إتكاءة تحاورية مع الدكتور عبدالوهاب الافندى شارك فيها بعض بورداب الدوحة صور وتفاصيل

Quote: توضيحات علي تساؤلات: لماذا نختلف مع الحكم في السودان؟ د. عبدالوهاب الأفندي 01/07/2008 http://www.brbrnet.net/vb/showthread.php?p=694255 في كانون الاول (ديسمبر) من عام 1989 (وتحديداً في السادس عشر من ذلك الشهر) سافرت إلي الخرطوم للمرة الثانية فقط منذ أن استقر بي المقام للعمل والدراسة في لندن في صيف عام 1982. أذكر هذا التاريخ جيداً لأنني سافرت في مساء نفس يوم حفل التخرج لشهادة الدكتوراه في جامعة ريدينغ، ولهذا فقد كان اليوم مزدحماً بصورة غير عادية. توقفنا بجدة حيث مكثنا هناك بضعة أيام لأداء العمرة قبل الوصول إلي الخرطوم حيث كان أول عمل قمت به بعد السلام علي الأهل الذهاب للقاء الأخ علي عثمان محمد طه في منزله القديم بضاحية الرياض في الخرطوم، حيث تأكدت لأول مرة بصورة جازمة أن الحركة الإسلامية كانت وراء انقلاب الثلاثين من حزيران (يونيو). وقد سمح لنا (كان بصحبتي الأخ د. حسن مكي) بزيارة الشيخ حسن الترابي الذي كان رسمياً رهن الاعتقال المنزلي في المنشية. (وقد أعطينا الانطباع عندها أننا كنا أول مدنيين يسمح لهم بزيارة الشيخ في منزله منذ إطلاق سراحه في وقت سابق من ذلك الشهر). كنت مهتماً في الحوارات التي دارت في اللقاءين باستطلاع ملامح الاستراتيجية طويلة المدي للحركة والحكم، لأنني كنت أدرك تماماً أن الانقلاب كان أزمة للحركة أكثر منه فرصة، ولهذا كنت حريصاً علي معرفة استراتيجية الخروج من هذا المأزق. الشيخ الترابي كان صريحاً معنا (أو هكذا اعتقدنا) حيث قال إنه مايزال يستجمع أفكاره بعد فترة السجن الطويل، ويجتهد في الإطلاع علي الملفات ودراسة التطورات التي وقعت خلال فترة سجنه. أما الأخ علي عثمان فلم يشأ أن يجيب. عندها تطوعت بطرح اقتراحي الخاص بـ استراتيجية المخرج ، ويتلخص في إعلان فترة انتقالية مدتها خمس سنوات تتم بعدها انتخابات جديدة تعيد الأمور إلي نصابها. وكان تعليلي لذلك هو أن الجميع كان يعرف أن البلاد تواجه أزمة عميقة بسبب الحرب الأهلية والاقتصاد المتدهور وانسداد الأفق السياسي. ولهذا فإن حكم السودان في تلك الفترة لم يكن مغرياً لأي من القوي السياسية التي ستتعاون مع أي جهة تجتهد لإخراج البلاد من مآزقها، خاصة الحرب الأهلية. ولكن هذه القوي تريد أن تحتفظ بحقها في العودة إلي الحكم حالما تتجاوز البلاد هذه المآزق. وعليه فإن الأفضل لأهل الحكم أن يضمنوا تعاون القوي السياسية الأخري خلال هذه الفترة، لأنه إذا فهم أن الحركة تريد أن تستأثر بالحكم إلي ما لانهاية، فإن الجميع سيحاربونها، مما يجعل من الصعب عليها أن تحقق أي إنجازات ذات معني. كنت قد لخصت رؤيتي هذه سلفاً في عدة مقالات نشرت في الحياة و القدس العربي ، بدأ أحد هذه المقالات (نشر في الحياة بتاريخ 30 آب/ أغسطس 1989) بالقول: من طرائف الوضع السياسي في السودان أنه ما سقط نظام حكم إلا واستقبل سقوطه باستبشار عام، ثم لا يلبث هذا الاستبشار أن يتحول علي تحسر علي النظام الذي مضي . وقد علل المقال هذه الأزمة السياسية المزمنة بسببين، أولهما ضعف الدولة بسبب قلة مواردها في مقابل قوة العصبيات المحلية والإقليمية والقبلية والعائلية. أما الثاني فهو تشرذم النخب الحاكمة علي أسس لا منهجية فيها، وفي الوقت نفسه رفض الشراذم المتحاربة قبول منطق التعددية السياسية . انتقد المقال كذلك استراتيجية المعارضة اليسارية التي كانت تسعي إلي إسقاط الحكم العسكري واستبداله بنظام انتقالي يستبعد الإسلاميين والأحزاب الطائفية، وجاء فيه تعليقاً علي حوار دار بيني وأحد مؤيدي هذه الاستراتيجية: خرجت من هذا الحوار بأن لا مستقبل للديمقراطية في السودان إذا كانت الطبقة التي تسمي نفسها بالمستنيرة لا تؤمن بالخيار الديمقراطي كأساس مبدئي. ولكننا نعلم في نفس الوقت أن لا مستقبل للسودان إلا في ظل الديمقراطية، فأين المخرج من هذه المعضلة . المقترح كان بالاتفاق علي برنامج أدني لإعادة بناء الوطن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في ظل إجماع ساد وقتها علي فترة انتقالية مدتها نحو خمس سنوات تحكم خلالها البلاد سلطة مركزية قوية تركز جهدها علي استنفار طاقات الجماهير للبناء والتعمير وخلق إطار بناء للحوار الوطني . وفي هذا الصدد أشاد المقال بجهود الحكومة الجديدة لمحاربة الفساد وإنهاء الصراعات القبلية باعتبارها خطوات في الاتجاه الصحيح. وأضاف: وفي هذا الإطار يجيء الصلح بين القبائل المتحاربة في دارفور كإشارة مهمة، فهو يكشف أن الوضع غير المستقر في المركز كان سبباً مهماً في إذكاء الصراعات القبلية وغيرها في الأطراف . وخلص المقال إلي القول: يبقي الخيار الأساسي إذن هو أن تطرح الحكومة برنامجاً يبني علي نقاط الإجماع التي توحد السودانيين، والتي تتمثل في الحرية والكرامة لجميع المواطنين، والإقبال علي وطن يكون للجميع، والعدل ثم العدل. ذلك أن العدل هو أساس الاستقرار. ولا تقوم الثورات وحركات التمرد إلا من خلال الشعور بالظلم . ودعا المقال إلي توسيع قاعدة الحكم عن طريق التركيز علي القيم والبرامج التي توحد، وعن طريق إطلاق المزيد من الحريات للمواطنين للتعبير والمشاركة في البناء.. وأهم من ذلك كله، لا بد من وضع خطة واضحة المعالم للفترة الانتقالية تسمح للجميع بالمشاركة في بناء وطن للجميع، وتطمئن الكل إلي قرب عودة الديمقراطية وفق برنامج محدد. استمع الإخوة بصبر إلي هذا الطرح الذي تقدمت به، ولكنني لم أتلق أي رد إيجابي أو سلبي قبل عودتي إلي مقر عملي في لندن، حيث انشغلت بأمور أخري. فقد كنت التحقت، إضافة إلي عملي المستمر في وكالة الصحافة الإسلامية، بكلية سانت أنتوني في أكسفورد كباحث مشارك، حيث عكفت علي إعداد ونشر خمسة أعمال أكاديمية ذلك العام. كان أول هذه الأعمال مقالة تقارن بين رؤيتين في الحركة الإسلامية الحديثة، الأولي رؤية ذات طابع دوغمائي ميزت طرح مفكرين مثل المودودي وسيد قطب، والثانية ذات طابع براغماتي ميزت طرح الحركات الإسلامية في السودان وتونس. أما العمل الثاني فكان إعداد رسالة الدكتوراه عن الحركة الإسلامية في السودان للنشر، حيث صدرت الدراسة في كتاب بعنوان ثورة الترابي . أما العمل الثالث فكان حاشية علي هذه الدراسة صدر في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بعنوان دراسة حركتي: العلوم الاجتماعية بدون خواء أخلاقي . أما العمل الرابع فكان الكتاب المشهور بعنوان من يحتاج الدولة الإسلامية؟ . وأخيراً كانت هناك مقالة في دورية أفريكان أفيرز بعنوان: اكتشاف الجنوب: معضلات سودانية للإسلام في افريقيا اشتملت علي تناول نقدي لموقف الحركة الإسلامية من قضية الجنوب عطفاً علي نقد مماثل ورد في دراسة الدكتوراه المشار إليها. الإشارة التفصيلية إلي هذه الأعمال ليست مجرد استطراد، بل لها أهمية ستتضح لاحقاً. في أثناء انشغالي بهذه الأمور وانشغالات عائلية أخري، تلقيت اتصالاً هاتفياً من الأخ الصديق الصادق الفقيه الذي كان قد تولي منصب المستشار الصحافي لرئيس الجمهورية. وكان الصادق قد مر بلندن في طريق عودته إلي الخرطوم بعد أن تم استدعاؤه مثل كثيرين آخرين لدعم النظام الجديد. وقد قضينا بضعة أيام نتداول في الأمور. ولا أفشي سراً حين أقول أن هناك اتفاقاً كبيراً بيني وبين الصادق في وجهات النظر، وكان علي اتصال دائم معي بعد عودته إلي الخرطوم حيث كان يطلعني علي خفايا ما كان يدور في كواليس النظام الجديد. في هذه المكالمة أبلغني الأخ الصاق بأن قراراً رئاسياً قد صدر بتعييني ملحقاً إعلامياً في سفارة السودان في لندن. كان هذا في نيسان ( أبريل) من عام 1990 علي ما أذكر، وخلال يوم أو يومين وصلني بالفعل نص القرار بالفاكس. وقد خلق هذا الوضع إشكالات كبري علي أكثر من مستوي. أول هذه الإشكالات كانت تتعلق بالتزامي تجاه وكالة الصحافة الإسلامية حيث كنت أتولي الإشراف علي أهم مجلة تصدرها الدار كما كنا بصدد إصدار مجلة أخري كنت أيضاً رئيس تحريرها المعين. من جهة أخري كانت هناك طبيعة المنصب الذي اعتبره بعض الأصدقاء يمثل إهانة لشخصي وإساءة استخدام لقدراتي ومؤهلاتي. كان هناك موقف الأسرة، وخاصة زوجتي إيمان التي كان لها موقف نقدي من ممارسات الحركة الإسلامية، وعارضت بشدة القبول بالمنصب. كان هناك فوق ذلك وقبله اهتماماتي الشخصية وما كنت أراه من أولوية العمل الفكري الأكاديمي الذي كان سبب وجودي في بريطانيا في الأساس. فقد كنت اتخذت قراراً بعد تخرجي من الجامعة في عام 1980 بقبول عرض تلقيته من جامعة الخرطوم للعمل كمساعد تدريس في قسم الفلسفة، مما كان يعني التخلي عن وظيفة في شركة طيران خاصة والقبول بمرتب هو أقل من ثلث مرتبي كطيار. ورغم ذلك فإن شركة الطيران لم توافق، مما فرض علي الاستقالة والحضور لبريطانيا للعمل والدراسة علي نفقتي الخاصة. ولم يكن الجمع بين وظيفة في المجال الإعلامي والدراسة الأكاديمية، مع رعاية أسرة صغيرة، بالأمر اليسير. ولهذا كان الانتهاء من الدراسة والتوجه نحو التفرغ للعمل البحثي يمثل بالنسبة لي خاتمة المطاف في رحلة مشوبة بالصعاب، شأن المسافر الذي أراد أن يحط عصا الترحال ويستريح. لهذا كان من المؤلم بالنسبة لي شخصياً أن يفرض علي التخلي عن غاية ضحيت من أجلها وأسرتي بالكثير قرابة عقد من الزمان، ثم الانصراف عنها بعد بلوغها إلي أمور ليست من صلب اهتماماتي. ولهذا كان هواي موافقاً لآراء الأصدقاء وأفراد الأسرة الذين رأوا الابتعاد عن هذا المسار. ولكن الشعور بالواجب كان يملي علي مخالفة الهوي والنصيحة معاً، فقررت بعد تفكر قبول التكليف، ضد الرفض القاطع من زوجتي التي ما تزال تذكرني بعواقب مخالفة نصيحتها إلي اليوم، خاصة كلما أصابتني سهام المنتقدين بسبب ذلك القرار وكنت قد عللت القرار وقتها بأننا قد نذرنا أنفسنا منذ الشباب الباكر لخدمة الإسلام، وإن تحصيل العلم لا بد أن يكون هدفه خدمة الدين والوطن، خاصة في الأوقات التي تواجه فيها الأوطان أزمات وخيارات مصيرية. ولهذا فإن الأولوية تكون للواجب فوق الخيارات الشخصية، حتي وإن كانت تلك الخيارات نفسها تضع الواجب، خاصة الواجب الديني، في مقدمة الاهتمامات. وقد لخصت هذه الرؤية في مقدمة كتابي الثورة والإصلاح السياسي ، حين قلت إنه حين تتعرض سفينة للغرق، فإن كل ركابها لا بد أن يتحولوا إلي ملاحين همهم إنقاذها، ولا يكون هناك مسافرون وطباخون ومضيفون وغير ذلك من التخصصات. وقد كان السودان وقتها (ولا يزال إذا صدقنا الوزير باغان أموم وكثيرون غيره) سفينة تواجه خطر الغرق.