هدية إلى كل قراء البوست وبصورة خاصة أهديه إلى مهيرة وسنجاوي وقرشو وياهو ذاتو
مقتطفات من مقدمة كتاب الإسلام للأستاذ محمود وقد صدرت طبعته الأولى في عام 1960
بسم الله الرحمن الرحيم
((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا))
صدق الله العظيم
مقدمة
تعالوا إلى كلمة سواء
إن الاضطراب الذي نشاهده في عالم اليوم يرجع إلى أسباب كثيرة ، ترجع جميعها إلى سبب أساسي واحد ، هو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي ، وتخلف الأخلاق البشرية.
إن العلم التجريبي الحديث قد رد مظاهر المادة المختلفة ، التي تزخر بها العوالم جميعها ، إلى أصل واحد ، فإذا لم ترتفع قواعد الأخلاق البشرية إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد ، فإن التواؤم بين البيئة الطبيعية ، وبين الحياة البشرية ، سيظل ناقصا ، وسيبقى الاضطراب الحاضر مهددا الحياة الإنسانية على هذا الكوكب بالعجز ، والقصور ، في أول الأمر ، ثم بالفناء والدثور ، في آخر الأمر..
العلم المادي التجريبي
أما عن العلم التجريبي فاستمع إلى العالم العربي الكبير الدكتور أحمد زكي يحدثك في كتابه : مع الله في السماء تحت عنوان (( لو انفرط هذا الكون)) فيقول:-
( ثم نعود إلى الكون ، إن هذه عناصر الأرض ، وهذه مركباتها ، وهى كل شئ فيها ، وقد بناها بانيها من لبنات ثلاث: إلكترونات فبروتونات فنيترونات.
وتحدثنا عن الكواكب السيارة ، فقلنا أن عناصرها من عناصر الأرض..
وتحدثنا عن النجوم ، فقلنا أن عناصرها من عناصر الأرض ، تستوي في ذلك نجوم في مجرتنا هذه ، دنيانا ، سكة التبانة ، ونجوم في مجرات نركب إليها الضوء فلا نبلغها إلا بعد مئات الملايين من السنين..
الكون أجمع إذن يتألف من عناصر هي بعض هذه التسعين.
الكون أجمع إذن يتألف من تلك اللبنات الثلاث..
فلو أننا أمرنا الأرض أن ينفرط عقدها : أمرنا أجسام الإنسان أن تنفرط ، وأجسام الحيوان ، وأجسام النبات ، وأجسام الصخر بهذه الأرض ، والصخور بهذه الكواكب ، وأمرنا كل غاز الشمس أن ينفرط ، وأن تنفرط غازات النجوم جميعها ، ما قرب منها وما بعد ، واختصارا أن ينفرط كل شئ في الوجود ، لنتج عن انفراطه كومات هائلة ثلاث من : إلكترونات- وبروتونات- ونيوترونات ، فهل في معاني الوحدة أبلغ من هذا المعنى؟ ونقول ثلاث لبنات ، وهل هي حقا ثلاث ؟ وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات ، يرد العلماء (( القوى)) إلى أصل واحد: الضوء ، الحرارة ، الأشعة السينية ، الأشعة اللاسلكية ، الأشعة الجيمية ، وكل إشعاع في الدنيا ، كلها صور متعددة لقوة واحدة ، تلك القوة المغناطيسية الكهربائية ، إنها جميعا تسير بسرعة واحدة ، وما اختلافها إلا اختلاف موجة.
المادة ثلاث لبنات ، والقوى موجات متآصلات ..
ويأتي أينشتين ، وفي نظريته النسبية الخاصة ، يكافئ بين المادة والقوى..
ويقول: أن المادة ، والقوى ، شئ سواء ، وتخرج التجارب تصدق دعواه ، وخرجت تجربة أخيرة صدقت دعواه بأعلى صوت سمعته الدنيا: ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليورنيومية..
المادة والقوى ، إذن ، شئ سواء.
فماذا بقي من أشياء هذا الكون ؟
بقيت الجاذبية ، ذلك الرباط الذي يربط الكون أجمع ، وبقي المكان SPACE ، وبقي الزمان ، ويحاول أينشتين أن يوحد بينها ، أن يربط بينها ،
وهو في نظريته ، نظرية النسبية العامة ، يربط بين الزمان والمكان ، فيجعل منهما شيئاً متواصلاً ، غير متفاصل وفي نظريته الجديدة ، نظرية الحقل الواحد UNITED FIELD THEORY يهدف أينشتين إلى أن يثبت أن القوى المغناطيسية الكهربائية ، تلك التي تتمثل في الضوء والحرارة وصور الإشعاع عامة ، هي وقوى الجاذبية شئ سواء.
وأقول السواء وما أعني به السوية. ولكني أعني أنهما في الأصول في أعماق الحقيقة الطبيعية ، متواصلان ، قال أينشتين: (( إن روح العالم النظري لا تحتمل أن يكون في الوجود الواحد شكلان للقوى لا يلتقيان ، شكل للجاذبية القياسية ، وشكل للمغناطيسية الكهربائية)).
وهكذا يتحلل المركب ، ويتبسط المعقد ، وتتشاكل الحقائق التي تتستر وراء الظواهر المختلفة ، وتتشابه ، وتجتمع كلها لتصب في مجرى واحد ، تلك الوحدة العظمى التي تجري في الكون أجمع ، ولكن ، هل قضى الإنسان من ذلك وطرا ؟
إن الإنسان ما زال يتساءل : وما وراء كل هذا ؟
إن الإنسان إن كان وجد جوابا لبعض (( كيف)) تساءل عنه ، فهو ما زال يتساءل (( لماذا)) وهو يسأل في شئ من الهلع الفكري ، والتقديس الديني ، قال أينشتين: (( إن أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها تلك التي تستشعرها النفس عند الوقوف في روعة أمام هذا الخفاء الكوني ، والإظلام ، إن الذي لا تجيش نفسه لهذا ولا تتحرك عاطفته ، حي كميت ، إنه خفاء لا نستطيع أن نشق حجبه ، وإظلام لا نستطيع أن نطلع فجره ، ومع هذا نحن ندرك أن وراءه شيئا هو الحكمة ، أحكم ما تكون ، ونحس أن وراءه شيئا هو الجمال ، أجمل ما يكون ، وهي حكمة ، وهو جمال ، لا تستطيع أن تدركهما عقولنا القاصرة ، إلا في صور لهما بدائية أولية ، وهذا الإدراك للحكمة ، وهذا الإحساس بالجمال ، في روعة ، هو جوهر التعبد عند الخلائق)). ويقول أينشتين ، وهو أعلم علماء الأرض في الكون وظواهره ، وأحقهم بالكفر ، إن كان علم يدعو إلى كفر ، وأولاهم باتباع ما اعتاد بعض علماء الغرب ومقلدوهم من أهل الشرق ، من إغفالهم ذكر الله ، يقول أينشتين: (( إن الشعور الديني الذي يستشعره الباحث في الكون ، هو أقوى حافز على البحث العلمي ، وأنبل حافز)) وهو يقول: (( إن ديني هو إعجابي ، في تواضع ، بتلك الروح السامية التي لا حد لها ، تلك التي تتراءى في التفاصيل الصغيرة القليلة التي تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة ، وهو إيماني العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة ، مهيمنة ، تتراءى حيثما نظرنا في هذا الكون المعجز للأفهام ، إن هذا الإيمان يؤلف عندي معنى الله )) !!) انتهى حديث الدكتور العالم أحمد زكي.
الفيزيقيا وسيلة إلى الميتافيزيقيا
فأنتم ترون ، من هذا الحديث ، كيف رد العلم التجريبي الظواهر المختلفة إلى أصل واحد ، وكيف حمل هذا العلم أكبر علمائنا المعاصرين - أينشتين - ليقول هذه الكلمة الخالدة ، التي أوردناها في آخر ما اقتبسناه من كتاب الدكتور أحمد زكي ، فكأن العلم التجريبي لا يريد أن يكتفي بأن يظهر لنا وحدة العالم المحسوس ، وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك ، فيرينا كيف أن العالم المحسوس ، إذا أحسن استقصاؤه ، يسوقنا إلى عتبة عالم وراءه ، غير محسوس ، ويتركنا هناك وقوفا ، في خشوع ، وإجلال ، نلتمس وسائل ، غير وسائل العلم التجريبي المادي ، بها نهتدي في مجاهيل الوادي المقدس ، الذي يقع وراء عالم المادة. أقرأوا ، مرة ثانية ، الكلمة الخالدة التي حمل العلم التجريبي المادي الحديث أكبر علمائنا المعاصرين على قولها!! وأقرأوا ، بشكل خاص ، قوله فيها (( وهو إيماني العاطفي ، العميق ، بوجود قدرة عاقلة ، مهيمنة ، تتراءى حيثما نظرنا ، في هذا الكون المعجز للأفهام))!!
إن العالم المادي إنما هو بمثابة الظلال للعالم الروحي ، أو قل بتعبير أدق ، أن المادة روح ، في حالة من الاهتزاز تتأثر بها حواسنا ، وأن الروح مادة ، في حالة من الاهتزاز لا تتأثر بها حواسنا ، فالاختلاف ، على ذلك ، بين عالم المادة ، وعالم الروح هو اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع ، وهذا يفتح الباب على الوحدة.. وحدة جميع العوالم.
وحين ينتهي بنا العلم التجريبي المادي إلى رد جميع ظواهر الكون المادي إلى وحدة هي (( الطاقة)) ، يبرز لنا من جديد ، وبصورة خلابة ، العلم التجريبي الروحي ، ليتولى قيادنا في شعاب الوادي المقدس ، الذي يقع وراء المادة ، ونستطيع ، بمواصلة البحث والاستقصاء ، في العلم التجريبي الروحي ، أن نرى هل يمكن أن ترد ظواهر الأخلاق البشرية إلى أصل واحد ، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد ، ويتم بذلك الاتساق ، والتلاؤم ، بين سلوك البشر ، وبين البيئة المادية التي يعيشون فيها ، فينتهي بذلك القلق الحاضر ، ويعم الأرض السلام؟؟
الدين والعلم توأمان
والعلم التجريبي الروحي ليس جديدا ، وإنما هو قديم قدم العلم المادي ، وبحق ، إنهما توأمان ، ولدا في وقت واحد ، ودرجا معا ، وظلا يتعاونان في مدارج النمو ، فإن الإنسان الأول عندما وقف على رجليه ، لأول مرة ، أمام قوى الكون المادي الهائلة امتلأ قلبه بالخوف ، والتقديس ، فأما القوى التي أخافته هونا ما ، واستطاع مناجزتها فقد هدته إلى العلم التجريبي المادي ، وأما القوى التي استرهبته ، واستغرقته خشيتها ، فقد تزلف إليها ، وتملقها ، وهدته بذلك إلى العلم التجريبي الروحي. ونحن نسمي هذين التوأمين اليوم ، العلم ، والدين ، وقد قفز العلم قفزة واسعة جدا في العصر الحديث ، وتخلف الدين ، وبذلك حدث الاختلال في التوازن ، وظهر الاضطراب ، والقلق الذي أشرنا إليه ، في صدر هذه الكلمة ، وليس إلى إعادة التوازن من سبيل ، إلا إذا قفز الدين هذه القفزة الجريئة نفسها ، فرد قواعد الأخلاق البشرية إلى أصلها الأصيل ، على نفس النحو ، وبنفس القدر ، الذي به ردت مظاهر الكون المادي إلى أصلها الأصيل ..
الفهم الذري للدين يجعله يناسب عصر الذرة
.. نعم فالعلم التجريبي الروحي - الدين - ليس جديدا ولكنه سيعود جديدا ، لأن عصر الذرة يتطلب فهما ذريا للدين - أعني فهماً دقيقاً ، يصل إلى نواة الدين ، ويفجر تلك النواة تفجيراً يسمع له دوي أعتى من دوي تفجير النواة المادية ، ولقد ساير الدين طفولة البشرية في سحيق الآماد ، وأحسن مسايرتها ، وكان بها رفيقا ، شفيقا ، يمد لها في الأوهام ، والأباطيل ، التي كانت تكتنف تفكيرها ، ريثما ينقلها ، على مكث ، وفي أناة ، من وهم غليظ ، إلى وهم أدق ، ومن باطل غليظ إلى باطل أدق ، وهكذا ، دواليك ، حتى قطعت الإنسانية عهد الطفولة ، ووقفت اليوم ، في طور المراهقة ، تستشرف إلى عهد الرجولة ، والاكتمال. وأصبح على الدين دور جديد ، هو أن يقفز بالإنسانية عبر هذا الطور القلق الحائر المضطرب - طور المراهقة - ليدخل بها عهد الرجولة ، والاكتمال. ولما كان الفرق بين الطفل والرجل كبيرا شاسعا ، فالرجل يتحمل مسئولية عمله ، بينما الطفل يطلب الحماية من تلك المسئولية ، فقد أصبح على الدين ، منذ اليوم ، ألا ينبني على الغموض ، وألا يفرض الإذعان ، على نحو ما كان يفعل في عهود طفولة العقل البشري.. وإنما يجب عليه أن يقدم منهاجا متكاملا للحياة ، يخاطب العقل ، ويحترمه ، ويحاول إقناعه بجدوى ممارسة ذلك المنهاج في الحياة اليومية ، في كل مضطربها .