شكرا يا بكري لرفع دراسة الأخ عادل عبد العاطي
وأعتقد أن الناس قد قرأوا عن الأستاذ محمود ولم يقرأوا له بالقدر الكافي.. وقد أعود للتعليق.
أما الآن فقد جذبني تعليق باب الله وتذكرت العوض، يا عبد الله، وهو يقول بعد رحيل العم محمد فضل الصديق ـ أحد أبكار الأستاذ محمود
كنت بالأمس رأيتك في منامي
تنفض القبر وتحيا من جديد
كان في القلب يقينا أنه راح لإحياء النشيد
[..ٍ]
يدفع الركب لعرس الأرض واليوم السعيد
وغدا ألقاك تحدو فهو يبدي ويعيد
=======
حقا لم يرحل الأستاذ إلا بجسده، ولكنه فينا بروحه وبفكره.. إن عظمة الأستاذ ليست في تحقيقه السامي وإنما في فتحه الطريق للناس لكي يحققوا السلام مع أنفسهم ويعرفوها وينشروها فيكونوا رسل السلام والمحبة في الأرض..
اقرأو هذه المقدمة التي كتبها الأستاذ في عام 1976 للطبعة الثالثة من كتابه "قل هذه سبيلي" وتأملوا!!
من كتاب "قل هذه سبيلي"
بسم الله الرحمن الرحيم
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً، وقبائل، لتعارفوا.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. إن الله عليم خبير.." صدق الله العظيم
المقدمة .. الطبعة الثالثة
[1976]
هذا الكتاب "قل هذه سبيلي" صدر في عام 1952 ومع أنه صدر بعد "السفر الأول" إلا أنه كتاب يتناول الدعوة بالتفصيل والتحديد، ننشره كما هو، بمناسبة ذكرى مرور ثلاثين عاماً على دعوتنا، التي أخذت اسمها "الجمهوريون" من ملابسات الوقت الذي نشأت فيه الحركة السياسية والوطنية ضد الاستعمار، في الأربعينات..
هذا الاسم لا يعبر تعبيراً كافياً عن محتوى دعوتنا، ولكنه صالح في المرحلة، لتمييز دعوتنا عن الدعوات الفارغة، التي تتسمى باسم الاسلام، وهي خالية الوفاض منه، ولقد كان همنا الأول أن يكون محتوى دعوتنا إسلامياً، وإن كان إسمنا مرحلياً، حتى يجيء اليوم الذي يتوكد فيه أن دعوتنا ما هي في الحقيقة إلا الإسلام عائداً من جديد.. ويومها يكون إسمنا الحقيقي إسماً مشتقاً من المعاني الإنسانية الرحيبة..
الحضارة الغربية واغتراب الإنسان
إن دعوتنا هذه إنما هي لمدنية جديدة تخلّف المدنية الغربية الحالية، والمنقسمة بين النظام الرأسمالي والشيوعي، والتي ظهر قصورها عملياً عن حل مشكلة الإنسان اليوم، فقد برعت وافتنت في صنع الآلة، وأنجزت إنجازاً كبيراً، في المجال المادي، والتقني، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً، في استيعاب طاقة الإنسان المعاصر، وتوجيهه. والحق أن صعّدت، وجسّدت، وأبرزت، أزمة الإنسان المعاصر أكثر من أي وقت مضى، وهذا ليس عيباً، كما قد يظهر في أول وهلة، وإنما هو حسنة من حسناتها، فقد وضعت الإنسان اليوم في أعتاب الحيرة، وجعلت منه باحثاً عن القيمة وراء المادة ــ القيمة الإنسانية ــ ورافضاً للمجتمع المادي، الذي يحيل الإنسان إلى آلة إنتاج، واستهلاك، يفقد روحه وحريته، وهي بذلك إنما وضعته في أول طريق الخلاص.
الإنسان اليوم مغترب عن النظم السياسية، والإجتماعية، مغترب عن التقاليد، والأعراف، والموروثات، والمسلمات، والقيم التقليدية، واغترابه إنما هو شعوره بالحيرة المطبقة، وبالقلق، والاضطراب، ثم هو في القمة شعوره بفرديته المتميزة التي يرفض أن يذيبها عفوياً في تيار التطور المادي. والسبب الأساسي في اغتراب الإنسان هو أنه ذو طبيعتين، طبيعة مادية، وطبيعة روحية، فهو مكون من جسد ومن روح. فإذا أشبعت حاجة المعدة والجسد، الحاجة المادية، برز جوع الروح، وجوعها إنما هو حنينها إلى وطنها، الذي صدرت منه، حنينها إلى الله. فالاغتراب في الأصل، هو اغتراب الإنسان عن الله، وهو في المستوى المشعور به، يكون واضحاً، ولكن هناك مستوى غير مشعور به، وهو ما برز للإنسان المعاصر في رفضه للمادة، وفي بحثه عن القيمة الإنسانية، وعن الحرية.. في بحثه عن نفسه. وهو بحث في الحقيقة عن الله، ولعل ذلك يفسر لنا اتجاه الشباب الرافض في أوروبا وغيرها في الآونة الأخيرة إلى مظاهر من التدين غريبة، منها اللجوء إلى العقائد الهندوسية، أو تبني نوع من المسيحية ليس لها علاقة بالقديم، وإنما تتصور المسيح تصوراً جديداً.
الأزمات تجتاح العالم
ومشكلة الإنسان المعاصر هي لدى التمادي، مشكلة المجتمع اليوم، فمع اقتدار الحضارة الغربية، في ميدان تطويع القوى المادية، لإخصاب الحياة البشرية، واستخدام الآلة لعون الإنسان، فقد عجزت عن تحقيق السلام. والسلام هو حاجة البشرية اليوم. وهو في ذلك حاجة حياة أو موت، ذلك بأن تقدم المواصلات الحديثةن قد جعل هذا الكوكب أضيق من أن تعيش فيه بشرية، متنافرة، متحاربة فيما بينها، بل إن اختراع وسائل الحرب والدمار الرهيبة، قد وضع الإنسانية أمام أحد طريقين، إما السلام، وإما الدمار والفناء..
والحضارة الحالية وبفلسفتها الاجتماعية مع فشلها في تحقيق السلام، فإنها أيضاً تقف عاجزة أمام الأزمات المتلاحقة في العالم، وعلى قمتها أزمة الاقتصاد العالمي، التي أبرزت تناقضات النظام الرأسمالي والشيوعي. وظهرت في الموجة الحادة من التضخم والغلاء، التي تجتاح العالم، والتي يعاني منها الناس جميعاً، أشد المعاناة، وفي أزمة النظام النقدي العالمي، الذي يعاني من عدم الاستقرار.. وفي أزمة الغذاء العالمي التي تهدد البشرية بالمجاعات والأمراض ونقصان الغذاء، ثم في أزمة الانفجار السكاني، وأزمة الطاقة زيادة على مشاكل الحروب، المتواصلة والنزاعات العنصرية، والاقليمية.. إن هذه الأزمات علّمت الإنسان ضرورة التعاون الدولي، وأكدت له وحدة مصيره، وضرورة تكاتفه لمجابهة الأخطار التي تهدد وجوده.
قصور الفلسفات المعاصرة
وعلى رأسها الشيوعية
قلنا أن الحضارة الغربية بفلسفتها الإجتماعية قد فشلت في تنظيم مجتمع اليوم لأنها تقوم على أديم مادي، وقد تمادى هذا التفكير المادي بالشيوعية إلى قطعها صلة الإنسان بالغيب. والحضارة الغربية إنما فشلت لأن الفكرة الشيوعية، والرأسمالية وإن اختلفتا، في ظاهر الأمر، فإنهما تقومان على أديم واحد، وتنطلقان من منطلق واحد، هو التفكير المادي. ولقد عجز هذا التفكير المادي بشقيه عن استيعاب طاقة إنسان اليوم، الذي يبحث عن القيمة وراء المادة، يبحث عن الحرية، والذي أعلن تمرده في الشرق والغرب في ثورات الطلاب والشباب، ورفضه للمجتمع المادي، الذي يمارس صناعة القيم، وتحطم فيه مواهب الإنسان وطاقاته. ويفرض عليه المجتمع نمطاً معيناً من السلوك الاستهلاكي، وأخلاقاً معينة، من التعامل الآلي الجاف.
وأيضا فشلت هذه الفلسفات الاجتماعية، لأنها لم تستطع أن توفق بين حاجة الفرد للحرية، وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، فالشيوعية قد جعلت الفرد وسيلة المجتمع فأهدرت قيمته، وحريته، وحقه، وأقامت نظامها على القهر والعنف، وعلى دكتاتورية الدولة. أما الرأسمالية في الطرف الآخر، فإنها قامت على إهدار حقوق الأفراد، فهي نظام للتسلط الاقتصادي، واستغلال العمال، ثم هي تمارس ديمقراطية زائفة، تعطي الفرد حرية الانتخاب والترشيح، ولكنها لا تحرره من استعباد الرأسمالي له، الذي يمكنه أن يوجهه لأن يصوت لجهة ما بالتصريح أو بالتلميح، فيفعل ذلك، لأن الرأسمالي يملك قوته، وفي أحسن الأحوال يمكن للرأسمالي شراء صوته بوسائل عديدة، بل يمكنه أن يصنع ويزيف الرأي العام بامتلاكه للصحف، أو بمقدرته على شراء حديثها أو صمتها. فلا حرية مع النظام الرأسمالي ولا حرية مع النظام الشيوعي، الحرية موؤودة في كلا النظامين، والحرية هي طِلْبَة واحتياج إنسان اليوم، ولذلك لا مستقبل لهذين النظامين، لأنهما لا يوافيان احتياج الإنسان.
اليسار الجديد
ولقد شعر أذكياء الماركسيين بما يواجه النظرية، من فشل في التطبيقن ومن تحدٍ واضح لأصولها النظرية. فذهبوا مذاهب في محاولة محاولة إنقاذها فيما سمي باليسار الجديد، والذي حاول تعديل التعاليم الأساسية للفكرة الماركسية، بما يتناسب مع الواقع الديالكتيكي الجديد الذي طرحته الحياة. وفي الحق أن تعديل الفكرة الماركسية إنما بدأ منذ عهد لينين نفسه، الذي أدخل تغييرات جوهرية تمس أسس النظرية الماركسية، فهو قد طبق النظرية في دولة زراعية لم تنضج فيها الظروف الثورية، التي تضع العمال في قيادة حركة الثورة والتغيير، كما يظن كارل ماركس. فروسيا لم تُدخِل الصناعة آنذاك إلا في حيز ضيق. ولذلك إضطر لينين إلى إدخال الفلاحين والمثقفين الوطنيين في تحالف مع طبقة العمال الصغيرة، وقام بإنشاء الحزب على هذا الأساس، المخالف للنظرية في أصولها. ولمخالفات لينين للنظرية فقد فكر الماركسيون في إضافته كمُنظّر ثانٍ مع كارل ماركس فيقولون عن أعماله وأقواله "الماركسية اللينينية".
ولعل من أبرز الانحرافات التي واجهت التطبيق الماركسي، هو اضطرار النظام الروسي نتيجة للإنخفاض المتوالي للإنتاج، وبالرغم من الرقابة البوليسية على العمال، إلى إعطاء حوافز ربح للعمال، فيما سُمي بحوافز ليبرمان، والتي دار حولها نقاش ضافٍ في جريدة البرافدا، من قِبل الاقتصاديين السوفيت، ووصفها بعضهم في هذا النقاش بأنها زحف رأسمالي على الإشتراكية، وأعلنوا معارضتها. وإنها لكذلك، فهي نكسة لحافز العمل الرأسمالي لم تجد الشيوعية منها بداً، وهي لم تجد منه مفراً لأن نظريتها إنما تقوم على قطع صلة الإنسان بالله، وإقامة المجتمع بذلك على قيمة واحدة، هي القيمة المادية، مما أفقدها القدرة على إعطاء أي حافز للإنتاج، والتضحية، فاضطرت للحافز المادي.
وهاهو اليسار الجديد وبتحليله لظواهر المجتمع الصناعي والمجتمع الإنساني اليوم يخلص إلى نتائج مغايرة، لكثير من نتائج كارل ماركس. فيقرر مفكروه ومنهم هربرت ماركوس أن الأداة الثورية، التي اعتمد عليها كارل ماركسن اعتماداً أساسياً، في تحليله لظاهرة الطبقات، واعتمد عليها في القيام بالثورة، وهذه الأداة ــ وهي طبقة العمال ــ قد مسخت وصارت أداة سلبية، وذلك لامتصاص النظام الرأسمالي لثوريتها، باعترافه بتنظيمات العمال، وبرفع أجورهم، وتهيئة فرص المعيشة الحسنة لهم وفرص الاستمتاع بمباهج الحضارة، سواء بسواء مع الآخرين ثم بملاقاة النظام الرأسمالي للاشتراكية، في منتصف الطريق، وتطبيقه لبعض مظاهرها. وبنهاية ثورية العمال، سددت ضربة قاضية ومميتة للنظرية الماركسية. أكثر من ذلك فإن نظام "الأوتوميشن" وهو النظام الذي تدار به المصانع في جميع عملياتها، بدون تدخل من أحد، وذلك بواسطة العقول الإليكترونية. هذا النظام الذي بدأ ينتشر سيؤدي إلى نهاية الطبقة العاملة، والتي تعاني اليوم من جراء تقدم الآلة من إنحسار كبير، في عددها، لأن الآلات الحديثة كل يوم جديد تكون أقل احتياجاً للعامل وهي قد تحتاج للفنيين المدربين أكثر. وهؤلاء يشكلون طبقة جديدة، سماها اليساريون الجدد طبقة "التكنوقراطيين" والمديرين المسئولين عن عمليات الانتاج جميعها. وبهذا التطور العلمي، فقد واجهت الماركسية تحدياً سافراً، لا يمتص الأداة الثورية فقط، وإنما يسعى لإعدامها. وفكر اليساريون الجدد في طبقة أخرى للقيام بالثورة، فاقترحوا الطلاب، لإيقاظ الطبقة العاملة، ورأوا إعطاء المزيد من الاعتبار لكينونة، وحرية الفرد، لأن الديكتاتورية والقهر مرفوضة تماماً من إنسان اليوم. وفي اتجاه اليسار الجديد انساق الماركسيون الذين تمردوا على أسس جوهرية في النظرية الماركسية، وتبنوا نظام تعدد الأحزاب، والوصول للسلطة عن الطريق البرلماني ومنهم الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي وأحزاب شيوعية أخرى. وكان على رأس ذلك في فرنسا جورج مارشيه وقبله بوقت قصير كان غارودي. كل هذا التخبط والتردد يقرر بوضوح نهاية التجربة الماركسية وتصدعها في جميع الجبهات.
الكتلة الثالثة
"الاشتراكية والديمقراطية معاً"
وأمام هذا الموقف الذي استعرضناه للعالم، موقفه الاجتماعي، وموقفه الفكري، فإنا نرشح الإسلام ليكون الكتلة الثالثة، التي تستطيع أن تصفي الصراع المذهبي في العالم لمصلحتها، وفتعيد توحيد العالم، بتلقيح الحضارة الغربية الحاضرة، وبعث الروح في هيكلها، المادي العملاق ولقد كان ذلك ممكناً في ماضي أسلافنا، في الجزيرة العربية، وهو ممكن اليوم، فقد ظهروا بالإسلام في منطقة مجدبة، ومتخلفة، فأشعلوا به الثورة في نفوسهم، وبرزوا به بين الحضارة الفارسية ــ الشرقية ــ والحضارة الرومانية ــ الغربية ــ كتلة ثالثة، استطاعت أن تصفي وبسرعة الكتلتين الشرقية والغربية، وتطوي تراثهما تحت جناحها. والتاريخ اليوم يعيد نفسه وإن اختلفت الصورة. فإذا انبعثت الثورة الإسلامية الثانية، بمقدرتها على حل مشاكل الإنسان، وبمقدرتها على إحراز السلام، وإحراز التوفيق بين بين حاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، فإنها ستبني مدنية المستقبل ــ مدنية الانسانية الشاملة ..
ومقدرة الاسلام على التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، إنما تكمن في التوحيد، وفي أن تشريعه يقوم على شريعة عبادات، وشريعة معاملات، كلاهما مكمل للآخر. فسعادة الفرد طريقها إسعاده للآخرين. هذا التوفيق بين الفرد، والجماعة هو الذي يعطي الإسلام وحده، الفرصة في تطبيق النظام الاشتراكي الديمقراطي، والذي يمتنع تطبيقه على جميع الأنظمة، لفقدانها القدرة على هذا التوفيق بين حاجة الجماعة وحاجة الفرد.
إننا نرشح الإسلام لبعث المدنية الجديدة المقبلة، ذلك لامتلاكه عنصر الروح، عنصر الأخلاق. هذا العنصر الذي بفقدانه جُردت الحضارة الغربية من فرصة قيادة مستقبل البشرية. ثم لأن الإسلام بوضعه الفرد في مرتبة الغاية، والمجتمع في مرتبة الوسيلةن قد أعطى منزلة الشرف للحريةن والحرية هي قضية إنسان اليوم. ثم لأن الإسلام يملك المنهاج الذي يمكن به حل مشكلة اغتراب الإنسان ويمكن تحريره من حالة القلق والاضطراب..
فالإسلام علم نفس، وظف منهاجه لتحقيق الصحة للنفسن بتحريرها من الخوف والكبت، الموروث والمكتسب، وبإطلاقها من إسار العقد النفسية، وبوصلها بأصلها الذي منه صدرت. ولمقدرة الإسلام على تحقيق السلام، ومقدرته على تبني التراث الإنساني جميعه، وتلقيحه، وصقله وتوجيهه.. بهذه المقدرة على المواءمة والتبني الصحيح، فإن الإسلام هو صاحب المدنية المقبلة، التي تشارك فيها الإنسانية جمعاء الشرق والغرب والجنوب والشمال فهي مدنية إنسانية، الدين فيها علم وتحقيق، وهي مدنية تقيم علائق الناس على السلام والمحبة والصلة. [..]