أبيي من الذي قطع الخيط-د.منصور خالد - المقال التاسع 2-2

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 02:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-20-2004, 06:52 AM

NEWSUDANI

تاريخ التسجيل: 10-10-2002
مجموع المشاركات: 2016

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أبيي من الذي قطع الخيط-د.منصور خالد - المقال التاسع 2-2





    بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال

    المقال التاسع (2-2)

    د. منصور خالد

    أبيــــــي ... من الذي قطع الخيط؟

    الإدارة الأهلية كانت توفر آلية ناجعة لحل النزاعات ولكنها، بالطبع، لاتغني عن الحل الجذري للمشاكل وهو الحل السياسي / الاقتصادي. وقد أوضحنا كيف عمق نظام عبود من الأزمة باضافة بُعد ديني لها، وكيف ضاعفت الأنظمة المتعاقبة منها إما بتجاهلها أن هناك مشكلاً جديراً بالاهتمام، أو لقلة وعيها بأن منطقة أبيي تمثل تجربة تكاملية فريدة قمينة بالرعاية. خطأنا في مايو كان بالغ الشُنعة، أولاً لأننا أدركنا منذ البداية بما لا يدع مجالاً لأي شك معقول أن هناك مشكلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الجنوب (إثارة الموضوع في محادثات أديس أبابا) وتَعَهدنا بعلاجها. ثانياً لأن رأينا استقر على أن علاج المشكلة يكمن في واحد من شيئين: إما تطوير المنطقة برضا أهلها حتى تصبح منطقة تمازج حقيقي بين الشمال والجنوب، أو ـ إن عجزنا عن ذلك ـ منحهم حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، كما يقول اتفاق أديس أبابا. لم تفلح مايو في الأولى، ولا في الثانية ثم منذ نهاية السبعينات اتجه نميري بالنظام كله اتجاهاً آخر.
    حتى العام 1977 كان نميري مدركاً لما يلزم فعله بموجب اتفاق أديس أبابا. ففي العام 1974 أعلن أبيي منطقة ذات طبيعة خاصة تتبع في إدارتها لرئاسة الجمهورية، وكانت تلك خطوة طيبة في سبيل تحقيق النموذج الذي توهمناه، وبقى وهماً لأن الإعلان لم يلحق به عمل. وفي خطاب له في المجلد في العام 1977 أعلن أن لأهل المنطقة الخيار بين أن يبقوا في كردفان أو ينضموا إلى بحر الغزال، وكان نميري قد تسلم قبيل ذلك عريضة من أبناء المنطقة يطالبون فيها بضم منطقتهم إلى بحر الغزال. هذا الإعلان لم يُرق لبعض المسئولين فسعوا إلى وضع العصى في دولاب الإدارة حتى يحولوا دون تطبيقه. وبخروج أو رحيل جميع الوزراء الشماليين الذين شاركوا في اتفاق أديس أبابا، أو أسهموا في تطوير السياسات حول أبيي، وكانوا بذلك أكثر إدراكاً من غيرهم للنتائج التي قد تترتب على أي نكوص عن الاتفاق أو السياسات، خلا الجو لواضعي العصي. نذكر من هؤلاء محمد الباقر أحمد، جعفر بخيت، عبد الرحمن عبد الله، فرانسيس دينق.
    مهما كان من أمر، لما يمضِ زمن طويل حتى بدأ نميري انزلاقه الذي انتهى به إلى إلغاء اتفاقية أديس أبابا نفسها، في حين بدأت القوى السياسية الجنوبية، من الجانب الآخر، تأخذ زمام المبادرة. ففي العام 1978 أصدر مجلس الشعب الإقليمي بجوبا قراراً يطالب فيه بتنفيذ النص حول منطقة أبيي كما ورد في اتفاقية أديس أبابا (إجراء استفتاء). هذا القرار أكده مجلس الشعب الإقليمي الذي انتخب في العام 1981 ، ولكن نميري لم يكن في عجلة من أمره، ففي محاولة منه للتنصل مما ألزمه به اتفاق أديس أبابا، أو للالتفاف عليه أقدم على أمرين، وفي الحالتين جاءت الريح بما لا يشتهي سفينه. كون نميري لجنة موسعة برئاسة الإداري الشيخ بشير الشيخ وكان وقتها وزيراً للحكم المحلي لتتقدم له بتوصيات حول أبيي. وضمت اللجنة نائب رئيس القضاء دفع الله الرضي وبعض زعماء القبائل وعلى رأسهم الناظر بابو نمر والناظر سرور محمد رملي. اقترحت اللجنة بدائل منها أن تدار المنطقة على الوجه الذي كانت تدار به يومذاك، أو تصبح مجلساً محلياً مستقلاً، أو تعلن كولاية، أو يمنح اهلها الحق في اختيار ما يريدون، والخيار الأخير ابتنى على ما نص عليه اتفاق أديس أبابا وأصر عليه العضو الجنوبي في اللجنة، مارتن ماجير. وحرصت اللجنة على توضيح الايجابيات والسلبيات بالنسبة لكل مقترح، ويبدو أن جميع الخيارات لم تصادف هوى في نفس نميري.
    محاولة الالتفاف الثانية كانت هي تكوين لجنة لتقصي الحقائق برئاسة قاضٍ. تلك كانت هي اللجنة التي ترأسها القاضي خلف الله الرشيد، وأصدرت في 7/1/1981 قراراً حاسماً. يقول القرار:
    (أ) ''تَبَني حدود المديريات الجنوبية كما كانت في اليوم الأول من يناير 1956 وهذا يعني إعادة منطقة حفرة النحاس وكافيا كنجي إلى مديرية بحر الغزال وهي المنطقة التي سبق أن أضيفت إلى مديرية دارفور وفقاً لوصف الحدود المعدلة المنشور في غازيتة جمهورية السودان رقم (947) بتاريخ 15 يوليو 1960 ، وهذا يتفق تماماً واتفاقية أديس أبابا وقانون الحكم الذاتي الإقليمي .''1972
    (ب) ''تخضع منطقة بحر العرب لترتيبات إدارية تأخذ في الاعتبار التكوين الاجتماعي بما في ذلك الحقوق التقليدية للمرعى والصيد وصيد الأسماك التي نظمت بترتيبات إدارية قبل وبعد .''1956
    (ج) إجراء استفتاء في عموديات الدينكا نقوك منطقة أبيي التي تدار الآن من مديرية جنوب كردفان وتلاحظ اللجنة الحاجة لتحديد هذه المنطقة قبل إجراء الاستفتاء. هذا الترتيب هو تطبيق للمادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية للعام 1972 واستجابة لرغبة سكان المنطقة''.
    (د) ''بالرغم من أن المادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي تنسحب على منطقة شال الفيل التابعة لمديرية النيل الأزرق إلا أن هذه المنطقة لا تمثل مشكلة في حد ذاتها وأن حدودها معروفة وأن سكانها لم يطالبوا بإجراء استفتاء''.
    خلف الله أمسك الوعل من قرنيه وفجر قضايا لم تكن مطروحة، فجميع المناطق التي أشار إليها، وهي مناطق شاسعة، كانت جزءاً من الجنوب في 1/1/1956 ونقلت للشمال في عهد عبود. مع ذلك لم يثر الجنوبيون لا في عهد الحكم الذاتي الإقليمي، ولا في مفاوضات الإيقاد امر هذه المناطق الشاسعة في حين ثابروا على إثارة قضية منطقة أبيي الصغيرة نسبياً مما يعني أن هناك مشكلة حقيقية في هذه المنطقة.
    أراد مثقفو الجنوب تأكيداً لموقفهم حول أبيي أن يبعثوا برسالة واضحة للحكومة بعد رفضها التجاوب مع قرارات المجلس الإقليمي. وكانت الرسالة اختيار أحد أبناء أبيي (الدكتور زكريا بول دينق) نائباً في المجلس الإقليمي عن دوائر الخريجين، مع أن أبيي ليست رسمياً جزءاً من الجنوب. وبتوجه نميري نهائياً لإلغاء الاتفاقية، وتجدد الحرب في الجنوب لم يكن غريباً أن ينحاز أبناء أبيي إلى ''التمرد'' الجديد. ولكن قبل أن يقع هذا قام نميري باعتقال ابن أبيي الذي انتخبه الخريجون وأغلب متعلمي أبيي، كما اغتيل الناظر عبد الله مونياق الذي خلف أباه دينق ماجوك حتى تؤول النظارة إلى أخيه آدم الأكثر طواعية، فيما تردد. أصابع الاتهام حول ذلك الحدث امتدت لمسئولين في بعض الأجهزة الأمنية في المنطقة. مع ذلك أدى ارتفاع حدة التوتر وانفجار الحرب في الجنوب بنميري للقيام بواحد من انقلاباته البهلوانية (somersault)، وفي هذا الانقلاب تفوق على نفسه. الانقلاب هو الموافقة على فتوى خلف الله الرشيد وإعلان أبيي منطقة خاصة. ولكن فات الأوان إذ لم يصدقه أحد بعد أن أعلن نفس الشيء في العام 1974 ثم نكص عنه.
    تلك هي المرحلة التي بدأت فيها الحكومة الاستعانة برجال القبائل لرد هجمات انانيا الثانية، وبوجه خاص الاستعانة بما يعرف بالمرحلين. المرحلون عند المسيرية (ويطلق عليهم الفرسان عند البقارة في دارفور) ليسوا أكثر من مجموعات استطلاعية تسبق الرعاة في مسيرتهم لأجل حمايتهم من الاعتداءات من جانب قاطعي الطرق أو الحيوانات غير الأليفة. وعند نشوب الحرب من جديد في العام 1982 أخذت أنظمة الحكم المتعاقبة تستعين بهذه الجماعات، إما كمجموعات استكشافية أو كفرق مقدمة للاشتباك مع ''المتمردين'' بهدف تحييدهم أو بث الرعب في مناطق عملياتهم. فعل هذا نميري، وفعله المجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة، واستمرت عليه حكومة الصادق المهدي إلى حين تولى الفريق عبد الماجد حامد خليل وزارة الدفاع ومطالبته بإيقاف أي نشاط للمليشيات. وعلى نهج عبد الماجد سار القائد العام الفريق فتحي أحمد علي، وكما هو معروف تضمنت المذكرة التي رفعتها قيادات الجيش في عهده لرئيس الوزراء الصادق المهدي بنداً يطالب بحل المليشيات. ذلك لم يحدث إلى حين استيلاء الجبهة القومية على الحكم التي لم تقرر دعم المرحلين فحسب، بل أكسبتهم شرعية بدمجهم في القوات النظامية وإيكال مهام جديدة لهم في دعم المجهود الحربي مثل حماية القطارات التي تنقل الجند والعتاد من بابنوسة إلى واو. ولعل الذي أطلع على تقارير مندوبي لجنة حقوق الإنسان والفريق الدولي للتحقيق حول الرق يجد الكثير حول الأذى الذي ألحقته هذه المجموعات بالدينكا. هذا هو السبب الذي دفع الدكتور توبي مادوت في 1/2/1995 باسم حزب جنوبي مسجل بالخرطوم (سانو) إلى دق نواقيس الخطر والتنبيه إلى الأضرار التي ألحقها المرحلون، ليس فقط بالدينكا، وإنما أيضاً بالسلام الاجتماعي في المنطقة كلها.
    طوال المفاوضات بين الحكومة والحركة في إطار مبادرة الإيقاد ظل موضوع أبيي مطروحاً. وفي المرة الأولى التي اتفق فيها الطرفان على تحديد ما يعنيان بجنوب السودان (قبول صيغة اتفاقية أديس أبابا 1972) ثبتت الحركة عند موقفها باعتبار ابيي جزءاً من الجنوب، وكان ذلك في دورة انعقاد المفاوضات في أديس أبابا (أغسطس 199. بسبب هذا الموقف المبدئي من قضية ابيي كان من الطبيعي أن تثيرها الحركة في لقاءات التجمع إلى أن استقر التجمع على رأي محدد حولها ضَمنه قراراته بشأن القضايا المصيرية. يقول القرار: (إن التعرف على آراء أهل منطقة ابيي فيما يتعلق برغباتهم أما بالبقاء داخل الحدود الإدارية لإقليم جنوب كردفان، أو بالانضمام إلى إقليم بحر الغزال سيتم عبر استفتاء ينظم خلال الفترة الانتقالية ولكن قبل ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. وإذا ما أظهرت نتيجة الاستفتاء رغبة أكثرية أهل المنطقة في الانضمام إلى إقليم بحر الغزال فإنهم سيمارسون حق تقرير المصير كجزء من شعب جنوب السودان).
    هذا التاريخ المأساوي يؤكد بضع حقائق: أولاً أن موضوع أبيي ليس موضوعاً مفتعلاً من جانب الحركة الشعبية بل هو قضية ذات جذور عميقة تعود في جانب منها لما قبل الاستقلال، وفي جوانب أخرى للفترات التي أعقبته. ثانياً إن عدة عوامل طبيعية وإدارية وسياسية تضافرت على تعميق المشكل إزاء عجز كامل، أو استهانة مفرطة، من جانب السلطة المركزية. ثالثاً أن المشكل ليس هو مشكل محلي ذو تداعيات قومية بل نموذج لمشاكل محلية عديدة تفاقمت بسبب السياسات القومية الخاطئة. رابعاً بالرغم من جهود الحكماء المحليين للتقليل من حدة المشاكل المحلية ودرء مخاطرها سعت الحكومات المركزية لإقحام الجماعات المحلية في الحرب الأهلية بصورة لا تمزق نسيج المجتمعات فحسب بل كادت تقضي على الوئام الوطني. خامساً كغيره من القضايا ذات الصلة بعلاقات الشمال والجنوب، بل أكثر من أي منها، ما حدث في أبيي نموذج صارخ للإخلال بالعهود، وإهدار الفرص لتحقيق الوحدة الطوعية. بسبب من كل هذا فإن تبني المواقف المتشددة التي لا يسندها منطق، أو إطلاق الشعارات الاستفزازية التي تضر بأكثر مما تفيد ـ كما حدث أخيراً ـ لا يقود إلا إلى تمزيق القطر، وربما قاد لنتائج تعسر منها نجاة المتشددين أنفسهم.
    ففي خلال المفاوضات حول أبيي تبين أن هناك موقفين لأبناء المنطقة، موقف لا ينازع في حقوق الجماعات المتساكنة ويقول إن الدينكا والمسيرية تساكنوا في المنطقة بحدود معروفة وفي مناطق معروفة، ولكنه في ذات الوقت يؤكد حقوق المسيرية المشروعة في المرعى التي لا يمكن الإخلال لها بصرف النظر عن التابعية الإدارية للدينكا. ويسعد المرء كثيراً أن يكون أمير المسيرية مختار بابو نمر في هذا الجانب الراشد مما يثبت أنه صاحب عِزوة يلجأ له الناس عند الملمات. رأيه ذلك أدلى به في الندوة التي عقدت بضاحية كارين في العام الماضي للتشاور حول أبيي. موقف آخر عبرت عنه مذكرة وزعت على العالمين ونسبت إلى مجلس شورى المسيرية. لست من الذين يقولون إن المذكرة جاءت بإيعاز من الحكومة رغم أنها اختتمت بالقول: ''نشكر للحكومة عدم استجابتها لضغوط بعض الفئات ذات الأغراض الخاصة ونحن من جانبنا سوف ندعمها في عدم الاستجابة لمثل هذه الضغوط''. المذكرة تحدثت بالأسلوب الذي وصفناه في بدايات هذا المقال بالاندفاع وعدم التروي، خاصة عند إشارتنا للجدل العقيم حول من سبق الآخر إلى تلك الأرض. انتهت المذكرة إلى أن ''دار المسيرية جزء من السودان الموحد منذ أن نشأ السودان الحديث وهي تاريخياً وإدارياً وبيئياً تابعة لكردفان الكبرى. وقد تعايشت القبائل والأعراق فيها بهذا المفهوم، المسيرية والدينكا والنوير والبرقو والفلاتة والنوبة. وتمازجت ثقافياً وعرقياً مما جعل إمكانية تقسيمها أمراً مستحيلاً. ولكن من أراد أن يهاجر من أبناء هذه المنطقة أو ينزح لبقعة أخرى فليفعل ويرحل بماله وأسرته''. الجزء الأول من الفقرة يعبر عن قراءة وتفسير للتاريخ ومن حق أي شخص طالما ملك الأسانيد أن يعبر عن رؤاه ويقدم أسانيده مقطوعة كانت أم موصولة. ولكن ما الذي يعنيه: من شاء فليرحل بماله وأسرته. أضافت المذكرة الغاضبة ''لقد وقفت قبيلة المسيرية بجميع فروعها سداً منيعاً أغلق على التمرد العبور شمالاً وفقد المسيرية في الدفاع عن السودان آلاف الشهداء منذ العام 1964 حتى اليوم، وما وهنوا ولا استكانوا وهذا ديدنهم منذ المهدية''. ما شأن الحرب والشهداء ودحر التمرد بحقوق الرعي والتي نفترض أنها قضية المسيرية، كما هي قضية غيرهم من الرعاة. ثم خُتمت المذكرة بالآتي: ''(أ) '' نؤمن أن قضيتي أبيي وجبال النوبة لا علاقة لهما بقضية جنوب السودان ونرى أنهما قضيتان محليتان لا سبيل إلى تدويلهما ونتمسك بحدود ''1956 و(ب) ''لا نقر ولا نرضى أن يجري استفتاء حول تقرير المصير في هاتين المنطقتين، سواء كان ذلك لكل السودان أم لفئة''.
    ما كنت لأعير البيان اهتماماً لولا أنه تضمن على رأس الموقعين أسماء حريكة عز الدين، فريق مهدي بابو نمر، اللواء فضل الله برمة ناصر، عبد الرسول النور إسماعيل. أثارت اهتمامي هذه الأسماء بوجه خاص، وللحد الذي ظننت معه أن الوثيقة دست عليهم رغم وجود توقيعات عليها منسوبة إليهم. ولكن ظني تبدد عندما التقى ثلاثة من تلك المجموعة الكريمة في نيفاشا زعيم الحركة في اجتماع كانوا حريصين عليه، وكان هو أشد حرصاً منهم على الاجتماع. بدأ الاجتماع بكلمات للفريق مهدي بابو تنذر بذات الصهيل ألا وهي الحرب. قال: ''موقف الحركة في أبيي إشهار للحرب ضد المسيرية''. كان من الممكن أن تنتهي تلك الكلمات بالنقاش إلى طريق مسدود لولا أن زعيم الحركة صب ماءً بارداً على الموقف. قال كل هذا الصراع الدائر لا شأن له بمصالح الدينكا أو المسيرية، فالقبيلتان حكمت عليهما الطبيعة، كما قضت الجغرافيا والتاريخ، أن يعيشا مع بعضهما البعض شأن قبائل عديدة تعيش في خطوط التماس بين الجنوب والشمال. قال أيضاً إن الحرب بالوكالة (proxy war) التي تدور اليوم هي حرب مفروضة على الطرفين ولهذا فمن الخير للطرفين أن يجلسا مع بعضهما البعض للبحث عن أفضل السبل لحماية الحقوق المشروعة لأهليهما في الموارد المشتركة، والبحث عن وسائل للتعايش السلمي بينهما ومع غيرهما من القبائل المجاورة كما فعل دينكا مالوال مع البقارة. والطرفان اللذان عناهما زعيم الحركة هما دينكا أبيي والمسيرية وليس الحركة والحكومة. الذي أومأ إليه زعيم الحركة، وكان ينبغي أن يكون هو غاية أصحاب المذكرة الغاضبة، هو الحيلولة دون خروج القضية من حدودها حتى تصبح ذريعة لصراع أشمل. فلا معنى، مثلاً، لإقحام قضية جبال النوبة في موضوع ابيي، أو الحديث عن حق أهل الجبال في تقرير مصيرهم لأن أبناء الجبال لم يجعلوا ذلك مطلباً في المفاوضات. كما لا معنى للتجاهل الغريب في المذكرة لتاريخ قضية هي قطعاً ليست بنت اليوم، وما نيفاشا إلا محطتها الأخيرة. قد نقول إن أصحاب المذكرة ليسوا على دراية باتفاق أديس أبابا، رغم أن هذا شئ مؤسف إن حدث. وقد نقول إنهم ليسوا على دراية بقرارات مجلس الشعب الإقليمي بشأن أبيي، أو باعتبار نميري لها منطقة ذات وضع خاص في العام 1974 ثم في العام 1983، أو بإعلانه حق أهل أبيي في تقرير مصيرهم بأنفسهم في المجلد وليس في أي مكان آخر في العام 1977، أو بقرار لجنة خلف الله الرشيد في العام 1981، أو بمقررات لجنة الشيخ بشير الشيخ التي كان الناظر بابو نمر عضواً فيها في مطلع الثمانينات. ولكن يصعب علينا كثيراً أن نصدق أن قياديين مهمين في حزب الأمة لم يطلعوا على قرارات التجمع بشأن أبيي والتي كان لحزب الأمة (المرحوم عمر نور الدائم ومبارك المهدي) دور كبير في صياغتها. ولا أظن حزب الأمة من ''ذوي المصالح الخاصة'' في عرف مجلس الشورى، حتى وإن افترضنا أن كل فصائل التجمع الأخرى كانت من ذلك الصنف الردئ.
    أشد وعورة من ذلك التغافل أمران، الأول هو الدعوة لأن تقوم بين الشمال والجنوب حدوداً قاطعة مبنية على الملكية التاريخية للأرض. تلك سابقة خطيرة لأن رسم هذه الحدود القاطعة لن يقف عند المنطقة المجاورة لبحر العرب حتى وإن تنازل عنها الدينكا وارتحلوا جنوباً بأسرهم كما طالبهم مجلس الشورى. فالحدود تمتد من أفريقيا الوسطى إلى إثيوبيا، ويوم أن يقام ذلك الخط الفاصل نتيجة لمواقف غاضبة أو استفزاز غير مبرر فسيلحق الأذى كل القبائل الرعوية التي ظلت تنتقل جنوباً وراء حدود 1956 بحثا عن المرعى في وئام تام مع القبائل الجنوبية المتاخمة، وهو وئام لا تكدره إلا المشاكل التي تنجم من حين لآخر بين القبائل وتحل عبر آليات التوسط التقليدية. مثال ذلك ترحال البقارة بين دارفور وبحر الغزال (مناطق دينكا مالوال)، وترحال أولاد حميد ورفاعة الهوى في منطقة يابوس بأعالي النيل، وترحال عرب سليم والشينخاب ودار محارب في مناطق الدينكا والشلك والنوير بأعالي النيل، وترحال الحوازمة في مناطق الدينكا باريانق.
    الأمر الثاني هو لماذا يريد أي واحد منا ـ أياً كان موقعه ـ أن يثقل كاهل أهله بصخور مرمرية، مثل تحميلهم المسئولية عن حروب السودان الأهلية، حتى وإن إستدرجوا إليها وخاضوها بالوكالة. عامة الناس في السودان لا يطربون أبداً للفتنة، فالفتن يؤججها، عن علم أو جهل، من لا يتدبر عاقبة الأمور. لهذا يعجب المرء أن ينسب هؤلاء الكبار لأهلهم ما أسموه ''دحر التمرد''. أي تمرد هذا بعد اتفاق مشاكوس الذي أبان جذور المشكلة وكان في جوهره اعتذاراً متبادلاً عن الحرب. وأي نظام ذلك الذي حموه في الشمال؟ أهو نظام عبود الذي استنكر أهل الشمال سياسته في الجنوب ولهذا، مع أسباب أخريات، انقضوا عليه في أكتوبر 1964؟ أم هو نظام نميري الأول الذي اعترف بحق ابيي الذي ينكرون؟ أو نميري الثاني الذي أجج نيران الحرب من جديد في 1983 وكان أول مسعى له لإيقافها هو الاعتراف بحق أبيي؟ أم هو نظام الجهاد ضد الشرك في الجنوب بعون من الله تعالى ومن ''المرحلين'' من بعد؟ أو لعله مع نفس النظام الذي وفقه الله لسلام مع المشركين؟ لماذا يريد أي شخص عاقل أن يُحَمل أهله المسئولية عن سياسات حكومات الخرطوم التي تتأرجح سياساتها كما يتأرجح بندول الساعة وتلحق الأذى بالناس أنى اتجهت عقارب الساعة. ليت أهل الشورى اصطحبوا معهم عند وفودهم إلى نيفاشا نصيحة غالية من رجل من ديارهم عركته التجارب، الفريق شرطة عوض سلاطين دارفور (ألوان مارس 2004). كان الرجل نصيحاً في مقاله.
    البروتوكول الذي وقع بين الحركة والحكومة في السادس والعشرين من مايو 2004 حول أبيي قام على أساس مبادئ تقرب بين وجهتي النظر اقترحتها الولايات المتحدة (قدمها السناتور جون دانفورث) واستُهل بالنص على مبادئ هادية، وقواعد ضابطة هي:
    * أبيي جسر بين الشمال والجنوب يربط شعب السودان .
    * إقليم أبيي هو المنطقة التي تقطنها مشيخات دينكا انقوك التسع التي ضمت لكردفان في العام 1905 .
    * يحتفظ المسيرية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقهم التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي أبيي .
    قررت الاتفاقية منح منطقة أبيي وضعاً إدارياً خاصاً بحيث يصبح أهلها مواطنين في كل من غرب كردفان وبحر الغزال ويكون لهم ممثلوهم في المجالس التشريعية في الولايتين، وهذه عودة للوضع الذي كان يجب أن تكون عليه في العام 1974 عندما أعلن نميري ذلك القرار، مع فارق مهم هذه المرة. الفارق هو التحديد الواضح لمعالم ذلك الوضع الخاص: أن يدير المنطقة مجلس تنفيذي ينتخبه مواطنو أبيي، والى حين إجراء الانتخابات (بعد ثلاث سنوات) تُعين رئاسة الجمهورية أعضاء المجلس على أن يكون مجلساً واسع القاعدة (أي لا تقتصر عضويته على مجموعة معينة من أبناء المنطقة). ويكون للمجلس رئيس ونائب رئيس تعينهم رئاسة الجمهورية بناء على توصيات المجلس. ويشرف المجلس على أمن المنطقة وتنميتها وتقديم الخدمات الأساسية لها. وستقرر رئاسة الجمهورية، آخذة في الاعتبار طبيعة الوضع الخاص للمنطقة، الاختصاصات التنفيذية والتشريعية والمالية والقضائية لسلطات أبيي. كما سيكون للمنطقة مجلس تشريعي يضم ما لا يزيد عن العشرين عضواً تعينهم الرئاسة في فترة السنوات الثلاث الأولى، ويتم انتخابهم مباشرة من جانب أهل المنطقة في الفترة التالية. ويباشر ذلك المجلس سلطة إقرار الميزانية وخطط التنمية والتعمير وسن التشريعات المحلية والمساهمة في جهود المصالحة بالمنطقة والاقتراح لرئاسة الجمهورية بإعفاء الرئيس التنفيذي.
    وكما حدث بالنسبة للجنوب ولكل ولايات السودان أبان الاتفاق مصادر التمويل لحكومة المنطقة حتى لا يترك أمرها للظروف أو لتقدير ـ سوء تقدير ـ سلطة أخرى. وبما أن أبيي واحدة من مناطق إنتاج البترول فقد نص الاتفاق على أن يوزع صافي عوائد إنتاج النفط فيها على الوجه التالي: 50% للحكومة القومية، 42% لحكومة جنوب السودان، 2% لإقليم بحر الغزال، 2% لإقليم غرب كردفان، 2% لدينكا انقوك، 2% لباقي قبائل المديرية. كما ستحصل المنطقة على (1) نصيبها المقرر من الدخل القومي حسب بروتوكول اقتسام الثروة، (2) العائدات من الضرائب المحلية، التي يقررها مجلسها، (3) حصتها من الصندوق القومي للتعمير والتنمية وصندوق تعمير وتنمية الجنوب، (4) المخصصات القومية لإنشاء الإدارة الجديدة وتسييرها. جميع هذه المبالغ ستودع في حسابات خاصة بموافقة الرئاسة. على أن النص على تخصيص أنصبة من عائد النفط لقبائل بعينها فيه إجحاف بغيرهم ولربما كان الأوفق أن تذهب الأنصبة للإقليم لا لجماعة في الإقليم.
    تقرر أيضاً أن تنشئ رئاسة الجمهورية لجنة للحدود لتتولى رسم حدود أبيي (المنطقة التي تحولت إلى كردفان في العام 1905) على أن تفرغ اللجنة من أداء واجبها في العامين الأولين من الفترة الانتقالية، كما سيحدد الإحصاء القومي العدد الفعلي لسكان المنطقة. هاتان العمليتان ستنهيان الجدل حول حدود المنطقة وعدد سكانها. وفي نهاية الفترة الانتقالية يجري استفتاء منفصل عن، ومتزامن مع، استفتاء جنوب السودان. وبصرف النظر عن نتائج استفتاء جنوب السودان يُطرح على أهل أبيي الخيارين التاليين: الاحتفاظ بوضعهم الإداري الخاص في الشمال، أو أن يكونوا جزءاً من بحر الغزال.
    أياً كان الخيار تبقى قائمة قضية حقوق الرعي، ليس فقط في هذه المنطقة بل على طول الشريط الحدودي بين الشمال والجنوب. وإن كان البروتوكول في ديباجته قد قضى في هذا الموضوع فيما يتعلق بالدينكا والمسيرية.
    ےيفيد أيضاً أن تتجه الحكومة الانتقالية إلى خلق الآليات المناسبة، ووضع الضوابط اللازمة لمعالجة مشاكل المرعى في كل السودان، بين الشمال والجنوب وفي داخل الشمال وداخــــل الجنوب أيضاً. وقبل بضــــــعة أشـــــهر من توقيع الــبروتوكول استضـــافت إثيـوبيا (18/2/2004)، بالتشــــاور مع حكومة السودان والحركة الشعبية، وبــــدعم مالي وتجهـــيزي من برنامج الأمم المتحدة للتنمية ووكالة المعـــــونة الأمريكية، منتدى شــــارك فــــيه ممـــثلون لقبائل الدينكا والمسيرية والرزيقات ولذلك أطلق علــيه اسم DMR، الأحـرف الأولى بالإنجــليزية من أسماء القبائل الثلاث. الاجتماع الـــذي شــارك فيه بعــض أعضـــاء مجلس الشـــورى دون أن يحســــبوه ''تدويلاً'' كان تجـــربة موفـقة لكـيف يمكن للنـاس أن يعالجــوا مشاكلهم بالحكـــمة إن تركوا لأنفسهم وركزوا اهتمامهم في وسائل حماية المصالح الحيوية لأهلهم. وسبق الندوة إعداد فني جيد تمثل في عديد المذكرات حول قضايا الوجود، لا خزعبلات السياسة: البنى التحتية، المراعي ومصادر المياه، مراكز تجمع الماشية، الأســـواق، مسارات الرعي، آليات التوسط التقليدية بما فيها الزعامات القبلية والقيادات الدينية.
    ولعل درجة الحرية التي توفرت لأعضاء المنتدى مكنت المشاركين من النقاش الصريح حتى في الأمور ذات الحساسية مثل دور الأحزاب في تأجيج الصراع، ودور المثقفين في تلويث القضايا الوجودية بإقحام خلافاتهم المذهبية أو طموحاتهم الشخصية. هذه تجربة جيدة وجديرة بالاحتذاء في المناطق الأخرى، كما أن مثل هذا المسار أنبه وأجدى في علاج المشاكل من تبني الثوابت العدوانية، أو الاندفاع في الاستفزازات الإستعدائية.


                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de