دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
يستهل الراوى حكايته بقوله:
عدلت من وضعى فوق جوال الذرة الذى اجلس عليه ورفعت ( السايدكاب ) فمسحت به بعض ذرات العرق التى كانت تتلكأ في السير على وجهى وتأملت الوضع مرة أخرى .
الطائرة ضخمة من طراز ( بوينغ ) الامريكي من نوع 737 أو 747 لاادرى على وجه الدقة فتلك كانت فقط المرة الثانية التى امتطى فيها ذلك الكائن المتهور . المرة الاولى وانا طالب بالسنة الرابعة الجامعية الى ( اسطنبول ) التركية في اطار برنامج تبادل طلابي امضيت خلالها شهرا بطوله وكانت الرحلة بطائرة عملاقة ايضا لاأذكر نوعها ولكنى أذكر جيدا هيئتها ... رحبة كقاعة ... بديعة كنزل ودافئة كبيت الزوجية الحديث. تستحق عن جدارة ان تكون تجربتي الاولى في عالم الطيران وانطباعي الجيد والجدير بالبقاء الى الابد لولا اننــــى الان في هذه الطائرة المشحونة بالخطر.
كانت المقاعد قد انتزعت وكذا السقـــف الجميل المبطن والمزين بالاضواء الخافتة وفتحات التكييف المركزى مع شاشات الترفيه والتوجيه الصغيرة التى تنبعث منه تلقائيا. الجدران ليست مبطنة كذلك بذلك النسيج المموج الذى ينغرس فيه الاصبع ولا يترك مساحة الا للنوافذ الزجاجية الصغيرة التى تفتح او تغلق حسب الطلب ودرجة الخوف . كان الجدار معدنا عاريا كمتشرد بثقوب تنفذ منها اشعة الشمس متفرقة – اذ كان الوقت نهارا – وكانت الطائرة تقبع في ورشة التصنيع متجاوزة المراحل الاولى وقد افرغت تماما من كل محتوياتها حتى انهم كادوا ينزعون كابنية القيادة . تحولت الطائرة المتهالكة الى وسيلة نقل عسكري تشبه تماما السيارات العسكرية حاملة الجنود .
طبقا لعرف عسكرى غير قابل للجدل كان هنالك عقيد رشيق خفيف الحركة دعى اولا للصعود تبعه رائد عملاق كمصارع ثم نقيبين اثنين بديا لي غير راغبين في الذهاب ثم اربعة ملازمين بحقائبهم كتلاميذ مدرسة داخلية . واذ لم يتبق سواى فقد انحشرت في وسطهم بثقة جنرال متقاعد. أرتدى زيا عسكريا بلا رتب ولاشارات فقد كنت مجندا في الخدمة الوطنية العسكرية الالزامية وقد تعرفت الى احد هؤلاء الملازمين اثناء جلوسنا في مكتب الترحيل بالمطار المخصص للطائرات الذاهبة للجنوب فجعل ينــاديـنـى : يا دكتور .. وكان ذلك كافيا للفت نظر الاخرين وتنبيههم الى قيمتى التى لاتعود الى درجاتي العلمية أو الى شهاداتي الرفيعة – اذ كنت خارجا للتو من بيضة الطب – ولكن الاهمية تأتي من مهنتي التى يظنها انسان عالمنا المقيد بالخوف كالبعير أحد ملاذاته الامنة ضد الزمن والفناء ولا يدرك أن الحوجة في الطريق الى مناطق العمليات العسكرية حيث اكتسب هنالك اهمية معتبرة حتى بالنسبة للقائد العسكرى نفسه .
منذ مايقارب العامين تخرجت من كلية الطب بجامعة الخرطوم ومدفوعا بطاقة الشباب الجبارة كان على ان ادرك المجد حثيثا فهاهو ذا اراه رأى العين حتى اني اكاد ألمسه وهو عداد المستحيل .الرؤيـا التى تقـل عن الاثنتين ثم عام ( الشدة ) فالخدمة الالزامية وبعدها – أولـــم لا – قبلها سأنخـــرط في درب التخصص المهنى لاحقق ذاتي التى أحلم بها سنين عددا.
كان برنامج الامتياز يتضمن الانخراط لمدة اربعة أشهر في كل من التخصصات الطبية الاساسية وهي الباطنة والجراحة وطب الاطفال وأمراض النساء ثم ان تختار اثنين من التخصصات الصغرى بمعــدل شهرين لكل .يمكن ان تنجز كل ذلك في مستشفى واحد أو أكثر .كل شئ يسير كما هو مرسوم له وكأني أمضى الى فخ محكم . أمضيــت سنتى الامتياز كما ينبغى لطموح لايشق له غبار وتبقت لى الالزامية وبعدها – أولــم لا – قبلها سأنخرط في درب التخصص المهنى لاحقق ذاتـى التى احلم بها سنين عددا .
كان برنامج الامتياز يتضمن الانخراط لمدة اربعة أشهر في كل من التخصصات الاساسية وهى الباطنة والجراحة وطب الاطفال وأمراض النساء ثم ان تختار اثنتين من التخصصات الصغرى بمعدل شهرين لكل .يمكن ان تنجز كل ذلك في مستشفى واحد أو أكثر .كل شي يسير كما هو مرسوم له وكأني أمضى الى فخ محكم . أمضيت سنتــي الامتيــاز كما ينبغى لطموح لا يشق لـه غبار وتبقت لى الالـزامية وعــام ( الشدة ) ... الاولــى امضيت منها شهرين في التدريب بمعسكر ( الــــسليت ) حال تخرجى من الجامعة كجائزة فورية لتفوقــى وكمدخــل حيــاتى لانصيـــاعى التام لانظمـــة عسكرية فظة وقابضة .
ماكنت لاختار الذهاب الى الجنوب بارادتى فقـد كان الجنوب محرقة في تلك الايام يتقاتل فيه الطرفان المتصارعان ( الحكومة ومن يناؤئهــا وهو الجيش الشعبي لتحرير السودان ) قتالا مرا منهكا وكــأن بينهما ثأرا ويطحنان الناس بين رحاهــم مخلفين الهجرة وشظف العيش وبطالة الشباب وتفشى الامراض وتدهور الحياة الاجتماعية والاقتصادية – وطن عليل يكابد وجعا مزمنا ويصارع عالما قويا في حـياة فتـية .
داخل الطائرة كان ضيقا ومحشورا كغواصة .اكثر من مائة وخمسون جنديا متقرفصين على ارجلهم وهم بكامل عتادهم الحربــي . بعضهــم يصطحب معه أسرته المكونة من امرأه جافـة وأطفــال بؤســاء . أخــافني قليلا منظر البنادق المصوبة تلقائيا نحو سقف الطائرة لكنى تبسمت سخرية من نفسى مدركا حينها ان الامن نعمة الامنين. كانت جوالات الذرة موضوعة بعناية بطول الطائرة وعلى ارتفاع متر ونصف المتر محتلة الجانب الايمن منها ثم وبعد ممر بطول نصف المتر جلس العساكر ارضا بخنوع اسرى تاركين الجزء الامامي الذى يلي كابيــنة القيادة مباشرة للضباط الذين اخترت ان اكون بينهم جـالسـا فوق احد الجوالات واضعا قدم على اخر ... تولد لدى الاحساس اللامجدى الذى تجلبه الاماكن الغريبة والاوضاع المنهكة ... متكئـا على مرفقى جاعلا ذقنى بين كفى راودتني أفكــار طلابية صغيرة بدت لي الطائرة كتابوت ضخم وان بداخلها موتى يمضون الى آخرتهم ثم لماذا هذه الطائرة الشريرة لاتخضع لقوانين الفيزياء الطبيعية ؟ لماذا هي ككــل شي في وطنى العزيز وفي قارتي الافريقية الطيبة تسير على بركة الله ؟ كان أكثر ما أخــافني هو رؤية الشمس تتسلل من خلال ثقوب جدران بدت كثوب مهترئ .لمــاذا لايتسلل الهواء عبر هذه الثقوب ليغير طبيعة الضغط الجوى بالداخل أثناء التحليق ؟أحــاول ان استعيــد بعض المعلومات الفيزيائية من المرحلة الثانوية علها تعينني على فهم هذا الوضع المتليس – الم أقل ان افكارا طلابية تراودني ؟ - ثم خطر ببــالى الطيــاران هل يدركان مـاأفكـــر به ؟ هل جـالا في هـذه الطائرة فشاهدا مااشاهـده؟ لن يخونني ذكــائي بالطبع فما أنــا الا وجل من أمــر يسير يحدث تلقائيا في كل يوم جديد . وكــأني استدعيت بخيالي الطيارين اذ رأيتهما يصعدان على عجل مهتاجين كثورين يرتديان ملابس عادية – بنــاطلين زرقاء وقمصــان بيضاء ناصعة ليست كيومى بشارات قباطنة الطيران على كتفيهما – أنزلا جميع العساكر ارضا وهما يستشيطــان غضبا وجنونا لايتسقان ومظهرهما .كانا كتوأم كلاهما طويل القامة داكن البشرة وبنظارات طبية بيضاء. يستخدمان نفس اشارات اليدين . أنــزلا الجنود الى الارض فتم عدهم مرة أخرى ثم صفــوا طــابورا وادخلــوا الطائرة من جديد متخذين ذات الوضع القـديم . أيقنت على الفور انهمـــا غير واثقين من حمولة الطـائرة – سهم جديد من الخـوف ينغرس – همست بذلك الى المــلازم أول خــالد الذى كان بجوارى مباشرة فـــرد بهــدوء وعينـــاه ساهمتــان كمفجــوع : - نعـــــم ثم أضـــاف بلهجــة حانيـــة وابتســامة من طــرف فمـــه : - يا دكتــور لا أحـد يثق بشي في الجيش بـدا لي كلامـه مبهمــا ولايفـسر شيـئا فتســألت : - ولا حتى أجهــزة الطــائرة ؟ رد بخبث وكــأنه يعنينـــــى : - ان كنت لا تثق بصديقك فكيف تثق بالجهــاز ؟
كدت أقول له أن الجهاز ليس صديقك حتى يصدقك أو يكذبك لكنـــــى أحسست بأن ذلك غير مجدى .ثــم فاجـــأني قائـــلا: - اذا جاء صديقك ليلا فيجب أن يعطى سـر الليل ؟ - هل هـذه قـــاعدة انقـــلابية ؟ ســألته بسذاجـــة ... - هذا تـــأمين ... رد بدهــاء قـائد . - ولكن ماعلاقة الطيارين بالجيش ؟ سألته باهتمام تلميذ صغير .ألتفت الى بكل وجهه لاول مرة وأجــابني بحنكة جنرال : - انهما ضابطان اعلى رتبة مـن كـل المـوجودين .
بدا لي هذا التفسير منطقيا لتصرفهما دون ان يضعا اعتبارا للاخرين. مضيت متســـــائلا :
- لكن الطائرة تتبع شركة مدنية ؟
لم يجد الملازم أول خالد اي وسيلة أخرى لافهامــى سـوى اهـانتي مبـاشرة فسأل بشبه ابتسامة ساخرة : - يــــادكتور انت عسكرى ؟ - لا - ولكنك الان تتبع الجيش
كانت المزحة ثقيلة كحذاءه ولكنى ابتسمت حتى استطيع ابتلاعها قائلا : - لست وحدى .البلد كلها. وابتلعت غصه سدت حلقى .
طمــأنني خالد بأن قال ان هذا الوضع يحدث يوميا وانه شخصيــا قد اعتــاد كنت قد تعرفت عليه في صالة الانتظار ملازم اول طويل القامة في غير أفــراط بملامح هادئة ووجه لم يرى متاعب بما يكفى وكان في نفس سنى تقريبا . قال انه يعمل بسلاح النقل والتموين وانه كان في مأمورية صغيرة بالخرطوم .سألته ان كـــان يبعــد عن المستشفى العسكري الذى انا ذاهب اليه فأجــاب مبتسمـــا :
- بحوالي مائتي متر لا اكثر .ثم اضاف بأن القيادة العسكرية الاستوائية في جوبا تضم جميع الوحدات في مكان واحد تقريبا ماعدا سلاح المدرعات وبعض الوحدات الصغيرة الاخرى .
لا سفر يخلو من رفيق تسقط عليه ترهاتك و يبتليك بهمومه . ولم يكن الملازم خالد في البدء الا رفيقا تنازل بطيب خاطر عن الحديث مع رفقائه واصدقائه ليبدد وحشة بدت جلية في وجهي ... انا الآدمى الوحيد الذى بلا رفيق هنا كنا نجلس بحذاء بعضنا البعض لا أحد يتحدث مع الاخر الا همسا ،ليس الا صهيل محركات الطائرة المتواصل كفـرس غير مروض وضجة عمال الشحن في الاسفل . كنا قـد صمتنا قليلا عندما تململ خالد والتفت الى متسائلا بفضول ربة بيت :
- من الرجل الذى كان معك ؟؟ - انه ابــــي ... - لايبدو متقدما في السن ... - نعم فأنــا ابنه البكــر .. - كيف سمح لك بالذهاب الى الجنوب ؟؟ - هذا خياري . - وأمــك ؟؟
- هذه كانت المعضلة ظللت اقنعها شهرا كاملا. قلت لها انها ستة أشهر فقط اختصر بها مشوار عامان . فقد كنت مؤمنا بدافع من الغفــلة بأنـــه اغراء اكبر من ان يقاوم .
- سألتـــه دون أن التفـــت اليــه
- هل تعرف الملازم أسعد عبدالحميد ؟؟
كأني وخزته بآلـــة حــادة .... - دفعتي وصديقي جدا ......
تحشرج صوته تأثرا وسهت عيناه في افق ملتوى لطائرة نصف مجنونة ... فغرست مديتى بعيدا في حزنه متسائلا :
- هل مــــات ؟ - في الغالب اسير .أما انهم قتلوه بعد الاسر او لافذلك مالا اجزم به . - من اين تعرفه ؟ ســأل باهتمام وقلق ...
قلت له انه ابن حينا فبيتهم لا يبعد عن بيتنا سوى القليل ودرسنــا الابتدائية والمتوسطة في نفس المدرسة غير انه كان ورائي بعام دراسي وحين تخرج من الكلية الحربية فرحت أمه بذلك كثيرا فقد كان ابنها الاصغر الاثير . بعد ذلك بعامين ذهب الى الجنوب وظل طوال عام كامل على اتصال بأهــله ثم فجـــأه ذات مساء أرعن هبط عليهم ثلاث ضباط كالريح المظلمة قائلين ان ابنهم مفقود .
منذ قدومهم ارتابت الام بغريزة تعرفها النساء منذ الازل فتسمعت اليهم اولا ثم مالبث ان اقتحمت عليهم الغرفة وهم جلوس مع زوجها وابنيها يشرحون قدرا لايخفى والاخرون يصغون باسى يتطاول حتى السماء وفي محاولة غير مجدية لتطمينها قالوا لها انه مأسور لدى الخــوارج ولكن بالنسبة لهم فقو مفقود وانهم لايستطيعون الجزم بحياته او مماته . وعندما رأى الاب الملتحى بصبر الايام وانتكاسات السنين العجاف دموع الام المكلومة اعترض قائلا :
- ( يا أولادي انا راجل مؤمن بالله أكان مات خلوني أفرش عليه ؟ ) لكن الام التى تجاوزت الستين من عمرها المرواغ صرخت فيه بـــأعلى صوتها متجاوزة كل العرف الاجتماعــي . - ( قــــالوا ليــك مفقود ماميـــت ) ...............................
طلبوا منهم الا يستعجلوا الامر ففي الاحوال المشابهة يبلغون ذوى المفقود الذين عليهم الانتظار لمدة ستة أشهر فان لم تـــأت اي تأكيــــــدات بشى حينها يعلنون موته . ثم أضـــافوا وهم يضغطون بأنـــامل طبيب ماهر في موضع الوجع المقيم :
- سيكــــون مرتبـــه ومخصصــاته كمــا هــى في هذه الفتـــرة .
هبت المــرأة التى كانت تعانى أســى يخالط أحشــاءها واقفة وتقيـــأت كــل ذلك بصــوت خنقه البكـــاء:
- ( المرتـــب أســـــود ) .
ظلت المرأة المسكينة منذ ذلك اليوم تهيم على ووجها تساءل عنه كل من يقابلها سواء كان يعرفه ام لا .لم تفقد عقلها بالكامل ولم تحتفظ به بالكامل .كان يكفى ان يوصف لها أحد القادمين من الجنوب سيان عندها ان كان قد اتى من الاستوائية او اعالى النيل أو مــن بحر الغزال حتى تذهب اليه ليرمى بثقلها الذى لاتلبث ان تحمله من جديد وتمضى به . وعندما علمت اني في الطريق الى الاستوائية صرت شغلها الشاغل وواجبها المقدس . تأتي كل يوم في الصباح الباكر لتذكرني بالسوال عنه واصفة أصدقاءه المقربين ورؤساءه المعروفين حتى يمكنني التدقيق .
لن أقول أن الصدفة هي التى عرفتني الى الدكتور يحيى مختار فهو (طبيب أطفال) معروف في المستشفى العسكري بأمدرمان وتصادف أن كانت مجموعتنا في الفصل تذهب الى هنالك لاخذ بعض الدروس العملية في الصفوف النهائية للدراسة واذ ذاك التقيته فهو المحاضر العملى للمجموعة .
عقيد في اواسط الاربعين من العمر قصير وممتلئ كرشه بارزة وعيناه مستديرتان كبيرتان لاتناسبان راسه الصغير خفيف الشعر يسوى شاربه بعناية مدرس في مدرسة وسطى للبنات ولايدع نظارته الطبية . وجهه منبسط وروحه مرحة وضحكته مجلجلة تستجيب لابسط قفشة ولكنــي كنت ألمح بأحساس مخبر وميض بعيد من الخبث في عينيه . لم اكن آبه بذكائي ودقة ملاحظاتي ... وأكثر من ذلك وسامتي التى لا تخطئها العين .. انا القادر على لي عنق اي فتاه في محيطي مهما يكن جمالها او مكانتها ولكن ذلك ماكان قط اولوية في حياتي انا المسكون حد الجنون بأداء واجباتي الاكاديمية والنظر دائما الى ابعد مما انا فيه . اذا سأل دكتور يحيى سؤالا وأجبته ونحن وقوفا حول مريض ما أو جلوسا في غرفة نقاش يبتسم بعينيه الواسعتين ويقول ضاحكا :
- يا ولد انت امكانياتك هائلة لكنك تدفنها في الكتب ...
ويغمز لمن حوله من الفتيات فيتضاحكن – ربما يرى في شيئا لايملكه – كان أكثر مايحببه ألينا انه يضفى جوا مرحا ولعوبا على الدروس في الوقت الذى كانت دراسة الطب في السودان تتميــز بمنهجيتهــا الملتزمة .. الصارمة وأساتذتها ذوى المظهر الحكومى بنظاراتهم الطبية السميكة وبنطلوناتهم المشدودة الى بطونهم ونظرتهم الاحادية للحيــاة . يستمدون كل ذلك التنعت من ارث بالى وانطباع موغل في القدم يعود الى عشرينيات القرن الماضى حينما أنشــأ (الانجليــز) مدرسة ( كتشنر) الطبية معلقين عليها ثقلا من اللوائح والاطر والالتزامات الانجليزية المعروفة .
تهادت الطائرة وهى تسير ببطء فوق مدرجات المطار واهتز كل من بداخلها ولاذ الجميع بصمت الخوف . بدت اللحظة مهيبة جدا وقبل أن تتخذ وضع الاقلاع توقفت عن الحركة تماما فأدركت انها على وشك الطيران . وقف صبي صغير فزجره أبيه وأجلسه بكفه التى لاتحمل البندقية . دوت المحركات بضجيج منفر وهدير هائل وتحرك العملاق الضخم بخفة عصفور حاملا في جوفه وقودا جيدا لحرب عبثية لاتتوقف منذ عقود وعقود . على غير ماتوقعت تماما كان الاقلاع رائعا والطائرة ثابتة لا تهتز فيهتز معها القلب وبدا الطيار ماهرا وخبيرا ، هدأت نفسي أخيرا رغم أذناي المغلقتان وحلقى المصمت . تذكرت تجربة سابقة فبلعت على الفور ريقى ... انفتحت اذنتاى قليلا ونفذ أبي الى مخيلتي . كانت آخر مرة وقعت عيناي عليه وهو واقف ينظر الى الطائرة وقد وضع كلتا يديه خلف ظهره متأمــلا . اعترض كثيرا على ذهابي الى الجنوب فالامر بالنسبة اليه مخاطرة غير مضمونة العواقب كما انه يحمل قناعة عن الحرب لا تتغير منذ سنين . يرى أن السياسيون – شماليون وجنوبيون – يديرون الحرب كما يدير التجار صفقاتهم في السوق وانها ستتوقف آليــا حالما يصير ذلك مريحا بالنسبة إليهم . تجادلنا كثيرا في الامر كعادتنا .
قلت له : ان لي مكسبا في الذهاب فلم لا أمد يدى لآخذ نصيبـــي ممـــا يأكلــون .
قال : ان طعامهم مسموم وان يدى ستحترق قبل أن تصل اليه . ظللت عند رأيى بعناد شاب في منتصف العشرين وظل عند رأيه بحكمة كهل بلغ الخمسين . الى ان حسم الجدال يومــا قائلا :
- أذهــب ... هذا خيــارك ......
وددت حينها لو لم يقلها فقد كنت لاازال مترددا جدا في الامر لــولا ان الدكتور يحيى مختار لم يكن ينفك يلح على في الامر ويغرينى :
... ستذهب وتعود معي بعد ستة أشهر وتحسب لك خدمة ألزاميـــة وعام (شدة) في آن واحد وتختصر بستة اشهر عامان كاملان . ثم يضيف ممعنــا في الاغراء:
.... انا الذى سأستخرج لك الاوراق مع شهادات الخبرة في مناطق العمليات والشكر لادائك الممتاز هناك ويضيف :
.... انت بحاجة للوقت لتتخصص ام انـــك تريد ان تظل طبيبا عاما ؟ ..... نعم أجـــاد العزف على الوتر المشدود . كنت في العمر الذى تود فيه ان تقفز على الحواجز قفــزا وتختصر المسافات اختصارا ويخيل الى احيانا ان بامكاني ان اصبح ( بروفسيرا ) في بضعة أشهر لا أكثر .... شاب بطموح قاطرة .... كان التخصص امنيتي التى لن يقف حاجز في طريقي اليها . لقد أكملت عاما الامتياز ولك يتبق لي غير عام الخدمة الالزامية مصطلح متعارف عليه في الكثير من بلدان العالم .. مقنن ومبرمج ومدروس بحيث لايعترض مسيرك ولايكبل خطوك ... يستسمح عجزك ويراعى ظرفك ... أمــا عندنا فكلمة حق لباطل .. مشروع هلامى لامتصاص زبدتك ولعق شبابك والزج بك في مجاهل لاتعلم اولها من اخرها ... وتقنينـــا لـوجودك في حرب لا ناقة لك فيها ولا جمل وشارة لتجييش المجتمع بكل اطيافه ورمزا لسيطرة العسكر المطلقة في دول لايحق ان يحكمها غير الجيش باسم الله .
وأما ( الشدة ) فهو عام يقضيه الطبيب في مناطق ريفية مهشمة أو متخلفة وكأنه المسؤول عن ترديها ؟؟ .....
اخترقت الطائرة أجواء تغطيها السحب في علو لم يبلغ منتهاه بعد واهتزت اهتزازات متواصلة كمريض الحمى وبدت الرحلة وكأنها على ظهر حمار أعرج .. لاماء ولاطعام مع أجواء ليست رطبة ولاحميمة ولاحسناوات سامقات باسمات يكرسن كرم الضيافة بوجوههن وخدماتهن . رحلة خالية من الترفية والمتعة الا مشهد مكرر من عرض رتيب نشاهده كل يوم – البؤس والحرمان – نساء حزينـــات بائســات يحتضـــن اطفالا ذوى خرق بالية غير مسموح لهم باللعب كاطفال الدنيا جميعا ورجال بوجوه كالحة وبنادق مصوبة الى السماء ونجوم تصنع الحدث ثم تقف بلا حراك حياله واخيرا مشاهد مثلى يعتريه العجز والتوهان . لااحد يحادث احد ..... ليس الا الصمت وتنهدات متقطعة وأحاديث ثنائية هـنا وهـناك . لا مناص ... هدفــى مرسوم ... ووجهتــى محددة .. وطريقي لارجعة فيــه ... ومصيرى لايعلمـه الا الله .
قلب الملازم أول خالد محمود الصادق البوم عائلته وعائلتي تحدثنا في شؤوننا العامة ولامسنا خصوصياتنا لمسـا خفيفا . فتحنا نوافذنا باتجاه بعضنا البعض ..... شابان نضران بأرواح متوثبة وقلوب متطلعة ونظرات حائرة باتت لاتثق في غدها يميضان الى المجهول الارعــــن ..... الى الحرب ......... هو قذيفة في فم المدفع وانا قذيفة بجوفه .
تحدث بأسهاب عن عائلته .. ابيه واخوته الاربعة المغتربــون وامــه المتوفاة منذ عشرة اعوام واخته الوحيدة التى هى امه اكثر منها اخته وخطيبته التى قرر الايتزوج بها الا بعد اكمال سنوات عمله في مناطق العمليات وذلك بعد عام ونيف وهو على كل كثير الذهاب الى الشمال – اى الخرطوم – كما تقتضى طبيعة عمله بسلاح النقل والتموين .
كان كــأى عسكري بسيطا وتلقائيا وكنت كــأى اكاديمي متحفظا ومتعاليا ولايسير لى غور . أنا في الاصل لااميل الى الحديث عن الذات فتلك (نرجسية ) أراها غير مجدية لاتصلح لزماننا أو لظرفنا .. كنت عمليا وواقعيا اخذ الامور باتجاهاتها المرسومة واحتمالاتها الممكنة ولاابالغ في التوقع غرس ابـي في داخلي الواقعية وأورثنى الصبر.. يقول لي يجب ان تعمل ولاتنتظر المفاجأة السعيدة فهى لن تهبط عليك من السماء .. أراه يبالغ احيانا في اعتقــاده بان الحظ السعيد طائر يحلق في السماء لايهبط الا بمعجزة اما الحظ العاثر فقطار نقف في محطاته فهو لا محالة سيمر بك .
حدثت خالد عن ابي ..... كيف انى احبه والتصق به لانه لم يكن يرى في استثمـــار للمستقبل كبعض الآباء منذ صغرى اسمعه يقول لى ( انـــا وهبتك الحياة ومهمتى ان اساعدك على المضى قدما فيها ولكن الطريق طريقك وانت من يحدد خياراته ) مالم اقله له ان ابي صقلته الحياة جيدا ياخذ الامور كما هى بتقائية وبلا ادنى تعقيدات ويجرد الاحداث حـــال وقوعها محتفظا بلبها متجاهلا غثائها .. مبتسما لامر تراه عظيما ... ومكفهرا لشئ تراه لا يستحق .
العام فاجانى جدا قبل شهرين من الان يوم ان احيل ( على الصالح العام ) ... حسنا لنقل (الى الصالح) .... لايهم ... المهم ان تدرك جيدا أبعاد هذه الكلمات الثلاث فوقعها جد خطير وتأثيرها يظل أمــدا بعيدا وظلها ينسدل فيغطي مساحات شاسعة . خنجر مسموم ينغرس في كبد الاسرة فيملأها دما وقيحا ودمامل ويجعل ربها لايبارح مكانه مترنحا كسكير آخر الليل . ربما كانت الكلمة موجودة في ازمنة سابقة مارس فيها المتنفذون العبث بأقدار الناس كما يعبثون بسراويلهم لكن هذا المصطلح طفح الى سطح الحياة الاجتماعية في السودان كبقعة الزيت في المحيط تبيد الحياة تحتها ويندثر رونق المياه فوقها مطلع تسعينات القرن الماضى لضرورات اقصائية سياسية وتراكم أحقـــاد النخب الحاكمة التى تنفث سمومها في البسطاء ومتوسطى الحال .
أبي خريج الاقتصاد بجامعة الخرطوم اواخر الستينات والحاصل على شهادات عليا في ادارة الاعمال والمحاسبة . بعضها من داخل السودان وبعضها من خارجه . الخبير جدا في عمله والمميز في سلوكه والتزامه بشهادة كل زملائه واصدقائه . كان قد تسلم للتو منصبه الجديد كنائب للمدير العام لاحد أعرق واشهر البنوك التجارية المملوكة للدولة في السودان وحينما ارتأت ادارة البنك باجماعها ان تكافئه على خدماته الممتدة لاكثر من ثمانية عشر عاما وقلدوه منصبه الجديد جاء قرار الاحالة للصالح العام ؟؟؟ ..... صبوا الماء على الحليب المغلى ... يومها دعانا على العشاء خارج البيت وبدى هادئــا وهو يفاجئنـــا بالخبر غير السعيد .
أعرف ويعرف جميع افراد العائلة مايعنيه هذا الامر وبخاصة أنا وامي لاننا كنا نعرف مدى ارتباطه بعمله وحبه له . غير ان اخوتي ايضا يكونوا صغارا (مهند) كان يصغرني بثلاث اعوام وهو على وكش التخرج من كلية الهندسة في قسم الكهرباء . (بركات) كان على وشك الجلوس لامتحان الدخول الى الجامعة . (سهيلة) كانت في أول عام بالثانوية .. ناضجة واعية وتعتمد عليها امي كثيرا . أما (الآء) فلا تزال تطبخ وجبة نيئة اسمها ( مرحلة الاساس ) .
وجمنا جميعا وكأنه قد صب على رؤوسنا ماء . كانت المفاجأة أكبر من أفكارنا المثالية المحدودة أو عاطفة أمي الانوثية النائمة . كنا نعتقد أن الرجل يجلس ويترقى في وظيفة مدى الحياة ولم ندرك حينها إن الحياة تمتد مدى الوظيفة في بلدننا التى خلقت فيها الوظيفة لتكون قيدا غير ذهبي في أرجل الموظفين . فهي ليست الا ماعونــا لإنــزال ادران الرؤساء على المرؤوسين واسقاط اخطائهم وترهاتهم عليهم . انفكت البشرية من قيد العبودية وتخلصت من اذلال الانسان للانسان فأبتدع المرضى النفسانيون والعصابيون الجدد هذا الداء العضال . ماانفك الخيرون ... التواقون الى الحرية وسعة الافق من المقاومة ... نعم كافحوا ليلا ونهارا لإيجاد بدائل اكثر مرونة للالتفاف حول الداء فقننــــوا له التشريعات وصاغوا له القوانين ثم انشئوا له التنظيمات واداروا النقابات والمجموعات حماية للمستخدمين البؤساء وحفظنا لحقوقهم وكبحا لغرائز الرؤساء والملاك الجانحة الجائرة .. حتى صار الموظف آمنـــا في سرية ... حرا في حله وترحاله .. يعلم أوان توظيفه ويوم تقاعده .. يقنع بالعقوبة ان أخطــــأ . ويهنأ بالمكافأة إن أحسن وأجاد .. تمخر به سفينة العمر عباب بحر الحياة حتى توصله بر النسيان .. يعيش يومه ويقيم أود عائلته .. يرعى أولاده ويتخير لهم اللقمة الحلال والعمل الطيب .. فانهالت على رأســه جائحة جديدة بفعل عمالقة جدد يصارعون زخم السياسة بأفكار ديناصورية بالية .. يتقاسمون كعكة السلطة السامة ويتخذون البسطاء وقودا لحربهم حتى يخرجونهم دخانا من مؤخراتهم ....
قال ابي انه كان يتوقع هذا الامر منذ سنوات لان القوائم ماتنفك تتوالى لتقود الضحايا لمقصلة التهميش والبطالة ولم يكن من أحد ... خــلاف الصفـــوة ..... بمنــــأى عن ذلك .
تأتي القائمة وأمام كل اسم يأتي سبب الاحالة ... كثرة (الارانيك) الطيبة .... عدم الالتزام بمواعيد العمل ... عدم المقدرة على التطوير ..... قلة المؤهلات العلمية .... التقدم في السن ( مع الاعتبار ان هناك سنا قانونية للتقاعد) ...... يقول :
الادارة هي المسؤولة عرفيا وقانونيا عن الموظفين . وكــل رئيس قسم يتولى موظفيه . يقيم أدائهم ويوقع (ارانيكـــهم) الطبية ويعرف دخولهم وخروجهم . ولكن كان هناك على الدوام عيونا أوسع من عيوننا وآذانا اكبر .. تنصت باهتمام وتـدون بحرص .... دبابيس مغروسة بعناية نحس بها ولانراها .... ثم أضاف :
... رغم نجاحاتي في السنوات الماضية واجماع مجلس الادارة على اختياري نائبا للمدير. كنت أحس خطوات ما تتعقبني وعيونا نارية تترصدني . وحينما صرت على قناعة تامة بأن اسمى سيـــأتي على قائمة ما من القوائم التى كانت تتوالى كالأسهم المسمومة .. وددت حينها فقط ان اعرف ماسيكون سبب احالتي .. فانا لا أستأذن الا نادرا جدا ولا أخذ (الارانيك) المرضية . مؤهلاتي مرضية وادائي محل إشادة الجميع وكل شيء على مايرام. الى أن جاءت قائمة اليوم فكان اسمي عليها أخيرا .......
...... صلاح الدين بركات العاقب – أسباب خاصة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
-2-
علمت قبل الرحلة أنها ستستغرق قرابة الساعتين وعندما نظرت الى ساعتي كانت تشير الى الواحدة اي انه قد تبيقى اقل من نصف ساعة لوصولنا . بدا الجو ساكنا .. لااحد يتحرك أو يتحدث .. الجميع واجمون وكأنهم يحملون ميتا . أحسست خدرا في أطرافي فقمت واقفا وعدلت جلستي قبل أن أشرع في دلك ساقي ثم حانت مني التفاتة الى خالد فوجدته ساهما .. متكئا على مرفقيه وعيناه مغلقتان فلم أشــأ إزعاجه لكنى سمعته يقول :
.... (تعبت يا حاج)؟ .....
..... ليس بعد
فقال متهكما:
... إن كنت تريد المضيفة الجوية فقط اضغط على زر الجرس ...... ...نعم اريد عصيرا مثلجـــا .......
جاريته في تهكمــه
ثم سبح كلانا في عوالم متباينة ... هو بالتأكيد قد مضى الى أهله أو ربما خطيبته الرائعة كما يقول عنها والتى وعد أن يريني صورتها في جوبا ولم يكن يخامرني شك في انها ستكون جميلة .... لالشيء الا لانه لم تصادفني زوجة ضابط في الجيش ليست جميلة حتى الان .....
أما أنا فقد كانت الافكار تتقاذفنى يمنة ويسرة لم أشــأ أن استبق الزمن لأتخيل جوبا. معلوماتي عنها مبتسرة واحساسى بها محايد لا الى اليمين ولا الى اليسار . الرؤيا وحدها كفــيلة بسد الفراغ . ليس في ذاكرتي الا مغنى يرفع عقيرته عاليا .........
يا مسافر جوبـــا
يـــلاك لجوبـــا
حاولت أن أجد شيئا أتسلى به فنظرت حولي ..... لاشي ...... سكون ..... خمول .... وانتظار عيون مفتوحة باتجاه واحد وأفكار تسبح في سديم العدم ...... لاشي ..... لاشي .....
لمست حقيبتي وتحسست جيوبي ...... طرقعت في أحدها ورقة فــأخرجتهــــــا وجدتهـــا مطوية بعناية (كعرضحال) . نصوصها مبتسرة ولغتها مبهمــة أشبــة بنص كوميــدي :
بسم الله الرحمن الرحيم
محظور
أمر تحرك
بأمر سيادة اللواء الركن طبيب عبدالعظيم الإمام أحمد عباس حامل وسام الثورة ووسام الجمهورية ووسام الخدمة الطويلة ووسام الخدمة الطويلة الممتازة ووسام الصمود من الطبقة الثانية ونوط الجدارة من الدرجة الاولـــى ونوط الواجب من الطبقة الاولى وقائد السلاح الطبي .
الاشخاص : نمرة / 2092370 مجند / ايهاب صلاح الدين بركات العاقب
مــــــــــن : ادارة السلاح الطبي
الــــــــــى : قيادة المنطقة العسكرية الاستوائية
الغـــــــرض : الحـــاق
الســـــــلاح : لا يكــن
الذخيـــرة : لا يكــن
اللبـــــــس : حسب التعليمـات
وسيلة السفر : الطائـــرات
التصديـــق : قائد السلاح الطبي
أوراق رسمية : صــورة مــن أمــر التحــرك
التعليمــــات :-
بهذا تقرر عليكم مغادرة قيادة السلاح الطبي والتوجه الى قيادة المنطقة العسكرية الاستوائية وعند وصولكم عليكم مقابلة السيد قـــائد المنطقة العسكرية الاستوائية لاخذ التعليمات الاخيرة منه .
تقمصت العسكرية الطبيب فصار حاذقا في هذه اللغة التى تربك الخاطر وتقلص الامعاء .
توقفت الطائرة تماما وهدأ ضجيج المحركات الا من صفير حاد ينبعث من مكان ما بها . تحسست مرة أخرى حقيبتي التى بجواري ، حقيبة يدوية متوسطة حرصت على وضع الضروري فيها بعقلانية ....... بناطلين وقمصان وجلاليب بيضاء لن استخدمها مطلقا لان لا زي مسموح به هنا غير الزي العسكري (الميرى) . حرصت امى كذلك على وضع بعض المأكولات الجافة بداخلها غير اني رفضت اخذها مكتفيا منها بالتمر وبعض الكعك .وعانى أخوتي جميعا دفقا عاطفيا جياشا حيال أخيهم الاكبر الذاهب الى المجهول بقدميه فـــــأغرقوني بهداياهم التذكارية التى ماكان لي أن أرفض اخذها معى متلطفا ..... روايتا (العجوز والبحر) (لهمنغواى) و (غابريلا... قرفة وقرنفلة) ل(جورج أمادو) من مهند .وقدم بركات مسجل الاذن الصغير العزيز لديه وكل مجموعة الفنان (مصطفى سيد أحمد ) التى يعتز بها . فيما أخذن سهيلة يدي اليسرى والبستني ساعة يدوية انيقة قائلة ان هذه وسيلة جيدة اتذكرها بها عدة مرات في اليوم .وماكان لآلآء ان تغيب عن هذا الكرنفال المفرح المبكى وهي الاثيرة لــدى .... بل لدينا جميعا اذ احضرت مظروفا غير مغلق فتحته على الفور وامام الجميع لتطل منه مفاجأة حقيقية كانت صورة جميلة ونادرة تضم جميع افراد الاسرة اخذت في منتزة رائع على شاطئ النيل الازرق قرب مقرن النيلين .ظلت محتفظة بها لسنين عديدة وفشلت كل المحاولات لاستخلاصها منها تأملتها مليا ثم أدرتها فقرأت اهداءا بخط يد جمبل .. منمق .... وحبر دافئ ....
( اخي الحبيب ايهاب .......... انت في عيوننا جميعا ...... ارجوك عد الينا سريعا ) الاء .. ... اسرعت داخلا بحجة وضع الاغراض في الحقيبة بيد انـــى اردت اخفاء وجع ممض يتشبث بانفاسي ويتلبس روحى واحسه لآول مرة في حياتي وكانت تلك تحديدا هي لحظة الحقيقة التى علمت بعدها ان لا خيار لي في العودة عما انتويه .. واخيرا أرتأيــــت أن أضـــع بعض المراجع التى لاغنى لي عنها ... (ديفيدسون) موسوعة الطب الباطني التى تحلى واضعوها بصبر حمار اخضر وحرص حلاقــى نجوم المجتمع . ثم كتاب الجراحة الشهير (بيللى اند لاف ....) الذى لم يدع بضعة في الجسم الا مزقها ثم رتقها .
وقف العساكر جميعا مثيرين لغطا وهرجا عظيمين فالجلوس لساعتين متواصلتين كان مؤلما ومملا ولكن لم يكد وقوفهم يكتمل حتى هب الرائد المصارع من خلفى واقفا وصاح شادا حباله الصوتية حتى اقصــــــاها :
- كما كنت ... كما كنت ....
عادوا جميعا الى سابق جلستهم التى كانوا عليها كجماهير كرة القدم عندما تضيع فرصة سانحة .التفت الرائد الى العقيد الجالس في افضل مكان ممكن بالطائرة واضعا ساقا على اخرى ممسكا بيده حقيبة اوراق متوسطة قائلا:
........اتفضل سعادتك؟؟...........
وقف العقيد دفعة واحدة وانفلت خارجا من باب الطائرة المفتوح للتو..بدا لي الرائد ذو الشارب الكث والانف العريض والعينان المحمرتان والشعر القصير المغبر وكأنه قد قطع رحلته عبر الصحراء على ظهر عربة نصف نقل .
هبطت بين الملازمين الاربعة كما صعدت بينهم يملأنى شعور تتسارع له دقات قلبي ساكبة خليطا من فضول ووجل بين جوانحى ... وعلـــى الارض لم يكن هناك من أحد يتوقع حضـــورى أو يعرفنــى لاأحــد بانتظـــارى ... رحلة بلا أحـــد في الانتـــظار هي قفزة في باطن المجهول.
كان الجو قائما جدا وملبدا بسحب ليست بعيدة وكأن أمطارا على وشك النزول . ساحة المطار ليست فسيحة جدا لكنها كافية لاستضافة الطائرة العملاقة . كانت هناك ايضا طائرة صغيرة يبدو انها لأحدى المنظمات الدولية التى تنشط كثيرا في جنوب السودان تتسع للاقلاع . وفي أقصــى الساحة رأيت طائرتين صغيرتين معطوبتين ترقدان بجوار بعضهما كمريضتين ، خمنت للحظة أنهما من نوع (الميج) ،ذاك الذى يثير هلعا عندما يمر فوق رأسك فخالجنى احساس بالشماتة .. في مدخل صالة المطار الرئيسية والوحيدة ثمة لوحة سوداء كبيرة خط عليها بأحرف بيضاء واضحة جدا كلمتان لا اكثر : (مطار جوبا) وكانت هى اللوحة الوحيدة التى صادفتنى في المطار كله .
على كرسى (بلاستيكي) موضوع بمحاذاة باب الدخول من الخارج جلس نقيب شاب واضعا رجلا على رجل متأملا الحشود القادمة . بشرته قمحية وشاربه سوى بعناية ووجهه وسيم . لم أحبب الطريقة التى كان يجلس بها ولا النظرة المتعالية التى رمقني بها ولكنى لم أعره اهتماما . دلفت الى الصالة الوحيدة التى يتكون منها مبنى المطــار . صالة واسعة مقسمة الى نصفين بحائط واطئ يعلوه زجاج وعلى الجانبين تناثرت بعض المكاتب . كان المبنى من الطوب الاحمر ، رصين وبسيط مع اجزاء سويت من الخرصانة المسلحة ومباني اضافية على الاطراف وبرج للمراقبة الجوية . أما الصالة نفسها فيبدو انها قسمت لتكون نصف للمغادرة واخر للوصول بتشطيبات متقنة وحوائط مصقولة جيدا . كانت هنالك عدة طاولات للتفتيش الجمركي مع ان احدا لم يعترض طريقى وكأنه مطار بلا مستخدمين ، ليس الا بعض العمال هنا وهناك بزي واحد وقامة واحدة ايضا ولم أرى أماكن للانتظار ولا حتى كرسي واحد بالداخل .... مطار سوى على عجل لاغراض الحرب المزمنة واغراض السلم الطارئة . مطار عسكرى ومدنى في آن أهم واخطر صرح في مدينة جوبا الذى يربطها بالعالم دلفنا الى الصالة وخرجنا منها .. وهكذا بلا ادنى تعقيد ودون ان يعكر صفونا احد أو يعترضنا لنجد سيارتان عسكريتان من نوع (لانــــدكروزر) بمدافع منصوبة في الخلف على اهبة الاستعداد للقتال . وقفت حائرا في البدء اذ لم اجد الملازم خالد بجانبي . مالبث ان جاء يتبعه النقيب الذى كان جالسا بالباب . هز يدى مرحبا بود ظاهر اخفى تماما انطباعى الاول عنه قائلا:
- أهلا يادكتور؟ .. - ايهاب صلاح ..
اجبته وانا ابادله الابتسام .... ... سيهتز المستشفى فرحا اليوم ... ..... لماذا ؟؟ سألت بدهشة حقيقية .... لكنه قال متعجلا ... .... ستفهم كل شيء فيما بعد .... قلت وانا استوقفه : ... لكنى لم اتعرف اليك ؟ أحس الملازم خالد ببعض الحرج فتدخل قائلا : - النقيب حيدر الحسين ثم أضاف النقيب : - فني تحاليل طبية بالسلاح الطبي .
رحبت به وخرجنا مباشرة حيث كانت سيارة بانتظاره . ودعني الملازم خالد قائلا انه سيلتقيني غدا .
هاهي ذى جوبا اخيرا . مدينة من لحم ودم شوارعها خالية وسياراتها عسكرية وسكانها صامتون . العشب يغطى كل الامكنة ويشرئب نحو البيوت والاسفلت . كل شي جميل ولكنه غير مرتب ولا سوى . بدت كامراة حسناء لاتستحم .... ثكنة عسكرية بالكامل ... الناس والمباني والسيارات وحتى الاسواق صبغت بالصبغة العسكرية الصارمة . مدينة يلفها حزن موجع ويسربلها الم ممض فضاءها واسع كافق ولكن الناس فيها يتنفسون بصعوبة وتسارع كاللهاث ويمضون بانكفاءة وانكسار بالغين . لايرفع العسكري راسه الا لتحية ضابط و (الملكى) الاللاشارة لسيارة عابرة ... يتلكأون في سيرهم لان ليس هناك مايستدعى العجلة ولافي المستقبل مايسترعى الانتباه والذى لايرتدى الزي العسكري تجده في اسمال بالية اشبة بالخرق . الاشجار المثمرة المانغا بأوراقه العريضة والباباي بثماره الساذجة المتدلية من على نبتاته في كل مكان محملين بثمار ليست للبيع لانها متاحة للجميع . يمكن ان تجد مجموعة من الاشجار في اي مكان مشكلة غابة صغيرة اغلب البيوت من القش والذى يبنى من الطوب الاحمر تجده رصينا محاطا بالاسلاك الناعمة تفاديا للناموس .. هاجس الملاريا الازلى في السودان .... مدينة غجرية .... حديقة مهملة في بيت مهجور خطب ودها الشمال العصي يغازلها السياسيون والمقاتلون كل صباح جديد وهي عصية حرون مدينة الحزن والشعر والمستحيل أما الفـرح فبرميل من البارود ينتظر التفجير ولكنه مخفي في مكان ما.
وضع الجيش يده الثقيلة عليها فتمردت وصبغها المتدينون الجدد بصبغة التحفظ والفضيلة الزائفة فلم تعط الا لونها الحقيقي المتمرد ، ورائحتها العبقة بدعـــاش زخـــات المطر المتواصل بلا فصول ونكهتها القرنفلية الحارقة ثم محياها الجميل البدائى كمدينة في اضابير التاريخ مما قبل الحضارة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
مقال الناقد والقاص والاكاديمى الصديق العزيز الدكتور محمد المهدى بشرى عن رواية أعاصير استوائية بصحيفة الراى العام بعنوان:اعاصير استوائية إعصار روائى :
اهداني اخي نور الهدى محمد نور الهدى باقة من آخر إصدارات دار عزة، وكالعادة كان تركيزي على الاصدارات الجديدة من الانتاج الروائي السوداني لشغفي بالرواية ولإحساسي دائماً بأن الرواية السودانية مازالت خلف ركب الابداع السوداني لولا روايات الرواد (إنهم بشر) لخليل عبد الله الحاج و(الفراغ العريض) لملكة الدار محمد، ثم رواياتي (حدث في القرية) لإبراهيم اسحق و(موسم الهجرة الى الشمال) للطيب صالح، فلولا هذه الروايات لصار الحديث عن الرواية السودانية بلا معنى. بعد وصولي لمقر عملي في مدينة كريمة تفرغت للاطلاع على هدية دار عزة ودون حماس كبير شرعت في قراءة رواية لكاتب مغمور هو عبد الرحمن فضل بعنوان (اعاصير استوائية) ومنذ الصفحة الأولى، وبخبرتي المتواضعة كقارئ للرواية، تأكد لي انني امام انجاز روائي سيأخذ مكانه حتماً في المكتبة السودانية. كذلك تأكد لي تماماً انني امام رواية ابدعها كاتب متمرس، بأسرار السرد عليم. وفي مرات كثيرة كان ينتابني الشك ان هذا النص كتبه روائي معروف في قامة ابراهيم إسحق أو الطيب صالح، ولكن لسبب ما آثر استخدام اسم مستعار! لكن الكاتب كان يعرف نفسه من خلال النص، فهو بلا شك طبيب وعمل بالجنوب ردحاً من الزمان أيام التسعينيات.. أيام كانت حرب الجنوب حرباً «جهادية» في تقديري الشخصي، ولكنها في تقدير الكاتب ليست سوى «معزة جائعة في حقل برسيم». وبعد ان اكملت النص شعرت بسعادة غامرة، لسببين: أولهما متعة قراءة النص، وثانيهما ان الرواية السودانية بخير، وها هي مسيرة الرواية تتقدم. ويمكنني القول وبكل ثقة ان رواية (اعاصير استوائية) تعلن ميلاد كاتب سوداني سيكون له شأن بإذن الله. كما يمكنني القول وبكل ثقة ان هذه الرواية ستدفع بالإبداع الروائي في السودان خطوات إلى الامام. تبدأ الرواية والراوي في طريقة إلى مدينة جوبا ليقضي فترة الخدمة الإلزامية لنصف عام بدلاً عن عامين كطبيب حديث التخرج. وفي مدينة جوبا يجد الراوي نفسه - وهو في ذات الوقت الشخصية المحورية - وجهاً لوجه امام طاحونة الحرب التي تقضي على الاخضر واليابس.. وبالطبع لم يسلم الراوي من ويلات الحرب، فقد حولت الحرب «ايهاب» من شاب ناجح في حياته، ممتلئ بالطموح والحب لأسرته ووطنه، الى مدمن سكير ولا منتم، وقد نجح الكاتب في ادانته للحرب وصناعها من الجنرالات من شاكلة «العقيد الوحش»، وقد نجح الكاتب في إيصال رسالته للقارئ دون خطابية أو هتاف، وهذا ما جعل النص يحافظ على عذوبته وسلاسته، بل وقد وظف الكاتب امكاناته اللغوية وقاموسه الثر وسخريته اللاذعة مما اضفى على النص روحاً من الدعابة والطرافة على الرغم من الحرب والدمار. يسرد النص عبثية الحرب، بل وعدميتها، خاصة حين تندلع بين فرقاء ينتمون لوطن واحد، وقد ولدت الحرب كنتيجة حتمية للفساد بأشكاله وأنواعه كافة، بل والمفسدون. وتصبح البيئة صالحة للمكر والنفاق والدهاء، وتنتهي الرواية وقد تحول «إيهاب»، الشخصية المحورية، الى حطام انسان فاقد القدرة على النطق مما يرمز الى عدم قدرته على التواصل مع الآخرين. وتبلغ المأساة قمتها بموت والد الراوي الذي تحول من موظف مرموق الى سائق تاكسي لم يتحمل قلبه الفجائع المتلاحقة فسقط داخل عربته التاكسي ليموت بعد ذلك بزمن قصير. يمكن القول إن ما سبق محاولة لتلخيص احداث (اعاصير استوائية) على الرغم من صعوبة تلخيص النص الذي يتحرك في العديد من المستويات ويموج بشخصيات رسمها الكاتب ببراعة فائقة. نخلص للقول إن رواية (اعاصير استوائية) عمل جدير بالقراءة بل والتأمل والدراسة، وهي اعصار روائي سيكون له آثاره في خارطة الرواية السودانية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
يمضى بنا الراوى مع عازفي سيمفونيته السردية
-3-
كانت استراحة المستشفى العسكري بجوبا هي المكان الاكثر صخبــا وحميمة . وعندما وصلنا قصدها النقيب حيدر رأسا وانا اتبعه ...... عجلا ومتلهفا وكأنه يحاول ان يدرك قطارا على وشك الرحيل ولم أعى – الا مؤخرا – احساسه بانه يحمل معه بشرى بتأثير قنبلة يدوية صغيرة طبيب اتى بقدميه.
قبل أن اصل اخترقت اذنتاى ضحكة مجلجلة مهذار عرفتها برنتها فقد كانت للدكتور يحيى الذى كان كرشه يهتز ونظارته على وشك السقوط بفعل الضحك وعندما رآني هب واقفا كتلة واحدة بشكل رياضي لا يتسق ومظهره فليس اجمل من الفرح الا امتداده . عانقني كصديق قديم جاعلا البقية يرحبون بي ترحيبا حارا ثم اجلسني الى جواره قائلا :
- حمد لله على السلامة - الله يسلمك - كنت واثقا من مجيئك - لقد وعدتك
عرفني على من حوله اذ كانوا جلوسا جميعا بالاستراحة بعد ان ادوا اعمالهم ..... الرائد ابراهيم الريح .....قصيرا ...... مستديرا بلحية شائكة وشعر محلوق للتو مع جبهة عريضة ممتدة تلقائيا الى الخلف مكونة راسا صغيرا بعينين راقصتين واذنين بارزتين . فني اشعة . وهـو المدير الاداري للمستشفى ، الرائد سعد سليم صيدلي من شرق السودان ... طويلا وسيما بابتسامة مراوغة ويدان تقبضان على اللاشىء وهو بالاضافة للصيدلية مسؤول العهد والمستودعات .ثم النقيب حسين محمود ضابط الصحة بالمستشفى ومسؤول التموين .ومربوع القامة نظيف الجسم ومرتب الهندام يشع طيبة وحميمية.
ثم أشار الدكتور يحيى الى أربعة من الشباب كانوا جلوسا بحذاء بعضهم بعضا .متقاربون في العمر مثلما هم متقاربون في الهم ويرتدون نفس الزي الذى ارتديه ...... لكن اثنان منهم يضعان نجمة على كتفيهما وبجانبهما خطت بوضوح وزركشة وتأنى كلمة (طبيب) قائلا :
........ هؤلاء إخوانك في الخدمة الالزامية .
وعرفني بهم ايضا .دكتور كمال البدرى ...... مربوع القامة ...... ضيق الوجه بلحية ممتدة وغير معتنى بها لكننى لم احتج الى وقت طويل لأعرف انه متدين بلا افراط ..... حنون كأم .... ومهذب لأقصــى حد . تخرج من جامعة الجزيرة ممايفسر عدم التقائي به قبلا .قضى بزهد راهب تسعة أشهر بالاستوائية منها سبعة أشهر في مدينة (ياى) التـــى تبعد عن جوبــــا بحــوالى سبعين ميــلا.
أما محمد يوسف – طبيب أسنان- فقد كان طويلا مفرطا حتى انــه محنى الظهر قليلا . خفيف الظل سريع البديهة .قضى في جوبا خمسة اشهر طويلة وهو الذى اتى لتمضية ثلاثة أشهر لااكثر ، غير ان بديلــــــه رفض المجئ بعد ان وعد بذلك ولم تكترث ادارة المستشفى العسكري بشيء طالما ان هنالك من يقوم بالواجب ؟ ....
أما حامد نورى وانور تمساح فقد اتيـــا في يوم واحــد قبل ثلاثـــة اشهر .الاول فني اشعة له عينا ثعلب يـــافع وابتسامة مبهمة لهـــا ماوراءها ... صامت لايتحدث في اغلب الاحوال لكن أفعاله مدوية .. جيئ به حتى يتفرغ الرائد ابراهيم لادارة المستشفى كما علمت لاحقا . اما الاخر فهو من وسط السودان ..... فني تحاليل طبية ...... حلو الحديث شائق الصحبة ..... يجيد فن الشعر الشعبي ورواية احاديث وملح البادية كشيخ في السبعين .
تبدأ الاشياء بتعريف نفسها وفق مكنوناتها الذاتية وتتحدر الحقائق كمــا الصخور من على فتتجاوز الواقع والاتى لتتموضع في الخيال دون ان تتقيد بالقوانين او تأبه للمنطق والمعقول وتكون المصادفات حواجز خفيضة ينثرها القدر هنا وهناك لنقفز من فوقها ونفاجــــا باحتمالات جديدة ماكانت قط في الحسبان على ارض رحبة فسيحة او هوة سحيقة بلا قرار .هل نحن بلا ارادة؟ اذا فلم هذه الطاقة في دواخلنا ؟ اين تذهب وعلام تتوثب كل حين واخر ؟ كيف نحس مقدرة على الفعل حتى الانفجار مرة ..... فيما العجز يعترينا حد الشلل مرات اخرى ؟ هل هى معركة العقل والارادة ضد القدر والمصير ؟ ام ان القدر هو الذى يهش عقولنا امامه كقطيع تائه ؟ من المسؤول ؟ العقل الذى يختـــار ام الارادة التى تفعل ؟ ربما كان القـــدر الذى يحدد النتائج او هو المصير الذى يكرس الواقع .
هشت يدى بلا ارادة ذبابة مرت فوق وجهى ثم عادت الى وضعها الاول تحت راسي .كنت مستلقيا على ظهري بعد نوم عميق امتد لساعتين ونيف واضعا كلتا يدى تحت رأسي فيما احدى قدمى على الاخرى وطيف من الخيالات يتمرجح قبالتى . لم اكن خائفا من شيء او حتى قلقا ... على العكس تماما كنت هادئا جدا واحس سلامـــا داخليا شاملا وانفتاحا طاغيا نحو عالمي الجديد . كانت هناك لمبــة (نيون) تصدر ضوءا متقطعا كحليب متخثر بدت الغرفة على ضوءها واسعة ومتدنية السقف قليلا وثمة حقائب ضخمة متناثرة هنا وهناك . لاأثــــر لضوء خارجي كما تبدى ذلك من خلال نافذة مواربة- الغروب يزحف بكل زخمه العاطفي واعتلالاته المادية – قمت بتراخى وبحثت عن مفاتيح الكهرباء حتى وجدتها . اضاءت الغرفة بانوار غامرة انبعثت من اماكن شتى .واسعة حقا كغرفة طعام في مدرسة ثانوية داخلية .. بها اربعة اسرة موضوعة بحيث لا تكون متباعدة تقليلا من وحشة يحسها قاطنوها بينما كان هنالك سرير من الطرف الاخر من الغرفة وحيدا ومتنائيا . كانت مرتبة ومغطاة بملاءات بيضاء نظيفة ومتناغمة . ومجموعة من الحقائب العسكرية الضخمة ومجموعة اخرى من حافظات الامصال موضوعة بجوار بعضها البعض . تفقدتها جميعا فوجدت في الاولى اغراضا وملابس شخصية تخص زملائـــى الذيـــن يشاركونني الغرفة بينما الاخرى مليئة بامصال وعلب مختلفة لم اعرف كنهها او طبيعة ماتحتويه .
بحثت عن حمام فلم اجد . خرجت من الغرفة ونظرت حولي فلم اجد احدا ايضا .قمت بجولة في المكان من حولي سريعا ... كان المكان ساكن جدا وهادئ تماما ... قطعة من الارض موحشة ولاريب . ويبدو جليا انه في اقصى حدود المستشفى ادركت ذلك من ان سرت ظهرا لنحو ثلاثمائة متر قبل ان اصل اليه . الغرف من حوله متناثرة هنا وهناك وثمة عشب اخضر كثيف في الخلف مهمل وعصــى على التهذيب خطر لي ان اتبول عليه ولكنى عدلت من رأيــى وعندما اكملت دورة كاملة من حوله رايت جنديا يسير امامي ، جنوبيا فارعا بثلاث اشرطة عزيرة تزين عضده . رمقنى بنظرة نارية من عينين حمراوين ثم مالبث ان القــى تحية مقتضبة باللغة العربية ذات اللكنــة الجنوبيـــة المميزة والاختصارات الفكهة والرنـــة المحببـــة ............
....سلام .........
قالها بلهجة آمـــرة وصوت جهورى وثقة مطلقة فخطرلي حالا بانه معلم مستجدين
..... وعليكم السلام
رددت عليه مضمنا صوتى اهمية تليق بما يكنه لنفسه . احس بذلك على الفور فانتفخ شادا ظهره للاعلى . اهتبلــــت الفرصة على الفـــور وســألته ........
......هل اجد حماما بالقرب ؟
وقف العسكري وكانه يستعرض طابورالصباح ثم استدار بكامل جسده وتأملنـــي لبضع ثواني بعينين حمراوتين خبيرتين ونفاذتين وكانه يوشك ان يضمنى الى زمرة مجندين جدد ثم قال كلمة واحدة بإيقــــاع طالما وقعة ولهجة لاتعرف اللين او الانزواء حتــى فـــي اكثـــر لحظاتهـــا حميميـــة ...
... (وقف شوية) ...
عاد بعد دقائق حاملا سطلا مليئا بالماء وضعه امام باب غرفة صغيرة قبالتــي وهي حمام بالفعل ولكن ليس به ماء ثم وقف وقال .....
.... تعال هنــــا ....
احسست امتنانا شاملا تجاه الرجل المستقيم الواقف امامى وكنت علـــى وشك ان اشكـــره على صنيعه عندما نظر عميقا في عينى حتى كاد ان يثقبهمـــا قائـــلا ..
- (انت منو) ؟؟ - طبيب جديد ... - ايوة .... يعنى دكتور ؟ - بالضبط ...
لانت لهجته قليلا واتكأت كلامته على عصا الحاجة قائلا ................. - (ولد بتاع انا عندو حساسية شديد) - ولماذا لم تحضره الى المستشفى من قبل ؟؟ - ( مستشفى زحمة ...... والله دكتور كمال ده تعبان تعب شديد ) .... - لابأس ........ أحضـــره لـــى .......
تراجع خطوة واحده الى الخلف وضرب الارض بقدمـــه رافعـــا يده بمحاذاة راسه بحركة ضمنها كل التزامه بالقانون والانضباط العسكرى الصارم قائلا : ..........
- تمام سعادتك .......
لم اخفى ابتسامة دهشة من اجراءاته الجيدة تجاه من لايفهمها ولا يعبا بها . ثم القيت نظرة اخبرة على وجهه حتى لا انساه ان هو اتى .
على كرسي ضخم وثير مصنوع من خشب المهوقنى السميك جلس (المستر) فريد عبدالرؤوف جلسة مسترخية واضعا كلتا قدميـــه على طاولة امامه فيما حافظتا شاي وقهوة على طاولة اخرى بجانبه . جعل يداعب شعره بيده اليمنى دون ان تسترخى عيناه او تتهدل يده الاخرى .. في البدء ظننته احد جنرالات القيادة العامة في الجوار لانه وفق اعتقادى فإن اكبر رتبة عسكرية هي للدكتور يحيى قائد المستشفى .
عميد في الخمسين من عمره قمحى البشرة متوسط الطول بعينين صغيرتين نفاذتين وشفتين مذمومتين لاتعرفان الابتسام ووجه متناسق وجميل . جلده مترهل فوق الرقبة وحول العينين بفعل السنين التى بدأت في اختلاس وسامته شيئا فشيئا .
تقدمت منه مسلما مادا اليه يدى لاعتبارات لاعلاقة لها بالجيش .......لـــم ينتبه او يقف او حتى يعدل جلسته فقط مد يده التى تداعب شعره قليلا حتى اتمكن من ملامسة اصابعة في اطرافها دون ان ينظر باتجاهي او ينطق كلمة واحدة فابتعدت محرجا وخجلا الى حد ما . لكن حيائى بلغ مداه حينما رأيت دكتور محمد يوسف وانور تمساح يبتسمان وهمــا ينظران ناحيتى . ادركت اني وقعت في اول المأزق هنا اذ ابتسم محمد يوسف ساخرا وقال مستثيرا غضبى : ...
- ولا يهمك ............
ابتسمت محاولا التملص من الموقف عامة قائلا : .......
- عادى ......
فاضاف انور :
- هذه طبيعة (المستر) ....
فاجأنــى قوله فتساءلت :
- (مستر) ؟
واضفت متسائلا وغصتي لازالت تتأرجح في حلقى :
- هل هو طبيب ؟
قال محمد يوسف :
- انه جراح المستشفى .......
فيما اضاف انور تمساح شارحا :
- (مستر) فريد عبدالرؤوف اخصائي العظام بالسلاح الطبي .....
- ومالذى اتى بجراح العظام الى الاستوائية ؟
تساءلت بدهشة حقيقية .....
- جاء ليسلم عليك .....
وانفجر كلاهما بالضحك ....
ابتسمت للدعابة الثقيلة حتى لاأزيد الموقف تعقيدا فاحسا ببعض الحرج سيما وقد كان هذا يومى الاول بينهم فقال انور موضحا بشبه اعتذار :
- مثلما ان قائد المستشفى هو عقيد يمضى ستة أشهر بالاستوائية فــان الجراحين يتبادلون المجئ ايضا كل شهر وهذا شهر (المستر) فريد .......
ثم أضاف ضاحكـــــا :
- الا ترى انه غاضب ؟
- ولماذا يغضب اذا كان عليه المجئ ؟
تساءلت بلا وعى .......
فأجاب محمد يوسف بابتسامته المعتادة :
- ربما كان يرى ان هنالك من هو احق منه بالمجىء . - قلت منهيا الامر : - هذا شأنهم ...... دعونا نذهب ....
داخل الاستراحة كان العقيد يحيى جالسا وهو يمسك بجهاز التحكم عن بعد (ريموت كونترول) مسبلا عينيه كمن لايرى فيما نظارته في أقصــى بعد يتيح لها البقاء على انفه رافعا كرشه الى الاعلى وكانه على وشك الولادة يطلق من حين لاخر ضحكته الصاخبة المميزة ... الطويلة المبحوحة كسيارة مغروزة في الرمل والتى يهتز لها كرشه كبالون...... وحوله يتحلق بقية اركانه يتحدثون ويتمازحون......زمـــلاء اتـــوا من نواحى شتى بأعبـــــاء متقاربة وهموم لاتلتقى واحلام ذاوية في سبيلها للتلاشى كنهر اعياه المسير . اصدقاء ... كما اقتضت الضرورة – يجمعهم هذا المكان فيزيحون فيه الامهم جانبا ولو مؤقتا حتى تقتضى مأموريتهم هنا في الاستوائية .
وضع العقيد يده على فخدى وقال متسائلا : -هل تلعب الكوتشينة؟ - لا ....لااعرف...... - لاحول ولاقوة الا بالله ........ لماذا ؟
نظرت اليه وانا ابتسم معاتبا وكأني اذكره بماضى يعلمه جيدا قائلا : - لم يكن قط لدى الوقت الكافي لاتعلمها .....
فقال وهو يرفع حاجبيه بخبث ويبتسم : - هنا سيكون لديك الوقت وستتعلم ......... - لابـــأس
فأضاف بجدية هذه المرة : - ستذهب بعد العشاء مع الدكتور كمال ليعرفك باقسام المستشفى وغدا تتسلم مرضاك وتمارس عملك. - حسنــــا ......
بدأ ثلاثة مستجدين حليقى الرؤوس نحيفى الاجساد ولم يبلغوا الثامنة عشر بعد في وضع الطعام على الطاولة فيما النقيب حسين محمود يروح ويجييء بينهم مشرفا عليهم دون ان يلقى امرا واحـــدا .... رجل مهذب لاتفارق الابتسامة وجهه.
بدأت رائحة الطعام تغزو المكان بابخرته المتعالية فاحسست جوعا قارصا وتذكرت فجأة اني لم اذق طعاما منذ الصباح البـــــاكر حينمـــا التهمت وجبة امي الرائعه والشهية قبل ذهابي وابي الى المطار ....... امي التى بيني وبينها الان عشرات المئات من الاميال والكيلومترات التى لا تقطعها سيارة او قطــــار .... ليس الا طائرة لامكـــان فيها لام او اب ..... لامكان فيها لانبجاسات عاطفية لاتجدى نفعا .... لامكان فيها لتوقع او احساس ...... ليس فيها او هنا سوى ان تغلق قلبك وتحتفظ بمكنوناته .
دخل (المستر) فريد الى الغرفة وهـو يسير متمهلا فهـب الرائد ابراهيم واقفـا وهـو كان جالسا في الجـانـب الاخر من العقيد يحيـــــى ليأخذ مكانه فيما ناوله هـذا الاخير جهاز التحكم عن بعد بضجر واضح ولاذ الاخرون بالصمت .
جعل (المستر) يجول بين القنوات الفضائية بلا تركيز او اهتمام ... وقف عند مسلسل عربي توالت مشاهدة المثيرة حتى بدأنـــا الانغمــاس في احداثه فمضـــى وتركه الى سيرك يصفق مشاهدوه بصخب وضجيج متبادلين نظرات دهشة وحيـرة ازاء الساحر الـواقف الذى يرتـدى بـذلة انيـقة وربـاط عنق صغير والذى اخرج قطعة قماش بيضاء من احد جيوبه وافردها للمشاهدين حتى يروا خلوها من اي شيء ثم لفـها حول نفسها عـدة مرات وافـردها اخيرا ممسكا بثلاث حمائم بيضاء اطلقها في الهواء فمضت تحلق بعيدا بينما امسك القطعة مرة اخرى منتهزا دهشة الحضور وتصفيقهم فلفها مرة اخرى ونظر الى الحضور ضاحكا وعلى وشك الاتيان بمفاجأة اخرى غير ان (المستر) لم تعجبه ابتسامته كمــا يبدو فاطلق العنان لسيل من القنوات الاخرى حتى توقف عند مشهد من فيلم قديم لصائد النساء (جيمس بوند) الذى امسك بخصر شقراء فارعة ممرا اصبعه على جبينها مداعبا وقائلا :
- انت في حضن امين (هكذا كما جاءت في الترجمة) ....
ثم اضاف بعد ان نظر عميقا في عينيها .........
- لاتكترثى للمغفلين من حولك ......
وعندما كانت شفتاه في الطريق الى شفتيها مرر لاعب ماهر تمريرة متقنة الى زميل له فتخطى هذا بـدوره مدافعين بحركة فنية رائعة وذهب مباشرة الى المرمى غير اننا لـم ندرى مـا اذا كانت الكـرة ذهبـت هدفــا ام لا ....
نظرت الى الاخرين فرأيتهم يتبادلون نظرات امتعــــاض ويبتسمـــون سخـرية ........
وقف النقيب حسين محمود في مواجهه العميد فريد عبدالرؤوف شادا جسده الى الاعلى مدليا يديه بحذاء حسمه ضاما قبضته وضاربا الارض بقدمه اليمنى قائلا :
- تمام سعادتك ........ السفرة جاهزة ...
لم يقل كلمة واحدة ولم ينظر حتى باتجاهه . انزل قدمه التى كانت على الاخرى ووضع جهاز التحكم جانبا وخرج ليغسل يديه بينما البقيـــة في اثـــره.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
تقول الكاتبة والمحققة الادبية سلمى الحفار وهى تقدم الأعمل الكاملة للأديبة الراحلة مي زيادة ان تاريخ الأدب عند الامم جزء من تاريخها العام ، يعكس حياتها العقلية ونزعاتها القومية ومشاعرها الإنسانية بقدر مايصور طاقاتها الابداعية ويجلو مكانتها الحضارية في العالم الادباء هم صفوة الناس لما يمتازون به من علم وفن ومواهب ، وعمق في المشاعر الانسانية وما يؤدونه من خدمات لممجتمعاتهم . انهم القادة الحقيقيون في حلبة التقدم والقدوة الحسنة للسمو بالروح والفكر والدعوة الى التحسس بكل جميل ونبيل ومفيد . لهذا تهتم الأمم بسيرهم إذ غالبا ما تكون سير تضحيات وبطولات . والراوى عبدالرحمن فضل من خلال روايته اعاصير إستوائية قد حقق لى ماهو كذلك واكثر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
Quote: تبدأ الاشياء بتعريف نفسها وفق مكنوناتها الذاتية وتتحدر الحقائق كمــا الصخور من على فتتجاوز الواقع والاتى لتتموضع في الخيال دون ان تتقيد بالقوانين او تأبه للمنطق والمعقول وتكون المصادفات حواجز خفيضة ينثرها القدر هنا وهناك لنقفز من فوقها ونفاجــــا باحتمالات جديدة ماكانت قط في الحسبان على ارض رحبة فسيحة او هوة سحيقة بلا قرار .هل نحن بلا ارادة؟ اذا فلم هذه الطاقة في دواخلنا ؟ اين تذهب وعلام تتوثب كل حين واخر ؟ كيف نحس مقدرة على الفعل حتى الانفجار مرة ..... فيما العجز يعترينا حد الشلل مرات اخرى ؟ هل هى معركة العقل والارادة ضد القدر والمصير ؟ ام ان القدر هو الذى يهش عقولنا امامه كقطيع تائه ؟ من المسؤول ؟ العقل الذى يختـــار ام الارادة التى تفعل ؟ ربما كان القـــدر الذى يحدد النتائج او هو المصير الذى يكرس الواقع .
|
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
Quote: بدر الدين الامير
وبعودتك تعود الرصانة للمنبر ويعود التوثيق المهذب بكل جمالياته اشهد اني لم اراك هنا الا وانت جميل كنت ممن حببوني فيه كم تمنيت ان توثق لنا للراحل المقيم صديقك الاستاذ/ مصطفي سيد احمد وكم طلبت منك ذلك ولكنك كنت فقط توعد ولاتوفي ولعل وراء الاكمة ماوراؤها الجميع في انتظار باكورة اصداراتك عن الراحل المقيم مصطفي فلا تبخل عليهم ولاتبخل علينا بطلتك البهية في المنبر وهذه عربون محبة واحترام وتقدير
|
اخى وصديقى هارون دياب يامن ترد محمل البورود شكرا يارقيق الحال
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: إدريس البدري)
|
-4-
نظرة واحدة للمستشفى العسكري كافية لتبين انه مستشفى طوارئ ليس الا. فمبانيه كلها من طابق واحد وأقسامه محدودة ومتفرقة عن بعضها البعض. يتكون من صفين من المبانى متقابلين مع صفين آخرين في الخلف . يحتوى الاول على غرف واسعة جعلت كعنــابر للعساكر والاخر للضباط فيما احتوى المبنيان الاساسيان على العيادات وغرف العمليات والمبانى الادارية بما فيه مكتب القائد . امتدت خارج هذه المنظومة عدة مباني متفرقة على مساحات شاسعة .. منها قسم الاشعة وقسم التحاليل الطبية وقسم الاسنان الذى يمثل بيتا صغيرا منفصلا بغرف متعددة كما ان بعض المباني يبدو انها قد تمت اضافتها حديثا كعنبر الباطنية الجديد وعنبر الامراض المستوطنة الذى تتزايد اهميته يوما بعد يوم . تناثرت في اطراف هذه المباني كراجات السيارات ومطابخ المستشفى ومستودعات السلاح والذخـــيرة وبعض الورش الصغيرة للحدادة والنجارة فيما كانت مخازن الادوية في القسم الرئيسي من المستشفى . أما اهم مباني المستشفى واكثرها جاذبية فقد كان في الطرف الشرقي منها مقابلا لمكتب القائد . مبنى بسيط للغاية يتكون من غرفة واحدة طويلة قسمت من الداخل الى قسمين بنسبة الثلث الى الثلثين . بنيت من الطوب الاحمر وسقـفت من القش والاخشاب فيما احاطت نوافذها الخشبية اسلاك ناعمة ولها باب واحد عريض من خشب (التك) كتب فوقه بلافته لاتكـــاد ترى (استراحة الضباط والاطباء).
وضعت في الجانب الاصغر طاولاتا طعام بحجم متوسط تتسع كل منهما لثمانية أشخاص بمقاعدها المصنوعة من (التك) ايضا . فيما احاطت الجانب الاكبر مقاعد وثيرة من خشب (المهوقنــى) السميك بمساند ناعمة احاطت بها وعلى بروز دائرى أصص الزهور ونباتات الظل والزينة . في الوسط تماما طاولة بلاستيكية بمقاعدها للعب الورق فيما تموضع في ركنها مقابلا لغرفة الطعام (تلفزيون) ضخم بطبق خارجي للاستقبال الفضائي مما يوحى بترف غير متاح على نطاق واسع هنا.
ابديت لدكتور كمال عددا من الملاحظات واقترحت جملة تعديلات وتغييرات وافقني عليها بشدة لكنه لم يثر حماستى ولم يطفئها . ابان لي ان كل تغيير يأخذ وقته وان الاجراءات هنا سلحفائية السير تجرى في قنوات ضيقة ودهاليز مظلمة وطويلة وهي تحتمل التعديل والتأويل والايقاف .وفوق وذاك فهم يعلمون ان هذا مستشفى طرفــى .. مركز طوارئ الاوقات.
فســألته :
وماذا عن القائد ؟ أليس له دور ؟ الايمكن الاعتماد عليه ؟
اجابني وهو يمسك بلحيته .....
لم نعرف شيئا بعد عن الدكتور يحيى فقد اتى منذ اربعة ايام فقط اما من سبقوه فلم يكن اهتمامهم بشىء سوى لعب الكوتشينة وتمضية الوقت هنا وهناك حتى تنقضى الاشهر الستة .
في صباح اليوم التالى كنا نقوم بجولتنا معا ايضا ولم احتج الى وقت طويل من لالمس عن قرب وادرك جيدا معاناته في سابق الايام كطبيب وحيد ومسؤول عن مستشفى يغطى شريحة معتبرة وكبيرة في مدينة تعد بحسابات التاريخ والجغرافيا وكذلك السياسة في طليعة مدن السودان ... واكثر من ذلك فهي عاصمة الجنوب قاطبة .... وبرغم وجود اخرين الى جواره مثل قائد المستشفى – الذى صار الدكتور يحيى لاحقا – و(المستر) فريد عبدالرؤوف الا عبء العمل ومعاناته كانت بالكامل على كاهله .. قائد المستشفى يرى نفسه قمينــــا بتحمل ترهات الادارة ومواجهة مسؤوليات التكليف وتصريف الامور الصحية العسكرية في منطقة حر بحقيقية تقوم على حقل الغام وتنفيذ تعليمات قيادته في امدرمان وهي التى لاتعلم الكثير عما يدور هنا . فيما الثاني جراح غاضب من اللاشىء وساخط على الكل .... يعاين الا عددا قليلا من المرضى كل يوم ولايجرى جراحة الانادرا في ظل الامكانـــــــات المحدودة لهذا المستشفى الطرفى البعيد . يعيش بجسده هنا ولكنه دائم التفكير في عيادته الخاصة بالعاصمة . وهو الذى – ربما – كان يرى ان امكاناته اكبر من ان تنزوى هنا باعتبار ان لديه تخصصا دقيقا يتجاوز الجراحة العامة التى يرى – كما قال لي سابقا كمال – ان اهلها هم الاجدر بالاتيان هنا لاعتبارات مهنية صرفة . امثر من هذا وذاك فان (المستر) فريد – بحكم الزمن- قد تجاوز مثاليات المهنة التى يتحلى بها صغار الاطباء من امثالى ودكتور كمال .... ولن اشكك في اخلاقياته المهنية لان تلك قيم لاترتبط بعمر محدد او تخضع لقوانين السنين .
وجراء هذا الوضع المربك كان على الدكتور كمال ان يتحلـــى بصبر ارملة كهلة ولامبالا مسؤول افريقى بدين ... ينكفئ على نفسه ويبتلع احزانه ... شاب في مقتبل العمر ... صبور .... طيب ..... واليــف لايتبرم ولايغضب برغم ظروف اسرته المعيشية السيئة – كما اسر لي – وحاجتهم الماسة الى وجوده في الجوار ... سيما بعد مقتل والده في معركة اجبر على خوضها بالانابة عن الحكومة .... وحتى وهو يتجاوز الحيز الزمنى الذى حدده النظام في الخدمة الالزامية بعام واحد لاغيــر واتبعه (منسقية الخدمة الالزامية ) بقرار اخر يقضى بان تكون خدمة المجند في مناطق العمليات اربعة اشهر لااكثر......
- من اين انت ؟ ســـالته مندهشا من قصة مقتل والده ... - من مدينة (الضعين) .... هل تعرفها ؟ - بالطبع ....... في ( دارفور) ........
كنت قد ذهبت اليها في قافلة صحية في ايام الدراسة الجامعية .
- ولكنك تستحق اعفاءا من الخدمة الالزامية .... قلتها بحماس حقيقي تضامنا مع ظرفه .
ابتسم بطيبته المعهودة قائلا :
- نظريا .... نعم ولكن عمليا ليس هنالك اعفاء من الخدمة الالزامية .. ثم اضاف : - تصدق ..... لقد رأيت العميان يساقون اليها . صمت .... ولم ارد عليه فقال - سمعت اخيرا با هنالك اعفاء بمقابل مادي .... - وانا ايضا .........
كانت الاسرة في عنبر الجنود ممتلئة عن اخرها بمرضى بائسيــــن ومعدمين ..... وجلين ويائسين وغير مبالين . ازاحنى احدهم جانبا وهو يهم بالدخول لاني كنت اقف في طريقه حتى كدت اسقط ارضا ولم ينظر حتى باتجاهي وعندما عنفته الممرضة الواقفه بقربى نظر باتجاهي فقط فاحنيت رأسي متقبلا اعتذاره الضمنـــى .
ملئت انفى رائحة نفاذة وكريهة هي خليط من روائح المطهرات واجساد المرضى المنهكين واحذيتهم الضخمة .. لم يكونوا مصنفين جيدا حسب امراضهم لان المكان لم يسمح بذلك والطبيب واحد والادارة شحيحة .... متداخلين وغير منظمين مريض السكر مع المريض النفسي مع موجو العينين .....
بدى عنبر في انضباط نظيفا ومرتبا .... يتسع لعشرين سريرا لكن كل سرير منفصل بستارة حتى الارض ... ليست هنالك اي روائح سيئة او اوساخ منتشرة .... مدهش بحق . به مريضان فقط ... قرأت ملفاتهمـــا سريعـــا .....
المقدم جعفر رمضان .. يشكو نزلة معوية .. قيد العلاج والمحاليل الوريدية .... في تحسن مضطرد ...
الرائد محمد عامر .... ملاريا ... اخذ حقنة عضلية رابعة وحالته مستقرة ....
اطل الدكتور كمال على عيادته من بعد فرأى عددا قليلا من المرضى في الانتظار فاشار على ان نقوم بجولة صغيرة في انحاء المستشفى فلم يسعنى الا الموافقة . كانت بالفعل جولة صغيرة وزرع خلالها دكتور كمال عددا من الابتساماته الصغيرة المقتضبة واستهلها بقسم الاشعة الذى كنت اتأمله امس ليلا فخلته غرفة واحدة كبيرة ولكنى دهشت عندما اتيته فرايته فسيحا .... مقسما من الداخل الى عدة غرف كلها باحجام كبيرة .باب الدخول فيما يحتل بقية الغرفة جهازا اشعة ضخمان احدهما ثابت بسطح يتحرك في كل الاتجاهات كمخدع طفل وليد والاخر محمول يتيح التنقل في اقسام المستشفى ان كان هنالك مريض لايستطيع المجئ الى هنا او كان ذو اهمية من التسرب – ولو نظريا – الى الفني الذي يجلس من ورائه كسائق القطار .
في غرفة ثانية ليست كبيرة توجد محاليـــــــل كيميائية للتحميض والاظهار وقد كتبت فوقها عبارة – الغرفة المظلمة- ثم من تحتها وبحروف مهتزة عبارة – ممنوع الدخول – وبينما كنت اهم بدخول الثالثة ابتسم حامد نورى ابتسامته المبهمة قائلا :
- لم يتبق شي ذو اهمية ...
مضيفا وهو يضغط على حروفه ...
- خصوصا في هذه الغرفة فهى للسكن فقط ...
قالها وكأنه يخاطب مفتشا رسميا مضيفا على كلماته لا مبـــــالاة مستعارة ......
واجهته بنفس ابتسامته قائلا :
- اريد ان ارى هذه الغرفة بالذات ......
واذ لم يرى مناصا فقد قال :
- تفضل ..... على الرحب و السعة ..
كانت غرفة واسعة جعلها نورى رائعا فزين حوائطها بصور ورسومات تعكس ذوقه واهتماماته وتتماشى وعمره الغض وتجربته النيئة في الحياة ووضع على الارض غطاءا مزركشا وجميلا فيما ركن الغرفة تحتلة طاولة انيقة كمكتب داخلى امامه كرســـى صغــــير دوار وطاولة اخرى بين سريرين يتموضعان في المنتصف مغطيين بشراشف ليست بيضاء كتلك التى في غرفتنا الواسعة بل مشجرة بألوان راهيـــة ورسوم فرائحيــة .
على احد الاسرة كانت تنام امراة ما ... هبت واقفة دفعة واحدة عندما احست بوجودنا وهي تصلح من حالها قليلا ...... قامة طويلة ....... جسد لين كخرقة معلقة لتجف ....... مؤخرة رجراجة .... ساقين ملتفــــين كــأجمل مايكون ...... ووجه دميم .
خفض الدكتور كمال راسه وخرج مطأطئا وكأنه الذى اتى بها ... اي حياء يتسم به هذا الرجل .. فيما كان حامد نورى يبتسم ويقول رافعــــا عنها حرجا تحس ببعضــه :
- هذه علوية ..... مساعدتي .. - مرحبا .... كيف حالك يا علوية ؟ - (انا كويس) .... (بس مصدع شوية ) - علوية تعاني صداعا منذ ليلة امس ....
قالها ببساطة حسدته عليها .... - اذا فهي تنام هنا ..... - لا ....... لا هي التى قالت ذلك حينما جاءت هذا الصباح
قلت له بكل براءة .......... - الآن عرفت لماذا لاتقيم معنا ...... - سلامتك يا علوية ........ - الله يسلمك ....
ثم قرصته في يده وانا خارج قائلا : - هنيئـــــــا ..... - هناءك الله ........ واضاف وهو يضحك - ايها الحاقد الجديد .......
داخل معمل التحاليل الطبية كان الوضع معتادا ..... طاولات مرتفعة عليها جهازي الرؤية الدقيقة (مايكروسكــوب) بمقاعدها الدائرية الصغيرة المرتفعة والتى لاتحتمل شخصا بدينــا وعلى الجدران والخزانات تتعلق القوارير الزرقاء المعروفة المحتوية على المحاليل والاصباغ ... الشىء الوحيد غير المعتاد كانت رؤيتي لانـــور تمســـاح وهو يضع نظارة طبية ضخمة كجده اجريت لها عميلة الماء الابيض . لم ارها على عينيه منذ اتيت الى هنا .... قال انـــه يستخدمها للعمل والقراءة فقط ... فقلت ممازحـــا :
- وماذا تبقى سوى الكوتشينة ؟
عرفنــى على الموجودين من مساعدين وعساكر وخرجنا باتجــــاه قسم الاسنان .
كان الدكتور محمد يوسف جالسا الى مكتبه وهو يحتسى كوبا من الشاي الاحمر ويطالع كتابا امامه وحين رآنـــا وقف مرحبا وضاحكا محنيا ظهره قليلا الى الامام وبادرنى قائلا :
- شكرا يا ايهاب لانك احضرت كمالا اليوم لزيارتنا ... لكن كمال دافع عن نفسه قائلا : - انا امر من هنا دائما ولكنى لااجدك ........ فقلت له : - نحن الان في زيارة عمل تعريفية ..... - مرحبــــا .....
قادنا الى داخل القسم الذى كان كما اسلفت بيتا متكاملا به ثلاث غرف بصالاتها وحمام بالداخل ونوافذه من خشب عادى مطلى بلون لايمكـــن تحديده ومغطــاة باسلاك ناعمة . في احدى الغرف سريران مرتبان لكن محمد يوسف لايقيم معنا في الغرفة الواسعة . كانت به وحدتا اسنان احداهما تعمل يدويا ولكنها بحالة جيدة جدا مع ملحقاتها كاملة بما فيها جهاز اشعة اسنان صغير بينما الاخرى قديمة معطوبة وغير مستخدمة .
ابان لنا الشاب الطويل ذو الظهر المحنى قليلا والابتسامة الودودة انــه يعمل هنا (كفتاحة البيبسى) على خلع الاسنان فقط بالرغم ان الوحدة جيدة جدا وهو يمتلك مجموعة من الادوات والاجهزة والمواد التــى لاتتوفر حتى في الخرطوم لكنه .... للاسف ... لايمتلك (الموتور) الذى يستخدم في حفر الاسنان وتجهيزها للحشوات .
كانت هنالك امراتان في القسم ايضا اشار اليهما محمد يوسف قائلا : - هذه (راسيكــا) ...
امراه تشب نحو الثلاثين ترتدى زيا عسكريا مكونا من بنطلون ضيق وقميص طويل وفضفاض وتضع شريطين على ساعدها . كل ما فيها صغير ومتناسق .... عيناها صغيرتان ناعستان حلوتـان ... بالكاد تفتحهما وندبة صغيرة على شفتها العليا وجسد صغير متناسق .. ورغم بشرتها الداكنة السواد فانها جميلة فاتنة وهادئة للغاية حتى انك لاتكاد تحس بها .
ثم اشار الى الاخرى قائلا : - وهـذه (جيسى) ....
فتاة في العشرين ولعلها لم تبلغ العشرين بعد .... لها عينا قطــة على وشك ان تعبر الطريق .... مستديرتان ... جاحظتان ..... ومضيئتان. في وجهها بقايا مرض جلدي غائر ترك عليه الزمن اثـرا لا ينمحى .
كانتا ممرضتا القسم تعملان فقط على النظافة وتجهيز المرضى وتعقيم الادوات .. سألت الدكتور محمد : - اذا فانت تعمل هنا لوحدك ؟ - لا ... هنالك الرقيب (جورج ماتيانغ) وهو مساعد طبي ويقوم بكل الاعمال الا مــااستعصى عليه فانه يستدعني .... وهو رجل طيب وخدوم وملتزم ... لكنه عانى الامرين بعد وفاة (منصور) المساعد الطبي الاخر قبل اربعة اشهر من الان .
بدا التأثر على وجه الدكتور كمال وقال : - سامحه الله ... يقولون انه كان رجلا طيبا وفكهـــا .... لا يلتقيك الا ضاحكا وممازحــــا ....
- فقال الدكتور محمد يوسف متأثرا : - ( اهو ده اللي وداه في ستين داهية) ....
دهشت لما قاله فتساءلت بحيـــرة : - كيف ذلك ؟ - لقد مات مقتولا ... - في (متحرك) ؟ - لا ...... لا ...
ثم اضـــاف : - تلك قصة اخرى ....
تدخل كمال الذى لايحب كثيرا الخوض في شئون الاخرين قائلا : - اه الان بين يدي ربه ....... الله يتولانا جميعا برحمته .
لكن الفضول اخذ منى كل ماخذ فغمزت للدكتور محمد يوسف بعينـــــى قائلا : - سأتخلـــص من مولانــا وتخبرنى لاحقـــا ..
فقال محمد يوسف غامزا كمالا : - عندما وقع الحادث لم يكن موجودا فكيف عرف ان لم يخبروه به ......
فقال كمال ضاحكـــا : - انا اعلم انك تريد ان تخبره ..... لكننا الان تأخرنـــا على العمل
واضــــــاف : - هنالك مرضى ينتظرون .......
عدنا ادراجنا لنجلس في العيادة ونعاين المرضى الذين اصطفوا بـــــأمرة فردين من الشرطة العسكرية . ومن حسن الطالع ان المرضى لم يكونوا كثيرى العدد في اول يوم عمل لي بالمستشفى لكن الحالات التى عاينتها كانت مربكة بعض الشئ ... لم تكن صعبة او غريبة ولكنها جميعا كان يمكن تفاديها لو ان الوضع اكثر استقرارا وامنـــا ....... الملاريا هي القاسم المشترك .... ملاريا باعراض خفيفة ..... كلوروكويـــن حقــن .... ملاريا لا تستجيب للكلوروكوين .... كينين حبوب او كينين ســـائل ... محاليل وريـــدية ....... فانسيدار ...... دوكسى سايكلين .......
حالات اسهال مريبة وفي اغلب الاحيان لاتفسير لها فتاق ..... بواسير ...... علاج ...... مرهم ....تحويل .... عيادة الجراحة ...(مستر) فريد ليس على استعداد لمعاينة بطن مريض ناهيك عن مؤخرته .....
عموما كانت حالات مرضية ناتجة عن سوء التغذية وتدهور البية ونقص مناعة الاجسام المتعبة .... المدينة بحاجة ماسة لاخصائي طـــب المجتمع وقبل ذلك وبعده نهوض بالبيئة وتنمية الفرد ... هذا مااشار به كمال الحالم ..... ولم اقله بل اكتفيت بالابتسام فقط لان حديثه لم يكن بحاجة للتعليق ....
بالرغم من وجود غرفتين منفصلتين بحذاء بعضهما البعض فقد فضلنــا ان نجلس سوية لمعاينة المرضى ...... غرفة بثلاث مكاتب صغيرة وستارتان لفحص المرضى .
لم يتبق الا القليل من المرضى ..... حوالي خمسة اشخاص جاء المستجد حليق الرأس والمختص مع اثنين اخرين بخدمة الاستراحة فقط وقال مخاطبا كمال :
- (فتور جاهز)....
فقال كمال بدوره : - اذهب انت وانا ســأعاين البقية ...
فقلت مدفوعا بحماس البداية المعتاد : - بل انا ...... فقط اصنعوا لي (ساندويتشــــا) ...
انتهى من فحص المريض الذى بين يديه ثم مضى وبقيت لأفحص البقية بكل حماس البدايات المثيرة ... ينتابني شعور غامر بأني لست ذلك الشاب الوجل الذى كنت بالامس ... مسترخيا راضيــــا ... ومتحمسا اقرب مااكون الى اللحظة التى ينتابني فيها الاحساس بالامساك بالقلم والكتابة عن شيء ما .. شيء يخصك ويخضك ويغربل كيانك ... لشخص ما ... لصيق وحميم قريب من القلب وان تناءى وبعد آه ... نعم ... انه ابي .. سأكتب له خطابا اليوم ... اعلمه فيه ... اعلمه ماذا ؟ .... هل اقول له انى سعيد هنــا ؟ لكنى لست سعيدا .... انا راضى فقط ... راضى عن ماذا ؟ ... هل اقول له انى كنت راضى عن نفسي فتلك هي السعادة القصوى في عرفه ... وانا لم اصل بعد الى مرحلة الرضا عن النفس .... على الاقل ... هنـــا .... والان عنها ..... انا راضى عن المحيط من حولى ... ربمــأ ... صـــراحة مــاكــان يخطر ببالي قط ان اجد هذه المجموعة من الشباب بجوارى .. شباب في عمرى ... افرادا من جيلى التعس يعيشون ظرفــى .. ويتلكـــأوون في طرقات الحياة كما اصنع ..
كنت مستلقيا على كرسي شبة وثير مادا قدمــى من تحت طــاولتي الصغيرة ومشبكا يدي حول صدرى ومغمضــا عينــى على عوالمى اللانهائية حينما سمعت طرقا خفيضا على الباب الموارب قليلا . خلت عيناى لارى كان الرقيب طويل القامة ذى العينين الحمراوين الذى خمنت امسا انه معلم مستجدين قد مارس طقوسه العسكرية التــى لاترحم من خبط الارض بالقدم ورفع اليد بالتحية قائلا :
- تمام سعادتك .... ولد موجود ..... - احضــره ...
جاء صبي في الرابعة عشر من عمره ........ انسل للتو عن جسده وبدا في التطاول ..... نحيف ضامر وكأنه يأكـــل نصف وجبة في اليوم لكنه متماسك البنيان بخدين غير ناتئين ويدين غير معروقتين . نظرت الى عينيه فلم اتبين حدقة ولا بؤبؤا .. بدى متعبا وموجوعا كمن يعانى لاعوام طويلة من هاتين العينين . كانتا مشوشتين محموتين وناتئتين كقمر بدر في ليلة مغبرة .. تذكرت وصفة بالامس لحالة الصبي بانها حساسية . دعــوت الصبي ليقترب منى فجــاء بخطو متعثر محاولا تجنب الطاولة التى اجلس من وراها بتلمس طرفها القريب – لقد كان على وشك العمى – تأملت كرتا النار اللتان في مقدمة رأسه ثم مددت يدى محاولا ازاحة جفن عينه اليمنى بابهام يدي الايسر واضعا بقية اصابعي على رأسه وجبهته لكنه تراجع قليلا .. مشتظيا وموجوعا كمن وطــأ جمرة . تركته وذهبت لاغسل يدي في الحوض البعيد ثم عدت ثانية الى مقعدى وافكار متكاثرة تطن في راسى كنمل يتسنم جيفه . سألت الرجل وانا في متاهتي الابدية كطبيب من القرون الوسطى قائلا :
- كم من الوقت منذ ان بدا يعاني الصبي ؟ - والله سعادتك ممكن اتنين سنه .... - الم يقابل طبيبا من قبل ؟ - ممكن تلاتة دكتور .... بعدين (علاج) مافي فايدة .....
قال كلمة (علاج) بانجليزية اكاد لاامتلكها فدهشت .....
مهنة الطب كعلبة الشطرنج احيانا ... فكر سجال بين غريمين هما غالبا صديقين .. الطبيب والمرض . فالاخير حالة عرضية او طارئة تتــــرك المريض نهبا للاوجاع والالام والهواجس والظنون وربمـــا اسلمته للمنون فيما يمنح الطبيب حظوة وزهوا ومالا .وحينما يلتقيان وجهـــا لوجه ويتصارعان على جسد مريض مضنـــــى يبـــدآن في اخراج ادواتهما . فلكل خبثه ووسائله .. طريقته ومفاجأته . وعندما يكون المرض عصيا وحرونا تتدخل المفاجأة والحظ والتوفيق والالهام احيانا لفك طلاسمه ومحاولة هزيمته والقضاء عليه والا ... فرحمه ربك وسعت كل حسنا لنكن عقلانيين ومنطقيين ... فالعلم والتجربة والممارسة والمريض المتعاون والفحص والتحليل ثم ومن بعد الحظ والتوفيق كلها ادوات يسخرها المعالج لخدمه حربه ضد المرض . ولاشك ان مفصل العلاقة هو التشخيص السليم للمرض وهو ضالة الاطباء المفقودة وشغلهم الشاغل منذ ان فقست بيضة الحياة فخرج فرح الطب الى الوجود والتشخيص يمكن ان تصل اليه بنظرة واحده تلقيها على المريض بسماع صوته او بالاستماع الى شكواه او بفحصه وتلمس جسده بطلب فحوصه والاستعانة بما توفر من اجهزة ومعدات وصولا الى الحقيقة العصية ... تتجمع كل هذه المعطيات كسحب في السماء تسوقها الريح من اصقاع نائية بعيدة وحينما تحتك وتتلاصق يشع برق نافذ بلمحة عبقرية فيضيئ الارض ويرج السماء .
من حسن الطالع انى كنت قد عملت لشهرين ابـــــان فترة الامتياز بمستشفى الخرطوم للعيون بمحـاذاه النيل الازرق الفتان وبقرب الجامعة الام الحزينة ... فقارنت بين حالتين عاينتهما هنالك وبيـن هذه الان . استعرضت وانا عائد من حوض غسيل الايدي الى طاولة مكتبي شريطا مر كقطار ليلى تائه .. احتقان ... رمد ... حساسية .... فيروسات .... فطريات ... غبار .... اتربة ... جوبا .. ثم لمـع البـرق .. كما تدوى طفلة يتيمة في جوف ليل مسهد ...... (عمى الجور) .
سألت الرقيب الذى كنت ارى الان عينيه مختلفتين عن ذيانك اللتين كانتا بالامس .... رأيتهما حـزينتين حنونتين ومنكسرتين :
- مااسم الصبي ؟ - دينق ...
ثم اضاف بعد ان ابتلع ريقه مترقبا : - دينق جورج ماتيانق ... - آه .... انت مساعد الدكتور محمد يوسف في الاسنان ؟؟ - تمام سعادتك ...
كنت على وشك ان اقول له بأنى خلته بالامس معلم مستجدين لكن الاحرف تناثرت متبعثرة ثم تجمعت مرة اخرى :
- ولـــــد .... لازم يدخــل مستـشفى .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: عماد الشبلي)
|
Quote: ايها الناس ايها بدر الدين الأمير و ايها كل الاخوة في الدوحة و ايها كل معارفي و اصدقائي على مدى السودان و خارجه اشكرو معي الأخ بكري الذي أستضافني اليكم ان شاء الله ساكون معكم بالكميرا و الكلمة و انا في خدمة الجميع رحبو بي لأول مرة |
عماد الشبلى يامرحبا يامرحبة اهلا بصاحب العدسة الماسية اهلا بشيخ مصورين جريدة الوطن القطرية اهلا بالعدسة الاحترافية التى وثقت مصطفي سيداحمد اهلا ياصاحب الدرر النفسية من صور مصطفى سيد احمد اهلا بالفنان والصديق عماد الشبلى وكامل تقديرنا لبكرى ابوبكر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: Yasir Elsharif)
|
-5-
مساء اليوم جاء الملازم اول خالد محمود لزيارتي وتفقد احوالى كما وعد بالامس .. جلسنا .. تحدثنا .. ضحكنــا وشربنا الشاي والقهوة . كان بسيطا ولطيفا كما هو انطباعي الاول عنه . من ذلك الصنف من الناس الذى لايجهدك في الحديث ولايتطلب توخى الالفاظ والعبارات . ليس سطحيا ولامتفذلكا ولكنه كغدير رائق ترى سطحه ولايخفى عليك جوفه . تحسه صديقا مضت على معرفتك به سنوات طويلة . شــرعنــا نوافذنا مره اخرى باتجاه بعضنا البعض غير اننا كنا اكثر قربا وحميمية هذه المره .... طرقنا مواضيع شتى تتعلق غالبا بهمومنا وامالنا . فنحن ابناء جيل واحد كان قدرنا على الدوام ان نمارس القلق ونلتف على الاحزان .... لربما كانت تلك رؤية كل جيل في كل زمان انهم الضحية والابطال في آن معا وانهم الصفوة والمثال . وبرغم تباين موقعينا واختلاف مدارسنا فقد كان هنالك شيئا ما بيننا لتقل انه الطموح ... الاحساس بالحميمية والاحساس بالاخرين الامل في ان نأخذ منها مانحتاجه . عرض على صور خطيبته فهنأته على جمالها الاخاذ ورقتها البادية ثم ادهشته بقولى له انى لم احبب فتاة من قبل . لم يطلب تفسيرا لكنى قلت له ان مقاييسى للجمال مختلفة قليلا .... فأنـــا رجل عائلي كأبى واعجابي بأمى كأمرأه يفوق قليلا الحدود المنطقية .... ولذا عشت عمرى اضع كل فتاة اقابلها في ميزانها فلا تلبس ان تهوى . ادركت ذلك حتى قبل ان يكتمل نضجى وادق ابواب الرجولة .كانت وماتزال ساحرة خيالي ... كثيرا ماضبطتنى متلبســـا بالنظر اليها ... قالت لي مرة وكأنى افزعتها بعينى المفتونة مازحة :
- ياولد انا امك .....
فقلت صادقا ودون ما تفكير: - ولكنى معجب بك ......
فقالت وهي تبتسم كموناليزا من الشرق : - اتدري ؟ .... انت اكثر جمالا منى ... - فقلت مداريا حياء رجل صغير تلبسنى: - (القرد في عين امه غزال ) ....
دثرتني وانا موجة تتلوى في أعماق محيط العدم بكل ما تملكه من استثناء وتميز . كنت نبضة من قلبها وفكرة في خاطرها وشهقة من اعماق روحها اهدتها لرجل اختارته من بين الكثيرين وهي تسير معــه اولى خطواتها في الحياة .
ورثت عنها شعرا اسودا ناعما وكثيفا ووجنتان عاليتان وذقن عريض سينمائي وعينان كحيلتان نصف نائمتين وبشرة ملساء كبلور بلون حليب خالطته اوراق الشاى .
لن اكون مجحفا لها طبعا واغض طرفا من مآثرها الاخرى المتعددة في حياتى وحياة اخوتي فقد كانت معلمة في بدايات حياتها . تخلت عن وظيفتها بطيب خاطر لتتفرغ لتربيتى ورعاية زوج كان على اتم استعداد للذهاب الى اخر العالم من اجلها ... كـــانـــا يتخاصمان كــأى زوجين في الدنيا ولكنى لم ارهما قط متخاصمين ليومين متتالين . هي التى كانت تذكرني دائما ان الذكاء ليس في النبوغ الدراسي او النجاح المهنى بل في التعامل مع الاخرين وجذب اهتمامهم . فــي رأيها ان الابتسامة تفتح الطريق وان الكلمة الطيبة تــأسر قلب سامعها وتزيل هم قاتلها وانه بقدر تقدير المرء لنفسه يكون تقدير الاخرين له . وهي ايضا صاحبة نظرية المسافة بينه والاخرين مهما علوا او دنوا ... يمكن ان تكون واسعة لحد التباعد او صغيرة حد التلامس .. لاغضاضة في ذلك ولكنها يجب ان تكون موجودة حتى يكون لديك الوقت لتجنب تفاهات الاخرين والالتفاف على سقطاتك الشخصية .
رويت للملازم خالد قصة قصيرة- لم ارى في سردها غضاضة مــا وهي عن امي – كان ذلك منذ اعوام قليلة مضت حينما اعطاني ابي بطاقة هوية نفذت صلاحيتها منذ امد بعيد تخصها لحوجة طارئة بغرض تحديثها مع خطاب توصية من احد اصدقائه (المقدم) شرطة يعمل في ذات المجال . التقيت (المقدم) الذى تناول في الحال استمارة بجانبه . عبأها والصق بها الصور الفوتوغرافية وناولنى اياها لاقوم بتوصيلها الى المساعد ذو الشعر الابيض الجالس بعيدا .قام هذا الاخير بعمله في سرعة حسدت نفسي عليها وقبل ان يناولني البطاقة تأمل الصورة قليلا ثم قال :
- ماذا تكون بالنسبة لك ؟
لم يدهشني السؤال فأجبته ببساطة :
- الـــوالـــدة .......
اثار حيرتي هذه المرة اذ قال :
هل هي بخيــــر ؟
- نعم ...... هل تعرفها ؟
- ليس في زماننا من لايعرفها ....... كانت ملكة شارع (الموردة) جمالا وتهذيبا ... مامن شاب واحد لم يتوق الى الزواج منها حتى ظفر بها الاستاذ بركات .
واضاف المساعد :
- كنا نسميها الملكة (نفرتيتي) ..... لانها كانت تكوم شعرها في رأسها كما كانت الموضة فتبدو كلوحة لنحت فرعونى يمثل ملكة التاريخ المبجلة معلقة على جدار اثرى ......
تذكرت الان بان ابي كثيرا ماكان يدعوها بنفس الاسم .
ليست سليلة حسب ونسب او غنى ... على العكس تماما .... اسرتها فقيرة حد الكفاف وابيها عاش حتى مات وهو محاذاة هامش العدم لكنه استعاض عن ذلك بذكائه الذى وهبها اياه والذى كان يرى به ابعد مما تحت قدميه . ادخل ابناءه المدارس وحرص على ذلك حتى تهيأووا جميعا للحياة كما ينبغى مستفيدا من سائحة لا تتوفر الان – مجانية التعليم- تخرجت امي من معهد المعلمات بامدرمان وعملت كمعلمة لعامين كاملين ضاربة عرض الحائط بعروض وغراميات من كانوا يحسبون عليه القوم آنذاك – حسناء امدرمانية لاتبز يقسم الكثيرون بأنها كانت مادة لكثير من أغنيات الزمن الامدرمانى الجميل وان عبدالرحمن الريح بشخصه قد جاء على ذكرها في احدى روائعه .. قبل ان تقع في براثن موظف مرموق خريج جامعة الخرطوم امبراطورة الزمن .
فجأة هبط علينا الشباب من حيث لاندرى . جاء محمد يوسف وانور تمساح وحامد نورى فجلسوا معنا. كانت المفاجأة الطريفة في الفارق بين حديث الملازم خالد وحديث انور تمساح . الاول ابن المدينة الـذى لم تربطه بالريف اي رابطة في اي وقت فيما الاخر مخلوط بطين الارض ومعفر بترابها البكر لبس العراقي والسروال .. حصد الزرع وحرس الماء (كتربال) ركب الحمار وحرث التربة باستخدام الثيران ومن ثم (التراكتورات) الميكانيكية ... لكنه ايضا درس في الجامعة وخالط ابناء العاصمة وبناتها فاكتسب الحكمة بطموح يفوق حياء ابن القرية ويقل عن تطلعات ابن المدينة عندما علم خالد انه كان يستخدم التراكتور لحرث الارض وسأله ان كان هنالك فرق بين قيادة السيارة والتراكتور الزراعي . فقال انور ان قيادة التراكتور كقيادة ثورين للحراثة (بسناج) مكسور . ضحكت حتى كدت استلقى على قفاى للتشبية البيلغ وسرعة البديهة النادرة فيما الملازم خالد لايدرى شيئا عن كلمة (سناج) التى استخدمها انور الذى طلب منى تفسيرها على سبيل التحدى فقلت له انها العصى التى توضع على كتفى الثورين لتنسيق الحركة وحفظ التوازن . فدهش قائلا :
- وانا الذى كنت اظنك (حنكوشا) خرطوميا ...........
صباحا باكرا دعاني النقيب حسين محمود للذهاب الى السوق في جولة تعريفية بالمدينة . قمت بجولتى الصباحية في عنابر المرضى واستسمحت الدكتور كمال وذهبت برفقته . كانت الشمس ساطعة بلا ادنى غيوم غير ان اشعتها بدت غير لاذعة ... بل انها طرية وكأنها قد اغتسلت للتو فيما كان الطريق مسلفتا بشكل غير جيد قامت على اطرافه اعشاب كثيفة جافة امتدت حتى حدود الجبال ومنازل القش المتطاولة والصخور المبعثرة حتى اعتاب الجبال ومنازل القش المترامية في البعيد حد النظر بدا ساحرا خلابا . امتد الطريق لحوالي اربعة كيلومترات قبل ان تبدأ معالم المدينة في الظهور . كان اول مارأيته شجرتان ضخمتان على جانبي الطريق جلست تحتهما بائعات الشاي بأدواتهن المعروفة من بنابر وكوانين واواني لامعة وسيقان مكشوفة واثداء تكاد ان تطل من مخبأها . قامت بجانب الشجرتان عدة اكشاك صغيرة لبيع الخردوات كالشاي والسكر والسجاير والعاب الاطفال . وفيما كان الطريق يتفرع يمينا الى قلب المدينة والاسواق واماما الى المطار . بدت جامعة جوبا بين امتدادى الطريق الى اليسارمن الداخل الى السوق والى اليمين من الذاهب الى المطار – صارت الان قيادة قوات الدفاع الشعبي – تحول الصرح العلمى الى ثكنة عسكرية ببساطة طفل يركل كرة امامه وهو يسير بلا هموم .
انحرفت السيارة يمينا باتجاه سوق (موقف ياي) ... اصغر السوقين اللذين يوجدان في المدينة . عندما مررنا به لم ارى شيئا ذا بال .. ليس الا عدة محلات تجارية ومطعمان متوسطان وباعة متجولين باسمــال بالية وطبعا ... بائعات الشاي .وبرغم اسمه فلم يبدو اي اثر لسيارات ذاهبة الى اي مكان كما ان كثيرا من المحلات كان مغلقا لسبب لم ادركه الا عندما قال النقيب حسين :
- هذه كانت ملاهى ليلية ومحلات تجارية معتبرة تعمل بهمة حتى العام 1992 عندما وقعت حادثة جوبا الشهيرة التى غيرت وجه المدينة واثارت هلعا لن ينساه الناس ابدا هنا .
كنت قد سمعت بالحادثة من وسائل الاعلام الرسمية ولم اعرها اهتماما بالطبع كما فعل الكثيرون الذين رفضوا تلقينهم نصف الحقيقة .لكن ان تجد احدا هو بمثابة شاهد عيان لحدث مفصلى كهذا فقد كان امرا جديرا باستدعاء اقصى الفضول .
قال النقيب حسين ان المتمردين تسللوا الى داخل المدينة واندسوا بين المواطنين حتى اكتمل عتادهم وحانت ساعة الصفر فهاجموا المدينة وكان همهم منصبا على موقعين لا ثالث لهما وهما بالطبع قيادة المنطقة العسكرية الاستوائية ومطار جوبا . وقد استطاعوا السيطرة على الموقعين في زمن قياسي حتى انهم كانوا طاردوا العساكر خارج القيادة واجلوا المرضى من المستشفى العسكري وقاموا بتمشيط كامل المنطقة المحيطة بالمطار .
ثم اضاف النقيب حسين :
- كان الشيء الذى جعل خطتهم تشهد ذلك النجاح الساحق هو نفس الشيء الذى ادى الى هزيمتهم ودحرهم اخيرا .....
كان النقيب يجلس في المقعد الامامي للسيارة ال(لاند كروزو) بجوار السائق فيما يضع يده اليسرى بامتداد مسند المقعد الامامي ملتفتا اغلب الوقت ناحيتي فيما ابتسامته الصافية لاتفارق شفتيه وعندما راى نظرة الدهشة التى رمقته بها اكمل نصف دورة بجزعـــه يستطيع مواجهتي اكثر قائلا:
- نعم فوجود كل وحدات القيادة المختلفة في مكان واحد جعلهم يقومون بتركيز هجومهم باتجاه القيادة وينجحون في اختراقها مستغلين عاملى المباغتة وتراخى قوى الخصم غير المهيــأ بدنيا ونفسيا لاى عمل عسكري بهذا الحجم في هذا الوقت .
ثم اكمل النقيب : - كان الامر الذى قلب الطاولة وحول مجريات الاحداث هو وجود وحدة سلاح المدرعات خارج منظومة وحدات القيادة العامة الاخرى حيث قامت الاخيرة بالعمل الاكثر اهمية في تاريخ القوات المسلحة السودانية في منطقة الاستوائية . اذ هاجمت قوة مدرعة ثكنات القيادة التى تمركز فيها المتمردين مجلين قوات القيادة المرتعبة بفعل المفاجأة خارجا . لكنهم سرعان مااستداروا حينما علموا بأمر الهجوم المدرع المصحوب بتغطية المدفعية طويلة وقصيرة المدى حتى تم الاجلاء كاملا ومن ثم بدأت عمليات التمشيط.
صمت النقيب حسين لفترة غير قصيرة وكأن شريطا من الذكريات الوجلة كان يتعثر في المرور بمخيلته فيما السيارة تتقافز فوق طريق ملىء بحجارة غليظة كأنها بقايا جبال مدفونة والسائق يصارع عجلة القيادة بكل طاقته .
لم أشـــأ اخراجه من حالة صمته التى بدت حبلى بالوجع فتركته لتلك الغمامة التى باتت تتلبس ذهنه قبل ان يستدرك حالته ويستطرد الحديث :
- كان الهجوم على مدينة جوبا ضربة موجعة في صميم هيبة العسكرية السودانية على مر تاريخها الحافل . كما ان التسلل الذى سبق الهجوم مثل حالة من حالات الوهن والاسترخاء الذى صاحب قوى الامن والاستخبارات حينها والذى لم يكون من السهولة بمكان تكراره مرة اخرى ولذا فقد كان الانتقام رهيبا ومروعا .
التفت ناحيتي مرة اخرى متسائلا : - انت طبعا تعرف العقيد (الوحش) ؟
قفز الرجل الذى لم اكن اراه الا على شاشة التلفزيون الى مخيلتي مباشرة .. نحيف مربوع القامة ... سكوت لا يدلى بتصريحات صحفية يسعى لها الاخرين بأيديهم واقدامهم وابتسامتهم . كان عضوا بمجلس قيادة الثورة منذ انشـــائه بمهام هلامية ليست ذات طبيعة معينة للمواطن العادى .. ولكن اصغر طفل في البلاد كان يعلم ان صلاحياته الامنية لاحدود لها .
- طبعا .... وهل من احد لايعرفه ؟
اجبته بتلقائية وحماس ... فاستطرد قائلا هامسا ومبتسما :
- لقد استرد شرف القوات المسلحة .....
احسست لاول مرة منذ ان اتيت الى هنا ان النقيب حسين ليس الا عسكريا قحــا .... ولم اجد من وسيلة لانتزاع مايعلمه عن ذلك الان ... غير ان لغة التشفى التى استغربتها في حديثه كان لها مايبررها اذ قتل في تلك الاحداث احد اقرب اصدقائه اليه في المطار وكان حينها اعزلا من اي سلاح .
اما الشي الذى لم يكن حتما النقيب حسين على علم به فهو ان الاستخبارات العسكرية ستعيد ذات الغفلة مرة اخرى وبعد بضعة اشهر لا اكثر .
عاد بي حديث النقيب حسين الى الوراء سنوات ليست طويلة حيث توقفت عند ذلك التاريخ .. وتحديدا ذلك اليوم الذى خصصته نقابة العاملين بكلية الطب للاحتفاء بخليص مدينة جوبا (العزيزة) مما كان يسمى حينها ب( المحاولة اليائسة ) .
كان اليوم خميسا وقد استحدثت وزارة شئون الرئاسة في تلك الفترة ماصطلح على تسميته بيوم الخدمة العامة على ان يكون يوم الخميس من كل اسبوع . حيث يجتمع العاملون في كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية للاحتفال باللاشىء مبدين كرما باذخا وترفا مجنونا يتنافى وبرنامج الحكومة للتقشف حينها .
اقيم سرادق ضخم فوق الميدان المغطى بالحشائش النقابل لقاعة البغدادي العتيدة بكلية الطب .ووزعت الحلوى والمشروبات الغازية والتمر والفول السواداني ... ونصبت المجاهير ذات الاصوات المحيطية الطنانة فيما كان المتحدث الرئيسي مسؤولا عسكريا وبالتالي – سياسيا – رفيع المقام – آنذاك – قبل ان يلقى به في غياهب المجهول .
جاء يرتدي جلبابا ابيضا ناصعا وعمامة مقنطرة كتل صغيرة وحذاءا لامعا تنعكس على صفحته اوجه البؤساء والمطحونين .. ويلتف بعباءة بلون السماء ... زرقاء حالمة .
ابتدع سردا سلسا بلغة رنانة وعبارات جذابة وحقائق بدت لمن يتعمق في حديثه متناقضة لاتتماسك . ثم اختتم محاضرته بذكر بعض (المعجزات) التى صاحبت الحدث وكانت اكثرها جاذبية تلك التى قال فيها ان بعض المدافع المنصوبة بسلاح المدرعات والتى تعمل بتنسيق وبتوالي ألي فيما بينها حالما تعطى اشارة البدء من قبل الجندى المكلف بادارتها قد قامت – ومن تلقاء نفسها – بضبط احداثياتها وتحديد الاتجاه والمسافة ثم العمل بكفاءة ودونما توقف حتى كانت عاملا حاسما ومساعدا في دحر الخوارج والمتسللين ......
دوت الاصوات متعالية بالتكبيير والتهليل ورفعت الايدي الى عنان السماء فيما لملم المتحدث اطراف عباءته بيده اليسرى وتجاوب مع الحضور المثار بابتسامة صغيرة وهو يرفع سبابة يده اليمنى عالية نحو السماء ويهمس بصوت خفيض في مكبرات الصوت :
- الله اكبر ........ الله اكبر ........
كنت وقتئذ في منتصف المرحلة الجامعية وقد اتخذت مجلسي بالقرب من الصفوف الخلفية فيما جلس امامي طالبان حديثى الالتحاق بالكلية :
- ماهي رتبة الله في سلاح المدرعات ؟
فابتسم الاخر قائلا :
- لابد انه قد حاز على ترقية استثنائية الى الملازم .......
كنا قد تجاوزنا مجموعة كبيرة من ورش النجارة التى تتميز بها مدينة جوبا باعتبارها احد المراكز الرئيسية للاخشاب في السودان ونحن في الطريق الى السوق الرئيسي بالمدينة (سوق كنج كونج) والذى يقع في وسط المدينة ويمثل قلبها النابض .
حينما وصلنا مشارفه بدا لي مترامي الاطراف ..... بل بدا بلا اي ابعاد محددة غير ان السمة الاساسية كانت هي التجمعات المنتظمة لانواع البضائع التى تباع به ... فتجار الاقمشة معا والاحذية معا واللحوم والفواكة معا وهكذا ... اما المحال التجارية فيتكون اغلبها من الصفيح (الزنك) والبعض الاخر من الخيش والاقمشة الثقيلة .
قمنا بجولة سريعة في انحائه قبل ان تتوقف السيارة لدقائق ونترجل منها قاصدين مجموعة من البائعين واصحاب المهن غير المجدية الجالسين بجوار بعضهم البعض وكأنهم يحتمون من بؤس الواقع . يكونون صفا طويلا وقد رصت من خلفهم بعض اللوحات والمخطوطات المستندة الى حائط واطئ.
اتجه مباشرة الى احدهم في المنتصف تماما والقى عليه التحية ثم ناوله قطعتين خضراوين من تلك التى ترص عليها انجم الضباط قائلا :
- نجمة واحدة بالله ... وكلمة طبيب هنا .... واشار الى المكان الذى يريده . - مافي مشكلة سعادتك ......
كان خطاطا واسكافيا معا قصيرا وممتلئا وهو يهم بالوقوف لتحية النقيب حسين .
كانت المساحة الاجمالية لسوق اللحوم ليست كبيرة او ربما كانت مكتظة بالبائعين المتجولين والمشترين غير القليلين والشحاذين المنتشرين في كل مكان .
ابسط كلمة تعبر عن الحال لمن يلج سوق اللحوم والخضر هي الاحساس بالقرف . فبعد يومين قضيتهما في المستشفى العسكري تذوقت فيهما مالذ وطاب من انواع المأكولات والمشروبات كان على ان اتى الى هنا حتى ارى بام عيني من اين يجلبون لحومهم وخضارهم وفواكههم وادرك انه لولا الطبخ الجيد الذى كانت على رأسه امرأة ظلت في وظيفتها لفترة تجاوزت الثمانية عشر عاما لكنا صرعى ذات الاوبئة التى ياتينى بها مرضاى المعتادون كل صباح .
ورغم الظواهر المتعددة لهذا السوق الذى بدا لايمت باي صلة للحياة العصرية التى نعيش في رحابها فقد كان يضج بالحركة والحياة .
يعتبر التجول في سوق (كنج كونج) ضربا من ايذاء الذات وجلد المشاعر واستدعاء اقصى درجات الحزن والاسى .. وكما ان لكل كتاب عنوان ولكل باب مفتاح فان (كنج كونج) هو مفتاح مدينة جوبا وشيفرة بؤسها وعنوان حياتها وشقائها معا . تأتي فيستقبلك الذباب والشحاذون والباعة شبة العراة . لاول مرة في حياتي اواجة بهذا المشهد ..... بـــائع احوج الى مـــا يبيع من المشترى ؟؟؟.... جل الباعة في السوق من الجنوبيين وقلة شماليون يتواجدون بشكل رئيسى في محلات بيع اللحوم حيث يعرضون بضاعة تكاثر عليها الذباب حتى كاد ان يلتهمها فيما عجزت كل المحاولات المبذولة لاقصــائه . والشحاذون يملاون الطرقات ويسدون المنافذ فاينما تول وجهك فثمة من يمد يده بالحاح وامل .
يعمل معظم الباعة في السوق تحت ضغط الحاجة الملحة كما يبدو اذ ليسوا متمرسين ولا يمتلكون محلات مشيدة ولو كانت صغيرة ..... يتغرفصون على الارض الجوداء مادين امامهم افرشا مهتزئة ليعرضوا عليها بضاعة لاتجد اقبالا الا من هم في مثل حالتهم او ادنــى قليلا – شحاذون ايضا يمتلكون الحد الادنى من الكرامة والصبـــر – يعرض غالبيتهم نباتا اشبة بالبطاطا ذى لون ابيض حليبي وقرون متشعبة يعبــأ في سطول صغيرة ومتوسطة يسمى (البفرة) لم اذقه مطلقا او حتى اراه من قبل لكنه بدا لي انه يتمتع بمكانه معتبرة هنا . اما بقية الباعة فيعملون في اشياء لاتخطر احيانا على بال ولايرى لها نفعا كالاجهزة الكهربائية منتوفة الاحشاء واطارات السيارات الممزقة والاثاث المنزلي المحطم ووجبة الخيار المغمس في حساء الشطة الحارقة .
لم استطع الاقتراب اكثر من هذا الخضم الهائل من القذارة والتناقضات فأثرت الابتعاد متكئا على السيارة الواقفة في البعيد بينما النقيب حسين يكمل جولته الشرائية الصباحية المعتادة في سوق بدا وكأنه من زمن اخر ترائى في حلم مزعج لنائم ممتلئ البطن .
اقبل صبي صغير في نحو العاشرة من عمره يرتدى بنطلونا بلا لون محدد وينتعل فردة واحدة يحمل في يده مناديل ورقية معطرة وهو يصيح :
- ( منديل بريحة ....... منديل بريحة )
لم يجد على مايبدو من هو انسب بالشراء منى فالتصق بالسيارة وهو يعرض مابيده وعيناه تنطقان بتوسـل واستعطاف فسألته :
- بكــــم ؟
امتلأ حماسا واقترب منى قائلا :
- ( واحد بس ..... اتنين الف )
كان ذلك شططا منه ولكنه لم يكن مبالغا او مبتزا فأخذت منه واحدا ونقدته الف جنية فقط ثم سألته :
- مافي مدرسة ؟؟؟؟ - مافي اكل ..... وانفلت راكضا .
ابتسمت تجاوبا مع الدرس الصغير – الطعام اولا - .
التقط النقيب حسين في طريق عودتنا شارة الضابط المستحدثة بعد ان انجزها الرجل بكل تفاني بوضع نجمة صفراء براقــــة كزهرة عباد الشمس عليها وبجانبها وبخط انيق كلمة طبيب وناولنى اياها قائلا :
- هذه لتمييزك عن بقية المستجدين وحتى لاتواجهك مشكلات مع عساكر القيادة وضباطها ان ذهبت الى هنالك .
لم تعنى لي اي شي كما اني كنت على قناعة تامة بأني لن اقع في تلك المشكلات التى يتحدث عنها ولكنى اخذتها على كل حال ووضعتها على كتفى فاحسست ثقلا منهكا وعبا متزايدا اطفأ ، وماشاهدته في سوق (كنج كونج) فضولى لاستكشاف بقية المدينة غير ان النقيب حسين كان مايزال في فورة حماسه لاطلاعي عليها .......
- انظر ...... هذا هو مسجد جوبا الكبير وتلك كنيستها ......
مبنيان عتيقان لاتفصل بينهما مسافة كبيرة مما يوحى بتعايش وتسامح قديمان ... فيما يبدو من حركة الناس حولهما انهما يؤديان وظيفتهما بكل حماس وتفائى .
جلس اناس كثيرون داخل مبنى ضخم من الاعمدة الحجرية والطوب الاحمر لكن سقفه الذى لم اتبين ما اذا كان مهدما ام غير مشيد من الاساس لاح غريبا وطريفا في آن معــا ......
- هذه هي الحكمة الاهلية الكبرى بالمدينة .....
فقلت ضاحكا وانا ابدى دهشتي الكبيرة ازاء مبنى الحكمة الموقرة غير الرصين : - الم يجدوا احدا يكمل هذا البناء ؟
نقل لى ماقاله احد اعضائها الموقرين شخصيا عندما سئل عن هذا الامر - ( عشان الله ذاتو يشوف كويس ) .... - لكن ماهي اكثر القضايا تداولا هنا ؟ - (كسر البيت) بالاضافة لقضايا القتل والثارات ......
ثم اضاف بعد قليل :
- اما السرقة والزنى وتبعات شرب الخمر والخصومات والاشتباكات فليست قضايا تستحق النظر هنا كما هي في الشمال عندنا ...
ثم ابتسم مضيفا : - ولاعليك من المخالفات المرورية ...... لان لا شرطة مرور هنا على الاطلاق فالسيارات غير العسكرية تعد على الاصابع .
- ماهو (كسر البيت) ؟
ابتسم النقيب حسين محمود ..... الاعزب الذى يقيم هنا منذ خمس سنوات مضت قائلا :
- هو ان تأخذ فتاة بكر لتعيش معك دون اخذ اذن من والديها او اعلامهما بذلك .....
- وما عقوبة ذلك ؟
- اتفاق على عدد من الابقار تدفع عاجلا او آجلا ..... لافرق.
- وهل تصبح زوجتي بعد ذلك ؟
- طبعا .... وأضــــاف:
- بل انها غالبا ماتقوم بالدفع نيابة عنك ... على المدى الطويل .
- يبدو هذا كقانون التسلل في كرة القدم ....... يرفع الحكم رايته ويستأنف اللعب وكأن شيئا لم يكن .
جوبا مدينة العجائب والتناقضات ..... افريقيا صغيرة ... بكل مافي القارة الطفلة من براءة وصفاء وفطرة سليمة كرست بدائية مفرطة وتقهقر حاد عن خط الحضارة الذى رسمته الانسانية عبر قرون وازمــان.
في الطريق الى المستشفى العسكرى مررنا مرة اخرى بسوق (موقف ياي) فاستوقفت السائق امام احد المتاجر حتى اخذ معجون للاسنان كنت بحاجة ماسة اليه .
دهشت وانا ارى المتجر ضخما من الداخل وممتلئا عن آخرة باصناف البضائع والكماليات حتى ان بعضها لم اره منذ سنوات طويلة حينما كان كل شىء في المتناول في مايشبه حالة من الرفاهية والرخاء المعيشى .
وجدت البائع شماليا في نحو الاربعين من عمره ..... أقرب الى الطول منه ربعة .... في شعره بياض يخالط سواده وآثار نعمة بادية على محياه . يرتدى جلبابا يميل الى الصفرة ويضع طاقية بيضاء على رأســــه بطريقة شبابية بينة . سلمت عليه وطلبت معجونا للاسنان فتساءل وهو بيدى اهتماما ملحوظا بهيئتى التى بدت غريبة عليه بعض الشىء :
- كبير ام صغير ؟ - ماهي اسعارهما ؟ - الصغير بسبعة آلاف والكبير بعشرة ...
قلت مباشرة وكأني اعرف هذه الارقام مسبقا : - اعطني صغيرا ......
ناولنى اياه فنقدته الثمن ولكنى لم ادعه يهنأ بالمال اذ تســـاءلت على الفور وانا اقلب اصبع المعجون البائس كقلم الرصاص المتآكل بين اصابعي :
- سعر هذا المعجون في الخرطوم الفان وخمسمائة جنية لا غير .
فقال بلؤم تاجر بعيدا عن ذويه :
- ولكن هذه جوبا وليست الخرطوم .... - نعم ..... حيث يمكنكم ان تبيعوا القفل والمفتاح منفصلين هنا ... - هذه اشاعه ... - كنت اظنها كذلك الى ان اشتريت هذا المعجون ... - فقال مبتسما كالذى ادرك ثاره اخيرا : - وانتم الاطباء هل ترحمون احدا ؟
ادركت للتو اول مساوئ الرسم الجميل للنجمة اليتيمة والخط المزركش لكلمة (طبيب) الرنانة وساورني احساس كئيب لثور لايقدر على الفكاك من وسم صاحبه لكنى ابتسمت حتى اخفف عليه وقع كلامى قائلا :
- تجار هذه الايام خصوصا لايستحقون الرحمة .....
صرخ كمستغيث :
- يادكتور الاترى اننا نعانى ؟
واضاف :
- نحن بعيدون عن اهلنا وفي منطقة عمليات حربية خطرة .
فقلت وانا اهز اكتافى :
- لم يضرب احد على يده حتى يأتي الى هنا .
- استدرت لاذهب فسمعته ينادى : - لو سمحت ..... - نعم .. - بالله اين تعمل ؟ - بالمستشفى العسكري ......
فقال مستعطفا باسلوب يتقنه التجار منذ عهد (سندباد) المبحر شرقا :
- اذا مررت من هنا ثانية فستذهب راضيـــــا ..........
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
Quote: ونصبت المجاهير ذات الاصوات المحيطية الطنانة فيما كان المتحدث الرئيسي مسؤولا عسكريا وبالتالي – سياسيا – رفيع المقام – آنذاك – قبل ان يلقى به في غياهب المجهول .
جاء يرتدي جلبابا ابيضا ناصعا وعمامة مقنطرة كتل صغيرة وحذاءا لامعا تنعكس على صفحته اوجه البؤساء والمطحونين .. ويلتف بعباءة بلون السماء ... زرقاء حالمة .
ابتدع سردا سلسا بلغة رنانة وعبارات جذابة وحقائق بدت لمن يتعمق في حديثه متناقضة لاتتماسك . ثم اختتم محاضرته بذكر بعض (المعجزات) التى صاحبت الحدث وكانت اكثرها جاذبية تلك التى قال فيها ان بعض المدافع المنصوبة بسلاح المدرعات والتى تعمل بتنسيق وبتوالي ألي فيما بينها حالما تعطى اشارة البدء من قبل الجندى المكلف بادارتها قد قامت – ومن تلقاء نفسها – بضبط احداثياتها وتحديد الاتجاه والمسافة ثم العمل بكفاءة ودونما توقف حتى كانت عاملا حاسما ومساعدا في دحر الخوارج والمتسللين ......
دوت الاصوات متعالية بالتكبيير والتهليل ورفعت الايدي الى عنان السماء فيما لملم المتحدث اطراف عباءته بيده اليسرى وتجاوب مع الحضور المثار بابتسامة صغيرة وهو يرفع سبابة يده اليمنى عالية نحو السماء ويهمس بصوت خفيض في مكبرات الصوت :
- الله اكبر ........ الله اكبر ........
كنت وقتئذ في منتصف المرحلة الجامعية وقد اتخذت مجلسي بالقرب من الصفوف الخلفية فيما جلس امامي طالبان حديثى الالتحاق بالكلية :
- ماهي رتبة الله في سلاح المدرعات ؟
فابتسم الاخر قائلا :
- لابد انه قد حاز على ترقية استثنائية الى الملازم .......
|
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: Emad Abdulla)
|
Quote: صاحبي الجميل المنعول .. يا رجل طوّلت الغيبة .
ليك التحية على هذا النص الروائي التوثيقي الجميل .. ممتع هو السرد و اللغة البسيطة الجزلى .
ياخي أنا أسعد الناس بعودتك .. و ما زلت أقرأ , فما تشحتفنا أكتر .
|
عمدتنا ومحبتنا بل وليالى هنانا يامن تسترق السمع والشوف وتكبت حين تكتب لتفك الكبت ولافكاك ... ياسيدى هذا الرواية عندى هى (لغورنيكا) حرب الجنوب ياريت ياعماد لو حدثتنا عن لوحة لغورنيكا لبيكاسو التى جسدت بادوات الفن مآسى الحرب الاهلية الاسبانية واضحت رمز لرفض القتل والقتال وبالفنون ياصاحبى يمكننا معالجة الوجدان المعطوب بفعل الحروب التى دبرها اصحاب الدبابير
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
فجرتى فينى خطوط التماس احدثتى فينى حريقاً بليغ شردتى فينى بيوتا وناس الفوضى عمت والناقصه تمت ودق النحاس ... . . كم انا سعيد بهذه الكتابه . ومبتئس لان الحرب ما كان لها اساساً ان تقوم ..بعد ان توقفت .. .. . جلست بالامس طويلا ًلاتمام الخمس مقاطع التى عرضت يابدر فكانت سعاده مضاعفه .. العمل .. منجز بعنايه واعتقدان كتابة , صديقنا د. محمدالمهدى بشرى تعبر عن الاحتفاء الذى يطال القارئ المقارع لهذا الضرب من الممارسه الابداعيه , قراءةً ..دراسه واطلاع .. هذا على سبيل العمل . وبخصوص العرض فلقد جاء موازياً وبمهاره للمنتج الابداعى مستخدما ًالبارع من الادوات , لا تملك معه الى طلب المزيد .. . سأعود حتماًمتى واتانى الوقت . سأكون بحاجه للحصول على نسخه .. . لك ولكاتبنا الورد . .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: khatab)
|
Quote: سأعود حتماًمتى واتانى الوقت . سأكون بحاجه للحصول على نسخه .. . لك ولكاتبنا الورد .
|
اهلا بالاخ والصديق الشاعر المدرار خطاب حسن احمد اهلا مبدع البت الحديقة وجلبت ليك من بلادالله البعيدة صنوف من العشق ياخطاب هل كان مصطفي يعلم بانك حا تهاجر الى بلاد الله البعيدة ياصديقى هذا الروائى هو من الجيل الذى تربى وجدانيا على جلسات الاستماع وغناء مصطفى سيد احمد هذا نتاج غرسكم وكان النتاج وعى وجدانى سليم وابداع يزداد ابدعا كل ماتمحصته شكرا لكونك هنا وتامل معى هذا المقطع من الرواية:
(لقد عشنا على الدوام فوق تراب هذا الوطن المترامى ونحن ما نزال نتساءل عن الذات والهوية .. نعانى الفرقة والتناحر والقتال .. الاختلاف والشتات والتعالى .. وطن واحد حديث التكوين بحسابات التاريخ ولكنه مثل سوب بالى اينما شددته تمزق وكيفما رتقته ازداد بلى وتلاشى هذا الوطن لم يخض معركة كبرى قط .. ولم يخض معركة إلا كانت ضد ذاته وابنائه ، فلاعجب ان ينجب ابناء موتورين وموهومين بتعالى اجوف وغطرسة بالونية مملوءة بالهواء الفاسد يخوضون بها معارك ضد ذاتهم وهى لاتقوى على الصمود والالتحام .. لا عجب ان ينجب الوحش الف وحش آخر يفرمون الغير تحت جزماتهم ويخرجونهم طحينا يتغذون به .. شرهون بلا هوادة وانانيون بلا رحمة .. يعلون قيمتهم ويحطون من قدر الآخرين ... يغذون كرامتهم بالسلطة والتجبر ويدسون كرامة الوطن في مؤخرة الزمان)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
[B]يتقاسمون كعكة السلطة السامة ويتخذون البسطاء وقودا لحربهم حتى يخرجونهم دخانا من مؤخراتهم.....
هاهى ذى جوبا اخيرا . مدينة من لحم ودم شوارعها خالية وسياراتها عسكرية وسكانها صامتون . العشب يغطى كل الامكنة ويشرأب نحو البيوت والاسفلت. كل شى جميل ولكنه غيرمرتب ولا سوى. بدت كامراة حسناء لاتستحم...
مدينة غجرية ..حديقة مهملة في بيت مهجور خطب ودها الشمال والجنوب فتمنعت وضاجعها عساكر الأرض جميعا ولما تزل عذراء بكرا.ملكة الجنوب المتوجة وحلم الشمال العصي.يغازلها السياسيون والمقاتلون كل صباح جديد وهى عصية حرون تمد لسانها ولا تأبه لوعودهم كلهم يحبها وتسلاهم جميعا.
عبد الرحمن فضل الكريم (فــــــــــــار) أنيق حتى في الطريقة التي يلعب بها كرة القدم . فنان له بصماته في كثير من ضروب الفن.كتب هذا النقش البارز علي جدار الواقعية السحرية من موقعه كشاهد علي ذلك الخراب الذي حاق بالجنوب والذي اشترك في تأكيده (بنسب متفاوتة طبعا) أبناء الشمال و الجنوب معا. مكث عبد الرحمن بالجنوب من مارس و حتى يوليو من العام 1997 و كانت هذه الإقامة كافية ليصور لنا بإحساسه الدفاق و روايته الحارقة مسرح الجريمة التاريخية التي مورست بحق الجنوب وفضحت لنا عري السياسة السودانية وخضوع سماسرتها لمؤسسة عسكرية متهالكة و مسكونة بجنون العظمة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: تاج السر جعفر الخليفة)
|
Quote: عبد الرحمن فضل الكريم (فــــــــــــار) أنيق حتى في الطريقة التي يلعب بها كرة القدم . فنان له بصماته في كثير من ضروب الفن.كتب هذا النقش البارز علي جدار الواقعية السحرية من موقعه كشاهد علي ذلك الخراب الذي حاق بالجنوب والذي اشترك في تأكيده (بنسب متفاوتة طبعا) أبناء الشمال و الجنوب |
الأخ العزيز تاج السر جعفر الخليفة لك التقدير يبدولى انك شاهد على ميلاد هذا العمل العلامة وعلى معرفة بالراوى ياريت تحدثنا اكثر عن قراءاتك لهذا النقش كما اسميته حتى لانترك التوثيق لذاكرة الغارمين الجدد التى لاتجيد غير تجميل القتل والاقتتال وكل ماهو غير انسانى على شاكلة برناج ساحة الفداء وفي حماك ربنا والميل اربعين وغيرها من ادواتهم
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
ما يدهشك فى الروائى عبدالرحمن فضل تلك السلاسة فى الانتقال من سيمفونية السرد .. الى اللوحات التى تأخذك الى حيث تدرى ولاتدرى وتفعل فيك تلك اللوحات فعل اليقظة والايقاظ والغيظ ومن اللوحات الاخير في الرواية:
قبل الاب الشمالى عندما تقدم اليه لاحقا ابن دار فور ارضاءا لابنه كان يضعها فقو الجميع لانها الوحيدة بين ابنائه التى ارضت غروره حتى السدادة ورفعت من شأنه كونها طبيبة العائلة الوحيدة ولأنه يحبها ويثق فى اختياراتها فهى التى لم تخيب ظنه يوما عكس جميع ابنائه الذكور منهم والاناث ... حتى وهى تتحداه: انتظر حتى تراه واذا لم يعجبك فسأرفضه انا ايضا لكن خلا واحدا وعما آخر وقفا مثل جدار قدرى واقسما بالطلاق ان ذلك لن يكون ابدا مابقى لهما نفس يدخل ويخرج : ـ لم يتبق الا العبيد ليتزوجوا من بنات العرب !! قالها الخال غاضبا.. ـ واين العرب ؟ نحن لسنا الا بقايا عرب .. خراء عرب قالها الاب الحانق واضاف : ثم ان الرجل مهذب وواعى ومستقيم . فزجره اخيه الأكبر : (على الطلاق لو بقى نبى مايلمسها) عند ذلك اذعن العاشقان للمشيئة وبقيا بعناد صخرة اعزبا وعانسا ولسنوات طويلة وهما يتعبدان فى مذبح الحرمان والذكرى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
Quote: (لقد عشنا على الدوام فوق تراب هذا الوطن المترامى ونحن ما نزال نتساءل عن الذات والهوية .. نعانى الفرقة والتناحر والقتال .. الاختلاف والشتات والتعالى .. وطن واحد حديث التكوين بحسابات التاريخ ولكنه مثل سوب بالى اينما شددته تمزق وكيفما رتقته ازداد بلى وتلاشى هذا الوطن لم يخض معركة كبرى قط .. ولم يخض معركة إلا كانت ضد ذاته وابنائه ، فلاعجب ان ينجب ابناء موتورين وموهومين بتعالى اجوف وغطرسة بالونية مملوءة بالهواء الفاسد يخوضون بها معارك ضد ذاتهم وهى لاتقوى على الصمود والالتحام .. لا عجب ان ينجب الوحش الف وحش آخر يفرمون الغير تحت جزماتهم ويخرجونهم طحينا يتغذون به .. شرهون بلا هوادة وانانيون بلا رحمة .. يعلون قيمتهم ويحطون من قدر الآخرين ... يغذون كرامتهم بالسلطة والتجبر ويدسون كرامة الوطن في مؤخرة الزمان) |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
Quote: لابنه كان يضعها فقو الجميع لانها الوحيدة بين ابنائه التى ارضت غروره حتى السدادة ورفعت من شأنه كونها طبيبة العائلة الوحيدة ولأنه يحبها ويثق فى اختياراتها فهى التى لم تخيب ظنه يوما عكس جميع ابنائه الذكور منهم والاناث ... حتى وهى تتحداه: انتظر حتى تراه واذا لم يعجبك فسأرفضه انا ايضا لكن خلا واحدا وعما آخر وقفا مثل جدار قدرى واقسما بالطلاق ان ذلك لن يكون ابدا مابقى لهما نفس يدخل ويخرج : ـ لم يتبق الا العبيد ليتزوجوا من بنات العرب !! قالها الخال غاضبا.. |
يابدرالدين ..تحياتى ..
متابعين معاك وعالم عبدالرحمن فضل الملىء بالجراءة والحفر ..
واصل ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: محمد عبدالرحمن)
|
Quote: تقول الكاتبة والمحققة الادبية سلمى الحفار وهى تقدم الأعمل الكاملة للأديبة الراحلة مي زيادة ان تاريخ الأدب عند الامم جزء من تاريخها العام ، يعكس حياتها العقلية ونزعاتها القومية ومشاعرها الإنسانية بقدر مايصور طاقاتها الابداعية ويجلو مكانتها الحضارية في العالم الادباء هم صفوة الناس لما يمتازون به من علم وفن ومواهب ، وعمق في المشاعر الانسانية وما يؤدونه من خدمات لممجتمعاتهم . انهم القادة الحقيقيون في حلبة التقدم والقدوة الحسنة للسمو بالروح والفكر والدعوة الى التحسس بكل جميل ونبيل ومفيد . لهذا تهتم الأمم بسيرهم إذ غالبا ما تكون سير تضحيات وبطولات . والراوى عبدالرحمن فضل من خلال روايته اعاصير إستوائية قد حقق لى ماهو كذلك واكثر |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: بدر الدين الأمير)
|
(B)شكرا للعزيز بدر الدين الأمير عبد الرحمن زميل دراسة و صديق عزيز و عميق جدا و آسر يلتقي في صداقته الأضداد ماشد انتباهي في الروايةهو الصوت الطاغي للشخصية السودانية العفوية (الغير مؤطرة سياسيا) و كأنه اراد ان يقول للقارئ ان اكتشاف هذا العبث و الفوضي لايحتاج لأي خلفية سياسية وان الوعي الفطري و العفوي كفيل بمعرفة حجم الغلطة التي انتجت السياسي السوداني الحديث وان مأساة البلاد اكبر بكثير من الهذيان السياسي الدائر في العاصمة، يقول محمد الطوبي:
وكم في بلادي يضيع النضال بمن يدعون النضال انا لا اجادلهم في بلادي و لا اتنازل عن صولجاني فأنا ملك و دمي شارة للقبائل لك الحكم في الجــــــــوع و اشهد حنين الجــــــــذوع سر مفعما بالأصائل و اختر جموح الأيائل ما قتلوك ولكن تورطت في وطن كبلته نوارسه فاستوى عاليا و شهيا علي هاجس من شتول(/B)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: تاج السر جعفر الخليفة)
|
أخى وصديقى العزيز بدر الدين
ألفين سلام
لقد كنت فى جوبا فى الفترة الممتدة من يناير1989 وحتى نوفمبر1992 (4 سنوات متصلة )، وهى تغطى نهاية حكم الصادق وبداية حكم الإنقاذ،وهى تغطى مرحلة من أهم مراحل ذلك الصراع البغيض .
* رواية أعاصير إستوائية إذا تعاملنا معها كقيمة أدبية ، فهى رائعة بكل المقاييس من وجهة نظرى كقارىء .
* أما إذا تعاملنا معها كتوثيق تاريخى ،فإن الأحداث لا تتطابق مع الواقع فى الفترة التى عشتها وحددتها .
ما ذهبت إليه لا ينقص شيئا من القيمة الأدبية للعمل ،وسأواصل إستمتاعى به ، وسأعود إذا أُخضع العمل للنقد فى النهاية .
لك تقديرى ، وأُثمن إختيارك
ود المكى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اعاصير إستوائية (رواية) مستلهمة من حرب الجنوب من خلال تجربة طبيب شمالي جديرة بالاحتفاء بها (Re: محمد فضل الله المكى)
|
Quote: رواية أعاصير إستوائية إذا تعاملنا معها كقيمة أدبية ، فهى رائعة بكل المقاييس من وجهة نظرى كقارىء .
|
أهلا أخى وصديقى العزيز ابوطارق أكيد نحن فى الاساس أمام عمل فنى من صنع الخيال وقد كنت اقول دوما فى الدين والفنون قد تكوا اسباب التنزيل عادية كلن ماهية مانزل هى المحك وبوصفك كنت احد القيادات الكبيرة في الجيش السودانى وانت العارف بتلك الحرب اللعينة بجانب موهبتك ككاتب وشاعر بكون لرأيك الفنى في هذا التناول الفنى لتلك الحرب من خلال رواية (أعاصير إستوائية) قيمة نقدية وتحليلة مهمة بل وضرورية لهكذا عمل ابداعى .. وفي رجاء عودتك
| |
|
|
|
|
|
|
|