|
حتى لا تضيع قضية دارفور بين (3) / علي التوم
|
مجافاة الخطاب العربى المعاصر لمناهج الحقّ والحقيقة :
حتى لا تضيع قضية دارفور بين تغيب الحقائق والطموحات السلطوية ــــــــ
بقلم عــلى التـوم مستشار التنمية والاستثمار والسياسات الاقتصادية ( سودانى مقيم بمصر )
القاهرة فى 3 أغسطس 2004 م
مجافاة الخطاب العربى المعاصر لمناهج الحقّ والحقيقة :
حتى لا تضيع قضية دارفور بين تغيب الحقائق والطموحات السلطوية ــــــــ
مقدمــه : ليس غريباً أن تصاب السياسة السودانية بعدوى الخطاب العربى المعاصر المتميّز بتغييب الحقائق وبطمس العلاقة الجدلية بين الأسباب والوسائل والآثار والنتائج ، وكذلك بالتفسير الرومانسى واللا علمى للأحداث وللتاريخ 0 هذا بالإضافة إلى النهج التبريرى للأخطاء والالتفاف حول الحقائق ذات الآثار المباشرة على حياة الناس ومستقبلهم 0 نعم ليست هنالك ثمة غرابة لتأثر السودان الرسمى أو السلطوى بالخطاب العربى المعاصر لأن السودان ، برغم تنوعّه الاثنى والثقافى ، أصبح ومنذ زمن طويل محسوباً على الثقافة العربية بحكم طغيانها فيه 0 ولقد اتضح هذا النهج بجلاء فى معالجة قضية دارفور 0 لكن ربما كان من المناسب قبل الدخول فى موضوع درافور الذى آثار انتباه واهتمام العالم طولاً وعرضاً أن تستوضح حقيقة هامة عن إنتماء السودان العربى ـ السودان الذى تمثّل دارفور جزء هاماً من شِقه الشمالى 0 فأغلب عرب السودان عرب مستعربة دخلوه خلال قرون طويلة من شمال وشمال غرب أفريقيا وعبر البحر الأحمر ومن مصر بهذا التقادم إذا صحّت المراجع التاريخية والوثائقية 0 وفى السودان ، وبحكم التماذج الاثنى عن طريق الرق وعلاقات التزاوج الأخرى ، أصبح العرب السودانيون عرباً مستعربة ومتأفرقة 0 وهكذا فإن الباحث عن دماء عربية صافية فى شمال السودان حيث تأصلت وتجذرت الثقافة العربية والإسلامية فلن يجدها بأكثر من نسبة 20 بالمائة0 وكثير من ذوى اللون الأصفر فى شمال السودان ليسوا من أصول عربية وإنما من أصول تركية وكردية والبانية ومجرية ومغاربية بربرية 00 بلغ إختلاط الدماء العربية ذروته فى خضم الأفرقة للأصول العربية فى كردفان ودرافور والنيل الأزرق وفى أنحاء كثيرة من أواسط السودان 0 ذلك لأن قليلين هم العرب الذين نزحوا للسودان بصحبة نسائهم ـ فقد جاءوا بالمصحف أو السيف أو بالاثنين معاً وبدأوا عملية الأفرقة بالزواج بالأفريقيات 0 ولقد أدى طغيان الثقافة العربية والاسلامية إلى الاعتقاد حتى فى البلاد العربية بأن شمال السودان عربى إثنياً وثقافياً 0 لم يتأفرق العرب الوافدون إثنياً فحسب ، وأنما تأثرت ثقافاتهم الإجتماعية أيضاً بالثقافات الأفريقية إلى حدود بعيدة وإن ظلوا هم الأغلب نفوذاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً 0 ومن جهة أخرى كان تأثر القبائل الأفروسودانية باللغة والثقافة العربية محدوداً على الرغم من إنهيار سلطناتهم ذات النفوذ السياسى والاجتماعى الكبير 0 ولقد تأثر هؤلاء بالطريقة الاسلامية التجانية الوافدة من جنوبى المغرب وموريتانيا عبر المسافرين إلى الحج فى السعودية أكثر من تأثرهم بالاسلام الوافد مع القبائل العربية 0 وما تزال الطريقة التجانية غير المتعاملة مع السياسة هى الطريقة الغالبة فى كردفان ودارفور 0 واحتفظت قبائل دارفور الافروسودانية بلغاتها ولهجاتها غير المكتوبة وحال عدم انتشار التعليم والتقدم الاقتصادى والاجتماعى دون انتشار اللغة العربية كلغة تخاطب مشتركة0
وظلّت دارفور مهمشة اقتصادياً وسياسياً برغم غناها بالموارد الطبيعية والبشرية بداية بسبب السياسيات الاستعمارية التى قصدت الانتقام من الفور لمقاوتهم للاحتلال لمدة ستة عشر عاماً ، وهو عين سبب تهميش شرق السودان وجنوبه ومنطقة جبال النوبة وجنوبى النيل الأزرق ، واستمراراً عبر جميع النظم السياسية بعد الاستقلال ، وامعاناً فى التهميش والاذلال فى ظلّ حكومة الانقاذ باسم الاسلام واحتماء بالعروبة بعد فوات الأوان ! وفى دارفور بحث المراقبون الدوليون عن السحنة العربية الخالصة فطال بحثهم وعبّروا عن دهشتهم عندما وجدوا بأن أغلبية من قابلوهم أو تحدّثوا معهم من (العرب) كانوا بسُحنات أفريقية وان تحدّثوا اللغة العربية بطلاقة 0 ومازلنا نذكر ما رواه شاب سودانى زار الولايات المتحدة فى منتصف الثمانينات وفى مقابلة اجتماعية بينه وبين أمريكى سأله المضيف أن كان هو من السودان0 فأجابه السودانى بنعم ، وكان لونه مائلاً إلى السُمرة 0 فقال له الأمريكى ـ " حدثنى عن الطريقة التى يعاملكم بها العرب فى السودان 00" !؟! غير أن كل هذا لا يغيّر الحقائق فى دارفور وهى أن العرب المتأفرقة والمنتمية إلى قبائل عربية شتى هى المسيطرة إقتصادياً واجتماعياً وثقافياً0 صحيح أنها ظلّت لأزمان طويلة تعيش فى انسجام ووئام مع القبائل الأخرى التى نسميها بالقبائل السودانية الأفريقية وهى القبائل المنتشرة عبر حزام السافانا من الحدود التشادية إلى جنوبى النيل الأزرق 0 وكثيراً ما كان اعتماد القبائل العربية المترحلة جنوباً وشمالاً بحثاً عن الكلأ لأبقارها وجمالها وأغنامها يجعلها تدخل فى مصادمات ليس فقط مع القبائل السودانية الافريقية شمالاً ، وإنما أيضاً مع القبائل الجنوبية النيلية عبر بحر العرب وبحر الغزال 0 وكثيراً ما تكون تلك القبائل المحسوبة على الجنس العربى هى المنتصرة بحكم ما لديها من ثروة وسلاح ووسائل حركة 0
دانياميكية المتغيرات الايكولوجية والسياسية والاقتصادية ومن سمات الخطاب العربى الذى تأثر به الخطاب السياسى السودانى المعالجة الاستاتيكية الجامدة لعوامل التغيير الطبيعى والاقتصادى والاجتماعى ، وهى المعالجة التى تقود إلى طمس جدلية العلاقة بين الأسباب والآثار للأحداث مثل قضية دارفور موضوع الساعة0 فخلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن العشرين حدثت تحولات مناخية واقتصادية واجتماعية وسياسية فى حزام السافانا فى السودان وفى أقليم دارفور بوجه خاص أدت إلى تهيئة الظروف لنشوب نزاعات اجتماعية كبيرة تمخضت عنها قضية دارفور 0 نلخّص تلك المتغيرات فى الآتى: (1) الجفاف والتصحر بفعل الطبيعة والإنسان ( الرعى الجائر والتحوَّل بسبب زيادة السكان من الزراعة المتنقلة (Shifting cultivation) إلى الزراعة المتواصلة التى تنهك الأرض وتقلل من خصوبتها وانتاجيتها ؛ (2) بيع الفقراء لحيواناتهم المحدودة العدد وتحوّلهم إلى مزارعين أو رعاة أجراء ؛ (3) استيلاء الأثرياء وأغلبهم من " العرب " على الأراضى الخصبة وتوسعهم فى الزراعة الآلية والمزارع الرعوية دون إفساح المجال لأولئك ( السودانيين الأفارقة ) الذين فقدوا مصادر وموارد أرزاقهم وأصبحو مهمشين اقتصادياً واجتماعياً 0 (4) الدعم المالى والسياسى الذى وجده ( العرب ) من حكومة الانقاذ كجزء من برامج العمل السياسى لصالح الدعوة الاسلامية المسيسة والتى لا تفّرق بين مسلم أو غير مسلم فى تحديد حلفائها وأعدائها 0
حركة دارفور ثورة اجتماعية وليست تمرّداً : وهكذا فإن التفهم العلمى والواعى لجدلية العلاقة بين الأسباب والآثار لأى ظاهرة أو حدث من جهة ، والتحليل الدايناميكى للمتغيرات التى تفرز الأسباب ، تجعلنا نرفض توصيف حركة دارفور بالتمرّد 0 فالتمرد كما هو معروف حركة مناوئة ومنقسمة عن قوى نظامية ، وهذا مالا ينطبق بالطبع على حركة دارفور التى ينبغى إعطاؤها صفتها وحجمها الطبيعى والحقيقى كثورة إجتماعية سببها المظالم الحقيقية التى عاناها ويعانيها من سلُبت حقوقهم ومواردهم 0 ولم يكن توجيه ثورتهم المسلحة لحكومة السودان إلا بسبب تحيّزها ودعمها لمن نهبوا وسلبوا تلك الحقوق والموارد 0 التحيّز والدعم الذى لم يعد يخفى على أحد داخل الوطن أو خارجه 0 ولقد أصبح من المستحيل إخفاؤه أو التستر عليه بعد الزيارات والتحقيقات الميدانية التى أجرتها على الطبيعة ومع مجموعات من المنكوبين 0 كل من إذاعة البى بى سى العملاقة وصحيفة الحياة التى جاء ملفها الواقعى والموضوعى عن مشكلة دارفور نموذجاً للصحافة الديموقراطية الحرة والباحثة عن الحق والحقيقة 00
لا فكاك للحكومة 000 قبل أن نتقدم بالأدلة الدامغة على تورط الحكومة بالتحيز السافر لجانب المعتدين على حقوق الناس ومنعاً لأى مواربة أو مراوغة، نقول بأننا برغم إعجابنا بتحرك الضمير العالمى لنصرة المستضعفين والمنكوبين فى دارفور ، فإننا وبلا تردّد نقف ضد أى تدخل عسكرى أجنبى فى دارفور أو السودان 0 وموقفنا هذا موقف مبدئى مستند إلى ثقتنا المطلقة فى شعبنا القادر على حلّ وحسم قضاياه بنفسه مهما طال الزمن أم قصر وبإذنه تعالى 0 بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك فنحذّر من تراودهم مصالحهم أو أى دوافع أخرى بأنهم سيكونون أول ضحايا أى تدخّل من هذا النوع ، وأن تدخلهم سيؤدى حتماً إلى طمس معالم القضية وإلى تقوية جانب الظالم والمعتدى والتعاطف معه 0 وبنفس الدرجة من التحفظ والتخوف ندعو الجامعة العربية ومن تمثلهم أن تعالج تعاملها مع قضية دارفور بحذر شديد حتى لا يؤدى تعاملها مهما حسنت وخلصت النوايا إلى زيادة حدة الاستقطاب بين ما هو " عربى " وما هو أفريقى 0 ولقد سبق أن حذّرنا فى هذا السياق من رفض بعض الدول العربية لميثاق منظمة " الايقاد " لحل مشكلة الجنوب ـ الميثاق الذى كان أكثر عدلاً وانصافاً لكل السودانيين ـ فطرح بعض الأخوة العرب كبديل له المبادرة المشتركة التى عمّقت عناصر الاستقطاب العربى الأفريقى ولم يستبينوا النُصح حتى ضّحى الغدِ 0 نعم ، لا فكاك لحكومة الانقاذ من تورّطها الانحيازى فى قضية دارفور 0 فعندما سُئل وزير الدولة أحمد هارون فى برنامج البى بى سى عما إذا كان كل الجانجويد عرباً ـ قال " ليس بالضرورة " وهو تعبير لا تفسير له إلا بأن الأغلبية عرب أو من أصول عربية 0 وصحيح ما تتناقله وسائل الاعلام الحكومية بأن الجانجويد هم فى الأصل جماعة من قُطاع الطرق ممن احترفوا النهب والسلب وأن جناحاً من عرب تشاد يحمل نفس الاسم يتعاون معهم ـ ولكن الحقيقة التى لا يمكن الالتفاف حولها بالتصريحات والتلميحات ولا بالنفى الاثباتى هى أن الحكومة استخدمتهم كمخلب قط ودعمته بالمال والسلاح ، بل وبعناصر من الدفاع الشعبى ومن شباب الخدمة الالزامية الذين طاردتهم عربات الحكومة قبل سنتين فى العاصمة القومية وأخذتهم قسراً لمعسكرات التدريب وزجت ببعضهم فى محارق الجنوب وبعضهم فى الحرب فى جبال النوبة ، وأخيراً إلى صفوف الجانجويد 0 كلّ هذا ثابت بالوقائع والشهود 0 وليس هنالك دليلاً أقوى على صلة الحكومة العضوية بجيش الجانجويد من وعد السيد رئيس الجمهورية للسيد الأمين العام للأمم المتحدة خلال زيارة الأخير للسودان ـ وعده بحلّ فصائل الجانجويد فوراً ـ وتوجيهه ـ أى السيد الرئيس لقواته النظامية بتنفيذ ما وعد به " فوراً " 0 أما تقديم بعض الشخصيات للمحاكمة والحكم عليهم بالسجن وبقطع اليدين والرجلين من خلاف فقد كانت مسرحية لم يتسلى بها أحد وكان التعجيل باعلانها بعد أيام من زيارة كوفى انان وكولن باول مهزلة واستخفافاً بعقول الناس ـ ماذا كانت التهم الموجهة اليهم ، وهل فى إدانتهم والأحكام الصادرة ضدهم ما يكفى لإنهاء القضية ؟! وإن استطاعت الحكومة أن تنكر تهمة التطهير الأثنى ـ وهذا مالا نشدّد عليه نحن أيضاً لكونه يضعف تركيزنا الموضوعى على الثورة الإجتماعية كسبب، فهل تستطيع الحكومة إنكار الإبادة الجماعية بعد أن ثبت أنها تحرق القرى والمدنيين بالقصف الجوى فتمهد الطريق للجانجويد لتكملة " الرسالة " بالهجوم على الأرض ونهب وإبادة من تبقىّ وما تبقى ؟ وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من مائة من كوادر القيادات الحكومية ممن تمكنوا من الحصول على مئات آلاف الأفدنة من الأراضى الزراعية والمراعى الخصبة ـ بعضهم من أهالى جنوب دارفور والبعض الآخر من خارجها وأكثر من عشرة منهم كانوا يشغلون مناصب رسمية ونظامية ولقد تم الاستيلاء على تلك الأراضى باستغلال النفوذ خلال العشر سنوات الأخيرة 0 000 ولم أعجب لدفاع الأخ وابن العم السيد / حسن عابدين سفير السودان بالمملكة المتحدة عن مواقف الحكومة ومبرّراتها من خلال مشاركته فى ندوات البى بى سى على الهواء ، ولكننى تعجبت بل وأصابتنى خيبة أمل عند سماع الأستاذ الصحفى المخضرم حسن ساتى وهو يبرر الخطأ بالخطأ عندما يقول لماذا لا تنتقد أوروبا ما حدث ويحدث فى رواندا وبوروندى والكونغو والعراق وفلسطين قبل أن ينتقدوا ما يحدث فى دارفور !!؟ وتحدث الأستاذ حسن ساتى أيضاً عن المصالح والأجندة الخفية لتلك الكيانات الدولية التى تبدى تعاطفاً مع أهالى دارفور 0 ومن الذى لا تحرّكه المصالح فى هذه الدنيا اليوم ؟! كلّ الذى ينبغى أن نفعله حيال تلك النزعات النفعية هو أن نفرّق بين الذى يسعى لتحقيق مصالحه من خلال نظم ديموقراطية تدعم العدالة الإجتماعية والمساواة فى الحقوق والواجبات ، وبين من يسعى لتحقيق مصالحه عن طريق النهب والسلب واستغلال السلطة غير الشرعية وغير الديموقراطية 0
مستقبل دارفور : إذا افترضنا بأن القارئ يقبل الأسس والمبادئ التى استند إليها نهجنا التحليلى لقضية دارفور ، وخاصة تلك المبادئ المرتبطة بالعلاقة الجدلية بين الأسباب0 والآثار والنتائج ، فإننا نتوقع قبوله ( القارئ ) للرؤيا المستقبلية لحل قضية دارفور والمرتكزة على أنها ثورة إجتماعية تعبّر عن مظالم اقتصادية واجتماعية عميقة الأبعاد والجذور 0 فالحل العادل والمستدام للقضية يكمن فى إصلاح زراعى شامل يعيد توزيع الموارد الانتاجية وخاصة الأراضى الزراعية والمراعى ومواقع المياه الجوفية 0 أما الإجراءات الأخرى الخاصة بحقوق المشاركة السياسية والإدارية فى السلطة وأدوات الحكم فلا بدّ أن تأتى كعوامل مساندة للاصلاح الاقتصادى والاجتماعى الذى من أجله اندلعت الثورة 0 وينبغى ألا يتوجس أهالى دارفور ذوى الحقوق المغتصبة خيفة من الاعتراف بأنهم هم الذين بدأوا بالهجوم تعبيراً عن ما لحق بهم من ظلم 0 والسؤال الملح الذى يطرح نفسه هنا هو هل لحكومة الانقاذ المصداقية للقيام بتنفيذ هذه الاصلاحات الجذرية ؟ والجواب الصريح هو بالطبع لا لعدد من الأسباب ، أهمها أولاً أن الحكومة لا يمكن أن تكون هى الخصم والحكم ، وثانياً أن الثقة معدومة وستظل معدومة بينها وبين الأهالى الثائرين والآملين فى استرداد حقوقهم ، وثالثاً فإن أى استثمارات أو مجهودات تنموية تصّب فوق هذا التوزيع الهيكلى الاجتماعى غير المنصف للموارد سيعنى تكريس المظالم وتوسيع الشقة بين الأغنياء والفقراء ، مما يؤدى إلى مزيد من المواجهات وفقدان الثقة وعدم الاستقرار 0 فالحل الوحيد هو الحلّ الذى ينطبق على كل السودان بما فى ذلك تخومه المهمشة ، وهو الإسراع بتأسيس وتركيز نظام ديموقراطى متكامل بجميع حقوقه وواجباته ومؤسساته الداعمة له والمؤمنة على استدامته 0
ومن أهم متطلبات تأسيس النظام الديموقراطى إجراء استفتاء شعبى بمراقبة إقليمية ودولية حول جدوى الحكم بالشريعة الاسلامية فى بلد كالسودان، علماً بأن الجنوبيين سيصوتون حتماً لصالح الانفصال إذا أصرّ الشماليون على حكم الشريعة برغم السلطات الكونفيدرالية الواسعة التى منحتها لهم اتفاقية السلام ، وعلماً بأن الحرب فى دارفور كانت بين الحكومة وانصارها ضد الأغلبية الافروسودانية المسلمة والمنحدرة من أصول غير عربية 0 والكلمة الأخيرة لقيادات ثورة دارفور الذين لا نعرفهم كأشخاص والذين وصفهم الكثيرون بقلة الخبرة السياسية 0 وإن صحّ هذا الزعم أم لم يصحّ، فإن انقسامهم غير مفهوم وربما يشير إلى أجندات خفية ليست فى صالح أصحاب المصلحة الحقيقية فى الثورة والذين تصدّت تلك القيادات للدفاع عن قضاياهم 0 أما ذلك الفصيل القيادى الذى يحارب باسم الاسلام فخير له إما أن يعيد النظر فى طبيعة ثورة دارفور وأهدافها ويركز على الحقوق الإجتماعية ويبحث عن مبرّرات مقنعه لعمله من منبر مستقل ، وإما أن يرجّح الخطاب الدينى فينضم إلى صفوف الحكومة شريكاً أو حليفاً ـ لأن مثل تلك الأزدواجية فى سياق قضية جوهرية مرتبطة بحياة وحقوق ومصائر الناس ، من شأنها أن تؤدى إلى أضرار بالغة 0 إن تركيز قيادات ثورة دارفور على الحلول السياسية يعنى أنها تسعى للسلطة قبل إجبار الطرف الآخر على الاعتراف الواضح بالأسباب المحورية للمشكلة وهى حقوق الناس المغتصبة وضرورة ردّها لأصحابها 0 ولا شك أن التركيز على هذا المطلب المحورى ينبغى ألا يقلّل من أهمية تولى أبناء دارفورـ كلّ دارفور لمسئوليات تخطيط وتصريف شئون أقليمهم فى إطار وحدة الوطن الديموقراطى الفيدرالى 0 فالمناداة بما حققه أبناء الجنوب من مكاسب ربما فاقت نصيبهم الحقيقى من الثروة والسلطة لا يضع فى الاعتبار خصوصية قضية الجنوب واختلافها تاريخياً عن قضايا المناطق الأخرى فى الشمال مثل دارفور 0 ونحذر قيادات دارفور من المزايدات ومن الاسراف فى المطالب بالدرجة التى تعطى الطرف الآخر الفرصة للتدليل على أنهم لا تهمهم حقوق أهلهم بقدر ما تهمهم السلطة والتسلط ؟! 000 ومن جهة أخرى ينبغى أن يحذر القياديون الدارفوريون الأفراط فى التصريحات والدعاوى والاتهامات الجذافية التى لا تسندها حقائق أو أدلة مقنعة، وذلك مثل تصريح فى أحد وسائل الاعلام الخارجية منسوب إلى القيادى خليل 000 وفحواه أن عناصر من تنظيم القاعدة تدعم مليشيات الحكومة المتحالفة مع الجانجويد وتشارك معها فى القتال ضد القبائل الأخرى 0
ربما كان من بين مبّررات انفراد الشباب بقيادة الثورة فى دارفور خيبة أملهم فى الشيوخ (الكبار ) ولكننا نعرف بأن أعداد لا يُستهان بها من أولئك الشيوخ لم تُتح لهم الفّرص للتعبير عن آمال وطموحات شعبهم وأن خبراتهم فى مجالات مهنية وسياسية كثيرة ما يزال اهلوهم فى حاجة ماسة لها، وعلى الشباب أن يسعى لتكامل الجهد معها من أجل تحقيق أمانى وطموحات أهلهم 0 وأما الأحزاب التقليدية الشمالية داخل التجمع أو خارجه فعليها أن تحدّد موقفها بوضوح من قضية دارفور والمناطق الأخرى المهمشة وأن تجعلها جزء لا يتجزأ من برامجها المستقبلية ، وأن تنتقد نفسها على إهمالها المزمن لاحتياجات تلك المناطق ولامكانيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها فى سياق الوطن الواحد 0 ومع تقديرنا لدوافع ومبرّرات تبنى حركة تحرير السودان الجنوبية بقيادة الدكتور جون جرانق لقضايا المناطق المهمشة فى الشمال ، فإننا نرجو من الحركة أن تعالجها بترجيح السعى نحو تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة وألا تشجع فيها ومن خلالها نزعات الانفصال 0 فقيادات الحركة الجنوبية ليسوا بحاجة بأن نذكرهم لخطورة عواقب مثل تلك النزعات 0 وسبق أن نبهنا الأخوة فى قيادة الحركة إلى خطورة نزعات الحقد وردود الفعل والدعوة للتشفى التى بدأت تعبرّ عن نفسها بشتى الوسائل والطرق بين أقسام كبيرة من الشباب الجنوبى فى الداخل والخارج0 ونقترح تخطيط وتنفيذ برنامج شامل وهادف من خلال التجمع الوطنى الديموقراطى ومنظمات المجتمع المدنى ـ برنامج يهدف إلى إزالة هذه الحساسيات وتلك النزعات المدمرة والتى تتيح لدعاة الانفصال فى الشمال فرصاً سخية لتبرير دعواهم المغرضة 0 والكاتب وكثيرون غيره على استعداد تام لتخطيط تلك البرامج بل وجلب الدعم الداخلى والخارجى لها 0
مبادرات الحكومة لكسب الوقت : أما لجنة تقصى الحقائق برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف ولجنة التحضير للمؤتمر القومى حول دارفور برئاسة السيد عز الدين السيد ، فمع احترامنا لرؤوسها وعضويتها يصعب الاعتراف لها بالمصداقية لأنها لجان حكومية تكونت بموجب مراسيم جمهورية 0 والحكومة طرف فى القضايا والنزاعات المطروحة 0 هذا يعنى ألاّ بديل لتشكيل لجان محايدة لتقصى الحقائق ولمراقبة فضّ النزاعات المسلحة0 ونقترح كياناً برئاسة الأمم المتحدة وعضوية الجامعة العربية والاتحاد الأفريقى والاتحاد الأوروبى 0
الحاشية : فى اللحظات الأخيرة قبيل إرسال هذا المقال لصحيفة الحياة بالبريد الالكترونى ، أطّلعت على المقال الجيد والموضوعى فى نفس الموضوع بقلم الأمير الحسن ابن طلال والمنشور فى عدد اليوم (الثالث من أغسطس) من الحياة 0 وأكاد اتفق مع الأمير الحسن فى كلّ ما جاء فى مقاله ، إلا أن بعض جوانب المقال تحتاج للتعقيب والتدقيق 0 وهذا ما أرجو أن تتاح لي الفرصة للكتابة حوله لاحقاً 0 وبعد دقائق من انتهاء إطلاعى على مقال الأمير الحسن أذاعت قناة الجزيرة التليفزيونية تصريحاً للسيد الزهاوى وزير الاعلام السودانى مفاده أن الحكومة على استعداد للحوار مع قيادات دارفور من أجل حسم مطالب اقتسام الثروة والسلطة هذه فى نظرنا خطوة إلى الأمام مع افتراض صدق النوايا والتوجه ، وهى الخطوة التى كان من شأنها أن تّغنى الناس عن كلّ التعقيدات والتداعيات السلبية التى رانت على مشكلة دارفور خلال الأسابيع الأخيرة ومن بينها تداعيات وصول تدويل القضية إلى أقصى درجاتها 0 غير أن كلّ ما عبرّ عنه المتحدث الرسمى باسم الحكومة لن يكون بديلاً للاتفاق غير المشروط على تأسيس نظام حكم ديموقراطى مسنود ومؤصّلٍ بكل الدعائم المؤسسية التى تكفل الحريات وتؤمن حقوق جميع الناس وتزيل المظالم الإجتماعية والجهوية بأثر رجعى وبتأمين لمستقبل الأجيال القادمة0 فهل حكومة الانقاذ على استعداد لأن تكون طرفاً فى مثل هذا الحوار الذى لن ينعم السودان بدونه بالوحدة والاستقرار ؟ والله الموفق 00
|
|
|
|
|
|