (تلألؤ النجوم) ، (رشاش الضوء) ، (المجرَّات الخريفيَّة) ، (الشفق) ، (النجوم التى تنتقل فى المدار بالمسدَّسات) ، (الشهاب الذى يبدأ واحداً ثم يتحول إلى شعل) ، (الغيم الذى يفتق الأنهار) ، (السحب فى خاصرة الجبال ) ، (الفضاء) ، (الأجنحة) ، (الطير الحزين) ، (الطير الواجم) ، (الطيور الجَّسورة) ، (الريش القديم) ، (حفيف الأجنحة) ، (النسور) ، (البُراق) ، (الجليد الذى يسقط فى الظلام) ، (الشمس التى تبيع نهدها) ، (بوارج السماء) ، (السماء المحترقة) ، (الشمس المُسمَّرة) ، (الشمس البللوريَّة) ، (عربات الشمس) ، (الشمس فوق مهرها الأبيض) ، (السماء التى تنهض فيها الأسوار) ، (المصابيح السماويَّة) ، (السماوات التى تفور) ، (الانجم المتلاطمة) ، (شمس الفراديس) ، (الشمس النديَّة) ، (قمر النهار) ، (القمر الشاحب) .. الخ.

    قلت: هرعت إليه ، فوجدته أحسن حالاً ، فأخذته ، كالعادة ، من مسكنه الطلابى فى منطقة (سورَكِفتروى) لنقضى أياماً مع (عرَّابنا) الحبيب جيلى عبد الرحمن فى شقته المواجهة لمبنى وزارة الخارجيَّة السوفيتيَّة ، ثم ما لبثت أن ودَّعتهما لأشدَّ الرحال لقضاء عطلة ذلك الصيف فى السودان.

    (3 ـ أ)

    ولكن .. لماذا مايكوفسكى؟!

    قبل أن أمضى قدماً لاستجلاء الاجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة هنا إلى أننا ظللنا ، صديقى الراحل وشخصى ، نحفظ دائما لمايكوفسكى جميله الفنىَّ علينا ، كونه صاحب دالةٍ كبرى على وعينا الشعرى. لقد لاحظ ذلك بحق ، فيما يتعلق بى ، الشاعر الناقد فضيلى جمَّاع فى كتابه (قراءة فى الادب السودانى الحديث) (14) ، ويدهشنى كيف فاته أن يلاحظ ذلك فى ما يتعلق بأبى ذكرى على وجه مخصوص.

    لقد بَهَرَنا (مايا) بقوة ، ونحن فى سنوات الفوران الجسدى والعقلى والوجدانى ، بشعره وبسيرته الذاتيَّة ، سيَّما و تعلـُّم الروسيَّة قد فتح أمامنا مصاريع الأبواب إلى عالمه الابداعى. ولكنَّ تعلـُّم الروسيَّة فتح أمامنا ، أيضا ، مصاريع الأبواب كلها للولوج إلى عالم الكلاسيكيين الروس الأفذاذ من اليكساندر بوشكين إلى انطون تشيخوف ، فضلاً عن رموز الأدب السوفيتى المعاصر الذين افتتنا بإبداعهم: مكسيم غوركى ، سيرغى يسينين ، اليكساندر بلوك ، بوريس باسترناك ، إيليا اهرنبورغ ، أندريا فوزنيسينسكى ، يفغينى يفتوشينكو ، ميخائيل سفيتلوف ، رسول حمزاتوف وغيرهم. ركضنا خلفهم من خزائن الأكاديميَّات الفخيمات الجِّياد إلى دكانات الورَّاقين الصغيرات فى العطفات المنزوية الغارقة فى أكوام الثلج ، ومن ندوات إتحاد الكتاب السوفيت العامَّة إلى أمسيات الأنس الخاصَّة الدافئة بسِيَرهم الذاتيَّة وخصائصهم الابداعيَّة. فلماذا مايكوفسكى بالذات؟!

    أهو انجذاب أبى ذكرى الغامض لانتحاره الفاجع؟!

    فلماذا ، إذن ، ليس يسينين مثلاً؟!

    لماذا ظل أبو ذكرى مسكوناً هكذا بخاتمة (مايا) المأساويَّة ، فبقيت وحدها تهجس له هجساً يئِزُّ به قلبه كخليَّة نحل ، مع أن خاتمة يسينين ، بانتحاره المُدوِّى هو الآخر عام 1923م ، لا تقل مأساويَّة ، وكان أسَرَنا أيضا ، فى ذات تلك الفترة ، بغنائيَّته الشفيفة ، وثرائه الروحى ، ولغته العذبة ، ومذاقه المتفرِّد ، وحُبِّه لوطنه الذى لا يعدله حُب؟!

    ما هو الخاص فى علاقة أبى ذكرى بسيرة (مايا) ، وشعره ، وانتحاره؟!

    (3 ـ ب )

    نخطىء ، من البداية ، خطأ كبيراً إذا ما حاولنا أن نطابق ، تفصيلاً ، بين دقائق شخصيَّتى الشاعرين ، وحياتيهما ، وهمومهما ، ورؤاهما ، وخياراتهما ، وأدواتهما الابداعيَّة:

    (1) فمايكوفسكى ألقى بنفسه ، وكان لمَّا يزل ، بعدُ ، فى منتصف العقد الثانى من عمره ، فى أتون النشاط الحزبىِّ العارم ، والنضال السياسىِّ المرير ، من خلال انتمائه للحزب الاشتراكى الديمقراطى الروسى (البلاشفة) ، خلال فترة من أقسى ما شهد تاريخ روسيا القيصريَّة قمعاً عقب انكسار ثورة 1905م. شارك فى الاجتماعات السريَّة ، والتحريض الجماهيرى ، وطباعة المنشورات وتوزيعها ، كما تعرض للملاحقة البوليسيَّة ، والتشريد من الدِّراسة ، والاعتقالات المتكرِّرة المتطاولة .. الخ. أما أبو ذكرى فلم يرُق له النشاط السياسىُّ المباشر يوماً. وحتى انتماؤه للحزب الشيوعى ، خلال النصف الثانى من السِّتينات ، فقد وقع لفترة قصيرة ، ولأسباب عاطفيَّة بحتة ، وفى ظروف شخصيَّة شديدة الدقة والخصوصيَّة. لقد دخل من هنا وخرج من هناك ، كما النسمة ، ومن خلال حياة طلابيَّة وأنشطة وملابسات تختلف تمام الاختلاف عن تلك التى عاشها مايكوفسكى.

    (2) وبينما توقف مايكوفسكى عملياً ، وفق مؤرخيه ، وبدون الحاجة الى خطوات اجرائيَّة ، عن ممارسة النشاط الحزبى اليومى ، ليتفرغ ، بقرار منه وحده ، لإنجاز ما كان يرى أنه لم يكن قد تم انجازه حتى ذلك الوقت: "خلق الفن الاشتراكى" (15) ، على حد تعبيره ، فإن أبا ذكرى قد انسحب من الحزب الشيوعى السودانى باستقالة مكتوبة آثر أن يبرِّرها ، فى هدوء ولباقة ، بظروفه الصحيَّة غير المواتية!

    (3) وقد لا يبدو هذا الاختلاف ، للوهلة الاولى ، منطوياً على أهمية خاصة. غير أن ما ترتب عليه لدى كلٍّ من الشاعرين ، وباعتبار الفارق بين الفترتين التاريخيَّتين اللتين عاشا خلالهما ، كان على قدر كبير من الاهميَّة. فبينما بدا خيار مايكوفسكى وكأنما يطرح نفسه مؤسَّسة موازية للحزب ، كان خيار أبى ذكرى لا يتعدَّى ، فى الانطباع الذى خلفه ، المعاذير والمبرِّرات الشخصيَّة.

    (4) ترتب على ذلك أيضا أنه ، وبينما جرَّ خيار مايكوفسكى هذا عليه ، عقب انتصـار الثورة ، نقمة خصومه ومنافسيه الكثر ، والذين كانوا يبغضونه بغضاً شديداً أزكى من أواره صلفه الفطرى واعتداده بنفسه واستخفافه بهم ، فإن خيار أبى ذكرى استقبل ، ليس فقط من جانب خلصائه الذين رأوا فيه الوضع الاكثر ملائمة لمزاجه ، بل ومن الآخرين أيضاً ، بتفهُّم وتعاطف كبيرين ، لما كان يتسم به طبعه من وداعة حالت دائما بينه وبين مناخات الغِلِّ والبغضاء ، وشرور الخصومات والاحتكاكات الشخصيَّة.

    (5) إنعكس هذا الاختلاف فى أسلوبى الانقطاع عن العمل الحزبى المباشر ، بالنسبة لكل من الشاعرين ، فى اختلاف آخر على المستوى الابداعى:

    فقد مضى مايكوفسكى ، المتفرِّغ بقرار شخصىٍّ وإرادة منفردة "لخلق الفن الاشتراكى" ، يعرى آلام روسيا ، ويفضح مخازى البرجوازيَّة ، وينحت اللغة المغايرة ، ومعمار القصيد الجديد ، ويكشف عن تلك الطاقة الروحيَّة الهائلة التى تلاقحت فى دواخله مع الوعى العميق بالقوانين العامَّة لحركة الجماهير ومسيرة التاريخ ، فتفجَّر إنشاده يُبشِّر ، على طريقة زرقاء اليمامة ، (بالثورة القادمة):

    "أنا من يثير قهقهة القبيلة المعاصرة ،

    مثل نكتة طويلة وفاحشة ،

    أبصر عبر جبال الزمن

    مالم يبصره ، بعد ، أحد

    فمن حيث تتوقف عيون البشر ،

    قاصرة عند رأس الحشود الجَّائعة ،

    أبصر أنا عام 1916م

    يقترب ، من على البعد ، وئيدا ،

    متوجاً بأكاليل الثورة"!

    ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة اكتوبر الاشتراكيَّة العظمى عام 1917م ، بعد أقل من عام واحد من التاريخ الذى حدَّده لها فى شِّعره ، كان موقفه حاسما:

    "هل تقبل أم لا تقبل؟

    مثل هذا السُّؤال لم يكن مطروحا لدىَّ ابدا ..

    إنها ثورتى"(16)

    فانطلقت طاقاته وملكاته الإبداعيَّة فى كل الاتجاهات ، يشارك فى اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات العامَّة ، ويجلجل صوته فى القاعات والسَّاحات والشوارع بأشعار غير مألوفة ، وينشد للمهام السياسيَّة والتنظيميَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والثقافيَّة ، ولبرامج التصنيع ، وللمشروعات الجديدة ، مُضَمِّناً قصائدَه الشعارات الثوريَّة ، والتحريض المباشر ، والعَلم السوفيتى ، وأسماء الثوار ، ومواقع الانتفاضة ، ووجوه البحَّارة ، ودخان المصانع ، وعرق العمل ، والاصطلاحات السياسيَّة والاقتصاديَّة ، ويعلنها داوية:

    "كلها لكم ،

    كل أشعارى الجبارة الأصداء لكم ،

    أيُّها العمال ،

    أيَّتها الطبقة الصاعدة"

    وحين رأى الانحرافات تنوش ، من كل حدب وصوب ، (ثورته) التى علق عليها كلَّ آماله وطموحاته وتطلعاته ، وهو المنفعل بتعاليم (المستقبليَّة ـ futurism) التى انتمى إليها قبيل الثورة ، والحالم الأبدىُّ بالاكتمال ، لا أقل من الاكتمال ، راح يصبُّ جام غضبه ولعناته على البيروقراطيين والانتهازيين وضيِّقى الأفق ، بل ويسمِّيهم بأسمائهم فى قصائده. وشن حربه المقدسة على الاجتماعات والأوراق والتعليمات وكل ما من شأنه أن "يحوِّل الانسان إلى بقعة حبر على الهامش" (17) ، على حد تعبيره:

    ـ "إننى أرى المستقبل ،

    لا خيالاً ،

    وإنما نبوءة تدوى من ابواق الاوراق:

    سوف تجلس الاوراق إلى الموائد لتتناول الغداء ،

    بينما أشباه الناس يتهافتون تحت الموائد"!

    ـ "ما هذا؟!

    لا أرى غير أنصاف الناس!

    أين هى الانصاف المفقودة؟!

    ثم يأتينى الصوت الهادىء للسكرتير: معذرة ..

    إنهم يحضرون اجتماعين فى آن واحد ،

    إذ علينا أن نحضر ، طوعاً أو كرهاً ،

    عشر جلسات فى اليوم ،

    لذا ننقسم إلى نصفين ..

    من الأسفل حتى الخصر .. هنا ،

    أما بقيتنا فهناك"!

    ـ "آهٍ ، مَن لنا باجتماع وحيد أخير وحاسم ..

    يقرر محو كل الاجتماعات"!

    ولئن كانت تعاليم (المستقبليَّة) التى ارتبطت باسمه ، وبلغت على يديه ذروة تخلقها الشعرى فى روسيا ، بل وفى العالم بأسره ، قد شادت مجده ، وفتحت آفاق التحقق الإبداعى أمامه واسعة ، وبلا حدود ، فإنها قد شكلت فى ذات الوقت ، وبجلاء جدلى نادر ، جوهر نكبته! فموظفو (الحزب/الدولة) الذين هللوا ، قبل الثورة ، لتبشير مايكوفسكى بالمستقبل ، لم يستطيعوا أن يفهموا كيف يستمر ، بعد الثورة ، فى التبشير بهذا المستقبل! كانت (ثورة أكتوبر) ، بالنسبة لهم ، محض إجراء بيروقراطىٍّ تمَّ تنفيذه ، وانتهى الأمر! ولذا فقد كان مطلوباً منه أن يكفَّ فوراً ، بمجرد انتصارها ، عن الاستمرار فى التحرُّق شوقا لذلك (الشىء البعيد) ، وأن يركز فقط على التغنى بـ (الحاضر/الواقع الجديد) الذى اختزل ، من وجهة نظرهم ، مجمل الحلم الانسانى الرائع! ولمَّا لم يكن من الممكن التوفيق بين هاتين الرؤيتين ، فقد وقعت الكارثة ، وسقط (مايا) فى هوة التناقض بين (الثورة) و(النظام) ، بين (الحلم) و(الواقع) ، بين انعدام الرغبة فى (الانتماء = التماهى = الذوبان) من جهة ، وانعدام (الطاقة على التخلى) من الجهة الأخرى ، ويالها من هوة بلا قرار!

    ب/ أما بالنسبة لأبى ذكرى فإن الامر لم يكن مطروحاً ، أصلاً ، بهذه الصورة. ذلك أن وجدانه لم يتعلق (بثورة محددة) ، كما وأنه لم يراهن على (نظام بعينه) ، غير أن التوق (للثورة = فعل التغيير) و (النظام = الوجود المغاير) ظل يحلق بشعره صوب آفاق إنسانية شديدة الجِّدَّة والاتساع ، لكنها لا تكاد تسمح بالإمساك بملمح محدَّد ، كما عند مايكوفسكى ، لهذا (الفعل) أو (الوجود). ومع ذلك فهو لا يكفُّ عن التغنى بهذا (التوق) كما الفراشة تتحرَّق لهفاًً للنجم الثاقب:

    "لى سماء غريبة ..

    أتأمَّلها فى الخفاء ،

    وأهَدهِدها ساهماً فى المساء ،

    وأغنى لها أجمل الأغنيات ..

    بصوتى الأجشِّ الذى لايجيد الغناء ،

    وأقول لها وأتمتم: آهٍ .. ملاذى من القيظ والزمهرير

    أنت يا مركبات الشروق التى تتحرك بين السهول الغريبة ،

    والسهوب الفساح التى لا يراها سوانا ،

    والتى فرشتها يدانا ،

    أنت وحدك لا تجهلين ..

    لماذا نخوض البحار سوياً ،

    ونغشى النجوم البعيدة ،

    ولماذا نحب الجباه التى لم تطلها قدم ،

    والأمانى التى ، بعدُ ، لسنا نراها ،

    والعيون التى تتمازج فيها الجسارة ، والحب ، والغربة الهائلة ،

    ونحب البواخر هدَّارة فى أعالى البحار ،

    ونحب نقاط الحدود ، وأحزمة الطائرات ،

    ثم نرحل بين الحزون ونهبط فوق النيازك"!

    (سماؤه الغريبة) هذه ، والتى تشكل المعادل الشعرى فى وجدانه (للثورة الحلم = الوجود المغاير) ، و(ملاذه) الخاص من (القيظ والزمهرير) ، والتى يتأمُّلها وحده (فى الخفاء) ويحلق (بمركبات الشروق) فى (سهولها) و (سهوبها) التى لا يراها أحد سواهما ، هو و(الحبيبة = الوطن) ، تظلُّ هى (الجوهر الفرد) و(السِّرُّ المقدَّس) الذى لا يبوح به إلا إيماءً وتلميحاً!

    وتكتظ قصائده بمثل هذه الإيماءات إلى (المستقبل) أو الزمن الذى لا يكاد يروى غلة صادٍ لمعرفته سوى بكونه "وقت تنهدُّ المدارات / وتسودُّ سماء البارحة" ، إستدبارا لـ (حاضر) يتوق أن يراه (ماضياً)! أو بأنه أوان "يجىء المدُّ بالرَّحَّالة التعبى ورواد البحار / وبهم تنهمر الراحة والنسرين فى الأرض الصديقة"! أو بأنه أوان يقوم هو والوطن = الحبيبة "لنمسح أوجهنا فى السنين التى سوف تأتى / ونقاتل هذا الزمان القبيح فى حشانا / فى خطانا / ونحزُّ براثنه القاتلة"! أو بأنه وقت "أنتظر الشمس تجىء فتهزُّ بدنى / تغسلنى من رعشتى ونتنى"! أو بأنه الزمن الذى يستحيل أن يتحـقق فيه (الضجيج) ، كناية عن فعل التغيير المُدوِّى ، "مالم يهرب الماء الذى تسجنه الأنهار / ما لم يُدوِّى الانفجار"! أو هو الزمن الذى سوف تجىء فيه الشمس "فوق مهرها الأبيض بعد السفر الطويل / فتغمس الأشجار فى الضياء / وتلحق المسافرين فى ظلام الليل / وتكشف السيول الممعنات ركضاً فى السهول / وتفضح البوم الذى ظلَّ ، طوال الليل ، ينعب الطلول".

    وبالتبعيَّة فإن خصوم أبى ذكرى وأعداءه ليسوا ، إذن ، بشراً محدَّدين بلحم وشحم وعظم ، ولا يمتكلون خصائص الوجود المادىِّ الملموس ، كما عند مايكوفسكى: "سفلة من كل شاكلة ولون / يمشون على الأرض هوناً ، بلا عدٍّ ولا حـد / شريط كامل من الأنماط يتمدُّد بلا نهاية / إتكاليون وبيروقراطيون / مداهنون شلليُّون ومدمنون / يختالون بيننا زهواً بصدورهم المنفوخة .. الخ" (1 ، بل صيغوا ، فى أشعار أبى ذكرى ، من ذات المادة الشهباء التى صيغت منها نفس المعانى الانسانيَّة العامَّة (لفعل التغيير = الوجود المغاير). وقد ترتب على ذلك ، أيضاً ، الاختلاف النوعى بين صراعات (مايا) مع أعداء لم يُخْفِ حتى أسماءهم فى قصائده ، وبين صراعات أبى ذكرى مع أعداء ظل يرمز إليهم دائماً بـ "الدخان الذى صار سقفا للنبض" ، و"الجِّيَف التى تفوح فى الرياح" ، و"الأموات الذين ينشـجون كمداً" ، و"البوم الذى ينعب طوال الليل" ، و"الجُّـثث التى ستسقط من فوق الرُّعود إلى اللحود" ، و"كلاب البحر التى تنهش اللحوم" ، و"أفيال أبرهة الثقال" ، و"الكلاب الضَّالة الصُّعلوكة النظرات" ، و"المشوَّهين والموتى الذين يشتلون الزَّمن القمئ فى السَّاحات" ..الخ.

    لكلِّ هذه الفروقات ، ولغيرها (19) ، نقول إننا نخطىء خطأ كبيراً إذا ما حاولنا اصطناع مطابقة متعمَّلة بين الشاعرين.

    (3 ـ ج)

    ولكننا نخطىء ، أيضاً ، خطأ كبيرا اذا أعمتنا هذه الفروقات الظاهرة بينهما عن رؤية الحبل السُّرِّى الذى يربطهما معاً ، عبر الزمن الطويل الذى يفصلهما ، والوقائع التاريخيَّة التى تتمايز بين حقبتيهما:

    (1) فمايكوفسكى قرر التوقف عن ممارسة النشاط الحزبى قبيل ثورة 1917م ، ليس هروباً أو تخلياً عن واجب ، بل ليتفرَّغ ، كما سبق وأشرنا ، للاطلاع بمهمَّة رآها أكبر خطراً وأجلَّ أثراً ولن يتصدَّى لها ، برأيه ، أحد سواه: خلق الفن الاشتراكى! وعندما همس ، وهو فى التاسعة عشر لرفيق سجنه:

    ـ "مشكلتى الأساسيَّة هى كيف أنقذ الأدب الروسى من حثالاته القديمة ، أريد أن أخلق فناً اشتراكياً" ،

    ضحك صاحبه قائلاً:

    ـ "يبدو أن عين مايكوفسكى الصغير أفرغ من معدته"!

    وأبو ذكرى ، أيضاً ، لم يختر المغادرة السريعة لإطار النشاط السياسى المباشر ، آخر الستينات ومطلع السبعينات ، تنصلاً من مسئولية ما ملقاة على عاتقه ، بل تطلعا لظروف أخرى أكثر ملائمة لمزاجه الشخصى يستطيع من خلالها أن ينهض بمسئوليَّة ظلَّ يشعر دائماً بأنها تنتظر أن يهبها حياته بأكملها: الشِّعر والترجمة ، الأمر الذى عبَّر ، كما قد رأينا فى رسالته ، عن أشواقه الوطنية وتطلعه لأن يساهم ".. فى حل مشاكل السودان" بالتصدى له. فكم ، ترى ، مِمَّن سمعوا هذا الكلام لم يغالبوا ، بل كم من القراء لا يغالب الآن ، رغبة حقيقية فى أن يتعامل مع خيار أبى ذكرى هذا على طـريقة رفيق السجن مع خيار مايكوفسكى ، رغم ما قد لا يخفى ، حتى على النظر العابر ، من فروقات بين الخيارين ، سواء فى جوهر المنحى الأيديولوجى ، أو فى درجة وضوح الموقف نفسه؟!

    من هنا ، فى تقديرنا ، وتحديداً من مستوى تقبُّل الآخرين ، واستجاباتهم ، وردود أفعالهم المباشرة وغير المباشرة ، بدأت فى التشكل ملامح الحاجز الذى لم يُقدَّر لأىٌّ من الشاعرين أن يتغلب عليه ، وشرعت فى التخلق بواكير الاحباط الناشئ من انكسار دفقة التوهُّج الباطنىِّ الكثيف على صخرة الصدود الخارجيَّة الصَّلدة ، لتتخذ المأساة شكلها الجنينىَّ القاتم ، ولتنسج فى دواخل كلٍّ منهما خيوطها السَّوداء الأولى!

    (2) إنتمى مايكوفسكى إلى (المستقبليَّة) التى بشَّرت بإبداع جديد يستدبر (الماضى) تماماً ، ويتوجَّه بكليَّاته للاستبشار (بالقادم الجديد) الذى سيجئ ، طوعاً أو كرهاً ، ومن كلِّ بُد ، وحتف أنف كلِّ عائق وكلِّ ظرف غير مُواتٍ. وقد شاعت تباشيرها الباكرة فى أوروبا ، من بيان مارينتى التأسيسى ، قبل أن تتبلور فى روسيا حول البيان الذى أصدره عشيَّة الحرب الأولى ، ووقعه تحت عنوان (صفعة على وجه الذوق العام) كلٌّ من خليبنكوف وكارنسكى والأخوين بورليوك وكروتشنيك. غير أن ما كانوا يبشرون به لم يستبن تماماً ، أو يستوى خلقاً سوياً ، إلا على يد (مايا) الذى انضمَّ إليهم لاحقاً. وكان مِمَّا جاء فى ذلك المانيفيستو (20): "نحن وحدنا نمثل وجه عصرنا ، وكلمات الفن التى نخطها هى الصوْر الذى ينفخ فيه الزمن"! واتهموا كبار الأدباء الروس بأن كل ما كانوا يطلبونه هو "فيللا على ضفة النهر"! ووصفوا ذلك بأنه "حلم جدير بالخياطين"! وشنوا هجمة ضارية على الأساليب القديمة ، والصياغات التقليديَّة ، ودعوا الشعراء والفنانين لأن يستبشعوا "تلك الأكاليل المصنوعة من فرش الأسنان ومن رؤوس المشاهير التافهين"! ولقد قدر لمايكوفسكى أن يكون وحده أخلد أولئك المتمرِّدين الروَّاد ، فحمل عبء تثوير (المستقبليَّة) عن جدارة سَمَت به ، للمفارقة ، إلى مراقى المجد ، لكن ، وفى آن واحد ، إلى فاجعة .. الانتحار!

    أما أبو ذكرى ، الذى لم يصدر أىِّ (مانيفيستو) ، ولم ينضم لأيَّة جماعة ، فإن انجذابه إلى (المستقبليَّة) جرى ، أساساً ، عبر تأثره بعناصر الشِّعريَّة لدى مايكوفسكى. ونعيد التشديد هنا ، مرة أخرى ، على أن هذا (الانجذاب) و(التأثر) لا يعنى مطلقاً فكرة (التطابق) الميكانيكيَّة. ذلك أن أبا ذكرى قد تفرَّد دائما بخصوصيَّته ، رغم سباحته فى نهر (مستقبليَّة مايكوفسكى). فهو ، على سبيل المثال ، لم يكتب سوى القصائد القصيرة والسونيتات بشكل عام ، ولم يُبدِ ميلاً ، مثل (مايا) ، نحو المطوَّلات الشعريَّة. غير أنه ، حتى فى هذه الحالة ، ظل حريصاً على الاستمساك بأحد أهم عُمَد (المستقبليَّة) (21): الصورة الشعريَّة المستمدَّة من حركة عناصر العالم الموَّارة بالحياة (22) ، بدلاً من سكونيَّة التأمل ، وركود المخططات الذهنيَّة المحضة:

    "قال طير حزين ..

    إفتحوا لى بوابتىَ المغلقة

    إفتحوا لى ، إفتحوا لى

    دثرونى بريشىَ القديم

    زمِّلونى بحلمىَ الهشيم

    غير أن الطيور الكبيرة

    الطيور الجسورة

    نفضت ريشها ثم طارت

    والسماواتُ فارت وغارت

    وتلاطمت الأنجمُ

    وتفصد منها الدَّمُ

    وتعطل بحرُ الظلام

    فوق ذاك الحطام"!

    على أننا نسارع ، هنا ، لملاحظة أن سونيتات مايكوفسكى نفسه لم تحُل ، على قِصَرها ، دون حركيَّة صوره الشعرية الموَّارة ، رغم أن المطوَّلات وحدها تظل ، بالطبع ، الأكثر تأهيلاً لاحتواء تلك الغابة من الأفعال وأصوات الأفعال التى تتسِم بالحدَّة والعنف ، ولأسر ذلك البحر من الحركة المتلاطمة التى تفجِّرها عادة الصور الشعريَّة المُركَّبة ، المتلاحقة والمكثِفة لضجَّة الحياة والطبيعة ، حين يجرى اختزالها بمستويات مختلفة فى سياق الشعريَّة المايكوفسكيَّة:

    "فى الفجوات مابين ناطحات السحاب

    المليئة بالمعدن الملتهب ،

    حيث يأتى حديد القطارات الصلب مقعقعاً ،

    هوت طائرة مع زئيرها الأخير

    إلى السائل الذى ..

    ينزُّ من عين الشمس المريضة

    آنئذ ، أفتتن الليل بنفسه ،

    وهو يُجعِّد دثار المدينة .. داعراً مخموراً

    وخلف شموس الشوارع الحزينة الملامح

    غاص القمر المترهِّل ،

    نفاية قديمة لا احتياج إليها"!

    (3) وليس عسيراً على العين المدققة ملاحظة أن كلا الشاعرين كان يكتب قصائده وفى مخيلته جمهور محتمل. يبدو ذلك جليا من خلال صيغ الأفعال وأصوات الأفعال (23) المتواترة فى قصائدهما ، والمنتقاة بعناية لمنح عناصر الصورة الشعريَّة إرزامها الجهير وحركيَّتها الصَّدَّاحة:

    أ/ فمن نماذج ذلك عند مايكوفسكى: "يندفع . يخنق . يصرخ . يسحق . ينطلق . يتحدَّر . يشهق . يتخبَّط . يهشِّم . يفجِّر . ينتزع . يقتحم . يقتل . يهدر . يتحطم . يهدم . يرتطم . ينقسم . يصطدم . يموت . يتطاير . يدوى . يتمزَّق . يئزُّ . يلهب . يدمـدم . يحرق . قرقعة . رنين . صرير . اصطكاك . غناء . هذيان . زئير . قهقهة".

    ب/ وعند أبى ذكرى ، أيضاً ، وعلى سبيل المثال: "يسقط . يحزُّ . ينهار . ينهمر . يغور . يموت . يفور . يتلاطم . يثبت . ينهدُّ . يقرقع . يدمـدم . يحطم . يخنق . يحترق . يهزُّ . يئزُّ . يتقصَّف . يتلخلخ . يصرخ . يقاتل . يدوى . يصفع . يطير . يصخب . يشرخ . يتدافـع . غناء . هدهدة . ضوضاء . هزهزة . هرج . غمغمة . دندنة . قصف . عواء . صفير . أزيز . خشخشة . فقفقة".

    (4) واذا كان أحدَ أهم عناصر (الشِّعرية) لدى مايكوفسكى بناءُ الصورة من المزاوجة أحياناً ، ومن التنقل ، أحياناً أخرى ، بين لغة الجموح الخيالى بغنائيَّتها السَّلِسة ، ولغة الحياة اليوميَّة القائمة فى بنيتها المُركَّبة المتضمِّنة للمفردة غير المعتادة فى القول الشعرى ، فقد شكل ذلك أيضاً مركز جذب لانتباه أبى ذكرى ، المُكبِّ على فحص أدواته ، الباحث عن لغة جديدة ، النافر من سطحية (التعليمات) النقديَّة الدَّارجة حول ثتائيَّات (البساطة والتعقيد) ، و(المباشرة والغموض) .. الخ ، القائل عن نفسه إنه "يؤمن بالبساطة فى تركيب الشعر إن كانت .. تؤدى الى أسر التجربة الشعريَّة كاملة وإلى تعميق فهمنا للعالم ولأنفسنا وإلا .. فلا بساطة ولا يحزنون" (24):

    أ/ هكذا تسطع أكثر من غيرها ، فى عقل ووجدان القارىء لمايكوفسكى ، صياغات مثل: "العظام الناتئة لوجنة المحيط" ، "خلفهم ركضت الشمس زرافة صفراء وهى تقضم الغيوم حتى النفاية" ، "فلتحلق مصطدماً بالكواكب" ، "أخذت أجرجر معى أذيال قلبى" ، "عيناى الرصاصيَّتان تلتصقان بوحل الليل" ، "أبدو فى النافذة وجبهتى تذيب زجاجها اللامع" ، "الساعة الثانية عشرة ترنحت وسقطت كرأس مجرم محكوم بالاعدام" ، "إنتبهوا لأحذيتكم أيها السادة ، يارجال الإطفاء ، ينبغ التعامل مع القلوب المحترقة بحنان" ، "تلك اللحظة المرعدة ، المضيئة أكثر من الألعاب النارية" ، "سوف أمضى متخذا الشمس نظارة" ، "تنطلق الغيوم كحشود من عمال يبحثون عن منفذ لغضبهم" ، "ينحدر الرَّعد مجنوناً من الغيمة ، يشهق ويتمخَّط فى حِدَّة".

    ب/ كما تسطع أيضا أكثر من غيرها ، عند أبى ذكرى ، صياغات مثل: "أحبُّ أن أنمو كالطحلب فوق رأسـكِ الثمين" ، "أكاد أعانق البصَّات والأسفلت" ، "يدفىء راحتيكِ لحمىَ القليل" ، "أدخِّن الحُبَّ وألعن الزمن" ، "صمتٌ كأنهم يخلون ساحة السجن لإعدام سجين" ، "وتشهر الفاقة غدَّارتها السوداء" ، "يصحو الحزن والإطراق ، يوزع نفسه فوق المقاعد .. فى قداح الشاى" ، "تعبَ الكوكب ، يجلس الآن مضرجاً فى القىء والغبار ، يلفلف الضَّماد قلبه ورسغه ، أمامه تنتقل النجوم فى المدار بالمسدَّسات" ، "قلبىَ الذى أكتب فوقه: فلتهدأ الضوضاء .. قلبىَ الذى يدخله الجَّرحـى بأشرطتهم ، ويلقى فوق نقالاته المصابون" ، "وإننى ، من بعد إذنكم ، أبول فوقه وأزدريه" ، "وتلصق الدهشة أنفها بنا" ، "وثورة على الغيم أنا ، وتجديف على الملائكة .. مرتطمٌ بحائط هنا ، مرتطمٌ بحائط هنالكا".

    (5) والتوافق بين قاموسى الشاعرين مردُّه ، بلا شك ، إلى تشابه عالميهما الداخليَّين المائرين بإحساسهما العارم بالتفرُّد المتوحش الممزوج بالغضب والرفض وهجاء الحاضر القمىء وعدم القدرة على التصالح معه ، وإلى ذلك الرغبة ، ليس فى اعتزاله ، فحسب ، بحثاً عن خلاص ضمير فردى ، بل وفى تدميره ، توقاً ، فى الوقت ذاته ، لبناء الوجود المغاير:

    أ/ هكذا يصرخ (مايا) فى ضراوة:

    "دعونى أمضى .. لن توقفونى ،

    فسواء كنت مخطئا أم مصيباً ..

    فلا يمكننى أن أكون أكثر هدوءاً

    ولا أظن أننى يجب أن أكون ،

    أنظروا ، ها هى النجوم طارت أعناقها

    من جديد ،

    والسماء حمراء كلها بدم المذبحة

    هيه .. أنتن أيتها السماوات ،

    إننى قادم ، أتسمعن ؟

    إرفعن قبُّعاتكن ، وإلا .. فاصمتن"!

    وينشج أبو ذكرى فى حرقة:

    "إنتظرنى ، فأنا أرحل فى الليل وحيداً ،

    موغلاً منفرداً ،

    فى الدهاليز القصيَّات انتظرنى

    فى العتامير وفى البحر انتظرنى

    إنتظرنى فى حفيف الأجنحة ،

    وسماوات الطيور النازحة ،

    وقت تنهد المدارات

    وتسود سماء البارحة ..

    إنتظرنى"!

    أو يتمتم فى ما يشبه الصلاة:

    "ها أنا أنقل أنوارى فى الليل ،

    وأرجو الصيف والنجمات ..

    والدنيا الغريقة

    ها أنا أنتظر البعث هنا كل مساء ،

    هكذا .. كل مساء"!

    ب/ ومرة أخرى استمع لمايكوفسكى يؤكد متيقناً:

    "سوف أمضى متخذاً الشمس نظارة ..

    على عينى المفتوحتين عن آخرهما ،

    وسف يتمدَّد العالم كامرأة عند أقدامى

    ويرعِّش لى مفاتنه فى إغراء ،

    والأشياء الميتة سوف تعود إلى الحياة ،

    وسوف تلثغ الشفاه لى فى إثارة:

    (ياحبيبى ، يافاتِنى)"!

    ثم استمع إلى أبى ذكرى يعاند مُصمِّماً:

    "أنتظرُ الشمس تجىء فتهزُّ بدنى

    تغسلنى من رعشتى ونتنى

    أنهض شاحباً وشامخاً ..

    لا شىء يستفزُّنى ،

    ولا شىء يهزُّنى ،

    الحُبُّ لا يميتنى ..

    الشوق لا يسقطنى ،

    وألف حُبٍّ رائع تمدُّ لى ..

    أعينها السود وتنتظرنى"!

    (6) وجدير بالتأمل ، فى السياق أيضاً ، انقسام الصوت الشعرى على ذاته (25) لدى كل من الشاعرين: صوت ينقضُّ على العالم الخارجىِّ باستعلاء شرس وضراوة جهيرة ، وآخر ينكفئ على عالمه الداخلى برثاء شفيف وبوح مخافت. الأول منطلق بعنفوان الرغبة فى تدمير الواقع المتكلس وإعادة بنائه ، والآخر مثقل بيأس الحُبِّ المُجهض والأسى المستديم (26):

    أ/ فمايكوفسكى يصرخ أحيانا منذراً ومتوعداً:

    "سوف أندفع عاصفاً

    أطلق جسدى فى الشوارع"!

    أو ..

    "لن أنشر عاصفة من الرايات المعربدة ،

    بل سوف أمزِّق الأوراق بأسنانى"!

    أو ..

    "سوف أمزِّقكم كلكم ،

    مخموراً بالمداهنة ..

    ابتداء من هنا ،

    ورأسا إلى ألاسكا"!

    أو ..

    "هأنذا أنحنى لأسحب السكين من رقبة حذائى ،

    فليرتعش جلدك فى رقصة سان فيتوس"!

    وأحيانا أخرى مُحرِّضاً مُستنهضاً:

    "كل بوصة من ورق لا يُجدى

    أمقتوها كعدوِّكم

    إكرهوها كالجَّحيم"!

    أو ..

    "أيها المتنقلون بين الحانات

    أخرجوا أيديكم من جيوب سراويلكم

    وانتزعوا القنابل ،

    أو الأحجار ،

    أو السَّكاكين"!

    وأحيانا لاعناً ومتباذئاً:

    "إنك محض جهول ،

    حيوان تافه"!

    أو ..

    "يالكم من اوغادٍ

    ذوى أجنحة خفاقة"!

    ولكنه ليس نادراً ما ينكص ، بغتة ، عن هذه الشراسة الجهيرة لينكفى على يأس غائر مخافت: "أمى ،

    لم أعُد قادراً على الغناء ..

    مرة ثانية ،

    فالدخان يخنق جوقة روحى"!

    أو ..

    "ذلك الصياح لن يسفر عن خير ،

    وقد تحطمت وقاحتى"!

    أو ..

    "حُبِّى عِبء مشلول عن أن يتعلق بك

    حيثما تهربين ،

    فدعينى أبكى مرارة تعاستى ..

    فى زفرة أخيرة"!

    وعند أبى ذكرى أيضاً يتقاطع هذان الصوتان ما بين المجاهرة والمخافتة. فهو حيناً يتوعَّد ويتباذأ:

    "يا زمن الملوك الأباطرة

    يازمن الحشود والسِّلاح

    والسَّماسِرة

    يازمن العواهِر المُراهِقات

    يازمن المُساوَمات

    إن كان هذا عصرنا ..

    فإننى أهجم فى ضراوة عليه

    وإننى (من بعد إذنكم) أبول فوقه وأزدريه

    أصرخ فيه: لا

    لو هجم التتار: لا

    للنوم والرَّاحة: لا

    للابتذال: لا

    وللسُّقوط: لا"!

    وحيناً يُحرِّض:

    "هيا ، دع المشوَّهين والموتى ..

    الذين يشتلون الزَّمن القمئ فى السَّاحات

    دعك من الآفاق هذه المشتبهات

    والأماكن التى مللناها

    الأماسى التى بصقناها

    تعال نفتح القبر لها بكل قبحها ،

    بكل مرضاها"!

    وحيناً يلعن:

    "يا أنتِ ، يا سفينة تحمل موتانا إلى البحار

    سيرى .. تحرَّكى .. حلت عليك لعنة الاكوان

    سيرى .. تحرَّكى .. ولا يرحمك الرَّحمن"!

    ثم فجأة ، كما عند مايكوفسكى ، تستحيل كلُّ هذه الضراوة والشراسة الى مخافته يائسة ، حين يرتدُّ الخطاب من الخارج الصريح إلى الدَّاخل الغائر:

    "وَجَمَ الطير فى برده واعتداده

    وتغطى بوحدته وانفراده

    وطويل سهاده

    حالماً أن يطير ولكن بلا أجنحة ،

    أن يسود الفضاء ولكن بلا أسلحة"!

    أو ..

    "ولكن الثمن

    أكبر مما يستطيع قلبى المسكين"!

    أو ..

    "وتجهَدُ الجذوع أن تمسح وجهها

    فى قاتل الأمطار ،

    نسمعها فنقشعِرُّ ..

    ثم نحفر القبر لقلبنا الدَّامى ،

    ونضغط الأحجار"!

    أو ..

    "وحين يزنُّ فى رأسى هواء الليل

    أفتش عن صديق تفرح الظلمات إذ يأتى ،

    وأفرح فرحة المسجون

    يوم وداعه تلك الشَّبابيك الحديديَّة

    ولكن لا صديق هنا ،

    ولكن لا رفيق هنا ،

    ولا أخوان"!

    أو ..

    "أشدُّ الخطو فى الحارات والأقذار

    وحين تصَرصِر الأبواب ، حين تضمُّنى الغرفة

    أفكِّر فى الزَّمان المُرِّ والإنسان

    وفى وطنى الحزين الدَّامع العينين ..

    إلا من أزيز النار"!

    وليس ثمَّة شكل ثابت لفعل الصوتين فى بنية هذا القول الشِّعرى ، فقد يأخذ حيناً شكل الخطاب المُتوجِّه إلى الخارج العام ، وحيناً آخر شكل الديالوج مع الآخر المُحدَّد المُتعيِّن ، مُعلناً كان أو مُضمَراً ، وحيناً ثالثاً شكل المونولوج الداخلى. كذلك ليس ثمَّة نسق نمطىٌّ لهذه الأشكال فى معمار القصيد ، فقد تتجاور ، أو تتعاقب ، أو تتماهى.

    (7) غير أن (الأنا) الشِّعريَّة الدَّاوية تحتلُّ ، فى كل الأحوال ، موقع الوثاق المتغلغل بين كل هذه الأنساق ، سواء بدلالاتها النحويَّة والصَّرفيَّة المباشرة ، كضمير للمتكلم المُفرد ، أو باختزالها (للنحن) دون تفريط فى فرادتها أو توحُّشها (27).

    ويقينى أن هذه (الأنا) الطاغية لدى كلٍّ من الشاعرين هى العصب الأمتن فى ذلك الرباط السحرىِّ الذى شدَّ أبا ذكرى الى (مايا) أكثر مِمَّا شدَّه إلى أىِّ شاعر آخر فى اللغة الروسية التى شغف بها ، وتبحَّر فيها ، ونال درجة الدكتوراه فى آدابها قبل انتحاره بعام واحد.

    فكلاهما تدوى (أناه) فى شعره دويَّاً طاغيا كتعبير عن انفراده ، ووحدته ، وتوحُّشه ، وعدم استعداده للتصالح (2 مع عالم أدمن انغلاقه فى "محارات التشيُّؤ" (29) ، و"زنازين الثلج" (30) ولم يترك للشاعر سوى أن يصرخ وهو على حبل المشنقة "أشربوا كاكاو فان هوتين" (31) ، وإلا أمسى "نشازاً فى هذا الصَّمت المتناسق" (32). عالمٌ "تطير فيه أعناق النجوم" (33) ، وتتخضَّب سماؤه "بدم المذبحة" (34) ، وتنتشر فيه السُّجون والمعتقلات حتى ليكاد الانسان يمنح عمره كله "من أجل بقعة شمس فى حجم رأس الدَّبُّوس" (35) ، ولا يكاد يستطيع أن يرفع رأسه لأن "فى كل خطوة لغم ، وفى كل طريق مطب" (36) ، ولأن تحت أقدامه "تفور كلُّ هذه البراكين" (37). عالم لا يكفُّ عن التخثر ، حتف أنف الأشعار والأغانى ، ويستعصى على التحوُّل وفق الحلم الرائع والمثل الأعلى.

    وكلاهما استعاض عن الواقع بالحلم ، فتجاوزت (أناه) شرطها النحـوىَّ المحض ، لتتخذ سَمْتها ، فى الغالب ، كإشارة (للنحن) كما يحلم بها الشاعر ، أو كما يريد لها أن تكون فوراً ، طوعاً أو كرهاً!

    وكلاهما استغرق فى جدل (الأنا والنحن) الشِّعريَّة هذه ، كعلاقة لا تسقط (الفواصل) القائمة لصالح (تماهٍ) محتمل ، ولا تطيق تخلياً عن (التماهى = الحلم) المحتمل لصالح تلك (الفواصل) القائمة. إنه النفور المتأصِّل من اصطدام (السعادة الشخصيَّة) بـ (سعادة الكل) ، على حدِّ تعبير ف. بيتصكل (3. وكلما ازداد (الخارج) دمامة وتكلساً وابتذالاً ، كلما تفاقم استعصام (الأنا) أكثر فأكثر بـ (الداخل) ، حيث التوحُّش والاعتزال ، وحيث الموت توقاً ، فى الوقت ذاته ، للـ (نحن = الحلم العصى). إنها العلاقة المستحيلة "حيث تنهض الحيتانْ / بين الذى نريده فى آخر الدُّنيا / وما نملكه من سفن يملأها الدخان" (39) ، فانظر أيَّة كارثة ليست مرشَّحة كنهاية محتومة لمثل هذه العلاقة؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

    (4ـ أ)

    إلتقينا ، مرة أخيرة .. وللأبد ، فى موسكو ، خريف 1987م. طرت إلى هناك ، بعد غيبة طويلة ، للمشاركة فى سمنار علمىٍّ حول (البريسترويكا والاصلاح الدُّستورى). بعثت أخبره بوصولى عن طريق السيِّد بدر الدين عمر الحاج موسى ، الملحق الثقافى ، وقتها ، بالسَّفارة السودانيَّة. وما هى إلا ساعة أو بعض ساعة حتى سمعت الطرق المألوف على باب غرفتى بفندق (روسيا) ، فهببت أفتحه ، نفرة واحدة ، وبأشواق لا تحد للحبيب الغائب عنى وعن السودان دهراً .. واندفعنا فى عناق طويل. كان "غيمة فى معطف خريفى" (40). برَّر شحوبه ونحوله بإرهاق العمل المضنى فى استكمال رسالة الدكتوراه فى الأدب المقارن ، حول صورة تشيخوف فى اللغة العربيَّة ، على يد البروفيسير شاقال (41). ذكَّرته بنصيحته التى كان كثيراً ما يزجيها لى فى ذلك الزمان القصىِّ الجميل ، عندما كان يجدنى مستغرقاً فى الدراسة ، يقول: "نصيحة من عجوز ، حافظ على صحَّتك"! فاغتصب ضحكة من مكان ما فى أعماقه. قضينا تسعة أيام لا نفترق. تجوَّلنا كثيراً ، وتحدثنا كثيراً ، غير أنه كانت تنتابه ، فجأة ، بين الحين والآخر ، حالة من السُّهوم ، فيستعصم بصمت كثيف. وأكثر ما أقلقنى أنه كان ، حين تتملكنى النوستالجيا فأستعيد له ، متفكِّهاً ، بعض ذكريات خواتيم السِّتينات ومطالع السبعينات ، وبخاصة مداعبات بعض الأصدقاء له ، ومشاغباتهم الطريفة معه ، لا يستجيب بضحكة عذبة كما كان يفعل فى سابق عهدنا ، بل يكتفى بأن يقطب ما بين حاجبيه ، هُنَيْهَة ، ثمَّ لا يلبث أن يسألنى بعيون غائمة وصوت خفيض: "ماذا تراهم كانوا يقصدون يا كمال"؟! يسألنى عن مقصد من مازحه يوماً ما قبل زهاء العشرين سنة! لكنه سألنى كثيراً عن أحوال جيلى عبد الرحمن ما بين عدن والجزائر ، وعن (مصلحة الثقافة) ، وعن مجلة (الثقافة السودانيَّة) (42) ، وعن صحَّة عبد الحى ، وعن اتحاد الكتاب ، وعن محمد المكى ، وعن عبد القدوس ، وعن الفيتورى ، وعن مخطوطات المجذوب التى لم تنشر. سألته عن قصائده الجديدة ، فألمح الى توجُّسه من التردِّى المتسارع ، والتخثر الذى أصبح يحسُّه فى الاشياء من حوله باسم (البريسترويكا)‍‍‍! وسألته عن مشروع زواجه المؤجَّل أبداً ، فحدثنى عن فيلم (أبولادزى) (43) الأخير ، وكيف أن الحصول على تذكرة لمشاهدته مثل الحصول على أسنان الدجاج! وعندما سألته عن موعد عودته إلى السودان ، لاذ بسهومه المتفاقم!

    لم تخل موسكو فى تلك الفترة من بعض المبدعين السودانيين: الشاعر الياس فتح الرحمن ، السينمائى الدكتور صلاح شريف ، وأستاذ الموسيقى الدكتور عاصم خليفة. لكنهم جميعاً كانوا يشتكون من عزوفه عن الناس ، ومن رغبته الصميمة فى الانعزال ، رغم كلِّ ما كانوا يبدون تجاهه من مودَّة وحدب.

    (4 ـ ب)

    بعد زهاء الأربع سنوات من رحيله حدثنى الدكتور عاصم خليفة ، قال: "التقيناه أنا وزوجتى قبل بضعة أيام من انتحاره المأساوى أمام مستوصف الكونسرفتوار. كان قد ازداد نحافة وشحوباً ، وأصبح ، على خلاف عادته ، كث اللحية مشوَّش الثياب. كان يعانى من حساسيَّة كست عنقه النحيل وصفحتى وجهه بغبشة خشنة. استوقفته أسأله عن أحواله ، وأعاتبه على عدم ردِّه زياراتنا المتكررة. لكنه كان مُرهَقاً وفى عجلة من أمره ، فاكتفى بأن سألنى إن كنت أحتفظ بأى أعداد من مجلة "الثقافة السودانية" ، وإن كانت لاتزال تصدر ، ثم استأذن وانصرف مسرعاً. لم أره ، بعدها ، ولم أسمع عنه ، حتى أبلغتنى (ناتاشا) موظفة السفارة السودانية ، مذهولة ، بالنبأ الفاجع ، بعد أن تلقته ، عن طريق الهاتف ، بدقائق".

    ومضى عاصم يروى لى كيف أن حالة غرفة المرحوم ، والتى كانت غارقة فى الفوضى ، كادت أن تحرف ناحية تفكير المحققين الى احتمال أن يكون فى الامر جريمة قتل ، لولا أن بابها كان مغلقاً من الداخل بإحكام ، مِمَّا اضطرَّ الشُّرطة لكسرها ، ولولا إفادة زميله الباحث اللبنانى الذى يجاوره فى السكن ، ولولا إفادات زملائه الذين شهدوا بأن غرفته ظلت ، خلال الأشهر الأخيرة ، على تلك الحال من الفوضى.

    ثم روى لى عاصم أنه زار البروفيسير شاقال ، بعد ذلك بفترة قصيرة ، ليقدِّم له تعازيه فى تلميذه الأثير. وأن شاقال حدثه بإطناب ، وهو فى حالة من الحزن الشديد ، عن أبى ذكرى ، واصفاً إيَّاه بالذكاء النادر والموهبة الرفيعة. وكشف له عن أن أبا ذكرى ظلَّ يعانى دائماً من الاكتئاب ، ويزور الطبيب النفسانى بانتظام. وكان يبدو كما لو انه يستجيب للعلاج ، وأن حالته مستقرَّة بوجه عام. غير أن شاقال لاحظ عليه ، فى الآونة الأخيرة ، بعض الاضطرابات ، حيث تفاقمت لديه حِدُّة الاكتئاب ، وأصبح كثير الوساوس والشكوك ، ويسيطر عليه إحساس طاغ بأن العالم يفتقر إلى الوفاء.

    وقال شاقال أيضاً ، وفق رواية عاصم ، إن أبا ذكرى توقف خلال الأسابيع الأخيرة عن زيارته ، سواء فى الأكاديمية أو فى البيت ، رغم ما يربطه بأهله من علائق ودودة. كما أنه لاحظ عليه ، بصفة عامة ، حالة من الكسل الشديد ، والشعور الدائم بالإرهاق ، لدرجة أنه لم يشرع حتى فى وضع خطة عمل أوَّليَّة لمشروع ترجمة (معجم المصطلحات الأدبيَّة) إلى اللغة العربية ، والذى كانت (دار التقدم) قد اختارته هو بالذات لإنجازه ، ثقة فى قدراته ، وقدمت له عرضاً سخياً بشأنه". وأضاف شاقال قائلاً لعاصم: "أردت أن أبعث فيه الحماس ، فعرضت عليه أن أشترك معه فى ذلك العمل. ولم يتردد فى الموافقة. على أنه لم يفعل شيئا ، ولم يحرك ساكنا"!

    ويواصل د. عاصم روايته قائلاً: "ذكرنى حديث شاقال بأن أبا ذكرى كان بالفعل قد أشار لى ذات مرة إلى مشروع المعجم. وبدا لى أنه كان متحمِّساً فى ذلك الوقت ، حيث أبدى بعض الملاحظات على الاستخدامات العاميَّة فى الأدب الروسى ، وكيف أنها ظلت تظهر فى أكثر الترجمات العربيَّة باللهجتين المصريَّة والشاميَّة ، لغلبة المترجمين العرب للأدب الروسى من هذين البلدين. وعبَّر عن رغبته فى اغتنام الفرصة التى أتاحتها له (دار التقدم) لإدراج العاميَّة السودانيَّة. وضرب مثلاً بعبارة (nidaleko choot choot) الروسيَّة الدَّارجة ، قائلاً إن من الممكن ترجمتها إلى العربيَّة كمقابل ، مثلاً ، لكلمة (جَبْدَة) فى بعض عاميَّة المستعربين السودانيين".

    لكنه ، رغم كلِّ ذلك الحماس ، لم يحرك ساكناً ، على حد تعبير شاقال ، وإنما اكتفى بأن فاجأ الجميع ، بعد فترة قصيرة ، بالختام المُدوِّى.

    (4 ـ ج)

    كان من الممكن جداً أن أكتفى بالنقطة فى نهاية السطر السابق ، لتصبح هذه الكتابة التذكاريَّة مكتملة عند هذا الحد. غير أن هاجساً ما ظل يهشُّ فى خاطرى ، منذ أن بدأتها ، وأرتأيت لذلك أن أختتمها به:

    فعندما انتحر سيرغى يسينين رثاه مايكوفسكى قائلاً:

    "كومة عظام متهاوية تبدو فى ناظرى

    وجداول حمراء تفيض ..

    من شريانك المقطوع

    ولكن ، قف ، كفى ..

    هل أنت فى كامل قواك العقليَّة

    حتى تترك كلس الموت يكسو خديك"؟! (44)

    وعندما رثى أبو ذكرى بدر شاكر السياب بقصيدته (موت الغريب على الخليج) إستنكر عليه حتى موته الطبيعىَّ ، حيث خاطبه بقوله:

    "وأنت .. أليس عندك ، ياصديق الناس ، إلا هذه الرَّقدة ..

    وكنت النسر حلق تحت وقدِ الشمسْ ،

    وسار إلى مسيل الضوء وابتردا"؟! (45)

    ..................................

    ..................................

    والآن ، كيف تراها بدت فى عينى أبى ذكرى صورة العالم الأخيرة ، فى الثانية الأخيرة ، قبل أن ينفصل جسده النحيل ، نهائيا ، عن إطار النافذة؟!

    (الخرطوم بحرى ـ سبتمبر 1993م)

    الهوامش:

    (1) نتائج التحقيق الرَّسمى كما اطلع عليها أصدقاء الفقيد فى موسكو.

    (2) إفادة الصديق القاص الشاعر وأستاذ الأدب الروسى الدكتور بشرى الفاضل بمنزلى بالخرطوم بحرى فى أواخر عام 1991م. ذكر لى أنه ذهب لاستلام متعلقات الفقيد لإحضارها إلى السودان ، فلم يعثر ، من أوراقه ، إلا على النذر اليسير ، ومعظمه صفحات من مخطوطة رسالة الدكتوراة ، ومن رسائل شخصيَّة قديمة ، أما باقى الأوراق فقد حدَّثه ، كما وأفاد الشرطة ، باحث لبنانى يسكن الطابق نفسه ، بأنه شاهد الفقيد يقوم بأحراقها فى أنبوب النفايات بالمطبخ قبل الحادث بقليل.

    (3) رواية د. بشرى ، إضافة لرواية الصديق د. عاصم خليفة بمنزله بأمدرمان ، أغسطس 1993م) ، وهو أستاذ موسيقى يعيش ويعمل بموسكو منذ سنوات ، أفاد بأن بعض أوراق الفقيد لا تزال لدى أستاذه فلاديمير شاقال بأكاديمية العلوم.

    (4) مكتوبة بقلم الحبر الأسود الجاف ، على ورقتين من كرَّاسة مدرسيَّة من الحجم الصغير ، وقد حرصت أن أنقلها كما هى ، وبكلَّ ما فيها من تشطيب وعدم تنقيط ، كما رأيت أن أدوِّن الكلمات الروسيَّة الواردة فيها بالأحرف اللاتينية تسهيلاً للقراءة ، وأن أشرح معانيها فى هذه الهوامش.

    (5) من قصيدة محمد المكى ابراهيم (الشىء)

    (6) تصور غير صحيح عن العالم

    (7) من قصيدة محمد الفيتورى (سقوط دبشليم)

    ( خطيرة

    (9) الحقائق تظل هى الحقائق

    (10) موضوع إنشاء

    (11) رائعة

    (12) الدرجة الكاملة فى امتحانات المؤسسات التعليمية السوفيتية سابقاً والروسيَّة الآن (5)

    (13) عثر بشرى الفاضل على صفحة منها ضمن أوراق المرحوم المتبقية وتعرف على خطى فيها فأحضرها لى معه.

    (14) فضيلى جماع ؛ قراءة فى الأدب السودانى الحديث ، مسقط 1991م ، ص 150

    (15) راجع مقالة ف. كوفسكى "جماليَّة الثورة"، ضمن: الشاعر والاشتراكية ـ نحو جماليات مايكوفسكى ، دار ناوكا ، موسكو 1971م (بالروسيَّة) ، ولويس عوض ؛ الاشتراكية والأدب ، دار الآداب ، بيروت 1963م ، ورفعت سلام ؛ غيمة فى بنطلون وقصائد أخرى (ترجمة وتقديم) ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة 1985م

    (16) أ. أوشاكوف ؛ مختارات مايكوفسكى (تقديم) ، دار روسيا السوفيتيَّة ، موسكو 1984م ص 14 (بالروسيَّة) ، ولويس عوض ؛ الاشتراكيَّة والأدب ، ص 88

    (17) من قصيدة مايكوفسكى (فظائع الاجتماعات) عام 1927م

    (1 من قصيدة مايكوفسكى (حديث مع الرفيق لينين) التى كتبها عام 1929م ، قبل عام واحد من انتحاره الذى ظلَّ النقاد السوفيت يتحرَّجون من الخوض فى ملابساته ، واكتفوا ، فى حالات نادرة ، بلمسه لمساً رفيقا ـ أنظر مثلا: ف. تشـيريمين ، مختارت مايكوفسكى (تقديم) ، دار نارودنايا ببليوتيكا ، موسكو 1973م ، ص 11 (بالروسيَّة).

    (19) من الفروقات أيضا عدم ميل أبى ذكرى لاستخدام لغة السياسة والاقتصاد المباشرة رغم إعجابه باستخداماتها لدى مايكوفسكى

    (20) لويس عوض ؛ الاشتراكيَّة والأدب ، ص 80 ـ 81

    (21) حـول خصائص (المستقبليَّة) وتجلياتها فى إبداع مايكوفسكى ، أنظر: رفعت سلام ؛ غيمة فى بنطلون .. ، ص 47 ـ 72 ، وراجع أيضاً: مقدمة أوشاكوف المشار اليها.

    (22) رغم أن إبداع سيرغى يسينين قد ارتبط أيضا بقضية (الصُّورة الشِّعريَّة) ، إلا أن الاختلاف بينه وبين مايكوفسكى جدُّ كبير فى هذه الناحية ، فيسينين استمد صوره من طبيعة الريف الروسى ، وأسس عام 1919م مدرسة (التخيُّليَّة imaginism) التى بشَّرت بياناتها الصادرة عبر صحيفة (البرافدا) بـ (الصورة الشِّعريِّة) كغاية فى حدِّ ذاتها ، ونادت بألا يحفل الشعر بالسياسة. أنظر: س. كوشيتشكين ؛ مختارات س. يسينين (مقدِّمة) ، دار روسيا السوفيتيَّة ، موسكو 1978م ، ص 18 (بالروسيَّة). أما فلاديمير مايكوفسكى فقد التقط صوره من حركة الحياة فى الشارع الموسكوفى مباشرة ، كما أن موضوعات قصائده شديدة الارتباط بقضايا الصراع الطبقى ، الاقتصادى ـ السياسى والاجتماعى والثقافى الدائر فى مجتمعه وفى العالم. وقد هجا هجاء عنيفاً النظامين الغنائيين الغارقين فى عزلتهم الصالونية مثل هجائه لسيفريانين عام 1915م بسؤاله له: "كيف تجرؤ على أن تحمل لقب شاعر / وأنت تزقزق مثل عصفور رتيب وغبى"؟!

    (23) رفعت سلام ؛ غيمة فى بنطلون .. ، ص 59

    (24) الغلاف الخلفى لمجموعة (الرحيل فى الليل) ، دار التأليف والترجمة والنشر بجامعة الخرطوم ، 1973م

    (25) راجع ، حول هذه المسألة ، ملاحظات كل من: رفعت سلام ، ص 54 ـ أوشاكوف ، ص 6 ـ ف. ن. بيتصكيل ، مقالة بعنوان "صورة المستقبل فى إبداع مايكوفسكى" ضمن: الشاعر والاشتراكية ـ نحو جماليات مايكوفسكى ، ص 168

    (26) حول مراوحة الخطاب الشعرى عند (مايا) بين الرقة والغلظة أنظر: مقالة بيتصكيل المشار إليها ، ص 168 ـ ورفعت سلام ؛ غيمة فى بنطلون ، ص 68

    (27) رفعت سلام ؛ غيمة فى بنطلون ، ص 62 ـ 63

    (2 مقالة بيتصكيل ، ص 168

    (29) مايكوفسكى ، عام 1913م

    (30) أبو ذكرى ، عام 1971م

    (31) مايكوفسكى ، عام 1915م

    (32) أبوذكرى ، عام 1970م

    (33) مايكوفسكى ، عام 1915م

    (34) مايكوفسكى ، عام 1915م

    (35) مايكوفسكى ، عام 1922م

    (36) أبو ذكرى ، عام 1970م

    (37) أبو ذكرى ، عام 1970م

    (3 مقالة بيتصكيل ، ص 162

    (39) أبو ذكرى ، عام 1973م

    (40) إيماءً إلى قصيدة مايكوفسكى الشَّهيرة (غيمة فى بنطلون)

    (41) فلاديمير إدواردوفيتش شاقال مترجم وأكاديمى مرموق ، متخصص فى اللغة العربية والأدب العربى. ترجم (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح ، فضلاً عن العديد من أعمال نجيب محفوظ ، وحنا مينا ، وعبد الرحمن الشرقاوى ، ويوسف ادريس .. وغيرهم ، إلى اللغة الروسيَّة.

    (42) متوقفة منذ سنوات ، وكانت تصدر عن مصلحة الثقافة بالخرطوم. تولى الفقيد سكرتاريَّة تحريرها بعد أن اشترك فى تأسيسها عام 1976م مع المرحوم الشاعر والناقد والأكاديمى ومدير مصلحة الثقافة آنذاك د. محمد عبد الحى الذى توفى أيضاً فى أواخر 1989م.

    (43) مخرج سينمائى جورجى أثار فيلمه (الاستغفار) ضجَّة كبيرة داخل وخارج الاتحاد السوفيتى عندما عرض لأول مرة فى تلك الأيام ، وقد حاولت الرقابة منع عرضه لأسباب سياسيَّة لولا تدخل غورباتشوف شخصياً!

    (44) مايكوفسكى ، عام 1926م (45) أبو ذكرى ، عام 1965م
                  

11-21-2004, 11:18 AM

عصام عبد الحفيظ
<aعصام عبد الحفيظ
تاريخ التسجيل: 08-08-2004
مجموع المشاركات: 4159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: (كِتَابَةٌ تِذْكَاريَّةٌ فِى جَدَلِ التَّوَهُّجِ والاِنْتِحَارْ) ك. الج (Re: bunbun)

    أنه النص الذى يروى الروح 000ونحتاجه
    احتاج لقراءته بدل المرة الف مرة






    سلام
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de