بسم الله الرحمن الرحيم
تفكيك التنظيم وتنظيم التفكيك:
نحو رؤى جديدة لسودان جديد د. حيدر بدوي صادق
د. محمد يوسف أحمد المصطفي
تمهيد: حول المصطلح وجدواهنقصد بعبارة " تفكيك التنظيم"، تفكيك قوى السودان القديم، التي ساهمت كوجه (أو تنويع) سابق لحزب "الجبهة القومية الإسلامية " في خلق المناخ الملائم لنشأة وتخمر الرؤى الاقصائية الغاشمة الظالمة التي تتمثل الآن في نظام الترابي-البشير. وفي تقدير الكاتبين، فإن القوى التقليدية لم تكن إلا أنواعاً من الاستبداد، والرؤى الأحادية الوراثية، التي استغلت مشاعر أهلنا الدينية النبيلة لتأتي عن طريق صندوق الانتخابات. وحين تيسر لها ذلك فشلت، فشلاً ذريعاً، في أن تكون ديمقراطية. ففي عهدها حلت أحزاب سياسية وأقيمت محاكمات للرأي، سميت إحداها بمحكمة الردة. وفي عهدها كذلك استعرت وتفاقمت الحرب في جنوب البلاد الحبيب، وتكونت "مليشيات الدفاع الشعبي." وسمي المقاتلون في سبيل الأرض والعرض "بالخوارج".
لكل ما تقدم، يرى الكاتبان أن ما كان في السودان في العهود التي حكمت فيها القوى التقليدية، هو "انتخابات"، وليست ديمقراطية. ولهذا يرى الكاتبان ضرورة تفكيك هذه القوى، التي قد بدأت بفعل الوعي التراكمي وحركة التاريخ في السودان تتفكك، دون جهد يذكر من قوى المثقفين السودانيين الشماليين المتثاقلين.
هذا التفكك هو نتيجة لجهد مشتت وغير منظم من قوى السودان الجديد، باستثناء الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحركة المنظمة الوحيدة من هذه القوى الجديدة التي صمدت بقوة لظلم الظالمين الشماليين في السودان في تاريخه الحديث، وهى تصارع قوى التشتت والانفصال. وهي الحركة الوحيدة التي حاول، ويحاول النظام الحالي، محاورتها باحترام، في حين احتقر ويحتقر القوى الشمالية التقليدية المفككة، بسبب فشلها الذريع في الماضي، وبسبب عجزها المريع في المعارضة الجادة الصامدة، ذات الرؤى والأهداف والمبادئ، والوسائل الواضحة، الحاسمة.
هذا التفكيك الطبيعي الناتج من حركة التاريخ في السودان، يجب أن يتبعه تفكيك منظم، بمعنى نقد منظم للقديم ينبني على رؤى جديدة، تبلورها القوى الجديدة، وتنتظم حولها، ونسمى هذا الأمر في هذا المقال بحرب الرؤى. و"حرب الرؤى" مصطلح جديد ساهم في بلورته وتوظيفه للشأن السوداني الدكتور فرانسيس دينق الأكاديمي والسياسي السوداني المعروف. ونود أن يتم تبني هذا المصطلح كبديل لمصطلح آخر، وهو مصطلح "الحرب"، هذه الكلمة الدامية.
و التداول الحر لرؤى "الحرب" والإقصاء القديمة لا يمكن أن تفضي إلا إلي تفكيك القديم، وإحلال الجديد مكانه. وقوى السودان القديم يجب أن تتفكك، ويجب أن تذهب رؤاها القديمة إلي غير رجعة. ويجب أن تحل محلها قوى السودان الجديد الحر المتسامح المتعدد الأعراق والثقافات، الواحد الموحد الأهداف والغايات. ولابد أن يتم تنظيم التفكيك في "حركة" جديدة من حركات التاريخ في السودان. ولنسم هذه الحركة ما شئنا، حركة القوى السودانية الجديدة، لواء السودان، حركة تحالف القوى الحديثة، المنبر الديمقراطي، ما شئنا أن نسميها. قد تكون التسمية مهمة، ولكن الأهم منها هو الرؤى المشتركة التي يمكن أن تصاغ من هذه "الحركة" التاريخية." ويجب أن تحمي هذه "الحركة" من الانكفاء الحزبي. فهي لن تكون، ولا يجب أن تكون "حزباً". وذلك لان "الحزب" يقيد ويحجر ويخلق رؤى أيديولوجية متزمتة. في حين أن "الحركة المنظمة"، المقصودة والمرتجاة هنا، تتعرض للقدر الأدنى من التنظيم، الذي يتيح الحوار في "منابر حرة" يرعاها ويطورها. وهي-أي هذه الحركة- بذلك منسابة، مرنة، حرة، وقابلة للتشكيل والتنظيم وفق مقتضيات كل مرحلة، ولهذا فهي تنظيم حر لثورة الحرية و"حركتها"، "الثورة الثقافية"، المفضية إلي "الثورة الفكرية"، المفضية بدورها إلي "حرب الرؤى" ثم "تلاقي الرؤى" نحو السودان الجديد الحر المتقدم نحو التنمية والحرية في اسمي معانيهما.
خطوات نحو تنظيم التفكيكنبدأ، فنقرر بأن أولنا ينتمي إلي الفكرة الجمهورية، فكرة الأستاذ محمود محمد طه، الداعية إلي تمثل وإتباع منهاج النبي العربي محمد ( عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم)، وعضو مؤسس في حركة القوى السودانية الجديدة "حق"، والثاني عضو مؤسس في اتحاد القوى الوطنية الديمقراطية، ويلتزم التزاماً عميقاً بصيغة لواء السودان الجديد "لنج." وعلى الرغم من هذا، لا يحسب أيًا من الكاتبين أن انتماءه إلي أي من تلك الأشكال هو-جوهرياً- انتماء حزبي!
ولعله من نافلة القول الإشارة إلي أن اتحاد القوى الوطنية الديموقراطية هو-بصورة أساسية- اتحاد عريض لقوى وشرائح اجتماعية متنوعة واسعة حول برنامج عام للتحول الوطني الديموقراطي في بلادنا، ولذلك فإنه يجمع في عضويته مجموعات من مشارب فكرية ديموقراطية متعددة وعلى هذا النحو فهو ليس حزباً ذا أيديولوجية معينة! أما الفكرة الجمهورية، فكما تدل تسميتها، فهي "فكرة" وهي "جمهورية" تنشد تطبيق النموذج الفردي للنبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) في حياة كل فرد على ظهر هذا الكوكب، وكونها "جمهورية" يعني بأن سلوك النبي، العربي الأمي، كان سلوكاً حضارياً سابقاً لعصره، وكان في ذلك كأنما هو قادم من القرن العشرين. فقد كان حراً كأسمى ما تكون الحرية؛ ديمقراطياً في مشربه، وهذا ما تنشده الجمهوريات الحديثة، ولذلك فإن هذه "الفكرة" تنشد النظام الجمهوري كنظام يناسب أهل السودان، وغيرهم. وهذا يعني استتباعاً أن الفكرة الجمهورية ليست حزباً، بل هي منهاج حياة لمن أراد الأخذ بها. وهذا ربما يفسر-جزئياً- استنكاف الجمهوريين عن العمل السياسي المنظم منذ استشهاد الأستاذ محمود محمد طه.
هذا التعريف الأولي بالكاتبين كان ضرورياً كمقدمة لتقرير التالي:
• لواء السودان الجديد (لنج) ليس حزباً بأي معيار من المعايير، وكذلك حركة القوى السودانية الجديدة (حق) لم تدع أنها حزب. وذلك لأن كليهما يمثلان "حركة" في طور التكوين تنشد رؤى جديدة لخلق سودان جديد.
• لواء السودان الجديد، بحكم أنه جاء إلي الوجود كاستجابة لمبادرة من قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان من أجل تأسيس منبر ديمقراطي حر (مشترك) لقوى السودان الجديد لتبادل التجارب والقدرات العسكرية والسياسية، فقد استطاع تعبئة أقسام غير هينة من القوى المدنية التي لم تخبر العمل العسكري، والتي ترى رؤية الحركة الشعبية في شأن السودان الموحد الواحد القائم على العدل والمساواة والمرحمة والمودة بين سكانه.
• حركة القوى السودانية الجديدة "حق" هي حركة تلتقي مع لواء السودان الجديد (وكافة قوى السودان الجديد) في أن نظام الجبهة الأسلاموية العسكري يجب أن يذهب؛ وإن اضطر ذلك كل قوى السودان الجديد الحر(من جنوبه إلى أقصى شماله)، اضطراراً مراً، لمواجهته بجنس وسائله، بما فيها الوسيلة العسكرية الضاربة الحاسمة! وذلك ببساطة لأن الجبهة الأسلاموية هي التي اضطرت السودانيين الأحرار لهذا الخيار، أولاً لأنها أتت بحد السلاح، وثانياً لأنها طلبت المنازلة بلسان حالها منذ قدومها المشئوم بإقصائها الآخرين وقتلهم وتعذيبهم وتسريحهم من الخدمة العامة وحرق قراهم وغيرها من أشكال الإقصاء العسكري الفاحش والقهري. وتوج هذا الخيار الفاجر من قبل الجبهة الأسلاموية بدعوة صريحة بلسان مقالها. فقد نطقت أدواتها العسكرية -ممثلة في شخص الفريق البشير- بدعوة صريحة لأطراف المعارضة في الشمال لحمل السلاح والمقاتلة لتبيين الجدية في العمل السياسي المعارض!! فكان أن استجابت قوى السودان الجديد لدعوة البشير للمنازلة التي طلبها.
• ولأن قوى السودان الجديد في الشمال تسعي لأن تكون جادة، فقد سعت "حق" بجدية إلى تفعيل العمل السياسي الحر وفق رؤى جديدة تدعو للسلام، ولكن بالثمن الذي يستحقه هذا السلام من جهد وتضحية ومضاء وعزيمة في ميادين العمل السياسي المتنوعة. وأحد هذه الميادين هو "حرب الرؤى." و"حق" ترى أن ميدانها الأساسي والمؤثر سيكون في بلورة رؤى جديدة حول قضية قضايا السودان، قضية الهوية، وذلك لأن هذا المجال مجال خصب يؤدى تأطيره وتفعيله إلى خلق سودان جديد. و"حق" الآن في حالة حوار جاد، مع نفسها، حول جدوى العمل العسكري مما يليها، خاصة وأن هناك قوى جديدة أخرى (مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان) تحمل ذات رؤى "حق" في مجملها، وتدافع في جسارة عن الأرض والعرض والحق. هذه القوى، بما فيها الحركة، البجا، التحالف، والفيدرالي الديموقراطي، تقوم بدورها التاريخي لنصرة رؤى السودان الجديد ومصالح قوى السودان الجديد، بعد أن عاثت قوى الظلم والظلام وإلاظلام فسادًا في جنوب البلاد وشمالها منذ استقلال السودان وحتى اليوم. وقد يفضي هذا الحوار الجاد-داخل "حق"-إلي تبني صيغة للعمل ترجح النشاط الفكري السياسي-الأخلاقي، ويكون هذا إسهاماً حقيقياً ومؤثراً في قضية القضايا بالسودان؛ قضية الهوية، وانعكاساتها على مسرح السياسة في السودان شمالاً وجنوباً! ويسوق هذا النوع من الحوار الجاد "حق" وغيرها من الحركات الجادة إلي اعتماد صيغة مرنة تسعي للآخرين، كما حدث وما أنفك يحدث في كثير من المواقع مع العديد من المسارات والتيارات ذات الرؤى المتقاربة.
• أضحي بينًا مما تقدم أن "لنج" و"حق" ليسا حزبين. بل هما رؤية واحدة تم تبنيها بواسطة مجموعتين وطنيتين. وقد تخلقت هذه الرؤية ونمت في داخل هاتين المجموعتين بصورة متماثلة بالرغم من استقلالهما عن بعضهما البعض! ولكون تجربة الإنسان السوداني الحر مع الظلم والظلام والظالمين واحدة فقد تشكلت هذه الرؤية المتماثلة بعرق ودم وصبر وتضحيات جسام، الشعب السوداني بها حقيق. ولكن هواة الكسب السياسي الرخيص، حتى في داخل هذه القوى الجديدة، مازالوا يعطلون تلاقيها والتحامها على طريق الحق والعدل. وهؤلاء مصابون بغشاوة وأنانية ظلتا علامتا الوسم للمثقف السوداني المتثاقل حتى اللحظة. وهؤلاء هم العقبة الحقيقية أمام توحيد عملية "تنظيم التفكيك"، التفكيك الذي أصاب البنية التحتية والفوقية للقوى السودانية التقليدية بفعل حركة وجدلية التاريخ في السودان الحديث منذ الاستقلال، وبفعل متثاقل متباطئ، أو متخاذل إن شئت، من المثقف السوداني.
• الكاتبان على قناعة تامة بأن "حق" و "لنج" هما أساساً حركتين، تشكلان منبرين حرين، لتداول الفكر والتحاور السياسي والتضامن حول مستقبل السودان وشروط نهوضه، وليستا بأي حال، منابر للكسب والتلهف والتهافت على السلطة والثروة والمجد الشخصي. وعليه فإن الحاجة دائماً على درجة بالغة من الإلحاح والجدية والتضحية من أجل الاستثمار الأقصى لهذا الطابع الإيجابي للصيغتين المتماثلتين.
• حوار الأفكار العقلاني والعلمي المصحوب بتبادل الخبرات الودود الذي تتيحه هذه المنابر الحرة والديمقراطية سيفضي، دون أدني شك أو ريب، إلي تفعيل العقل السوداني المشرئب إلي الخير والتقدم في مناخ معافى وإيجابي. فالإنسان السوداني (في قناعتنا) ذو وجدان سليم كريم، والوجدان السليم لابد وأن يستصحب فؤاداً سليماً، أو إن شئت عقلاً سليماً. والعقل السليم هذا لا يكون سليماً إلا في حركته الإيجابية المتمثلة في الإسهام النشط والمباشر في ما نسميه"حرب الرؤى". وهذا بالضبط ما تحاول أن تقوم به "حق" و"لنج" والعديد من قوى السودان الجديد.
• الشعب السوداني-بقدراته المتميزة و ملكاته المتفردة-قادر، في يقيننا، على أن يميز غشاوات الشر. ولهذا فعلينا، نحن المثقفين السودانيين، أن نضرب بعصانا بقوة في خضم التثاقف المتلاطم، مقصدنا في ذلك هو التنادي الحر والديمقراطي لتخليق رؤية مشتركة من خلال "حرب الرؤى"، المفضية بدورها إلي خلاصة الرؤى؛ وهي رؤية مجموع الشعب السوداني القائمة على الحقائق لا التصورات الوهمية، والمستقبلة مصير الأمة السودانية الموضوعي، وهو مصير فيه كثير من الخير العميم الوافر.
• على قوى السودان الجديد ألا تغتر أو تفرط في التفاؤل في ما قد تفضي إليه عملية "تفكيك التنظيم" هذه. فأقصي إنجازات هذه العملية لن تتجاوز كونها وسيلة لإسقاط النظام الظالم الغاشم الجاثم على صدر أمتنا، وإبعاد لوجوه وكيانات أذلت الشعب السودانى وأذاقته المر المرير. ويجب أن يكون هذا أدنى درجات طموح القوى الجديدة. ويجب أن تنأى هذه القوى بنفسها عن بناء الطموحات غير المشروعة للكسب الشخصي والمجد الذاتي، لان ذلك يعرض مشروع بناء السودان الجديد الذي نحلم به إلي خطر مستطير.
• أي تسويف أو تنازل أو افتئات على حقوق الشعب السوداني، خصوصاً من جانب القوى المتثاقفة الجديدة سيكون وخيم العواقب على من يسوف أو يتنازل أو يفتئت. فإن التفاؤل غير الجاد المؤسس على رؤية، وغير المشرب بتفاعيل "حرب الرؤى" التي سبقت الإشارة لها، لن يكون إلا من باب حسن النوايا، وحسن النية وحده لا يكفي لإسعاد الشعوب. والتفاؤل الذي لا تصحبه رؤية تؤدي إلي التغيير المنشود هو في ظننا تفاؤل عاجز وكسيح ولن يقود إلا إلي الفشل والإحباط، الذى يتلوه التسويف والتنازل والافتئات على حقوق شعبنا المشروعة.
• علينا أن نستعد لفهم وإدراك تعقيد ومشقة أمر التغيير المجتمعي، خصوصاً إن كان ذلك متعلقاً بشعب في عظمة وقامة الشعب السوداني. فليس بحسن النية وحدها، ولا بالكلام المنمق المعسول، ولا بالخطب المحتشدة بالمحسنات البديعية يتم التغيير وتتحقق طموحات الشعوب! التغيير سيكون -إن قدر له أن يتم في بلادنا- عبر استعدادنا المتحمس للغوص في داوخلنا كأفراد. فلننظر؛ ماذا قدمنا لشعبنا الذي قدم لنا الكثير؟ وهل ما قدمناه يليق بعطاء هذا الشعب المعطاء العظيم لنا، و ما بذله في سبيل إعدادنا وتأهيلنا؟ كيف يكون إسهام كل منا في مشروع النهوض الحضاري لأمتنا؟ فثمة حقل نستطيع الإسهام فيه بقوة وهو حقل "حرب الرؤى" الذي علينا -أفراد وجماعات- أن نوطن أنفسنا على البذل فيه كأفضل ما يكون البذل والعطاء. بهذا، وليس بأقل منه، نستحق شرف الانتماء لهذا الشعب وزمرة مثقفيه.
• الدكتور جون قرنق دي مابيور هو، على نحو ما فعل ويفعل، من أبرز مفجري هذا الحوار الحر الواعد، وذلك بنضاله وحماسته وصدق توجهه نحو سودان جديد واحد وموحد، في قارة أفريقية واحدة وموحدة. وهو بهذا المعني استتبع الحرب وسبقها بحرب الرؤى. وهو حين حمل السلاح لم يفعل ذلك إلا مضطراً "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم". فمن يأتيك في عقر دارك ويقتل أهل بيتك -أيها المتثاقل الشمالي- مهما كانت قدرتك علي التسامح، لن تملك إن كنت حراً، إلا أن تجابهه بشجاعة النضال ونضال الشجاعة! وهذا بالضبط موقف الدكتور جون قرنق تجسيداً لسودا نويته، وهو سوداني لحماً ودماً وعظماً ولساناً! ويتأكد ما سبق في مسلك الدكتور جون قرنق إزاء الحملة الجائرة عليه التي تتهمه بأمراض سدنة السودان القديم كالعنصرية والتعصب، وما إليها من معاداة للعروبة والإسلام!!! وعلى الرغم من ذلك، فإنه بكل صبر وأناة وسعة أفق وصدر رحيب يتعلم اللغة العربية، ويبدي حماسة -تعوز الكثيرين- لحماية حق المسلمين الجنوبيين في ممارسة دينهم ورعايته وتطوير أسباب ترسيخه عن طريق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في السودان الجديد. وهو يرد بذلك السيئة بالحسنة، ويؤسس لأطر الحوار الفكري والتثاقف الحر بين أبناء الوطن الواحد. وفضلاً عن ذلك، فهو في سبيل إرساء الأسس المتينة للتعايش والتحاور في سودان التنوع الجديد لا يستنكف عن الجلوس إلي قوى ساهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إذاقته وأهله الأمرين، بل لا يستنكف أن يركب مع هذه القوى مركباً واحداً، يكاد بعضها أن يغرقه بدعوتها للمصالحة مع طغمة الجبهة الأسلاموية! هذا في وقت لم تنضج فيه أسباب وشروط هذه المصالحة. وأول هذه الشروط تسليم السلطة، وكل أدواتها للشعب وممثليه، وإلا فالطوفان الجارف الذي سيبقي الخير وما ينفع الناس، وسيذهب الزبد جفاءً.
• يجدر بنا أن نضيف إلي قولنا أن الدكتور جون قرنق أحد أبرز مفجري الثورة الثقافية، أن هناك شخصيات ساهمت ومازالت تساهم بتجرد وحماسة ودراية في هذا الصدد. نشير هنا إلي ذلك الرهط المتميز من أبناء "الشمال" الذين أدركوا قبل غيرهم أهمية المشاركة ذات الرؤى الوحدوية في هذه العملية. لن ينسى الشعب السوداني السماحة والتواضع والرؤية العميقة التي تعامل ويتعامل بها السيد محمد عثمان الميرغني مع الشأن السوداني. فهو بهذا النهج البديع يخطو خطوات مباركة نحو القوى الجديدة. لن ينسى الشعب السوداني أن هذا الإنسان مهيب السمت، المتجرد من حب السلطة السياسية المحضة، رغم أنها كانت في متناول يده يوم تهافت المتهافتون عليها، هو الذي صاغ مع الدكتور قرنق أساساً لاتفاق أجهضه التسويف والتخاذل والافتئات على حقوق الشعب السوداني السليبة. وسيذكر التاريخ، بأحرف من نور، للدكتور الصميم منصور خالد أنه بحسه الوطني الوحدوي النبيل، قد بنى وأسس مع أخيه الدكتور جون قرنق أساساً متيناً للثقة بين الشمالي والجنوبي. أما الأستاذ النبيل بشير بكار الدبلوماسي السوداني الصنديد الذى ضحي بماله ووقته، وكلف نفسه وأسرته رهقاً من أجل سودان جديد، وفي سبيل تكوين نواة فاعلة للقوى الجديدة بالخارج، يوم كان الكثيرون لا يعرفون للتضحية معنى، فلن يمحو دوره جهل الجاهلين من هواة الكسب السياسي الرخيص. هذه الثقة، التي بناها هؤلاء تنمو وتنضج الآن، وستكون العروة الوثقى التي منها سيجر النظام الحالي إلى سقوطه المحتوم، وسيبنى عليها رباط السودان الجديد. ولا نقمط أخوة آخرين ساهموا في تمتين هذه الثقة حقهم، ومن هؤلاء ياسر وياسر وعبد العزيز وبازرعة وعبد الباقي وخالد ومحمود ومالك والقائد يوسف كوة مكي وغيرهم ممن استجاب لنداء الثورة وحمل بذرة الوحدة وساهم بفعالية في غرسها علي ثرى الوطن.
• هناك قطاعات واسعة من الجماهير المهمشة التي استطاعت "حق" و "لنج" أن تصلها بالداخل وتربطها بمصير الثورة الثقافية المستعرة. ولكن هذا الربط سينفرط إن لم نمكنه ونعززه بـ "تنظيم التفكيك". فالقوى التقليدية في داخل السودان قد دخلت طوراً متقدماً في التحلل والتفكك، وما ركوب موجة الثورة من بعضها في الخارج إلا محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كيانها! إزاء هذا الواقع، نقول؛ أنه يجب تنظيم هذه القطاعات الواسعة المهمشة وتمكينها من المشاركة الفعالة والنشطة في "حرب الرؤى". فحرب الرؤى هذه، في مناخ ديمقراطي حر معافى، هي أصل "الحرب" علي قوى الشر، وذلك لأنها حرب مسالمة، غير دموية، وحضارية، تحترب فيها الرؤى بتوادد و تراحم ، يحاكي حضارة وتوادد و تراحم و تسامح الشعب السوداني، وهذا التسامح سيكون أساسه احترام الرأي الآخر، بل وصيانته و حمايته لأنه ينطق عن نفسه إن كان حقاً أو كان باطلاً، وفي ذلك حماية لحق أساسي من حقوق الإنسان السوداني السليبة، وهو "حق الحرية"، الذي تتفرع منه أمهلت الحقوق. وبفضل الله على الشعب السوداني فقد قاربت دجات الوعي لديه الدرجات المرجوة له، في التمييز بين الرأي والرأي الآخر.
• حربنا الراهنة مع نظام الجبهة الأسلاموية هي،في جوهرها، حرب رؤى ارتدت -بصورة مؤقتة- رداءً مسلحاً! المقصد الرئيسي من هذا الشكل المسلح هو إجبار تلك الفئة الباغية على الجلوس كسيرة، صاغرة (كما تستحق) للنقاش والحوار والاحتراب الفكري وفقاً لأكثر الشروط إنسانية وتحضراً! أي إن هذا الحوار يجوز فقط بعد التجريد الكامل الناجز لهذه الفئة من كافة أدوات القهر والنهب والتدليس والقتل، وبالقوة القهرية إن كان لابد مما ليس منه بد. فالشعب السوداني الودود المتسامح لا يقاتل الظلمة من أجل القتال، وإنما من أجل إحلال الحق وتمكين العدالة وترسيخ المحبة وتعزيز المودة بين أفراده.
• ذهب في سبيل هذه الثورة، ودون هذا النهج، رموز للشعب السوداني شهداء على عصرهم ، هذا الأغبر. في مهابة وإباء وشموخ وبسمت ولسان ناطقين، نطقاً مفحماً، ذهب الأستاذ محمود محمد طه شهيداً متكلماً وحده يوم صمت الآخرون. فقد أبان شرور الهوس الديني وخطورة إدماء الجنوب في وقت كانت فيه جمهرة متواطئة متخاذلة من المثقفين السودانيين ترى أن في ذلك ترفاً. واليوم استبان الكل بأن ذلك لم يكن إلا الحق الحقيق. كان ذلك في يوم عجزت فيه الكثرة الغالبة من المثقفين عجزاً مخزياً عن قول النصيحة. كان الشهيد الأستاذ مناديًا في جلال و كبرياء بما ننادي به اليوم. ورغم ظلم الجلاد وهوس طغمة نميري الفاسدة (وهي نفس بطانة النظام الحالي، بل سداته ولحمه)، لقي الأستاذ مصيره مبتسماً ابتسامة ما انفكت تضيء حتى يومنا هذا. وعلى هذا الضوء، وضوء شهدائنا الآخرين من القوى المستنيرة نسير ونتقدم. وهذا الضوء يلهمنا القوة والصبر والإصرار على منازلة الظلم والظالمين لإحقاق الحق، حق الشعب السوداني في حياة كريمة رغده وحرة. وبهذا المعنى فالأستاذ محمود، وموقفه، يجريان منا مجرى الدم، ونرجو ألا يكونذلك إدعاءً زائفاً، فذلك الموقف -أن تبتسم للموت علي يد الفجّار- هو الحياة كلها والنبل كله، والعبودية لله في أسمى صورها، ليت قومنا يعلمون . ونرجو أن نحيا نحن المثقفين السودانيين في سبيل ما استشهد من أجله -من ضمن ذلك السودان وأهلوه الأبرار- وإلا فسنذل إلى أرذل العمر داخل وخارج وطننا.
• ندعو أن يكون التسامح الذي لاقي به الأستاذ محمود جلاديه ديدننا لقوى السودان الجديد، ولكن بعد أن تسلم قوى الظلام-في صغار-كل أسلحتها التي وظفتها في التنكيل والتقتيل والإذلال. وهنا يجدر بنا أن نذكر ما سطره الأستاذ محمود في الستينات عن الدكتور حسن الترابي، قائلاً عنه "إن شخص الترابي موضع حبنا ولكن ما ينطوي عليه من أفكار هو موضوع حربنا"، والحرب المقصودة هنا هي حرب الرؤى ذاتها التي ندعو لها اليوم!!! نعم هي "حرب الرؤى" التي لم نتقن استخدام أدواتها حتى اللحظة!! ليت الترابي أدرك يومها أن مثل هذه الحرب لا تخاض بالسلاح وإنما بالتي هي أحسن-كما يدعوه دينه الذي يدعيه. عوضاً عن ذلك، أعلن الترابي، هو وأدواته (غير الجديرة بالذكر هنا)، حربه الخاسرة ضد الأستاذ الشهيد، إلي أن ذهب الأستاذ محموداً في الأرض والسماء، وبقي الترابي وجماعته من سدنة الظلام مخذيين في الأرض والتراب. هذه الجماعة الغاشمة مدعوة اليوم إلي تسليم السلطة الآن، نعم الآن.. الآن.. الآن. وإلا فلينتظروا أن تقصف بهم قوى الخير الأرض، ويبقي بعد ذلك الخير كله: خير الشعب السوداني الذي ذهب الأستاذ محمود وهو مفعم بالثقة واليقين في أصالته وقدراته المتميزة، وإمكاناته المديدة لصنع التاريخ وصياغة المستقبل الوضاء لسكان كوكبنا من البشر. سيذهب هذا النظام لا محالة، وليشارك الجميع في ذهابه، حتى لا يستمر جني ا الحصاد المر للأداء المعطوب للطغمة الفاسدة الظالمة الفاجرة، حصاد الظلم والتقتيل والإذلال الذي طال أناساً شرفاء من أمثال الدكتور علي فضل ورفاقه الكواسر من الشهداء، والعميد محمد أحمد الريح وصحبه من المعذبين، وشهداء حركة رمضان الأبطال، الذين قتلوا في شهر الصيام من مدعي الدين الفجار، وقوافل البسالة والإقدام من شهداء الحركة الشعبية. مهر هؤلاء وأولئك عرس شعبنا الذي لن يتم إلا بذهاب دولة الفساد والظلام السائدة الآن في السودان، ورفرفة رايات الحرية والتسامح والمودة والحب والسلام.
مبتغي الشعب السوداني من الثورة الثقافية، أي من حرب الرؤى، التى حاولنا بلورة أولية لها هنا، هو تخليق كائن حي نابض بالحياة والتدفق كتدفق نيلنا سليل الفراديس؛ ونحن موعودون بالفردوس في سوداننا.. نسأل الله أن يتمم لنا نورنا، نور الحرية ، إنه نعم المسئول وخير مجيب. ولنواصل التنادي بفضله العميم على شعبنا السوداني الكريم، حتى نقيل به ويقيل بنا عثرته. ونحمده على ما آتانا من صمامة العزم على ما نحن فيه ماضون، وما نحن عليه مقبلون، والحمد له وحده رب العالمين.
(عدل بواسطة Haydar Badawi Sadig on 05-08-2005, 05:45 AM)