|
جون قرنق دي ما بيور: باقية روحك يا إنسان، با قية روح السودان
|
لله ما أعطى ولله ما أخذ! فهل من متعظ؟! أعزي الشعب السوداني، بكبد حرى، في فقيد بلادنا الكبير، الشهيد الدكتور جون قرنق دي مابيور، ولا أقول إلا ما يرضي الرب. فقدت البلاد قائداً فذاً، جسد معاني الحرية، والتوق للعدالة. أحبته الملايين، لأنه منهم، واحتضنته قلوبهم. فصار رمزاً لوحدة السودان ولأصالة أهله الطيبين، المتسامحين، الوادعين، التواقين للخير.
مثل نموذج الدكتور قرنق خلاصة المخاض السوداني لانجاب قادة سودانيين وحدويين خلص. هذا النموذج سيظل منارة ملهمة للسودانيين من كافة الأعراق والأديان والنواصي والنواحي، إن قدر لبلادي الثكلى أن تستعيد توازنها بعد فقدها لإبنها الكريم، البطل، المغوار. وقدر بلادي المقدور هو أن تستعيد توازنها، عاجلاً كان ذلك أم آجلاً. نعم، ستستعيد بلادنا توازنها لأنها أنجبت قرنق، لا في جسده المشرق، الوضاء، فحسب، بل في قرنق الرؤية والرسالة، المتمخضة عن تاريخ يتلوى من عذابات متتابعة، في مخاضات يتلوها ميلاد تلو الميلاد.
دكتورقرنق كان يدرك بأن مشروعه امتداد لتاريخ عريق، وبأنه ليس إلا تعبيراً عن المسارات المتعرجة لهذا التاريخ. ولهذا فإنه كان يدرك بأنه يعيش في صدفة فانية، تحتويها من فوقها، من تحتها، ومن حولها، قسمات الرحمن، نبض التاريخ، روح الأوطان. ولأنه كان يدرك ذلك، قال في أول كلمة له في الخرطوم بعد نزوله فيها ظافراً "السلام دا ماحقي أنا ولا حق البشير، السلام دا حقكم انتو." هذا قول رجل يدرك بأن الشعوب باقية ما بقيت الأماكن والأزمان. هذه رؤية رجل يتجاوز نفسه لينطق التاريخ في الحاضر وهو يرى ففيه المستقبل.
أهدانا الله رجلاً صلباً تميز بالاتساق في المواقف وبنبل المقاصد وسطوة البصر وحدة البصيرة. وهذه هبات لا يمنحها عز شأنه إلا لذوي الحظوة عنده. وقد كان الدكتور قرنق من هوؤلاء. ولله ما أخذ.
أهدانا الله رجلاً عزيزاً لا يقبل المهانة، لا من قريب متآمر يتدلسه، ولا من بعيد خائفٍ، كاذبٍ، سارقٍ، يستأسد على الضعفاء، تتخطفه الأوهام. هذه العزة منحة لا يمنحها العزيز إلا لذوي الكرامة والهمة والإباء. وقد الدكتور قرنق من هؤلاء. ولله ما أخذ. أهدانا الله رجلاً ذي بأس شديد، له زئير عند البأس شديد، وقلب رقيق للخير مريد. وهذه فضائل لا تتأتي في نسق واحد، في جسد واحد، إلا لمن وهبهم الله فصوص الحكمة. وقد كان الدكتور قرنق من هولاء. ولله ما أخذ.
أهدانا لله رجلاً وفياً، يصدق أهله ما وعد. والصدق بالوعد من شيم النبيين والصديقين والشهداء. وقد كان الدكتور قرنق من هؤلاء. ولله ما أخذ.
الموت سنة الأولين والآخرين، فلتكن فيه عبرة للجميع. فهو للخيرين خلود مقيم، ذلك بأنهم منارات هدىً، الباقون منهم في الأجساد أو الباقون في القلوب والأخلاد بعد فناء الأجساد. وهو للظالمين، الكاذبين، الطاغين، عبرة تدلهم على أن الحياة مهما طالت قصيرة، وأن أعمالنا هي الباقية. وما اقصرها حياة الظالمين، الكاذبين، الطغاة، في القلوب والأخلاد بعد حرقهم للمفاصل والأكباد!!! وما أخلدها حياة، حياة الصادقين الأوفياء، الذين قطعت طينة الدكتور قرنق من طينتهم الخصيبة.
سيذكر الشعب السوداني الدكتور قرنق ما بقي الشعب السوداني. وسيمحق الله بهذا الشعب الباطل ما بقي السودان! الخلود يربض في قلوب الناس ويتعاظم في التاريخ. وقلوب الناس هي مسارب أضواء التاريخ. وقد شاءت حكمة العليم أن ينسرب الدكتور قرنق في قلوبنا ليسكنها، وليسكن معنى السودان،كل السودان، في القلب وفي الوجدان.
شاءت سطوة الخبير أن تمزع منا مزعة حية، نابضة، إلى الأعالي، ليبقى المعنى، لتبقى الروح. والله، الخبير، العليم، نسأل أن يرينا الحكمة في فقدنا هذا الجلل، وأن ينير لنا الطريق، فلا نقول إلا ما يرضى الرب فنرضى، مسلمين بعزته وجبروته وبحكمته الرحمانية. سيبقى قرنق القضية. سيبقى قرنق الرؤية. سيبقي قرنق المشروع. وستبقى روح السودان، الساكنة في قرنق الإنسان، في قرنق السودان، ما دام الإنسان، وما دامت أوطان.
ولله ما أعطى ولله ما أخذ!
|
|
|
|
|
|