دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
تأريخ دارفور الحديث ... للدكتور حسين ادم الحاج ( وثائق ) ..
|
دور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة (1/2) د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية [email protected] تمهيد:
إحتفلت البلاد مطلع هذا العام بإعياد الإستقلال, وبهذه المناسبة المتكررة سنوياً يجدر بالمؤرخين والمهتمين بدراسة علوم التاريخ والعلوم السياسية أن يتبصروا فى الجوانب المخفيَّة من تاريخنا الوطنى إجمالاً, لأنَّ التاريخ نفسه هو علم الروايات الخبرية والجزئيات الزمنية المختلفة التى تعتمد التحليل الدقيق للظروف موضع النظر, والعوامل التى أدَّت إلى خلقها ثم الإستنتاج المنطقى للنتائج المصاحبة لها, وربطها بسلسلة الأحداث الماضية واللاحقة, ومن هنا تنبع أهمية دراسة الجزئيات الصغيرة وتنقيب الجوانب المهملة من الوقائع فقد يكمن التاريخ الصحيح فيها, وبقدر ما يتم من إستنكاه هذه الجزئيات المبعثرة والخبريات الصغيرة بقدر ما تزيد المعرفة عن الموضوع الأكبر الذى يراد بحثه, وفى هذا المجال فإنَّ دراسة الجوانب التاريخية لإستقلال السودان من الحكم الثنائى الإنجليزى المصرى يجب أن تتم عبر نظرة شاملة لكل أجزاء الوطن ومكونات المجتمع السودانى, بل قد يكون من المفيد لو إلتفت المؤرخون لسبر دور كل فرد أو مجموعة أو منطقة من مناطق السودان المختلفة فى حركة الإستقلال, وتسليط الأضواء عليها كجزء من التاريخ السياسى الشامل لمرحلة النضال الوطنى, والنظر أيضاً إلى الأشارات الصغيرة والمبهمة مثل دور أمريكا فى إستقلال السودان مثلاً والتى أشار إليها الأستاذ أحمد سليمان المحامى فى مكالمة هاتفية مع كاتب هذا المقال ذات مرة, وبالنظر إلى كل ذلك, لو تم بصورة إجمالية, يمكننا تكوين منظر قومى عام سيختلف حتماً عن الصور المبتورة والمحنَّطة التى لا نسمع عنها أو نتأملها إلاَّ فى فترات موسمية تتزامن مع نهاية كل عام وبداية العام الذى يليه, وهى غالباً ما تعكس أولاً وأخيراً دور العاصمة القومية ولا تهتم بالأقاليم السودانية الأخرى كأنما ليست لها إسهامات تذكر.
سنتطرق فى هذا المقال لدور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة والتى قادت إلى إستقلال البلاد من قبضة الإحتلال الإنجليزى المصرى والتى دامت نيف 57 عاماً من الزمان فى السودان ونحو 39 عاماً فى دارفور, وسنكتشف من خلال سرد الأحداث التى مرَّ بها إقليم دارفور, والتحليل المصاحب, مدى قوة مشاركة أهل دارفور فى رفد الحركتين الوطنية والإستقلالية بمساهمات مقدرة قد لا يعرفها الكثير من المثقفين السودانيين أو حتى بعض أهل دارفور أنفسهم, ونحن إذ نفعل ذلك لا ندعى الإحاطة بالمعرفة المطلقة بخفايا هذا الموضوع, بقدر ما هو محاولة بحث بسيط تجمعت لى فيها بعض المعلومات والدلالات وددتُّ أن أشرك قراء هذا الموقع الأنيق فى مطالعتها, وأتمنى أن أجد من يصحح خطئى حول معلومة ما أو إضافة جوانب أخرى خفيت عنى فلست بمؤرخ, كما أنَّ مقصدى يهدف أيضاً لإثارة الموضوع وحث العارفين عنه بالمساهمة وإثراء النقاش, وعطفاً عليه فإننى أرحب بكل جهد نحو ذلك سواء عن طريق الكتابة فى هذا الموقع أو الإتصال بى عن طريق بريدى الإلكترونى أعلاه فقد يساعدنى ذلك فى تنقيح الموضوع برمته وتثبيته كجزء من عملية توثيق عريض بشأن دارفور.
الإطار الزمانى لبداية الحركة الوطنية السودانية:
نشر المؤرخ الدكتور جعفر ميرغنى, مدير معهد حضارة السودان, سلسلة مقالات جيدة بعنوان "المك نمر والحركة الوطنية الأولى" بجريدة الرأى العام السودانية خلال شهرى يونيو ويوليو من عام 2001م على ما أذكر, أورد فيها الكثير من المعلومات الدقيقة عن الفترة التاريخية للمك نمر إجمالاً, وفنَّد الكثير من الرويات التى صاحبت سيرة الرجل, لكن ما يهمنا فى مقالاته تلك هو أنَّه قد وصف حادثة قتل المك نمر لإسماعيل باشا إبن الخديوى المصرى "بالحركة الوطنية الأولى" الشيئ الذى يعنى عنده كمؤرخ, أو إستنتاجنا من ذلك, أنَّ تأريخ الحركة الوطنية السودانية يبدأ منذ العام 1821م, عام إحتلال جيش محمد على باشا للسودان, وبناءاً عليه فإنَّ فترة الدولة المهدية ومقاومتها للتدخل الأجنبى تدخل أيضاً تحت ذات التصنيف, بحكم إطارها الزمانى, إضافة إلى المقاومة الوطنية اللاحقة للمستعمر وحتى خروجه من البلاد. وربما عنى الدكتور جعفر إعتبار "سودان محمد على باشا" آنذاك مجازاً ب "السودان الدولة", وربما يكون محق تماماً كون أنَّ سودان اليوم قد تأسس بنسبة كبيرة على تلك الدولة المصنوعة بالرغم من عدم خضوع مناطق أخرى تحت رايتها مثل دارفور, التى ظلت ولمدة 54 سنة مستقلة عنها, وحتى بعد أن أخضعها الزبير باشا ود رحمة ظلت ثائرة وفشل الأتراك فى السيطرة عليها ولم يمكثوا بها أكثر من 9 سنوات مضطربة إنهاروا بعدها على أيدى المهدويين. كما يجدر بنا فى إطار ذلك كله ألاَّ نغفل دور الممالك والسلطنات والكيانات التى تأسست عليها سودان محمد على, والتى سبقتها فى الوجود بفترات زمنية مختلفة بعضها شاسعة, فقد كان للعديد منها حركاتها الوطنية الداوية أيضاً والخاصة بها مثل ممالك كوش ومروى والبجاة والفونج والزغاوة وسلطنات دارفور القديمة واللاحقة والنوبة وقبائل الجنوب, وهى كلها مجالات ما تزال تنتظر الكثير من التمحيص الدقيق والمتأنى لمعرفة عمق إسهاماتها فى شأن الحضارة الإنسانية وأثرها فى تشكيل الهوية والوجدان القومى لسودان اليوم, ولعلَّ المعهد الذى يديره الدكتور جعفر ميرغنى سيكون له دور كبير فى العناية بهذه المهمة القومية الصعبة.
تأسيساً على ذلك ينبغى أن ننظر إلى الحركة الوطنية السودانية إجمالاً من خلال زاويتين, مختلفتين زمنياً, لكنهما متداخلتين عضوياً, هما الحركة الوطنية السودانية عبر القرون وتمتد فترتها من ساحق العصور وإلى لحظة مغرب الشمس خلف جبال كررى إيذاناً بنهاية عصر الدولة المهدية وإيذاناً بدخول البلاد فترة الإنتداب الإنجليزى المصرى. أمَّا الزاوية الثانية فتبدأ من تلك اللحظة وإلى مطلع شمس الأول من يناير عام 1956م, هذه الفترة يمكن تمييزها عن سابقتها بالحركة الوطنية الحديثة التى قادت البلاد إلى فجر الإستقلال. ولعلَّ المقال التاريخى التحليلى الممتاز الذى كتبه الدكتورعبدالرحيم محمد خبير رئيس قسم الآثار بجامعة جوبا بعنوان "الدولة السودانية وذكرى الإستقلال" والمنشور بصحيفة الرأى العام بتاريخ 6/1/2004م, فيه توضيح مهم لتطور الدولة السودانية فقد أشار فيه إلى توالى خمس دول على النحو التالى: الدولة السودانية الأولى «كوش», الدولة السودانية الثانية «الممالك المسيحية», الدولة السودانية الثالثة «الكونفدرالية الإسلامية أو الفونج», الدولة السودانية الرابعة «المهدية», ثمَّ الدولة السودانية الخامسة «الحكومات المتعاقبة 1956 - الوقت الحالي», وإذا قرر الجنوبيون الإنفصال, لا قدَّر الله, فحتماً سيكون هنالك الدولة السودانية السادسة وتبقى كل الإحتمالات مفتوحة بعد ذلك.
بالنسبة لهذا المقال إذا كانت دارفور معروفةً فى التاريخ القديم بسلطناتها المستقلة وعلاقاتها الدولية, فإنَّها لم تنتظر كثيراً, بعد ضمها لسودان محمد على باشا عام 1874م, لتؤكد مقدار ثقلها فى بناء القومية السودانية ورفدها الإيجابى للحركة الوطنية, متمثلاً فى دورها الحاسم فى قيام ودعم الثورة والدولة المهدية مما يعنى ضمنياً, حسب تقدير الدكتور جعفر ميرغنى للإطار الزمانى للحركة الوطنية السودانية, إعتبارها لاعباً رئيسياً فى مرحلة الحركة الوطنية آنذاك وفيما بعد, غير أنَّ ذلك لا يهمنا فى هذا المقال ولا نود المضى فى تفصيلها, فقد نعود إليها فى مقالات أخرى, بقدر ما يهمنا هنا التوثيق لدور دارفور فى الحركة الوطنية الحديثة تحديداً والتى تبلورت منذ سقوط الدولة المهدية وإلى يوم إستقلال البلاد.
تاريخ الحركة الوطنية الحديثة بدارفور السلطان على دينار:
أنهارت الدولة المهدية بعد معركة كررى الشهيرة فى 5 سبتمبر 1898م, وإنتهت كلية بمقتل الخليفة عبدالله ورهطه بمنطقة أم دبيكرات فى 24 نوفمبر 1898م, سعى الأميرعلى دينار أثناءها لإستعادة عرش دارفور, وبالفعل تمَّ إعلانه سلطاناً رسمياً عليها فى سبتمبر 1898م وإستمر يحكمها لحين مصرعه بقرية كولى بجبل مرة فى 6 نوفمبر 1916م, طيب الله ثراه.
يعتبر بعض الكتاب أنَّ فترة حكم السلطان على دينار ونجاحه فى النأى بدارفور ولمدة سبعة عشر عاماً عن الخضوع المباشر للحكم الإنجليزى المصرى, والذى وطَّد أركانه آنذاك فى كل أرجاء السودان بعد إنهيار الدولة المهدية, جزءاً من الحركة الوطنية السودانية الحديثة ضد الإستعمار, وربما يكون ذلك صحيحاً من زاوية خضوع دارفور سابقاً للدولة التركية ثمَّ الدولة المهدية بعدها, لكنَّ نظرة فاحصة لأهداف السلطان على دينار تؤكد أنَّه قد قام بحركته تلك على أساس بعث سلطنة مستقلة كإمتداد لسلطنة أجداده من الفور الكيرا, أو سلطنة دارفور الإسلامية, ولم يكن ضمن أهدافه أبداً أن تكون تلك السلطنة جزءاً من دولة السودان فى ذلك الوقت, يدعم ذلك قوله للسلطان حسين أبى كودة, الذى سبقه لإعلان دولة الفور بعد إنهيار حكم المهدية ثمَّ تسليمه مقاليد الحكم فيها لعلى دينار عند وصوله من أمدرمان: "كتَّر الله خيرك يا أبو كودة, طردت المغتصبين وحفظت لى دارى وأعدت لأهل دارفورعزََّّتهم وكرامتهم وحكمت فيهم بالعدل, نسأل الله أن يقوينا فى طاعة الله وحكم الرعية بالكتاب والسنَّة" (أحمد عبدالقادرأرباب, تاريخ دارفور عبر العصور, 1998م, صفحة279). لذلك وبكثير من الذكاء وحنكة التفاوض مع حاكم السودان الإنجليزى الجنرال كتشنر, إضافة إلى الظروف المحلية والدولية ذات العلاقة, تمكن من إعادة إستقلال سلطنة دارفور كسابق عهدها وبعث ذلك التراث الهائل من ثقافة الحكم والإدارة الأهلية وتأكيد هوية الإقليم إضافة إلى بناء علاقات دولية مرنة مكنته من وضع إسم دارفور فى مكانة بارزة على مستوى العالم المعاصر آنذاك وهنا تتجلى عظمة السلطان على دينار تحديداً. لقد إستلمت بالأمس القريب رسالة إلكترونية من أحد القراء يبدو أنَّه ليس من أهل دارفور يندب فيها ما يحدث فى دارفور من خراب, جاء فيها: "إنَّ مايحدث فى دارفور مهما كان حجمه هو أمر يجد منا كل إستنكار لأنَّه يمس أرض وأهل وصل خيرهم إلى خير البقاع حيث الحرمين الشريفين, إنَّ أهل دارفور هم إعزَّ الناس عندنا فهم كساة البيت الحرام وحراس حجاجه كما يعرف الكثيرون, فالتاريخ يحفظ للسلطان على دينار رحمه الله إرساله الجند لحماية حجاج بيت الله الحرام إبَّان حكم الشريف حسين فى مطلع القرن الماضى, كما أتاحت لى الظروف أن أعاشر العديد من أبناء دارفور على مختلف مشاربهم فوجدتهم نعم الصحبة, وجاورنا منهم الكثيرين فكانوا الجار الذى تأمنه على كل شى, فهم أرفع الناس خلقا إذا ما قيسوا بغيرهم, قوم هكذا أخلاقهم لا نتمنى لهم شيئا سوى أن يؤمِّن الله روعاتهم ويعيد إليهم الأمن فى أرضهم الرحبة ويقارب فيما بين أهلها الكرام".
وتأكيداً لحديث هذا الأخ الكريم فقد أوردت صحيفة الأنباء السودانية قبل فترة معلومات عن دور سلاطين دارفور فى ترسيخ مكانة دارفور بين دول العالم جاء فيها: "أنَّ السلطان إبراهيم قرض، قد واظب علي إرسال «المحمل» و«صرّة الحرمين الشريفين» لكسوة الكعبة, كما كان يواظب علي إرسال عطايا منه للقائمين بأمر الكعبة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلَّم, وكان يخصّ بالعطاء، شريف مكّة الحسين بن عليّ (جدّ الملك حسين بن طلال ملك الأردن), كما إشتهرت الميرم زمزم, أخت السلطان, ببناء المساجد, وقد تفرّد السّلطان الشهيد علي دينار بأعمال الأوقاف في الحجاز، خدمة للحجيج ضيوف الرّحمن, ومن أوقاف السّلطان علي دينار في الحجاز، «آبار عليّ» علي مشارف المدينة المنوّرة, ويشهد التاريخ للسّلطان علي دينار بحرصه علي بقاء الخلافة الإسلاميّة رمزا لوحدة المسلمين, كما كان السّلطان علي دينار عَلَماً في «فقه الموالاة», فقد كان يوالي أهل الإسلام ولايوالي أعداء الإسلام" (الأنباء 25/12/2003م). عند قراءتى لهذا المقطع إكتشفت لأول مرة سر إهتمام ملك الأردن الراحل الملك الحسين بن طلال بدارفور, وذلك حين أمر بإرسال بعثة طبية متكاملة ترابطت بمدينة كاس بجبل مرَّة طيلة فترة الثمانينات من القرن الماضى, ولم تقتصر مهمتها على علاج الناس فقط بل تنوعت مهامها عبر بعثات أردنية أخرى أمتدت لتعمير المدينة عبر إنشاء محطة للكهرباء وشبكة للمياه النظيفة وإقامة مستشفى عصرى, خاصة لطب العيون والجراحة العامة, وكان الناس يقصدونها من الخرطوم طلباً للإستشفاء والترويح بمناظر جبل مرَّة الساحرة, ما فعلته تلك البعثة بمدينة كاس لم تفعله أى من الحكومات السودانية المتعاقبة فى أى مدينة أخرى بدارفور. وهكذا نرى أن نفحات سلاطين دارفور ما زالت تتواصل من عمق التاريخ إلى الحاضر كما كانت تتواصل من عمق دارفور إلى الأراضى المقدسة والخلافة الإسلامية ومصر وليبيا وفرنسا, لقد عبَّر سفير فرنسا بالخرطوم دومينيك رينو قبل فترة عن تضامن بلاده مع سكان دارفور ودعمها لهم فى محنتهم الحالية نسبة للعلاقات التاريخية الوثيقة التى تربط دارفور بفرنسا (الصحافة 21/10/2003م). ولا ننسى أيضاً أن ندعو بالمغفرة والرحمة للملك حسين ونشكر الأردن قيادة وشعباً على رد الحسنة بمثلها مما يدل على نخوة كريمة وشهامة متأصلة, ولا نشك أيضاً فى أنَّ دارفور موعودة بإستثمار كل ذلك الرصيد الهائل من العلاقات التاريخية الثرة فى إعادة تعميرها وتطوير مستقبلها والبناء عليها فى مقبل الأيام.
وعلى العموم فإنَّ تاريخ السلطان على دينار مكتوب, خاصة فى المصادر الأجنبية أكثر منها فى المصادر السودانية, مما يؤكد قولنا السابق بضرورة بعث نهضة تاريخية يزيل هذا الصدأ والغشاوة التى تعترى تاريخنا الصحيح, ويمكننا بناء على ما ورد أعلاه ومن المصادر التاريخية المختلفة أن نقرر أنَّ فترة السلطان على دينار تدخل فى صميم الحركة الوطنية الحديثة فى مقاومة الأجنبى, وكفاحه فى سبيل المحافظة على كيانه, وتأكيد مبدأى الحرية والإستقلال عملاً قبل أن يكون قولاً, ومدِّ عرى الصداقة والخير والبركة إلى أنحاء بعيدة فى العالم قد لا يفهم مغزاها الكثير من الحكام الذين تقلبوا على حكم السودان بعد إستقلال البلاد.
تاريخ الحركة السياسية الحديثة بدارفور بعد ضمِّها للسودان:
يمكن التأريخ للحركة السياسية الحديثة بدارفور فى نطاق السودان الحديث بالفترة الزمنية التى أعقبت إزالة السلطنة وإعلان ضم دارفور رسمياً لدولة السودان الإنجليزى المصرى فى الأول من يناير عام 1917م, حيث ران بعدها على الجو هدؤ ثقيل نتيجة للشكوك المتبادلة بين الأهالى والحكام الإنجليز الجدد الذين أبدوا صرامة شديدة من أجل ترسيخ أركان الحكم, لقد إعتقد الإنجليز أنَّ مقتل السلطان على دينار تعنى نهاية السلطنة لكن رفض شعب دارفور لوجودهم ومقاومتهم لهم تعددت أدواتها ووسائلها وتمثلت فى ثورات القبائل ومحاولات التمرد إذ ظلَّت فكرة إستعادة السلطنة هدفاً ثابتاً لدى السكان, ونتيجة لذلك لم تلبث أن إنفجرت الاوضاع بعد بضعة سنوات فى شكل ثورة عارمة قادها الفقيه عبدالله السحينى عام 1921م وحررت مدينة نيالا بعد أن قتلت مفتش المركز وكل جنوده إلاَّ من فرَّ, وبالرغم من إخماد القوات الإنجليزية لتلك الثورة وإعدام قائدها شنقاً بسوق نيالا إلاَّ أنَّ الثابت فيها هو تجاوب الناس معها بالرغم من معاناتهم والضغوط التي تعرضوا لها من قبل المستعمر. إنَّ ثورة السحينى كانت دينية فى منشأها وأهدافها كإمتداد للثورة المهدية عبرت عن عدم الخنوع للمستعمر إلاَّ أنَّها تفجرت وسط مجموعة من الأحداث المحلية والعالمية, فعلى الصعيد المحلى سبقتها بقليل من قيامها سقوط سلطنة الفور عام 1916م, كما سبقتها قبلاً ثورة الفقيه عبدالقادر ود حبوبة عام 1908م بقرية الحلاوين بالجزيرة وقد أشتهر الرجل بإخلاصه وحبه الشديد للمهدية, لكن الثورة إنتهت بإعدامه شنقاً أيضاً, وقد شهدت تلك الفترة أحداثاً مهمة على الصعيدين المحلى والعالمى مثل قيام مشروع الجزيرة وبروز قضية السودان من خلال أطروحات جمعية الإتحاد السودانى وجمعية اللواء الأبيض التى حلت محلها, أمَّا على الصعيد العالمى فبجانب الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والنمسا وسقوط الأمبراطورية العثمانية فقد تفجرت ثورة 1917م الروسية البلشفية وثورة 1919م المصرية, وعليه لا بد من أن تكون تلك الأحداث قد أثرت فى تطور الوعى السياسى السودانى إجمالاً بقضايا التحرر من المستعمر الشيئ الذى إنعكس فى تزايد وتائر المطالبة بالحريات والتوجهات القومية.
وإن إنتهت ثورة السحينى بمآلاتها إلاَّ أنَّ جذوة الثورة لم تنطفئ فى دارفور, وظلَّت صدور الناس تعتمل ضد الحكم الإنجليزى الذى تعامل تجاهها بذكاء عن طريق تثبيت الإدارة الأهلية ودعمها مثلما كانت فى عهد السلطنة, وإستعمالها بحنكة وحكمة لكى تعينها فى ضبط الأمور. ومن جانب آخر فإنَّهم, أى الإنجليز, لم يسعوا مطلقاً لنشر التعليم الحديث وآليات الوعى الجماهيرى بل تركوا الناس وشأنهم فى تعليم الخلاوى وحفظ القرآن ولم يفكرو فى إنشاء المدارس الحديثة إلاَّ عام 1936م بإفتتاح مدرسة إبتدائية واحدة فقط لكل الإقليم, حاولوا تخصيصها لأبناء الملوك والشراتى والنظار والعمد والشيوخ كمكافئة لتعاونهم معهم وتمَّ منع أبناء الفقراء وعامة الشعب من الإلتحاق بها, فزاد نفور الناس منهم ومن التعليم الحديث بسبب ذلك, وزاد تعلقهم بخلاويهم وبالتعليم الدينى التقليدى المتجذر بين الأهالى كرد فعل طبيعى, ولذلك فقد كان أطفال الخلاوى يسخرون من أبناء مدرسة الحكومة, ويصفونها بمدرسة الكفرة, يعيِّرونهم بها, ويتهكمون عليهم عندما يرونهم فى الشوارع ويترنمون فى لذة:
عيال مسيك جنَّة قريب ... عيال مدارس نارهم حارس
والمسيك هو الخلوة, كناية عن الكراهية, فينعقد ألسنة أطفال المدرسة الحكومية ويلوون أدبارهم فى صمت وحيرة لا يملكون رداً, لكن لم يدر بخلدهم أنًّ من يضحك أخيراً سيضحك كثيراً.
بالرغم من ندرة التعليم إلاَّ أن الذين تخرجوا فيما بعد من تلك المدارس القليلة, إضافة إلى الذين وفدوا من الأزهر بمصر ومن داخل السودان, بدأوا يؤثرون بفعالية فى إزدياد الوعى بين أهاليهم, خاصة الوعى السياسى وما يتعلق بحقوقهم, ساعد فى ذلك توسع التعليم فى مناطق السودان الأخرى وتنامى الوعى الوطنى الذى ساد البلاد عقب ثورة عام 1924م وقيام مؤتمر الخريجين.
سياسة الإنجليز فى حكم دارفور:
لقد إعتمد الإنجليز فى حكم إقاليم السودان نمط من الإدارة يختلف عما طبقوه فى دارفور, ففى تلك الأقاليم كانوا يعتمدون على شيوخ القبائل والإدارات الأهلية فى إدارة مناطقهم بالدرجة الأولى, ثمَّ على الموظفين التنفيذيين المختارين لمساعدتهم فى الإشراف على الخدمات العامة, أى عبر خليط من الهياكل الإدارية التقليدية والمستحدثة, أمَّا فى دارفور فقد وجدوا عند إحتلالهم لها إدارة أهلية راسخة نضجت وتوطدت عبر قرون من الممارسة والتطوير وتجاوزت الأطر الهيكلية التقليدية إلى الإرتباط الوثيق بوجدان الناس وتراثهم بل وكيفية حياتهم, فتركوها وشأنها وأوكلوا لها مهمة القيام بمعظم المهام المتعلقة بخدمات المواطنين وضبط المجتمع, وإذا تطلب الأمر خبرات إضافية فإن المفتشين ومساعدوهم يقومون بتنفيذ ذلك بأنفسهم, وما يزال كبار السن من أهل الإقليم يذكرون كيف كان المفتش الإنجليزى يمر عليهم راكباً حصانه يحادثهم بحزم فى كل ما يتعلق بحياتهم أمَّا إذا تطلب الأمر تنفيذ شيئ فإنَّه يشير لشيخ المنطقة لفعل ذلك, ولعلَّ السر فى ذلك قد يكون مردَّه للفارق الزمنى بين إحتلالهم للمنطقتين, أى جلِّ السودان (1898م) ودارفور (1916م), ثم فى درجة الوعى النسبى وسهولة التحرك فى أرجاء السودان الأخرى بخلاف دارفور, حيث ما زال الوضع على ما هو عليه, ولذلك فقد جهد الإنجليز كثيراً فى تحويل ولاء الزعامات القبلية لتكون ممثلة لسلطتهم وليست لأهاليهم, ومن ثمَّ إستخدام ذلك كأداة لنشر آراء وسياسة الحكومة, خاصة بهدف خلق حائط صد يحول دون تمكن المتعلمون من أبناء الإقليم من التأثير الإيجابى على أهاليهم البسطاء.
لقد كتب الدكتور إبراهيم الأمين مقالاً توثيقاً شيقاً بعنوان "الوصاية" عن فلسفة الإدارة الإنجليزية للسودان, نشرته جريدة الرأى العام قبل عدة أشهر, جاء فيه أنَّ مدير مديرية دارفور بالفاشر كتب تقريراً إلى السكرتير الإداري بالخرطوم أشار فيه إلى إنتشار الروح الفردية عند الأجيال الجديدة وهو أمر خطير في نظره يدعو للأسى, وقال إنَّ ذلك يرجع إلى حد ما إلى أنَّ «أصل وأساس أي تنظيم أفريقي يقوم على العائلة» وإذا إنهار النظام القبلي لا يستطيع البريطانيون إدارة البلاد, كما عبر أيضاً عن كراهيته وعدم ثقته في المتعلمين والصفوة الضالعة في السياسة, وذهب إلى الرأي القائل بإستخدام السلطات القبلية للحد من تطلعات المتعلمين وتطوير سلوكهم، وذلك لأن ميلاد ونشوء فئة فصيحة من أشباه المتعلمين ومن المثقفين تشبه الـ«حدأة» دون ذيل.. وهي طبقة مثل معظم أشباه المتعلمين الأفريقيين تبالغ كثيراً في وزنها كما إنها على إستعداد لإقحام نفسها في أي أمر يسهم في إسقاط النظام الراهن أملاً في نيل بعض المكاسب في الوضع الجديد (الرأى العام 6/9/2003م). إنَّ هذا المقطع يعكس بوضوح تبرم المدير الإنجليزى بدارفور وسخطه من نشاط المتعلمين من أبناء الإقليم فى ذلك الوقت على الرغم من قلتهم, بل ويمثل تماماً عدم رغبة الإنجليز البته فى السماح لبروز أى دور يلعبه هؤلاء المتعلمون من أبناء الإقليم فى تنوير مجتمعاتهم حتى لا يؤدى ذلك إلى تنمية مشاعر مهددة لوجودهم وسلطتهم المستعمرة, كما يعبر أيضاً عن سر قوة الإدارة الأهلية التى وجدت المجال متاحاً لبسط سيطرتها وتعميق نفوذها بين فئات المجتمع إلى درجة أنَّ نفوذ شيخ القبيلة قد يصل إلى مرحلة يصير فيه الشيخ رمزاً للقبيلة كلها فيسير الركبان بقصص قوة شخصيته وكرمه وخصاله الفريدة.
قيام مؤتمر الخريجين بدارفور:
وبالرغم من السياسات المختلفة التى إتبعها الإنجليز لكبت تطور الحس الوطنى بدارفور إلاَّ أنهم فشلوا فى وقف تصاعد الوعى السياسى نتيجة للتطورات الجارفة على المستوى القومى, فناضل المتعلمون والمثقفون, خاصة فى مدينة الفاشر, وتهيئوا تماماً ليتفاعلوا مع بدايات الحركة الوطنية الحديثة فى الوسط ممثلة فى مؤتمر الخريجين العام بأم درمان, والذى بدوره أفرز قيام جمعية سرية تمثل مؤتمراً للخريجين بمدينة الفاشر فى نهاية الثلاثينات من القرن الماضى, وقد تزامن ذلك مع نشؤ شريحة متعلمة من أبناء الإقليم تلقوا التعليم الدينى المنظم ووفدوا من مؤسسات دينية هامة فى ذلك الوقت مثل المعهد العلمى القديم بأم درمان وجامعة الأزهر, حيث ما يزال "رواق دارفور" فاعلاً حينذاك, وقد تزامن إفتتاح أول مدرسة إبتدائية فى الفاشر عام 1936م مع حراك وطنى ضاغط على المستوى القومى أثمر عن قيام مؤتمر الخريجين العام بأم درمان فى العام التالى, وبالتحديد فى ثانى أيام عيد الأضحى المبارك من عام 1937م, وبالرغم من أنَّ هذا المؤتمر ظلَّ ساكناً فى السنوات الأولى من تأسيسه وإقتصر مهامه على تحسين أوضاع الموظفين السودانيين الخدمية مع الحكومة, إلاَّ أنَّه بدأ يتشكل سياسياً ويلعب دوراً مؤثراً خاصةً بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز نزعة بين المثقفين السودانيين تدعو لتحديد مستقبل البلاد السياسى تمخضت عنها مذكرة مؤتمر الخريجين الشهيرة عام 1942م والتى إحتوت على مطالب وطنية أهمها إعطاء السودانيين الحق فى تقرير المصير, وبالرغم من رفض الحاكم العام الإنجليزى إستلام تلك المذكرة إلاَّ أنَّ أثرها إنداح سريعاً خارج العاصمة إلى الأقاليم حيث تلقفتها جمعيات وفروع المؤتمر فى أرجاء البلاد, وأخذت تواصل إجتماعاتها السرية والعلنية لإتخاذ الإجراءات والقرارات التى تدعم موقف المؤتمر الأم بأم درمان, وقد كان لمؤتمر الخريجين بالفاشر, والذى تأسس عام 1939م, دوراً ملحوظاً ومؤثراً فى تأسيس و قيادة الحركة الوطنية بدارفور, حيث إتخذ من "نادى الفاشر" معقلاً يمارس من خلاله ومن على مسرحه الرحيب نشاطاً سياسياً وإجتماعياً دافقاَ لرفد الحركة الوطنية وخلق منبر لنشاط الفعاليات السياسية المختلفة, لقد كان نادى الفاشر, والذى تأسس عام 1936م, يحتوى على مسرح وفضاء واسع ومبنى فخم متعدد الغرف والقاعات لعب دوراً مؤثراً فى بلورة الحركة الوطنية وتحول لمنتدى أساسى للسياسة والأدب والفن والمسرح والمعارض القومية, وظلَّ يؤدى دوراً رائداً حتى وقت قريب حيث حلَّ محله مبنى المجمع الثقافى الحالى فى عام 1976م, وفى الحقيقة قام هذا النادى فى جزء منه كرد فعل لمقابلة "نادى دارفور" الحكومى والذى مثَّل, وربما إلى اليوم, ملتقى للقيادات الحكومية المتنفذة والرسميين من المفتشين وكبار الموظفين يندر أن يتواجد من بينهم من هم من الأهالى العاديين, إذ ظلَّ هناك دائماً نوعاً من التمييز والجفوة المستترة بين الجانبين.
لقد ضمَّ مؤتمر الخريجين بالفاشر ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم الطبقة الوسطى من أهل المدينة إذ إنضمَّ إليه قطاع حى من التجار, كثيرون منهم من الجلابَّة, والمثقفون الذين تلقوا دراساتهم بعيداً عنها أمثال يوسف أبو شوة, محمد الحاج الأمين, مصطفى خليل, محمد إبراهيم أبو القاسم, محمد على أبو سم (أبو زهرة), والأستاذ محمد فضل المولى أول ناظر لمدرسة الفاشر الأهلية الوسطى, والأستاذ محمد فضل, والد البروفسير على محمد فضل مدير جامعة الخرطوم الأسبق, أول ناظر سودانى لمدرسة الفاشر المزدوجة الأولية, وبجانب ذلك فقد كان هنانك كوادر محلية متعلمة من المعلمين وصغار الموظفين وبعض الأهالى من الشباب الذين عاشوا لفترات فى مدينتى ود مدنى وأم درمان فعادوا للإقليم يحملون بشريات وأفكار التحرر الوطنى وأطروحات مؤتمر الخريجين ما لبثوا أن عكفوا على الاختلاط بالناس فى قاع المجتمع من باب تعليمهم شتى المهارات فى الميكانيكا والبناء والنجارة والحدادة والحياكة والأعمال الكتابية والمحاسبية فتطوروا مع الزمن، وبالضرورة ، كتيار متميز فى نهر التوعية الجماهيرية، وتعاطوا بشكل إيجابى مهمة تنوير الأهالى من خلال مشاركاتهم الإجتماعية الواسعة وعن طريق الفن الغنائى والرياضة ومناسبات مجتمع أهل المدينة الثرة, مثل بشر سعيد ومحمد الخضر أبو دماغ وحسن كفتيرة, وظلوا يشكلون ولوقت طويل الصوت المعبر للمؤتمر وينشطون سراً وجهراً فى مقاومة المحتل الأجنبى خاصة وأنَّ ذكريات السلطنة ما زالت طرية فى وجدان المواطنين يذكرونها بفخر ويطربون لها من خلال قصص المسنين وذكرياتهم عن تلك الفترة.
ومن أجل خلق بعد إجتماعى لمؤتمر الخريجين, وربما تحت تأثير العلاقات والصلات المتبادلة مع صلب الحركة الوطنية فى وسط السودان النيلى, فقد إتجه المؤتمر لتبنى بعض المشروعات التعليمية والإجتماعية فأنشأ مدرسة الفاشر الأهلية الوسطى عام 1945م كأول مدرسة وسطى على الإطلاق بدارفور, تبعها بمعهد الفاشر العلمى الدينى فى عام 1946م, ثمَّ شارك بقوة مع قطاعات مجتمع المدينة لبناء الجزء الأساسى من جامع الفاشر الكبيرعام 1947م قبل أكتمال التوسعة الكبرى فى شكلها الحالى عام 1957م والذى يمكن مشاهدة منارته العالية من مدى أميال بعيدة عن المدينة, كما برزت نتيجة لذلك نهضة ثقافية متينة فى المدينة إنعكست فى شكل نشاط فكرى وسياسى وإجتماعى زاخم صاحبها وعى مبكر بمفاهيم الوطنية والسيادة ومتابعة تطورات الشئون العالمية التى أخذت تتفاعل بإيقاع متسارع مع إنتهاء فترة الحرب العالمية الثانية, ولقد تأثر أهل المدينة بصورة إيجابية من ذلك الحرب من خلال التعامل مع وخدمة القوات الإنجليزية التى ظلت تنزل فى مطار المدينة بصورة مستمرة خلال فترة الحرب, فقد تحول مطار الفاشر حينها إلى ما يشبه قاعدة عمق خلفية للقوات البريطانية فى حربها ضد قوات المحور الألمانية النازية التى كانت تتقدم شرقاً من شمال إفريقيا بإتجاه مصر والتى إنهزمت وتم القضاء عليها فى معركة العلمين الشهيرة, لقد شارك فى تلك المعركة الكثير من أهل دارفور الذين إلتحقوا بالخدمة العسكرية مع القوات الإنجليزية آنذاك ما يزال العديد منهم أحياء يرزقون, وقد تم تصميم ذلك المطار, وهو مطار الفاشر الحالى, بعناية فائقة قبل بدء الحرب بوقت وجيز ليكون فى وقته أهم مطار وقاعدة جوية بالبلاد تنطلق منها طائرات التحالف إذا لزم الأمر لمهاجمة قوات المحور الألمانى بشمال أفريقيا, وكانت الطائرات العسكرية من الطراز القديم, ذات المروحية الواحدة, تهبط فيه بإستمرار طوال اليوم إذ يقوم عمال متخصصون بإشعال نيران فى مواقد خاصة على جانبى المدرج خلال الليل لتمكن الطائرات من تحديد المدرج والهبوط, كما كان هؤلاء العمال يقومون أيضاً بإدارة عنفات محركات تلك الطائرات لمساعدتها على الدوران قبل الإنطلاق, ونسبة لقوة تصميم ذلك المطار وهندسته الرفيعة فإنَّ الحكومات السودانية التى توالت بعد الإستقلال لم تحتاج ولفترة طويلة أن تضيف شيئا لتلك المبانى أوالمدرجات إلاَّ فيما يختص بالصيانة والترميمات العادية, لكن تم زيادة طول المدرج الشمالى الجنوبى إلى مسافة ثلاثة كيلومترات إجمالاً فى منتصف الثمانينات وتمًّ إنشاء مدرج جديد بإتجاه الجنوب الغربى- الشمال الشرقى بذات الطول فى بداية التسعينات, فتوسع بحيث أصبح اليوم من كبرى المطارات الدولية السودانية, وبجانب ذلك فقد تأثر أهل دارفور أيضاً بتجربة أهاليهم المقاتلين الذين خدموا فى وحدات الجيش وقاتلوا جنباً لجنب مع القوات البريطانية فى معارك الصحراء, كان بعضهم متمكنين من اللغة الإنجليزية فصاروا بعد عودتهم مصادر معلومات لمجتمعاتهم عمَّا شاهدوه ولمسوه فى معاملتهم مع الأنجليز وبقية الأجانب وما قد يسمعونه عبر المذياع عن التطورات السياسية العالمية وردود فعل الدول التى لا تزال ترزح تحت تسلط الإستعمار ومحاولات شعوبها للتحرر والإنعتاق, ولذلك لم يكن الناس بعيدين عما يحدث من تطورات فى العالم الخارجى.
دعم القضية الفلسطينية:
نتيجة لإزدياد الوعى, وعند إندلاع الحرب بين الفلسطينيين واليهود عام 1948م أثر إعلان قيام دولة إسرائيل, بناء على وعد بلفور بإعطاء اليهود وطناً لهم فى فلسطين, إندلعت المظاهرات فى كل أرجاء الوطن العربى وإرتفعت الأصوات فى كل مكان تنادى بالجهاد ضد اليهود وتحرير فلسطين, وقد كانت لجماهير دارفور نصيباً فى ذلك فقد تدافعت جماهير مدينة الفاشر للتطوع للحرب وإقيمت الندوات الكبرى فى نادى الفاشر لتبصير المواطنين بمأساة فلسطين بجانب خطب صلاة الجمعة فى المساجد التى تناولت ذات الموضوع تدعو للجهاد, كما قامت حملات لجمع التبرعات المادية والعينية لدعم الحرب وقد تبرع الناس بالغالى والنفيس حتى أنَّ طالباً إسمه محمد معروف من حى "تمباسى" بالفاشر خلع جلبابه أمام الجمهور وتبرع بها لدعم حرب تحرير فلسطين.
مظاهرات الفاشر ضد المجلس الإستشارى لشمال السودان والجمعية التشريعية:
فى عام 1944م, وكرد فعل لمطالب مؤتمر الخريجين العام لتحديد المستقبل السياسى للسودان كثمرة لوقوف السودان مع الحلفاء وإنتصارهم فى الحرب العالمية الثانية, خاطب حاكم السودان العام السير هيوبرت هدلستون السودانيين عبر المذياع مباشرةً بأنَّ حكومته ستتدرج بالسودانيين نحو الحكم الذاتى على أن يتحقق ذلك فى عشرين سنة, ثم بدأت الحكومة فى تنفيذ خطوات فى إتجاه ذلك بتكوين المجلس الإستشارى لشمال السودان على أن يظل الجنوب على ما هو عليه, وتَكَوَّن المجلس برئاسة الحاكم العام ينوب عنه السكرتيرين الثلاثة, الإدارى ثم المالى ثم القضائى, بالإضافة إلى عضوية شرفية لكل من السيدين عبدارحمن المهدى وعلى الميرغنى, كما ضم المجلس كذلك أعضاء من مجالس مديريات السودان الشمالية بواقع ثلاثة أعضاء لكل مديرية مَثَّلَ دارفور فيه كل من الناظر إبراهيم موسى مادبو ناظر قبيلة الرزيقات والسلطان محمد بحرالدين سلطان دار المساليت والمقدوم عبدالرحمن آدم رجال مقدوم المقدومية بنيالا, لكنَّ مؤتمر الخريجين شكك فى نوايا حكومة السودان وأعلن أنَّ الهدف الحقيقى من تكوين المجلس الإستشارى لشمال السودان هو أن يكون خطوة مبدئية لفصل جنوب السودان والإنفراد به تمهيداً لضمه إلى أحد البلاد الأفريقية المجاورة والواقعة تحت النفوذ البريطانى, وبناءاُ عليه قرر المؤتمر مقاطعته للمجلس كما قاطعه أيضاً السيد على الميرغنى وأغلبية المثقفين السودانيين فسقط المجلس بعد تكوينه مباشرة إذ لم يكن يمثل غالبية الشعب, وقد أدَّى ذلك إلى تعديل الحكومة لخطتها لفصل الجنوب خاصة وأنَّ الجنوبيون أنفسهم رفضوا دعوة الإنفصال وتمسكوا بالسودان الموحد. لقد ساهم التيار المتنامى لحزب الأشقاء بفعالية فى سقوط ذلك المشروع إذ كان حزب الأمة والجبهة الإستقلالية يدعمونها بإعتبار أنها خطوة نحو الحكم الذاتى والتدرج نحو الإستقلال بإشراف الحكومة البريطانية, لكن معارضة المؤتمر وحزب الأشقاء كان لافتاً على المستوى القومى الشيئ الذى إنعكس على الحركة السياسية الفاعلة بمدينة الفاشر أيضاً إذ نشأ فيها تيار قوى غالبيته من شريحة الطبقة الوسطى خاصة قطاع التجار بقيادة الطاهر إبراهيم وحسن محمد صالح ومحمد على الصديق وغيرهم.
عطفاً على ذلك مضت الحكومة فى تنفيذ خطة مغايرة لكى تضمن عبرها سيطرة مطلقة على مجريات الأحداث, فطرحت مشروعاً جديداً تمثلت فى قيام جمعية تشريعية ومجلس تنفيذى بهدف السير بالسودان نحو الحكم الإدارى وتقرير المصير, وبرغم رفض غالبية القوى السياسية لها إلاَّ أنَّ الحكومة مضت فى تنفيذ تلك الخطة فتم قيام الجمعية التشريعية من 79 عضواً, منهم 42 منتخباً إنتخاباً حراً مباشراً فى المدن الكبيرة, وقد فاز من دارفور كل من الملك رحمة الله محمود (وسط دارفور, رئيس محكمة الفاشر), أبوالقاسم على دينار (شمال دارفور, من الأعيان), إبراهيم ضو البيت (شرق دارفور, رئيس المحكمة), إبراهيم موسى مادبو (جنوب دارفور, رئيس المحكمة), عبدالحميد أبَّكر إبراهيم (غرب دارفور, ناظر الرزيقات), أبُّو عبدالرحمن بحرالدين (دارالمساليت, سلطان دار مساليت), وبالرغم من قيام هذه الجمعية إلاَّ أنَّ موقف القوى الوطنية تجاهها ظلَّت ليس بأقل من موقفها السابق تجاه المجلس الإستشارى لشمال السودان, فقاطعتها أيضاً, وأطلق الزعيم إسماعيل الأزهرى قولته المشهورة: "لن ندخلها ولو جاءت مبرأة من كل عيب" تعبيراً عن موقف تلك القوى, وعلى أثر ذلك تكونت الجبهة الوطنية من الأحزاب الإتحادية وبعض المستقلين وكان شعارها مقاطعة الجمعية التشريعية ومقاومتها بكل السبل, وهكذا تطورت الأمور إلى مواجهة مباشرة مع حكومة السودان البريطانية وتمددت من العاصمة إلى مدن السودان الكبرى لتتحول إلى مقاومة شرسة ضد الجمعية التشريعية تمثلت فى المظاهرات والمسيرات الهادرة والليالى السياسية خاصة فى المدن الكبرى مثل ودمدنى وعطبرة والأبيض وبورتسودان وكسلا والفاشر, ومن الناحية الأخرى قررت الحكومة إستخدام العنف والقوة فى تفريق المظاهرات حيث تم إستخدام القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه وضرب المتظاهرين بالهراوات.
أما فى مدينة الفاشر فقد تحرك الناس بتلقائية ضد قيام الجمعية, ويصف ذلك المؤرخ أحمد عبدالقادر أرباب فى كتابه سابق الذكر (صفحة 333) بقوله: وكان فى مقدمة المعارضين شباب المدينة وطلبة معهد الفاشرالعلمى بإيعاز من الأستاذ سراج الدين أحمد جابر, الذى قاد إضراب معهد بخت الرضا فى تلك الأيام, فتكونت خلية نشطة لقيام مظاهرات سياسية كبرى عام 1948م, وبالفعل قامت أول مظاهرة من فناء الجامع الكبير وجابت السوق والطرقات حيث إنضم إليهم عدد كبير من المواطنين وتوجهت المظاهرة إلى المدرسة الأهلية الوسطى بالقرب من سوق المدينة حيث خرج الطلاب من الفصول وإنضموا إليها, ثم إتجهت منها إلى المديرية حيث مقر مدير مديرية دارفور, وكانت الهتافات داوية تصدت لها قوات البوليس بعنف وفرقتها قبل أن تصل إلى هدفها, وإعتقلت قادتها وبعض المواطنين المشتركين فيها وقدم المتهمون منهم لمحاكمات فورية حيث صدرت أحكام بالسجن والجلد بحقهم, والذين تمت محاكمتهم هم: عباس محمد نور عالم (والد الشاعر والأديب الأريب عالم عباس), أبو القاسم حاج محمد (خطيب الفاشر المفوَّه), محمد على عنقال, بشر سعيد, صديق صالح أبو اليمن, محمود التجانى عبدالماجد, حسن محمد صالح, الطالب سيد شدَّاد, إبراهيم بابكر فضل, ومحمد على الصديق.
دور دارفور فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة (2-2) د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية [email protected] حرق العلم الإنجليزى بالفاشر:
لقد تركت أحداث مظاهرة الفاشر عام 1948م أثراً عميقاً بين جماهير دارفور والسلطات الأنجليزية والتى تعقدت مهامها أكثر مع إزدياد وتيرة الهَّم القومى للتحرر والإنعتاق, ولقد مثَّل نادى الفاشر فى تلك الحقبة وما تلتها معلماً بارزاً وصوتاً معبراً لتطلعات الشعب وتحولت لمنارة إشعاع دافق لإقامة الندوات السياسية والمحاضرات العلمية والمسرحيات الهادفة الموجهَّة, ولم يكن الناس بعيدين كذلك عن أخبار التحرر الوطنى الذى ساد أفريقيا وآسيا, وقد أخذ مؤتمر الخريجين بأم درمان فى تشجيع فروعها بالأقاليم للتعبير عن ذلك بكل الوسائل الممكنة مثلت مدينة الفاشر فيها حجر الزاوية, حيث تقرر حرق العلم البريطانى, فخرجت الجماهير فى مظاهرة هادرة فى 2 فبراير1952م (ويا ليت لو تحول هذا التاريخ إلى يوم وطنى فى دارفورعلى الأقل) تطالب بخروج المستعمر وتوجهوا إلى مقر إدارة المديرية نهاراً جهاراً ورفعوا الشاب أبوبكرمحمد حجازى, من أبناء حى أولاد الريف بالفاشر, إلى سطح المبنى الذى يرفرف عليه العلمان الإنجليزى والمصرى, وأمروه بألاَّ يمس العلم المصرى تكريماً لمصر, فأنزل لهم العلم الإنجليزى من ساريته, فهتفوا طويلاً "يسقط الإستعمار" ثمَّ أحرقوه, فى بادرة هى الأولى ضد الأمبراطورية البريطانية يقال أنَّها أغضبت الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا وحزنت حزناً شديداً عندما بلغها النبأ, لقد مثَّل حرق العلم البريطانى تعبيراً عن رفض بقاء الإستعمار لكن القوات الإنجليزية تعاملت معها بقسوة وفظاظة وتمَّ إعتقال كل من إشترك فى التخطيط لتلك المظاهرة, ويقال أنَّ القوات البريطانية أنتظرت حلول الظلام لإلقاء القبض على بقية المطلوبين فى بيوتهم, وكانوا ينزعون أحذية المعتقلين ثمَّ يلفون أقدامهم لفاً محكماً بقطع من جلود البقر المذبوحة بعد أن يصبوا عليها الماء البارد, وعندما تبدأ تلك الجلود بالتيبس تنقبض أكثر فيحدث ألماً رهيباً فى أقدام الأفراد المعذبين, ومع ذلك لا يتركونهم بل يجلدونهم على بطن تلك الأقدام الحافية بالسياط ويضربون عليها بالبساطين, وعلى العموم قبضت القوات البريطانية على 29 شاباً وقدمتهم لمحاكمات سريعة بالجلد وأحكام متفاوتة بالسجن حيث أودعتهم فى 4 سجون رئيسية هى شالا وحلوف ونيالا والأبيض, وقد أورد المؤرخ أرباب الأسماء التالية فى كل سجن:
سجن حلوف شمالى الفاشر:
محمد محمود محمد (العقوبة سنتان مع الأشغال الشاقة وقيد ثقيل و25 جلدة,), ياسين إبراهيم الضى, محمد عثمان أبَّشر, أحمد عيسى طه, هاشم الخليفة محمد نور, محمد عبدالله فضل السيد, محمد الحاج إبراهيم.
سجن شالا غربى الفاشر:
عبدالله يوسفو, الطيب محمد يحيى, جبريل أحمد موسى, عبدالرحمن محمد آدم, أمين حسب الله, أحمد شمنُّو, أبَّكر عبدالحكم, محمد الفكى خالد, سليمان كرامة, محمد الدومة سليمان, إبراهيم كيوكيو, مصطفى الخليفة محمد نور, أحمد آدم عبدالرحمن, محمد أبو اليمين, محمد عزَّة إدريس, أحمد شمين, محمد شريف جبريل.
سجن نيالا:
حسن محمد صالح, عباس محمد نور.
سجن البان جديد بالأبيِّض:
أبو القاسم الحاج محمد, يوسف محمد نور عالم, عبدالرحمن حسن طويل.
هذه هى الضريبة التى دفعها أهل الفاشر تعبيراً عن تضامنهم مع الهمَّ القومى للتحرر والإستقلال, والنضال من أجل وطن العز والكرامة, وما يزال بعض هؤلاء الأبطال على قيد الحياة, وحسناً فعلت الحكومة الإقليمية بدارفور عام 1983م بتكريمهم تكريما يليق بمكانتهم فمنحت كل واحد منهم قطعة أرض درجة أولى فى المخطط الحديث غربى المدينة خالية من الرسوم والضرائب تقديراً لما قاموا به من دور بطولى سيذكره التاريخ لهم ولأهل دارفور طويلاً.
معركة الإستقلال:
برغم كثافة وثراء النشاط السياسى فى دارفور وتركزها فى مدينة الفاشر, خاصة عقب قيام فرع لمؤتمر الخريجين فيها, إلاَّ أنَّ مناطق الوعى والحركة السياسية قد تتمددت رويداً رويداً لسائر أنحاء الإقليم متأثرة بالزخم القومى وحركته نحو الإستقلال ومتفاعلة بما يحدث فى الفاشر عاصمة المديرية, وتبعاً لذلك تحولت مدن مثل نيالا والجنينة وأم كدادة والضعين وكتم وعد الغنم إلى مراكز إشعاع سياسى نشط تكاملت مع مدينة الفاشر فى إبراز وجه دارفور النضالى من أجل التحرر من المستعمر.
فى الطريق نحو الإستقلال كان السودان منقسماً على المستوى القومى إلى عدة أحزاب تجمعت فى كتلتين رئيسيتين هما كتلة الأحزاب الإتحادية من جانب, والتى كانت تطالب بنوع من الوحدة مع مصر, وضمَّت أحزاب الأشقاء، الجبهةالوطنية, حزب الاتحاديين, وحزب وحدة وادي النيل, ثمَّ كتلة الأحزاب الإستقلالية التى تدعو لإستقلال السودان الكامل عن مصر وبريطانيا رافعة شعار "السودان للسودانيين" وضمت حزب الامة، والحزب الجمهوري الإشتراكي, والحزب الوطني, وبالرغم من فوز الحزب الوطني الإتحادي, الذي كان ينادي بوحدة وادي النيل, بأغلبية مقاعد البرلمان فى إنتخابات عام 1954 وتشكيله لحكومة بمفرده, إضافة إلى ثلاثة من الجنوبيين, وتسلم السيد إسماعيل الأزهرى رئاسة الوزارة إلاَّ أنَّ المد الإستقلالى كان جارفاً, وقد تعقد موقف الأزهرى أكثر إزاء فكرة وحدة وادى النيل خاصةً وأنَّ جماهير الحزب الوطني الديمقراطي والشعب السوداني عامةً قد إتجهت بقوة نحو فكرة القومية السودانية المستقلة, وقد تعقدت مهمته أكثر بعد أحداث العنف من جانب الأنصار عند إستقبال اللواء محمد نجيب وزملائه وكبار الزوار والضيوف الذين وفدوا من مختلف الأقطار لحضور إفتتاح البرلمان في أول مارس 1954م, ونتيجة لكل ذلك فقد إقتنع الأزهرى بفكرة الأمر الواقع وأعلن رغبة السودان فى الإستقلال فى مؤتمر (باندونج) بالرغم من المعارضة المصرية القوية للفكرة, لكن تطورت الأمور بسرعة أكبر نحو الإستقلال وإتفقت كل الاحزاب السياسية السودانية علي أن يعلن أعضاء البرلمان رغبتهم في ذلك من خلال مشروع قرار برلماني في 19 ديسمبر 1955م بدلاً عن قرار الإستفتاء الشعبي كما نصت عليه الإتفاقية البريطانية المصرية التى كانت قد أبرمت عام 1953م.
لكن قبل ذلك كله, ونسبة لتنامى المطالبة بالإستقلال الكامل, قرر السيد إسماعيل الأزهرى القيام بطواف على الإقاليم الغربية للبلاد, وكما معروف فهى معاقل قوية لحزب الأمة, ولذلك وجَّه حزب الأمة جماهيره فى تلك المناطق بحسن إستقبال رئيس الحكومة إستقبالاً ودياً وشعبياً لكن نبههم بأن يطالبوا بإستقلال السودان حتى يتعاظم الضغط الشعبى عليه للإلتزام به, فإنبهر الرجل بضخامة الإستقبال الذى وجده بالنهود, فى أول زيارة له بكردفان, وتيقن ألاَّ مناص من تبنى فكرة الأستقلال كهدف ثابت, ثم قادته زيارته لمدينة عد الغنم بجنوب دارفور, كأول منطقة بدارفور يزورها فى جولته تلك, وكان قد وصل إليها قبله نائب المنطقة, عن حزب الأمة لدائرة غرب البقارة, السيد عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة وشرع فى الإعداد الشعبى لمقابلة رئيس البلاد الذى وجد فى إستقباله عند وصوله لمطار المدينة مئات الألوف من الفرسان يغطون الأفق على صهوات الخيول مشهرين سيوفهم ورماحهم ويهتفون "عاش السودان حراً مستقلاً" فى منظر رهيب وداوى تأثر به الأزهرى حتى سالت دمعته من فرط إحساسه بعظمة الموقف, ويصف أحمد عبدالقادر أرباب هذه اللحظات فيقول: "بعد أن أخذ الرئيس مكانه المعد له تقدم السيد عبدالرحمن دبكة إلى المنصة وألقى كلمته مرحباً برئيس الحكومة وأعضاء وفده ترحيباً حاراً, وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, فهتفت الجماهير المحتشدة خلفه: عاش السودان حراً مستقلاً, ورعدت السماء بالهتافات الداوية, ثمَّ نهض السيد إسماعيل الأزهرى وسط تلك التظاهرة مخاطباً الحشد الكبير وفى ختام كلمته هتف: عاش السودان حراً مستقلاً, السودان للسودانيين, فهاجت الجماهير من الفرحة حيث إنتصرت إرادة الشعب, وإنهمرت الدموع من الفرحة, ودوت الهتافات دون توقف وتعالت لعنان السماء باعثة هديراً صاخباً إهتزت له الأرض, وتحركت الجماهير فى حركة جنونية تعانق بعضها البعض وزغردت النساء ورزمت النقاقير وإبتهجت الدنيا لهذا اليوم التاريخى العظيم المشهد" (صفحة 345).
هكذا هم أهل دارفور, فمن أول يوم ضُمَّت فيه إقليمهم للدولة السودانية أثبتوا أنَّهم لم يأتوا من فراغ, بل جاءوا إليها يحملون زادهم ويتوشحون رداء تاريخ عظيم وإرث ثر وتجربة راسخة فى بناء الأمم, ولذلك فقد ظلوا يغذون التيار الوطنى السودانى بروافد دائمة وقوية من مخزونهم التاريخى ودفعهم الذاتى, خاصة عند المنعطفات الحرجة والمواقف الحاسمة. بناءاًَ على هذه الخلفية يجدر بنا أن نقرأ موقف النائب عبدالرحمن دبكة خاصة من جانب كونه يمثل أول شخصية سودانية يجهر بصوته عالياً مطالباً بإستقلال السودان وفى منطقته الإنتخابية, فأجبر بموقفه ذلك رئيس الحكومة المتردد ألاَّ يحذو إلاَّ حذوه, ولقد كان ذلك المشهد رهيباً وملهماً فى آن واحد تكرر مرة أخرى فى بداية الستينات عندما زار الرئيس جمال عبدالناصر السودان فصحبه الرئيس إبراهيم عبود فى زيارة لمنطقة غزالة جاوزت بجنوب دارفور حيث تدافعت جماهير قبائل البقارة ونظارهم وقياداتهم لإستقبالهما, ويقال أنَّ قرابة ربع مليون فارس قد إحتشدوا فى تلك المناسبة يهزون حرابهم الطويلة فى منظر سدوا بها عين الأفق من كل جانب فتأثر الرئيس عبدالناصر تأثراً بالغاً وإلتفت إلى الرئيس عبود قائلاً: والله لو كان عندى مثل هؤلاء الفرسان لكنت قد دخلت إسرائيل فى يوم واحد!
وعلى العموم فقد أقَّر البرلمان السودانى إعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية فى جلسة حاسمة يوم الأثنين 19 ديسمبر 1955م, وقد وصف الدكتور إبراهيم الأمين ما دار فى تلك الجلسة أورده فى مقال له بعنوان "أيام خالدة" عن إستقلال السودان, نشرته صحيفة الرأى العام مؤخراً بتاريخ 1/1/2004م, ذكر فيه أنَّ السيد ميرغني حسن زاكي الدين قد تقدم في مجلس النواب بالإقتراح الآتي: "نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نرى أن مطلب الجنوبيين بحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث سيعطي الإعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية" فثنى الإقتراح السيد بنجامين لوكي, نائب دائرة ياي بالمديرية الإستوائية ورئيس حزب الأحرار وقال: "عندما بدأ السودانيون يتجمعون ليتشاورون في شئون بلادهم رأي الجنوبيون أن أنجع طريقة للتشاور هي أن تكون للجنوب حكومة فدرالية.. وكلنا يسعى ويهدف لأن يكون السودان وحدة لا تتجزأ ... وهذا الهدف لا يتحقق إلا إذا كانت هناك حكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث"... وطُرح الإقتراح للتصويت فأجيز بالإجماع. وفي الساعة الحادية عشر والدقيقة 15 وصل مجلس النواب السوداني بالإجماع إلي القرار التاريخي بإعلان إستقلال السودان من داخل الجمعية التأسيسية في نفس تلك الجلسة الخالدة والمرتبطة بوجدان كل سوداني, وكان صاحب الشرف العظيم لتقديم الإقتراح فارس من دارفور هو السيد عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة (حزب أمة) من نواب المعارضة فتقدم بالإقتراح الخاص بإرسال خطاب لمعالي الحاكم العام ... هذا نصه: (نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً .. نعلن بإسم الشعب السوداني أنَّ السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة, ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الإعتراف بهذا الإعلان فوراً), وثنى الإقتراح السيد مشاور جمعة سهل (وطنى إتحادى), وقد أشار السيد عبدالرحيم أبوشنب إلى هذه المناسبة أيضاً عبر مقال له بعنوان "الطريق إلي الإستقلال" نشره موقع سودانايل بالإنترنت (15/1/2004م) أورد فيه أنَّ السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة قد علَّق على ذلك الإقتراح الذى تقدم به النائب دبكة ثمَّ إختتم المداولة السيد مبارك زروق وزير المواصلات ممثلاً من جانب الحكومة, وما كادت النتيجة أن تعلن حتي دوت القاعة بالتصفيق الحاد إشترك فيه الأعضاء والزوار على السواء وخرج بذلك المجلس علي اللوائح ولم يتدخل الرئيس تقديراً لأهمية المناسبة, وفي إحتفال مهيب أنزل العلمان البريطاني والمصري صبيحة اليوم الأول من يناير 1956م وفى نفس اللحظة تمَّ رفع العلم السوداني بواسطة كل من السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحكومة والسيد محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة، ودخل السودان في عهد جديد.
إنَّ ما يجدر الإشارة إليه من خلال هذا السرد الموجز هو أنَّ أول صوت نادى بإستقلال السودان هو صوت السيد عبدالحمن دبكة من مدينة عدالغنم (عد الفرسان حالياً وتقع فى جنوب دارفور) وسجل بذلك سبق تاريخي فريد فكرمته جميع الأحزاب بذلك السبق وفوضته بأن يقدم قرار الإستقلال من داخل البرلمان.
سلطنة المساليت ودورها فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة:
بالرغم من الدور المفصلى والحاسم الذى قامت به سلطنة المساليت فى تحديد الهوية الثقافية للدولة السودانية الحديثة إلاَّ أنَّها لم تجد الإهتمام اللازم من قبل المؤرخين السودانيين, الشيئ الذى يستدعى معه ضرورة قيام نهضة قومية راكزة فى مجال علوم التاريخ لدعم الهوية والثقافة السودانية ولكشف ما خفى من الجوانب المهملة من تاريخنا القومى عامة, وخاصة فيما يتعلق بالإرث التاريخى والثقافى للمناطق المهمشة التى نعتقد بلا شك أنَّها تمثل لب التاريخ الأساسى للسودان, فمثلاً هل يعرف السودانيون اليوم شيئاً عن الكفاح البطولى لشعب البجاة ضد فراعنة مصر فى ساحق العصور والإنتصارات الداوية التى ألحقوها بهم؟ أو عن مملكة تقلى فى جبال النوبة؟ أو سلطنة الزغاوة والتى كانت تتمدد يوماً من بحيرة تشاد جنوباً إلى أطراف النيل ومملكة النوبة شرقاً والمناطق الجنوبية للدولة الليبية شمالاً؟ ثمًّ هل نعرف شيئاً ولو ضئيلاً عن تاريخ جنوب السودان كله ولو من باب الأساطير والروايات الشفاهية والتراث القبلى الشعبى؟ مثل هذه التساؤلات وغيرها تستدعى إهتمام المثقفين والمؤرخين قبل إهتمام الدولة لأنَّها تستند فى المقام الأول على عطاءات علمية جامعة ومواهب فكرية تتجلى فيها الإمكانات الفردية والقدرات الخلاَّقة.
سنعتمد فى هذا الجزء من المقال عن سلطنة دار المساليت ودورها فى الحركة الوطنية السودانية الحديثة على التقرير الدقيق والمفصَّل الذى أعدَّه السيد يوسف سعيد تكنة, وزير التعاون الدولى الحالى, فقد سبق له أن عمل خلال فترة النظام المايوى محافظاً لمحافظة شمال دارفور, وكان مقر عاصمتها فى مدينة الجنينة, إذ كانت مدينة الفاشر تمثل عاصمة لكل إقليم دارفور بينما ظلت مدينة نيالا عاصمة لمحافظة جنوب دارفور, ونسبة لمعرفته الدقيقة بشئون إقليم دارفور فقد تم تكليفه من قبل اللجنة العليا لتطوير علاقات المجتمع التابعة لإدارة شئون الحكم الإتحادى بالخرطوم لإعداد دراسة عن الصراع القبلى بدارفور فأعدَّ بحثاً مفصلاً بعنوان "تقرير عن الصراع القبلى بدارفور" (1997م) حصلنا على النسخة الأولية منه سلطَّ فيها الضوء على جوانب مهمة عن طبيعة النزاعات القبلية بذلك الإقليم, ونسبة لعمله السابق كأعلى سلطة حكومية بمدينة الجنينة, قلب دار المساليت, فقد تكوَّنت لديه ذخيرة غنية عن الخلفية التاريخية لتلك المنطقة نلجأ لإقتباس بعض المعلومات منها فى هذه المساحة.
سلطنة المساليت, التى تتمدد على رقعة من الأرض فى أقصى الجزء الغربى من دارفور على الحدود السودانية التشادية, تميزت قبل غيرها من كل مناطق السودان الأخرى بدلالات تاريخية هامة ورهبة وإحترام عميقين من جانب المستعمر الأوربى قبل الممالك والسلطنات السودانية التى جاورتها, ولعلَّ نشوئها ضمن سلسلة السلطنات والممالك الإسلامية فى وسط السودان الغربى, مثل مملكة وداى وقبلها مملكة البرنو والكانم وباجرمى والهوسا وغيرها, ثمَّ معاصرتها لفترة الحكم التركى ثمَّ الدولة المهدية وسلطنة دارفور بقيادة السلطان على دينار قد جعلتها هدفاً ضمن هذه الممالك للهجمة الإستعمارية والتكالب على أفريقيا من قبل الدول الأوربية, ونسبة لذلك فقد ظلَّت سلطنة المساليت طوال تاريخها سلطنة مجاهدة وصامدة لم تسقط أبداً وإلى حين ضمها للسودان الحالى بواسطة الإحتلال الإنجليزى لدارفور, وحتى بعد ذلك وإلى عهد قريب ظلَّت لها خصوصيتها وكانت أكثر مناطق دارفور أمناً وسلاماً قبل أن تمتد إليها أيادى الظلم الرعينة فأحالتها خراباً وقتلاً ودماراً. لقد تأسست سلطنة المساليت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر فى نهائيات فترة الحكم التركى المصرى على يد الفقيه إسماعيل عبدالنبى والذى كان يُدرِّس القرآن فى قرية درجيل التى تقع إلى الشرق من مدينة الجنينة الحالية عاصمة ولاية غرب دارفور, ودخلت فى صراعات حربية دامية مع قوات الدولة المهدية بقيادة عثمان جانو وألحقت بها خسائر فادحة رفضاً لأوامر الخليفة بضرورة الهجرة لأم درمان وإستطاعت المحافظة بقوة على إستقلالها طوال فترة الدولة المهدية, ثم دخلت مرة أخرى فى صراعات مريرة مع السلطان على دينار الذى أرسل عدة تجريدات حربية قوية لضمها لسلطنته إنهزمت معظمها ولم يجد السلطان بعدها بداً سوى توقيع إتفاقية صلح معها وهو الصلح الذى وقعه مع السلطان محمد تاج الدين عام 1908م (1325هـ), لكنَّ الأوضاع لم تهدأ بعدها إذ أخذ الفرنسيون التقدم شرقاً من بحيرة تشاد وإستولوا على سلطنة ودَّاى المتاخمة لحدود سلطنة المساليت وأخذوا يطرقون الباب للتقدم شرقاً نحو سلطنة المساليت ثم إلى داخل دارفور وبقية أنحاء السودان.
والحال كذلك يمكننا بكل ثقة أن نقرر بأنَّه لولا فضل الله وفضل سلطنة المساليت لكانت دارفور, وربما حتى السودان الحالى, قد صارت ضمن سلسلة المستعمرات الفرنسية التى إمتدت على المحور الأوسط والغربى للقارة الأفريقية, من هنا تتجلى عظمة سلطنة المساليت, ودورها المفصلى فى وقف تمدد الإستعمار الفرنسى نحو السودان, ومن ثمَّ وقف زحف اللغة والثقافة الفرنسية اللتان, كما هو معروف, تدمران أول ما تدمران اللغات والثقافات المحلية للدول المستعمَرة وتحاولان تذويب هوياتها اللغوية وخصوصياتها الثقافية فى الثقافة الفرنسية.
بعد إستيلائهم على سلطنة ودَّاى أغار الفرنسيون من الغرب على دار المساليت فتصدى لهم السلطان محمد تاج الدين فى 25 أكتوبر 1910م, الموافق 23 من ذى الحجة 1327هـ, وإلتحم معهم فى معركة كُرُنْدُقْ التى تقع شرق مدينة الجنينة وهزمهم شر هزيمة وقتل قائدهم الكابتن جنيشون, لكنَّ الفرنسيون عادوا مرة ثانية بعد أسبوعين من هزيمتهم بقيادة الكولونيل مول فإلتقى بهم السلطان محمد تاج الدين مرة أخرى فى 9 نوفمبر 1910م, الموافق 7 ذو القعدة 1327هـ, فى معركة دَرَوتِى شرقى مدينة الجنينة الحالية وجنوب عاصمة المساليت التاريخية درجيل, وبالرغم من مقتل السلطان فى تلك المعركة إلاَّ أنَّ الفرنسيون لم يتمكنوا من الإستيلاء على سلطنته فخلفه عليها إبن أخيه السلطان محمد بحرالدين (المشهور بأندوكة) فتصدى للفرنسيين بجسارة وحاربهم فى معركة عُكرى إلى الشرق من درجيل فى عام 1912م, الموافق 15 محرم 1329هـ, ثمَّ حاربهم مرة أخرى فى منطقة هبيلة الحالية وهزمهم فإضطر الفرنسيون للتقهقر إلى بلدة أبَّشى بدار ودَّاى, وفى عام 1913م, 1330هـ, لم يجد الفرنسيون بداً سوى توقيع إتفاقية للصلح معه, على غرار ما فعل السلطان على دينار مع سلفه, تنازل بموجبه السلطان عن الجانب الغربى لدار المساليت وتشمل مركز أدرى الحالية التى تقع ضمن حدود الدولة التشادية الحالية, وذلك ما يفسر وجود قبيلة المساليت على جانبى الحدود السودانية التشادية.
وعندما إستولى الإنجليز على الفاشر وأزالوا سلطنة الفور عام 1916م لم يدخلوا دار المساليت عن طريق القوة المسلحة بل قرأوا تاريخها وإستوعبوه جيدا, ولذلك عندما دخلوها عام 1919م لم يحاربوا سلطانها محمد بحرالدين بل عرضوا عليه أتفاق صلح وافقوا فيه من جانبهم على عدم التدخل فى إدارة شئون سلطنته على أن يوافق السلطان أن يتبع لحكمهم كجزء من دولة السودان الإنجليزى المصرى فإرتضى ذلك, وقد ظلت بنود تلك الإتفاقية ثابتة وراسخة حتى بعد جلاء الإنجليز عن السودان, ووفقاً لذلك فإنَّ سلطنة دار المساليت تعد أول منطقة بالسودان تطبق عليها الحكم الذاتى, وكان نظام حكمها يماثل نظام مملكة البوغندا بمستعمرة يوغندا فى ذلك الوقت, وللحقيقة فقد رأت الإدارة البريطانية أن تجرب فيها فلسفة الحكم غير المباشر وإدخاله فى بقية مناطق السودان الأخرى بعد عام 1922م, وكان أن تمَّ الترويج لهذه الفلسفة من الحكم فى كل من نيجيريا والهند اللتان كانتا تخضعان للحكم البريطانى أيضاً, ولذلك فقد تجنبت الإدارة الإنجليزية أن يكون لديهم وجود بارز داخل مدينة الجنينة, بعد أن تحول إليها عاصمة المساليت من درجيل, فقد أقام الجيش الإنجليزى حاميته عند دخوله لدار المساليت أولاً ببلدة كرينك إلى الشرق من الجنينة عام 1919م, وفى عام 1921م تم إنتقاله إلى بلدة أردمتا شرقى ضفة وادى كجا الذى تقع مدينة الجنينة على الناحية الغربية منه, حيث ظلَّت تلك الحامية موجودة هناك إلى يومنا هذا, وكما إعتمدت الإدارة البريطانية على الإدارة الأهلية إعتماداً رئيسياً فى حكمهم لدارفور فقد قرروا بناءاً على إتفاقية 1919م الإبقاء على المؤسسلت السلطانية بداخل مدينة الجنينة فى يد السلطان, مثل محكمة السلطان وإدارته الأهلية والسجن الذى يتبع له, بينما تم إنشاء مؤسسات السلطة الإنجليزية بعيدة عنها فى منطقة أردمتا على بعد عدة أميال شرق مدينة الجنينة, وقد شملت تلك المؤسسات حامية الجيش والشرطة ومكاتب مفتش المركز والهيكل الإدارى, وهكذا تم الإحتفاظ للسلطان بنوع من الإستقلال الذاتى فى شئون السلطنة, وقد إستمر هذا الوضع حتى بعد إستقلال البلاد ولم يطرأ عليه جديد حتى بعد حل الإدارة الأهلية عام 1971م لخصوصيتها ونسبة لوضعها الحدودى, وظلت مطمئنة هادئة إلى أن إعتدى عليها نظام الإنقاذ عبر ما يعرف بنظام الأمارة فمزقتها إرباً إرباً إلى أربع وثلاثون أمارة دفعة واحدة, ذهبت معظمها لمحاسيبها من قبائل وافدة, أدت فوراً إلى تفجر نزاعات الدم وقامت هذه القبائل بإرتكاب فظائع كارثية ضد السكان المستقرين فى مناطقهم عبر القرون بصورة لم تشهدها المنطقة أبداً فى تاريخها الطويل.
إنَّ إحترام خصوصية سلطنة دار المساليت تتجلى فى حقيقة أن الإنجليز قد أسسوا وجودهم على تراث المساليت فى الحكم والإتفاقات التصالحية, وفى هذا الخصوص فقد قام الإنجليز, الذين سيطروا على السودان, والفرنسيون, الذين سيطروا على تشاد, بتطوير إتفاق الصلح والحدود والذى تمَّ من قبل بين السلطان بحرالدين والفرنسيين عام 1913م إلى قاعدة أساسية لترسيم الحدود بين مستعمريتهما, فبدأوا التفاوض حول ذلك عام 1919م وأكملوه عام 1924م فأصبح ذلك البروتوكول يمثل حدود السودان الغربية الحالية مع تشاد.
أخيراً, لعلَّه من الجدير الإشارة إلى هذه السلطنة ظلت مجاهدة ومسالمة فى آن واحد, وقد إستطاعت أن توائم بين هاتين السياستين ورأيناها تهزم قوات التركية و تتصدى لسياسات المهدية ثمَّ تدخل فى تصالحات نِدِّية مع السلطان على دينار ثمَّ مع الفرنسيين ثمَّ مع الإحتلال الإنجليزى وظلَّت محتفظة بكل خصوصياتها فى فترة الإستقلال الوطنى وإلى عهد قريب, وإستمرت هكذا لأكثر من قرن وربع قرن من الزمان حتى هجم عليها ليل بهيم.
خلاصة:
من السرد أعلاه نخلص إلى جملة من الحقائق التى توضح الأدوار المحورية التى لعبتها دارفور فى خضم الحركة الوطنية السودانية منذ ضمِّها الأول عام 1874م لدولة السودان التركى آنذاك, وقد لمسنا من خلال هذا العرض الموجز أدواراً ومواقف متفاوتة تمثلت فيها أهمية دارفور بالنسبة للسودان يمكننا تحليلها إجمالاً فى النقاط التالية:
أولاً: إنَّ أهل دارفور عندما ضمتهم الدولة السودانية كانت لهم خلفيات فكرية متجذرة بشأن الحكم مع وعى عميق بمفهومية الدولة وعلاقتها بالمواطن, يمكن تلخيصها بمفهوم المواطنة, والتى تطورت وتشكلت بطريقة هادئة عبر قرون من الممارسة, وقد لعبت الإدارة الأهلية دوراً أساسياً فى ذلك من خلال التسلسل الهرمى الدقيق والواضح للسلطة بحيث صار كل فرد فى المجتمع, وإلى عهد قريب, يعرف مكانه تماماً فى مجتمعه أو قبيلته ومن ثمَّ الواجبات المترتبة عليه, ولذلك كان المجتمع متماسكاً ولم تعرف مجتمعات دارفور أبداً صراعاً مكشوفاً على السلطة أو حرباً أهليةً على أساس نزاع حول كرسى الحكم, بل ظلَّت النزاعات تدور غالباً حول الموارد الطبيعية وهى, كما يعرف أهل دارفور جميعاً, ظلَّت مضبوطة بأعراف إجتماعية وتقاليد موروثة تطورت إلى آليات مقبولة إجتماعياً لفض النزاعات والسيطرة عليها.
ثانياً: علاقة المواطن بالسلطة فى دارفور التاريخية ظلَّت تمثل جزءاً من مفهومه للحياة, فالسلاطين والملوك والشراتى والنظار والعمد والدمالج والشيوخ ليسوا مجرد مناصب سلطوية فقط بل إكتسبوا بعداً روحياً تمثلت, وإلى اليوم, فى الإحترام والتبجيل وحتى الإقتداء من جانب المجتمع, ولعلَّ التركيب القبلى لشعب الإقليم ومن ثمَّ التنافس وتمحور الحياة على أساس القبيلة, طلباً للحماية والكسب وتأكيد الهوية, قد تفاعل مع الزمن وفرض نوعاً من هذه المفاهيم, إنََّّ فشل تجربة الإنقاذ فى فرض برنامج "الأمارة" لإعادة توزيع دارات القبائل الكبرى, من باب الكيد والإنتهازية السياسية, قد فشلت لأنَّها إصطدمت بمثل تلك المفاهيم, وقد فشلت قبلها محاولة النظام المايوى لحلِّ الإدارة الأهلية عام 1971م لذات الأسباب, وحتى عندما حاولت الدولة إستعادة دور تلك الإدارة لم تعد بذات الكفاءة والفاعلية, ولعلَّ ما يحدث فى الإقليم اليوم هو نتاج مباشر لكل تلك السياسات الطائشة. لقد عمد المسؤولون فى عهدى النميرى والإنقاذ, إضافة لقدر غير قليل من قصر النظر من جانب قيادات فترة الديمقراطية الثالثة, إلى تدمير نظام حكم ظلَّ يصوغ نفسه لحوالى الألف سنة دون أن يوجدوا بديلاً مكافئاً يسد محله, ولعلَّنا قد نتوسع فى ذلك عندما نستعرض فى مقال قادم تاريخ الإدارة الأهلية فى دارفور ودورها فى ترسيخ نظام الحكم وبناء شخصية مواطن الإقليم.
ثالثاً: كل المعانى سالفة الذكر شكَّلت مفهوم وفلسفة الدولة عند المواطن العادى بحيث يجعله مبادراً لإتخاذ قرارات, وربما بصفة فردية فى بعض الأحيان, طالما إقتنع بنفع ذلك للسلطة والمجتمع الذى يعيش فيه, مما يعكس تطوراً نوعياً جديراً بالدراسة والتأمل قلَّما يوجد حتى فى البلاد المتقدمة, ولعلَّ موقف النائب عبدالرحمن دبكة ما يدعم تحليلنا هذا, فهو لم يكن مطالباً بالجهر بإستقلال السودان فى الوقت الذى كان فيه حتى رئيس الحكومة نفسه وجزء كبير من مؤيديه مترددون فى حسم تلك الفكرة, لكنها جرأة فردية نعتقد أنَّ لها علاقة بمنشأ ذلك النائب وفلسفة تربيته فى بيئة ومجتمع تربى على مفاهيم محددة للعلاقة بين الوطن والمواطن.
رابعاً: نضال السلطان على دينار لإستعادة عرش سلطنة الفور يكشف وجهاً آخر من تصميم أهل دارفور فى المحافظة على وتيرة من الحكم والثقافة والتراث ألفوها من خلال قرون من المعايشة والتكيف لا نبالغ إن قلنا أنَّها صارت جزءاً من معانى وجودهم فى الحياة نفسها, ولعلَّ سلوك سلاطين الفور فى سياساتهم الخارجية ما يستدعى دراستها دراسة أكاديمية منظمة, أو جعلها أطروحات لرسائل الماجستير والدكتوراه على الأقل, فمثلاً ما الذى يجعل السلطان الشاب إبراهيم قرض أو السلطان على دينار يرسل مساعدات وأموال لشريف مكة وهم لم يلتقوه أبداً؟ إنَّ ما تمَّ فى هذا الشأن وغيره هو محض مبادرات شخصية لم يجبروا عليها, أمَّا لماذا فعلوا ذلك؟ وهل فعل أندادهم من حكام مناطق السودان الأخرى شبيه له؟ فهى أسئلة تظل مشروعة تستدعى البحث عن إجابة, لكن من جانبنا نعتقد أنَّ ذلك يمثل لبِّ القصيد ومكمن السر فى قوة شخصية إنسان إقليم دارفور متمثلة فى روح المبادرة البناءة ومحاولة التفرد عبر أفعال ربما تكون فوق العادة.
خامساً: نزعة البقاء وحصافة التفاوض وفن التصالح مع العدو الخارجى المتربص تتجلى أكثر ما تتجلى فى نضالات سلطنة المساليت, وهى بالرغم من صغر مساحتها إلاَّ أن تكتيكاتها الخاصة فى علاقاتها الخارجية قد أجبرت الأجنبى على إحترامها قبل الوطنى القريب, وهو مجال آخر مفتوح للدراسة, ويا ليت لو إلتفت أبناء المساليت بقيادة السلطان سعد بحرالدين والدكتور على حسن تاج الدين بتمويل بحوث أو إنشاء كرسى فى أحدى جامعات دارفور تعنى بدراسة التاريخ السياسى لسلطنة دار المساليت, أو حتى إنشاء مركز بحثى بمدينة الجنينة, ويمكننا بكل ثقة من أن نقول أنًّه لا توجد فى كل مناطق السودان الأخرى منطقة ظلت محافظة على إستقلاليتها وجذبت إهتمام المستعمر فى آن واحد غير سلطنة المساليت مما يستدعى إهتمام خاص من قبل أبنائها والمؤرخين السودانيين على السواء.
سادساً: لم تفتتح أى مدرسة أولية فى دارفور إلاَّ عام 1936م, ولم تفتتح أى مدرسة وسطى إلاَّ عام 1945م, ولم تفتتح أى مدرسة ثانوية إلاَّ عام 1958م, ومع ذلك تفاعل الناس سياسياً ووطنياً تفاعلاً مبكراً مع قضايا الوطن وتغنوا بحب السودان, وتظاهروا ضد المستعمر كما لو كانوا فى قلب العاصمة فمن أين كان لهم كل ذلك الوعى؟ إنَّها روح المبادرة ومحاولة التفرد, ولعلَّ حادثة حرق العلم البريطانى لدليل على ذلك بالرغم من عدم الإشارة إليها فى معظم مؤلفات التاريخ السودانية المعروفة, وذلك ما قصدناه مراراً فى عرض هذا المقال بضرورة سبر أغوار مدفونة من تاريخنا القومى, إنَّ حادثة حرق العلم البريطانى لو حصلت فى أى منطقة أخرى من السودان غير دارفور لسار بسيرتها ركبان كتاب التاريخ.
سابعاً: وكما بادر سلاطين دارفور قديماً بدعم الكعبة والحجيج فى مكة المكرمة وأرض الحجاز قام مواطنو دارفور عام 1948م بدعم القضية الفلسطينية, إن حادثة خلع طالب المرحلة المتوسطة محمد معروف لجلبابه وتبرعه به لدعم القضية الفلسطينية لحدث يجب الوقوف عنده وتناوله من زاوية الإلتزام بالوطن وقضاياه القومية, وتحليل الجوانب السيكلوجية الإجتماعية الملهمة له, يتساوى معه فى ذلك الشاب أبوبكر حجازى الذى أنزل العلم البريطانى من ساريته ليتم حرقه بواسطة الجماهير الثائرة.
ثامناً: ظلَّت جماهير دارفور, والفاشر خاصة, غير بعيدة عن الهمِّ القومى, فمؤتمر الخريجين الذى تكون بأم درمان عام 1937م وجد طريقه للفاشر بعد عامين فقط, رغم بعدها ومشقة الوصول إليها, ثمَّ جاءت مظاهرات عام 1948م بالفاشر ضد المجلس الإستشارى لشمال السودان والجمعية التشريعية تأكيدا للتواصل القومى ومشاركة أهل الإقليم فى الكفاح الوطنى جنباً لجنب مع كل أهل السودان فى المناطق والأقاليم الأخرى.
تاسعاً: لم تنتظر دارفور كثيراً, بعد ضمها لسودان محمد على باشا عام 1874م, لتؤكد مقدار ثقلها فى بناء القومية السودانية وإستعراض قدراتها الذاتية التى تمثلت سريعاً, وبعد سنوات معدودة, فى دعم وقيام الدولة المهدية مما يعنى ضمنياً أنَّ ذلك لم يأتى من فراغ, ولعلَّ دور أبناء دارفور الحاسم فى المحافظة على وحدة البلاد منذ مرحلة ما قبل إعلان الإستقلال, بالرغم من تحفظاتنا لمشاركاتهم فى حروب جنوب السودان, ثمَّ دورهم قبل وبعد ذلك فى بناء الإقتصاد السودانى من خلال تمركزهم فى خدمة مشروع الجزيرة ومشاريع الإنتاج المختلفة, كلها مؤشرات للقدرات الذاتية الهائلة لديهم وإستعدادهم الفطرى لولوج كل مجال وطنى والنبوغ فيه على كل المستويات. إنَّ هذه النقطة مهمة جداً وربما نجد فيها تفسيراً لحالة الخلاف المتكرر والشد والجذب بين الكوادر السياسية من أبناء الإقليم وقيادات أحزابهم القومية, وهى كثيرة ومشاهدة على أية حال, بل إنَّ بعضها ما تزال مشتعلة ولم يتم حسمها بعد. إنَّ تحليلنا لذلك هو محاولة هذه الكوادر التفرد وإطلاق قدراتها لكنهم ظلوا يصطدمون دوماً بسقوف محددة بواسطة القيادات المتنفذة فى هذه الأحزاب لا يترددون معها فى إثارة الخلاف معها, بعضها عاصف. سلوك هذه الكوادرعلى النطاق القومى هو سلوك فطرى يعبر عن درجة عالية من مبدأ روح المبادرة والجرأة جاءوا بها من بيئاتهم التى ترفض الركون واللا مبالاة, فإذا أرادوا التفرد فى عطائهم فى الوعاء القومى إصطدموا بقوالب محنطة من التنظيم والفكر لا تسعهم وتضيق بهم فيتبرمون بها, وربما يكمن فيها أيضاً سر محاولة النخب الحاكمة إبعاد أبناء دارفور دوماً عن مراكز الحكم القوية وإستخدامهم كديكورات للدعاية السياسية ولجم الذين يطالبون بمشاركات مؤثرة ذات معنى, وعلى العموم هذه نقطة مهمة سنحاول تحليلها بإستفاضة فى مقال قريب نتناول فيه إحتمالات المستقبل السياسى لإقليم دارفور.
عاشراً: رغم ندرة التعليم الحديث وإنعدام آليات الوعى الجماهيرى بالإضافة إلى محاربة الإنجليز الشرسة لأى دور يقوم به المتعلمون من أبناء الإقليم تجاه أهاليهم البسطاء, إلاَّ أنَّ تلك الجماهير ظلَّت تتحرك بتلقائية تجاه الأحداث القومية, إذاً لا بد من أن يكون هناك محرك ما يدفع تجاه ذلك نعتقد أنَّه الدفع الذاتى من عمق التاريخ الذى يتميز به أهل الإقليم, وربما نُبسِّط الصورة أكثر ونقربه للفهم إذا وصفنا ذلك المحرك بمثابة شيئ شبيه ب "جين" علق بتكوينهم النفسى والبدنى, أو كشيئ مكنون فى ذاكرة اللاوعى تدفع صاحبه للقيام بعمل لا إرادى يكون مصحوباً بتوجهات إيجابية فى سبيل دعم موقف معين. إنَّ الشواهد على ذلك كثيرة فالذين تصدوا لمدافع الإنجليز بسيوفهم وحرابهم فى كررى لم يكونوا أغبياء بل كانوا مؤمنين بقضية تهون فى سبيلها أرواحهم, و مدفوعين بتأثير ذلك الشيئ الذى يغذيهم بروح المبادرة والتصدى والجرأة والتعامل الحاسم مع المواقف الحرجة التى لا تحتمل التردد أو التراجع, لقد دخل أهل دارفور الحركة الوطنية السودانية والحركة الإستقلالية من الباب الواسع مستصحبين ذلك الشيئ فغيروا مجرى تاريخ البلاد وما زالوا وكفاهم ذلك, وقد آن الأوان لكى يغيروا مجرى حياتهم فى دارفور فمن بين الركام والرماد لا بد من أن تنبت زهرة ندية مشرقة وهم قادرون على ذلك بإذن الله.
أخيراً نهدى هذا المقال إلى الذين يعتقدون بأنًّ أهل دارفور يريدون السلطة ولا يشبهونها, دون تعليق! .......................................................................................
أحلام دارفورية .. على شاطئ الأسكندرية!
"رسالة من عمق التاريخ للأجيال الصاعدة من أبناء دارفور"
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
الأمير محمد أبو مدين بن السلطان عبدالرحمن الرشيد (والملقب فى تراث دارفور بأبى مديومة) من أمراء سلطنة الفور وأخ أصغر للسلطان محمد الفضل (17871839م), ظلَّ يجتر أحلام اليقظة وهو يجلس صباح كل شمس جديد على شرفة إحدى قصور خديوى مصر محمد على باشا الفاخرة والمطلة على ساحل مدينة الأسكندرية العريض, لقد عاش فيها الرجل الشاب لفترة قصيرة جاء إليها فى صحبة الخديوى الذى فرض عليه الإقامة الجبرية فى مصر كسجين لديه, لكنه أكرمه فى نفس الوقت كسليل سلاطين يمكن الإستفادة منه إذا لزم الأمر, خاصة وقد وضع الخديوى دارفور نصب عينيه لإحتلالها وإضافتها لبقية مناطق السودان الأخرى التى إستولى عليها قبلاً, لقد كان الأمير يقيم بالقاهرة أساساً على مقربة من قصر الحكم لكن كان يسمح له بالحركة حراً طليقاً فى أرجاء المدينة بشرط ألاَّ يخرج منها إلى أى جهة أخرى إلاَّ بإذن خاص من الخديوى نفسه.
تقول الروايات التاريخية إنَّ العلاقة بين مصر وسلطنة دارفور أصابها توتر شديد نتيجة لإحتلال القوات التركية بقيادة محمد بيك الدفتردار لكردفان, والتى كانت حينها تابعة لسلطنة الفور, وذلك أثر هزيمة جيوش المقدوم مُسَلَّم عامل السلطان هناك فى معركة عنيفة ببارا عام 1821م, أبلى فيها المقدوم وجيشه بلاءاً حسناً, ولمَّا علم السلطان محمد الفضل سلطان دارفور بالفاشر بنبأ هزيمة قواته وسقوط كردفان سارع بتجهيز جيش ضخم آخر بقيادة القائد أبولكيلك لإسترداد المنطقة من القوات الغازية المحتلة, لكنه لقى نفس مصير سلفه وإنهزمت بصعوبة أمام السلاح النارى المتفوق للأتراك فى معركة سودرى بعد أن كانوا على وشك الإنتصار عليهم, سكنت بعدها الأوضاع بعد أن إكتفى الخديوى بنزع كردفان من دارفور, لكنَّه سرعان ما تبنى إستراتيجية مغايرة مستبطناً خططاً مصلحية وقرر إعادة العلاقات الودية مع السلطنة وإحياء النشاط التجارى فى درب الأربعين, خاصة وأنَّه كان فى حاجة ماسة إلى النحاس الذى تنتجه سلطنة دارفور من حفرة النحاس فى الجزء الجنوبى الغربى الأقصى منها, فأوعز إلى عامله الجديد بكردفان بتشجيع سلطان دارفور لإستخراج ذلك المعدن لصالح البلدين وتقوية العلاقات التجارية بينهما, ونسبة لمعرفته بقوة شكيمة أهل دارفور وشجاعتهم فى الحروب فقد أمر عامله بكردفان سراً بمحاولة تجنيد ما تيسر له من شباب السلطنة للعمل فى جيش الأتراك, لكنه شدد عليه فى نفس الوقت بعدم تقديم أى دعم أو أسلحة لجيوش السلطان, ولما علم السلطان محمد الفضل بتلك الخطة غضب غضباً شديداً, بعد أن أحسَّ فى الأمر إذلالاًُ له, فبادر بقطع علاقته بمصر, وقفل حدود دارفور فى وجه القوافل التى كانت تأتى عن طريق درب الأربعين, بل وقام بطرد المماليك الذين إلتجأوا إليه فى السابق خوفاً من بطش محمد على باشا, الذى نكل بهم تنكيلاً مؤلماً, ففر أكثريتهم جنوباً نحو السودان يمارسون النهب وقطع طرق القوافل فى الأجزاء الشمالية منها بالقرب من الحدود المصرية, ولمَّا فتح إسماعيل باشا إبن الخديوى السودان فرَّ أولئك المماليك من وجهه وتوجه أكثريتهم ناحية سلطنة دارفور وإلتجأوا عند السلطان هناك فأعطاهم الأمان بشرط ألاَّ يثيروا أى مشاكل أو يتدخلوا فى شئون سلطنته, لكن نسبة لتعقد الأمور مع مصر ورسائل التهديد والوعيد المتبادل بين السلطان والخديوى فقد خشي السلطان منهم, مخافة من أن يتحولوا إلى جواسيس أو طابور خامس ضده, خاصة وقد عرف أن كثيرون منهم ظلوا يجترون أياماً سعيدةً كانت لهم بمصر ويتمنون العودة إليها مرة أخرى, فأمر بطردهم لكنَّهم خافوا العودة لمصر فى ظل الخديوى فإنتقلوا من دارفور وإستقروا بمملكة ودَّاى فى الناحية الغربية لدارفور, والحال هكذا أرسل الخديوى خطاباً إلى السلطان عام 1830م, أى بعد 9 سنوات من إحتلاله لكردفان, يطلب منه تسليم دارفور, فرفض السلطان فى إباء وشمم وردَّ رسالة الخديوى برسالة مماثلة يهدده ويتوعده من مغبة تصرفه الغاشم جاء فيها: "أَوَ غرَّكم قتالكم مع ملوك سنار والشايقية؟ فنحن السلاطين وهم الرعية.. أما علمت أنَّ دارفور محروسة محمية بسيوف قطع هندية, وخيول جرد أدهمية, وعليها كهولة وشبان يسرعون إلى الهيجاء بكرة وعشية؟" وهدأت الأوضاع بعدها لبضع سنوات. وفى العام 1836م قرر الأمير محمد أبو مدين أداء فريضة الحج وأراد أن يستثمر رحلتة إلى الأراضى المقدسة للمرور بمصر أولاً لمقابلة الخديوى, ومحاولة إزالة الخلافات بين الدولتين, والتوسط لديه لإعادة العلاقات الودية لسابق عهدها خاصة وأنَّه كان يحلم بإستخلاف أخيه على عرش السلطنة, ولذلك فقد إرتأى أنَّه من المناسب أن يمهد لذلك بنفسه, فوصل إلى الخرطوم وإلتمس الإذن من الحكمدار خورشيد باشا للسفر إلى مصر لمقابلة الجناب العالى, ثم التوجه للأراضى المقدسة بعدها, فأمهله خورشيد قليلاً وحاول إستمالته لجانب الحكومة التركية وبذل له الوعود ثم بعثه للخديوى بمصر مع رسالة سرية بخصوص محاولاته تلك, لكن مع تصاعد الأحداث فى بلاد البلقان والجزيرة العربية, بجانب فشل الحكمدار خورشيد فى تقدير قوة سلطنة دارفور العسكرية بدقة نسبة للسرية المطلقة التى أحاط بها السلطان الأمور فى بلاده, ويقال أنَّه ضرب حِجَاب وقائى (سحرى) أمر بدفنه على طول حدوده الشرقية مع كردفان, قررالخديوى تأجيل فتح ملف دارفور إلى الوقت المناسب, وبسبب ذلك فقد وجَّه بإبقاء الأمير أبو مدين شقيق السلطان رهينة لديه بمصر, على أمل الإستفادة منه مستقبلاً حسب الظروف وتطورات الأحداث, لكنه فى نفس الوقت أوحى إليه بتنصيبه سلطاناً على أهله بدارفور, بعد أن يتم فتحها, تفادياً لرفضهم أو مقاومتهم لوجود الأتراك فيها, وأسكنه قصراً فى القاهرة ثم قصراً آخراً مطلاً على ميناء الأسكندرية عندما يلتجئ إليها فى الصيف هرباً من حر القاهرة, وأجرى عليه من المال والجاه كل ما من شأنه أن يعيش حياة الأمراء المرفهين, وأن يستمتع بوجوده فى الأسكندرية كيفما شاء له بشرط ألاَّ يغادر حدودها إلى أى منطقة أخرى إلاَّ بإذن مباشر منه, فلم يجد الأمير الشاب بداً لذلك وطفق يفكر فيما سيفعله فى دارفورعندما تؤول إليه أمور الحكم والسلطنة فيها يوماً ما.
ويقال أنَّ الأمير قد أُعجب أيُّما أعجاب بحضارة مصر, والأسكندرية خصوصاً, مقارنةً بما نشأ عليه وشاهده فى بلاده بدارفور, ولذلك فلربما أصابه الإندهاش والإنبهارأكثر من الإعجاب فقط, فكان يجلس الساعات الطوال على أحدى شرف القصر المطلة على شاطئ الأسكندرية صامتاً يتأمل ساحلها الرملى الأبيض العريض إلى أن يختفى عند الأفق بين السماء والبحر, ثمَّ يشاهد فى جانب آخر السفن وهى تفرغ حمولتها أو تعبأ والعمال نشطون على ظهورها يتحركون بهمة وخفة مثل النمل, وقد يمل الأمير تلك الجلسات الطوال فيخرج يتمشى فى شوارع المدينة الواسعة يشاهد مبانيها البيضاء المرتفعة على جنباتها, ويتجول فى حدائقها الخضراء, ويتفرج على ميادينها الواسعة الفسيحة التى تتقاطع عندها الطرق, يشاهد كل ذلك ويردد فى سره:
"والله لئن عدت إلى بلادى وأصبحت سلطاناً لدارفور لبنيت شوارعاً عريضة وواسعة مثل هذه", أو "لفتحت مدارساً جميلة لتعليم الأطفال كتلك", أو "لأنشأت مساجداً ذات منارات عالية أصلى فيها والناس كل يوم", أو "لأقمت أسواقاً حديثة تمتلئ بالبضائع المختلفة من كل أنحاء العالم", ألخ ... ألخ. ويظل هكذا الساعات والأيام والأشهر الطوال فى مصر بين الأسكندرية والقاهرة يمنِّى نفسه ويسترسل فى أحلام اليقظة ليس بصدد نفسه بل من أجل أهله بدارفور. تذكرت قصة الأمير أبومدين خلال صيف العام الماضى, وكنت أقود سيارة على الطريق السريع العابر (I95) والذى يمتد على طول الساحل الشرقى الأطلنطى للولايات المتحدة, من أقصى نقطة فى جنوب ولاية فلوريدا إلى أقصى نقطة فى ولاية فيرمونت شمالاً بإمتداد ثلاثة ألاف ميل أو يزيد, كان الوقت نهاراً والجو منعشاً على غير أيام صيف أمريكا الرطبة الذى يزيد من إحساسك بحرارة الجو, كنت أقود السيارة متجهاً جنوباً نحو مدينة واشنطن العاصمة وأنا إستمع وإستمتع لترنيمات المطرب المبدع عمر إحساس (دارفور بلدنا), وأتأمل فى الشارع العريض ذات الإتجاهين المنفصلين, كل إتجاه من أربع مسارات, ويفصل بينهما عازل عريض مكسو بالنجيلة الناعمة التى تُقص نظيفة بإستمرار حتى فى وسط الخلاء حيث لا يسكن الجن, والمسارين تكسوهما الأشجار الخضراء التى تزرع بإستمرار على جنباتها فيزيد النظر بهجةً وبهاء, وتظل إشارات المرور وألواح الإرشاد وأماكن الإستراحة (Rest Areas) ومحطات الوقود والمطاعم والفنادق الصغيرة (Motels) تنتشر على طول الطريق, وبجانب المداخل والمخارج المدروسة بعناية وفى غاية التصميم الهندسى الرائع تلاحظ أعمدة الكهرباء التى تنير الأماكن والإلتفافات الحرجة حتى فى وسط ذلك الخلاء, كهرباء فى الخلاء أما عندنا فى السودان؟ ... ما علينا! والعمال الدائبون قد يقفلون جانباً من الطريق لإصلاحه أو تغيير أرضيته. ظللت أتأمل كل ذلك والسيارة تتهادى ساكنة مطمئنة لا "عترة" ولا حفرة, وسوف لن تشتكى لبوش, وفى أثناء ذلك أقف بعض الأحيان على حواجز لدفع رسوم عبور للطريق (Toll), يدفعها الناس بإبتسامة ورضا ويقول الواحد منهم للفتاة أو الرجل من موظفى التحصيل: شكراً, لماذا؟ لأنَّك ستكون واثقاً من أنَّ مبلغ الدولارين أو حتى الخمسة دولارات التى تدفعها ستنعكس فى شكل إستمتاعك بالقيادة الهادئة الهانئة والخدمات المبذولة على ذلك الطريق الناعم, كل ضريبة تذهب لمكانها المحدد والقانون الصارم يقف بالمرصاد لمن يحاول التلاعب, دولة القانون! هو ذلك السر فى بناء الدول الحديثة, أما عندنا ... ما علينا! وفى تلك الأجواء مرَّ بخاطرى سيرة الأمير أبومديومة فتمثلت أحلام يقظته ولكن فى صورة مقلوبة, وطفقت متسائلاً أحدث نفسى فى صمت صارخ: لماذا لا تكون لنا طرق حديثة مثل هذه فى السودان؟ وما المانع؟ ولماذا يموت الناس كل عام بالمئات فى تلك الطرق البائسة والتى نسميها مجازاً بالعابرة؟ ولماذا ظلت دارفور بحجمها الواسع وسكانها الكثر وخيراتها الوفيرة منقطعة عن دولة السودان منذ أن خلق الله هذه الأرض ولا تربطها به طريق واحد مسفلت إلى هذه اللحظة؟ وهل يا ترى سيتمكن جيلنا هذا من رؤية ذلك الطريق الوهم قائماً وممتداً؟ الشيئ المحزن أنَّه كان من المفترض أن يكون أول طريق عابر على الإطلاق يتم رصفه فى السودان, لكنه للأسف سيكون "الطيش", أو قد لا يكون البتة! فى أمريكا هنا ندفع ال Toll فنجد ذلك الطريق الحلم, وفى دارفور إنتظر أهلونا حتى درجة اليأس ثمَّ قلبوا جراب تراثهم فإستخرجوا منها "النفير", نعم, نفير السكر المُر, من دم قلوبهم وعلى حساب مذاق ألسنة أطفالهم الأبرياء, وتبرعوا بها راضين متراضين ك Toll وفدية! فى أول مبادرة من نوعها فى العالم, لرصف ذلك الطريق, لكن وصفوهم فى النهاية بالنهابين واللصوص وقطاع الطرق, من هم غير اللصوص إذاً؟ أين هى الحكومة؟ وما معنى كلمة حكومة؟ وماذا يفعل أولئك المتلبسين المحنطين فى كراسيهم الصدئة فى تلك البقعة القذرة التى تسمى الخرطوم؟ لقد تمنى أحد أساتذتى القدامى أن يرى طريق الغرب سالكاً ثمَّ يغمض عينيه للموت ويمضى مستريحاً! يا لله, إلى هذا الحد؟
تلك كانت سيرة الأمير محمد أبو مدين كما أوردها المؤرخ نعوم شقير فى كتابه "جغرافية وتاريخ السودان" (دار الثقافة, بيروت, 1967م), لكنَّها وردت بصيغة مخالفة فيما يتعلق بحقيقة مغادرته لدارفور فى سيرته التى كتبها المؤرخ العسكرى الفرنسى الدكتور بيرون, نقلها عنه شفاهةً, وكتبها باللغة الفرنسية بحضور الشيخ محمد بن عمر التونسى, وأوردها كملحق نشره فى كتابه "رحلة إلى دارفور" Voyage au Darfour, pp. 370396, 1851)). وقد قام التونسى بترجمة ذلك الملحق إلى العربية وإضافته كملحق أيضاً فى كتابه القيم "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان" (الدار المصرية للتأليف والترجمة, القاهرة, 1965م), والذى يعد أحد المصادر الرئيسية فى تاريخ دارفور, وقد قام بتحقيق ذلك الكتاب العالمان المصريان الدكتور خليل محمود عساكر والدكتور مصطفى محمد مسعد. وقد أورد بيرون فى روايته أنَّه والشيخ التونسى كانا يجالسان الأمير الساعات الطوال يستمعان إلى قصة حياته وليتعرفا على أحوال سلطنة دارفور, وقد ذكر الأمير لهما بأنَّه وأخوه الأصغر محمد المختار فرَّا من دارفور مخافة أخيهما الأكبر السلطان محمد الفضل الذى كان ينوى أن يستخلف أحد أبنائه على العرش بعده وسوف لن يتردد فى قتلهما بسبب ذلك, وبالرغم من وقوع أخوه فى أسر قوات السلطان أثناء مطاردتهم لهم ناحية كردفان إلاَّ أنَّه تمكن من الإفلات ومواصلة الهرب, وعندما وصل أطراف مدينة الأبيض أرسل إلى الحاكم المصرى على كردفان يخبره بأنَّه إبن السلطان عبدالرحمن الرشيد سلطان دارفور وأنَّه جاء إلى الأبيض يطلب الحماية والمأوى, فأرسل الحاكم المصرى على التو عدداً من الجنود لحراسته وإصطحابه إلى مدينة الأبيض حيث إستقبله إستقبالاً رسمياً وذلك بإطلاق المدافع تحية له. كان ذلك عام 1833م, وقد أرسل الحاكم المصرى على الفور رسالة إلى محمد على باشا يخبره بذلك فأمره الخديوى بإرساله إلى مصر فوصل إليها عام 1834م فإستقبله الخديوى إستقبالاً حافلاً وأنزله فى قصر مجاور لقصره وأجرى عليه من نعم الحياة ما لم يحلم به الأمير يوماً ثمَّ طلب منه البقاء إلى حين أن يطلبه. ظلَّ الأمير فى القاهرة مندهشاً لما يراه كل يوم من أشياء جديدة عليه وكأنَّه فى حلم, ولذلك فقد كان يطلب من حرسه ومرافقيه الخروج والتجول به فى أنحاء المدينة يسأل عن كل شيئ ويتأمل, ويهز رأسه فى أسف كأنَّه يقول: أين أهلى فى دارفور من كل هذا! إلاَّ أنَّه وبعد نحو ستة أشهر من وصوله طلبه الخديوى وأفهمه بضرورة العودة لكردفان لأنَّه ينوى فتح دارفور وتنصيبه سلطاناً على أهله هناك, حقيقةً ظلَّت مسألة فتح دارفور تراود ذهن الخديوى منذ إستيلائه على كردفان لكنَّه كان يخشى أن يتورط فيها مخافة من مقاومة قد لا تصمد أمامها قواته فيها, ثمَّ إنَّ أهلها قد لا يترددون فى الدفاع عن سلطنتهم خاصة وأنَّهم قد ألحقوا بجيوشه خسائر فادحة فى معركتى بارا وسودرى فى سبيل إنتزاع كردفان منهم, وإضافة لذلك يبدو أنَّ رسائل السلطان محمد الفضل إليه وما حملته من تهديد ووعيد قد أثارت الرعب فى قلبه وزادت من حذره, ثمَّ إنَّه بسبب قطع العلاقات بين الدولتين وطرد المماليك من دارفور لم يجد أى وسيلة كى يتعرف من خلالها على تقدير قوة السلطنة العسكرية, ولذلك فقد إستقرت خطته بعد فتح دارفور أن يولى أحد أبنائها من سلالة السلاطين حاكماً عليها ويكتفى بالتبعية الإسمية. تلك هى نفس السياسة التى إتبعها غردون لاحقاً وهو يواجه حصار القوات المهدية للخرطوم, فقد نصح إسماعيل باشا خديوى مصر آنذاك بعدم إخلاء السودان إلاَّ بعد ترتيب الأمور فيها, وإقترح عليه جعل الزبير باشا حاكماً عليها وتنصيب الأمير عبدالشكور حاكماً على أهله بدارفور, لكن القوات المهدية قضت عليه وعلى خطته قبل أن تبدأ إضافة إلى وفاة الأمير عبدالشكور قبل ذلك فى حلفا فى طريقه للخرطوم. وربما ظلت هذه الفكرة راسخة فى سياسات كل من كان يحلم بالإستيلاء على دارفور, وقد طالعنا فى مقال سابق كيف أنَّ الإنجليز لم يتدخلوا فى أمور سلطنة دارالمساليت أبداً عندما ضموها للسودان, وتركوا السلطان هناك وشأنه وإرتضوا بالتبعية الإسمية, بل إنَّ كبار السن من الأهالى من الذين عاصروا نهاية فترة حكم السلطان على دينار قد ذكروا بأنَّ القوات الإنجليزية الفاتحة كانت قد لا تفكر فى قتله أو حتى إزالة حكمه فيما لو إستسلم فى قصره بالفاشر, وهو شيئ لم ولن يفعله السلاطين من قبله مطلقاً, مقارنة بالحال مع المناطق الأخرى بالسودان الذين إما هرب زعماؤهم إلى غير رجعة أو إستسلموا للغازى الجديد وتفانوا فى خدمته, لكنَّ إعلان السلطان لثورته وتربصه بهم فى شعاب جبل مرة, القلاع التاريخية الحصينة لسلاطين الفور ومدافن سلاطينهم وأجدادهم, أجبرتهم لتعقبه والقضاء عليه مخافة من إستثارة الأهالى ضدهم وزعزعة سلطتهم الجديدة فى الإقليم, لكن نجدهم قد أبقوا على كل هياكل الإدارة الأهلية دون المساس بها أبداً, والتغيير الطفيف الذى حدث لاحقاً هو تغيير مقر "دمينقاوى" الفور من بلدة كاس إلى زانجى. ويمضي بيرون فى روايته عن الأمير أبومدين ويقول بأنَّه قد وافق أوامر الخديوى وسافر لكردفان وفى ذهنه أفكار كثيرة يحلم بتنفيذها قيد تنصيبه سلطاناً على دارفور, لكن تأزم الأمور بين محمد على والدول الأوربية, خاصة بسبب تجارة الرقيق, جعلته يؤجل التفكير فى ملف دارفور مرة أخرى, لكنَّه وعد الأمير خيراً وأوصاه بالصبر. وفى عام 1838م زار محمد على السودان وقام الأمير بمقابلته فأمره محمد على أن يعود إلى القاهرة ويكون فى إنتظاره عند عودته إليها, وأوصاه بأن ينتهز الفرصة ليتعلم المزيد عن مصر إذ أنَّ فترة الستة أشهر التى قضاها آنفاً بها لا تكفى لمعرفة الكثير. لقد كانت للخديوى نظرة صائبة فهو يهدف من سياساته ورفقه بالأمير "تمدينه" وتدريبه كحاكم معاصر يساعده فى توطيد سلطة الأتراك بدارفور إذا ما تمكن من إعتلاء عرش السلطنة, وعند عودة محمد على إلى مصر قابله الأمير فقام بإكرامه وأصطحبه معه لقضاء فترة فى مدينة الأسكندرية, وأنزله فى قصر مجاور لقصره, وهنا إتيحت للأمير مشاهدة أشياء جديدة فقام بزيارة الحى الأفرنجى, وقصر رأس التين, والميناء والترسانة البحرية, كل تلك المعالم وغيرها من الحركة الدائبة وضوضاء المصانع أثارت لديه دهشة وإنبهاراً كبيرين, ولذلك كان عندما يتحدث لبيرون أو التونسى يبدو عليه أنَّه ينتظر تحقيق شيئ ما لكنه يشعر بالقلق بأنَّه قد لا يتمكن من ذلك. وعلى العموم عندما حان موسم الحج سمح له الخديوى أن يسافر إلى مكة بصحبة المحمل المصرى, وأعطاه جميع ما يحتاج إليه لقضاء ذلك, وخلالها شاهد الأمير مرة أخرى أشياء جديدة وعوالم أخرى, ووقف عند البيت الحرام ومنى وعرفات والمزدلفة يدعو الله أن يوفقه لما فيه خير له ولأهله بدارفور, ولما عاد إلى القاهرة نزل فى نفس القصر جوار قصر الخديوى بالقاهرة, وأخذ يتردد عليه فى الأسكندرية حيث صار الخديوى يقضى فيها فترات طويلة, وبعد مشاورات مع الخديوى بدأ الأمير فى تجهيز نفسه للمغادرة للسودان والسيطرة على عرش سلطنة الفور بعد فتح دارفور, خاصة وقد علم بوفاة أخيه السلطان محمد الفضل وتنصيب إبنه الغر محمد الحسين سلطاناً مكانه, وقد جهزه الخديوى تجهيزاً حسناً ووجه عامله بسنار بتجهيز جيش لفتح دارفور, وكان من رأيه أنَّ الأمير أبو مدين إذا إعتلى عرش السلطنة فسوف يتحقق لأهلها على يديه خير كثير, فهو فى سن النضج, إذ يبلغ من العمر أربعين عاماً, إضافة إلى أنَّ السنوات العشر التى قضاها متنقلاً ما بين السودان ومصر وزيارته للأراضى المقدسة قد زودته بنوع خاص من التربية والمعرفة, فضلاً عن الأفكار الكثيرة التى كان ينوى تطبيقها, وحتماً فسوف يساعده الخديوى فى ذلك. وقد ذكر بيرون أنَّ الأمير كان على قدر كبير من الذكاء وقد قال له ذات مرة أنَّ العناية الألاهية هى التى قادته لمصر ليتعلم منها وليوسع مداركه فيها, وليرى مظاهر الحضارة الجديدة التى ينبغى له أن ينشرها بين أهل دارفور, ويمضى فيقول بأنَّ الأمير عندما يستمع لمثل ذلك الحديث كان الإهتمام يشع فى عينيه وأنَّه كان يدرك تماماً مغزى ذلك.
وتمضى رواية بيرون وتقول بأنَّ الأمير أبى مدين كان متلهفاً لمعرفة كل شيئ جديد بل ظلَّ فى أحد الفترات يلح على الخديوى إرساله إلى باريس لقضاء عام أو عامين حتى يستطيع أن يشهد بأم عينيه مظاهر الحضارة فى عرينها, ويتعلم منها كل ما يمكن مساعدته مستقبلاً فى تطبيقه بدارفور, ولذلك ظلَّ يسأل بيرون عن أنواع الحكومات فى أوروبا, وعن قوانين فرض الضرائب وجبايتها فى فرنسا, وعن تكوين الجيوش, وحقوق المواطنين, فضلاً عن أشياء أخرى ركَّز عليها كثيراً مثل التجارة والصناعة والزراعة والتربية والتعليم, ولذلك لا غرابة إن بدأ فعلاً فى تعلم اللغة الفرنسية, بمساعدة بيرون, وبالفعل إستطاع أن يوقع إسمه بالأحرف الفرنسية. وبعد إكمال تجهيزاته غادر إلى السودان عام 1843م محمولاً على أطياف أحلامه الزاهية بتعمير سلطنة دارفور على مستوى حكومات العالم الحديثة, ومزوداً بنصائح الخديوى وثقته فى حكمته, إلاَّ أنًّ تلك الأحلام تحطمت سريعاً بسبب فشل قائد حامية سنار فى تجهيز الجيش المطلوب وتمرد قوات الأرناؤوط الهمجيين الذين دفع بهم الخديوى للمشاركة فى حملة دارفور, فإقتتلوا فيما بينهم فى لحظات سكر ومات منهم المئات, ثمَّ فتك بهم الأمراض قبل أن يصلوا الخرطوم, فتمَّ إعادة من تبقى منهم للقاهرة لكنَّ أغلبهم فرَّ وإختفى, ونتيجة لذلك فقد أخذ الأمير ينتظر وينتظر دونما طائل, وإنهارت خططه تماماً بوفاة الخديوى محمد على, فطفق يتنقل فى أرجاء كردفان إلى أن داهمه المرض والحسرة وقضى عليه فى الأبيض. ولم يتمكن الأتراك من فتح دارفور إلاَّ بعد نيف وثلاثين سنة من تلك المحاولة على يد الزبير باشا عام 1874م, لكنَّهم, وكما توقع محمد على باشا قبلاً, لم يتمكنوا من السيطرة عليها, إذ بعد مصرع السلطان إبراهيم قرض فى معركة منواشى ثار أبوالخيرات مطالباً بإسترداد عرش السلطنة, ونتيجة لذلك لم يتمكن الأتراك من السيطرة إلاَّ على الفاشر ودارة (كانت حاضرة مناطق جنوب دارفور وتقع إلى جهة الشرق من مدينة نيالا الحالية لكنَّها إندثرت الآن), ولم تهدأ الأمور لهم فى خلال التسع سنوات التى قضوها هناك برغم زيارة غردون لها وإستعانته بسلاطين باشا النمساوى كمدير للمنطقة, لكن تمَّ القبض عليه بواسطة القوات المهدية عند إندلاع الثورة وتمَّ إرساله إلى أم درمان ليعيش فى حوزة الملازمين بحوش الخليفة.
لقد طالعت جانباً من قصة الأمير محمد أبو مدين فى السبعينات من القرن الماضى عندما نشرتها مجلة "الخرطوم" فى إحدى أعدادها, تلك المجلة الثقافية الأدبية الرائعة والتى لا أحسبها تصدر الآن بعد أن توقف كل إبداع ومبدع فى بلادنا, أقال الله عثرتها, وكنت خلالها فى المرحلة الثانوية فإنبهرت بهذه الشخصيه المثيرة للخيال, وقد حفرت تلك القصة بذاكرتى مكاناً مؤثراً مثلما يحدث لبعض الناس فى بداية مرحلة الشباب, والتى غالباً ما قد تؤثر فيهم وتغير مجرى حياتهم إلى الأبد. واليوم, وفيما يتعلق بدارفور, أجدنى أعيش بين الفينة والأخرى أحلام اليقظة مثلما كان يفعل ذلك الأمير قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان, بل إننى لاحظت هذه الظاهرة عند الكثير من الشباب الصاعد وبعض أفراد النخبة المتعلمة من أبناء الإقليم, وقد ظللت فى الفترة الأخيرة أستلم رسائل إلكترونية بين الفينة والأخرى ذاخرة بالأحلام والإقتراحات بشأن تطوير دارفور, ولعمق بعضها وددت أن أشرككم فى قراءتها حتى تقفون على ما يفكر فيه هذا الجيل من أبناء الإقليم, ونبدأ بالأخ إبراهيم من السعودية, والذى أرسل لى عدة رسائل, تحمل الكثير من الإقتراحات الذكية بشأن أعادة تعمير دارفور والعمل على نهضتها, وسأُلخِّصْ جملة إقتراحاته تلك, بعد تنقيحها من جانبنا بالطبع, فى المقاطع التالية حيث يقول:
إنَّ هناك عدد من الوسائل الهامة والفعالة التي يمكن إتباعها لتحقيق هدف تنمية دارفور أوجزها في الآتى:
1 تكوين مؤسسات إقتصادية قوية وفعَّالة:
يكون الغرض منه الأستثمار في مختلف الأنشطة الإقتصادية بالاقليم, والقيام بدورالبنوك المتخصصة فى مجال التمويلات الإستثمارية المختلفة مثل المجالات الزراعية والصناعية والإسكانية, وتعمل على خلق التوازن العادل بين المنتج والتاجر وذلك بالتحكم في قانون العرض والطلب لتوفي كل ذي حق حقه, ومن المؤسف أن نلاحظ أنَّ البنوك اليوم فى السودان لا تعمل لصالح المنتج ولا لصالح التاجر بل تعمل لصالح النخبة الحاكمة, وتحولت إلى أداة للثراء السريع لعصابات (النهب المصلَّح) في الخرطوم, حيث نجدهم يخططون بإنتظام فى كل عام بتحديد السعر الأدني للمنتجات الزراعية القابلة للتصدير, وكلها من منتجات غرب السودان مثل الصمغ العربي والفول السوداني والسمسم والكركدي وحب البطيخ.. ألخ ويتم تحديد هذه الأسعار حسب مصلحة الجهة المصدرة دون إعتبار للتكلفة التي يتحملها المنتج المسكين, ودون إعتبار للكمية المنتجة وهي أهم العوامل لتحديد سعر البيع, بينما نجد السلع المنتجة فى أماكن أخرى بالسودان تباع بأسعارعالية جدا بالرغم من أنَّ معظمها سلع للإستهلاك المحلي وليست للتصدير, ولا تعود للبلد بالعملة الصعبة مثل التمور والفول المصرى والبصل والترمس والحمص, ولعلنا نلاحظ أنَّ الشاحنات تجوب مدن الغرب محملة بهذه السلع حيث يبيعون شوال البلح مثلاً بحد أدني بثمانين ألف جنيه لكنهم فى نفس الوقت يشترون صفيحة زيت الفول أو السمسم بثلاثون ألف, وشوال الصمغ الذي يزن قنطارين ونصف بخمسة وثلاثون ألف جنيه سوداني علما بأنَّ طن الصمغ يباع عالميا ب 6000 دولار أمريكي, ولك أن تتصور حجم الفتات الذي يحصل عليه المزارع! هذه مجرد أمثلة للمظالم التى تحدث للمنتجين في الغرب .
2 التركيز على إنشاء الشركات المحدودة:
تتمثل هذه الخطوة في إنشاء شركات ذات مسؤولية محدودة, وليست شركات مساهمة, ذلك لأن الشركات المساهمة يتم تداول أسهمها في الأسواق المالية مما يسهل علي أية مجموعة ثريَّة أن تشتري العدد الكافي من الأسهم للشركة وتسيطرعليها وتتحكم فى تحديد أهدافها وسياساتها.
3 التركيز فى الإستثمار على القطاعين الزراعى والحيوانى:
لكبر حجم الإنتاج الزراعي والحيوانى بالاقليم وإشتغال قطاع كبير من المواطنين في هذا المجال, ولمردوده السريع وأهميته عالميا ومحليا نري أن يتم الإستثمار بداية في هذا المجال, ومن ناحية الجدوى الإقتصادية فلا يوجد تخوف من ناحية جودة ووفرة الإنتاج أيًا كان نوعه, لكن الخوف يتمثل في مشكلتين أساسيتين:
المشكلة الأولى تكمن فى المشاكل التي يمكن أن تثيرها عصابات "النهب المصلَّح" في الخرطوم لأنَّ مثل هذه المشاريع تهدد مصلحتهم الشخصية, وهذه المشكلة يمكن التغلب عليها بمعرفة ودراسة قوانين الإستثمار والضرائب والرسوم بالسودان, والحمد لله لدينا الكثير من الكفاءات القانونية المؤهلة التي يمكن أن تتصدي لأسلحتهم وحيلهم وإبطالها.
أما المشكلة الثانية فتتمثل فى عدم الإستقرار الأمني ولعل من أكبر الأخطاء العسكرية أن تكون ساحة المعركة في أرضك ولنا في الجنوب خير مثال, والذي يحدث في دارفور الآن من حرق وتدمير وقتل في كل مكان وإنتشار السلاح بين الناس هو نتيجة لأن المعركة في أرض الإقليم, وعدم الإستقرار هذا وعدم الأمن ينعكس مباشرةً سلباً علي كل مرافق الحياة بالمنطقة, بما فيها أهم مرفق وهو الاقتصاد, حيث لا توجد عمالة كما أن رأس المال دائما يهرب من مناطق النزاعات والحروب, لكن, والحمد لله, بدأنا نشاهد بشارات الحلول فى الأفق القريب, خاصة وأنَّ التدخل الأجنبى سيساعد الإقليم فى أخذ نصيبه العادل من الثروة والتنمية حيث لم يتم ذلك منذ إستقلال السودان ولن يتم إذا لم يرفع الناس السلاح.
4 تشجيع وجذب المستثمرين:
ولأن دارفور تمتاز بالجو المعتدل وتعدد المناخ والتربة الخصبة البكر فإنَّ ذلك يمثل أيضاً وسيلة جذب قوية للمستثمرين في القطاعين الزراعي والحيوانى, كما يمكن لأبناء الإقليم المنتشرين في غرب أوروبا الدخول في شراكات مع جمعيات زراعية أو أفراد أو هيئات في مختلف الدول هناك للإستثمار الزراعي والحيوانى بالإقليم, والإستفادة من ظل الإنفتاح الإسثماري الذي يشهده السودان حالياً, أما الفائدة المؤكدة من الشريك الأوروبي فتتمثل في الإستفادة من التقنية الزراعية المتطورة لديهم وسهولة بيع المنتجات في دول الإتحاد الإوروبي, وربما الحصول علي أعفاء جمركي للواردات ولو جزئي لوجود الشريك الأوروبي. ويمكن تنظيم رحلات تعريفية للمستثمرين للإقليم للإطلاع علي إمكانات الإقليم بعد أن تقدم لهم دراسات الجدوى
لإقتصادية اللازمة. وعموما يمكن أن يكون الإستثمار في المجال الزراعي فى إنتاج الفاكهة والخضر والحبوب بغرض التصدير, وكذلك الإستثمار في التصنيع الزراعي الخفيف مثل تصنيع مركزات العصير لجميع أنواع الفاكهة: مانجو, جوافة, برتقال, فراوله, قريب, بالإضافة إلى الطماطم, كما ويمكن أيضا إدخال صناعة تجميد الفاكهة والخضار بكل أنواعها لتلبية حاجات أسواق أوروبا والخليج وسوف يكون لها مردود عالي لعدم إحتوائها علي الأسمدة و المخصبات والتعديل الوراثي مما يجعل الإقبال عليها كبير مع إرتفاع سعرها عن مثيلاتها من منتجات الدول الاخري. أما فى الجانب الحيوانى فيمكن إستخدام التلقيح الصناعى لتطوير الأبقار إلى أنواع لحومة وأخرى لبونة, وتطوير أنواع الضأن والإبل والماعز فى الشمال بيحث يؤدى ذلك إلى توليد أصناف محسنة تدر مبالغ إضافية من الدخول فى الأسواق العالمية.
5 إعداد دراسات جدوى مشجعة للإستثمار:
إنَّ الوسيلة الإقتصادية المبنية علي إستغلال وتنمية الموراد الكثيرة المتاحة بالإقليم هي الأسرع والأفيد, ونعتقد أن المطلوب حالياً هو أن تكون هناك دراسات جدوى إقتصادية للمشاريع الممكنة في كافة أنحاء االإقليم, وإضافة لما ذكرناه من مشاريع أعلاه يمكن إعداد دراسات جدوى بتركيز خاص على المجالات الآتية:
1/ صناعة الزيوت النباتية ومشتقاتها.
2/ صناعة الجلود.
3/ صناعة الأسمنت.
4/ صناعة الغزل والنسيج.
5/ إدخال تقنية الري بالتنقيط لأشجار الفاكهة مع إدخال مزروعات جديدة مثل الزيتون وأنواع العنب
المختلفة, والتفاح اللبنانى بكل أنواعه, والتمور الجيدة التى مثل العراقية والسعودية ذات الجودة العالمية.
6/ إدخال تقنية الري المحورى للتحكم في زراعة المحاصيل الحقلية مثل البصل والبطاطس.
7/ إنشاء شركات تعمل في مجال توفير المياه النقية من خلال حفر الآبار وإنشاء السدود وتعميق الحفائر للأفراد والقرى والمدن
8/إنشاء شركات ومعارض ومواسم للتسويق تروج لمنتجات المنطقة داخل وخارج السودان.
9/ تطوير الأداء السياسى لخدمة مطالب الإقليم:
أما فيما يتعلق بالجانب السياسي فنجد أن الإقليم يذخر بالكفاءات السياسية الفذة, لكن للأسف لم يتم توظيف هذه الطاقات في خدمة مواطن دارفور, فنجد أن النائب البرلمانى أوالوزير يضع إمكانياته وجهوده فى خدمة حزبه أو القضايا القومية وينسى أهله وحقوقهم بالرغم أنَّه من المفترض أن يكون وكيلهم فى ذلك, ولذلك فإنَّ هؤلاء الأخوة, خاصة البرلمانيين منهم لو أنَّهم ترشحوا مستقلين ببرامج واضحة لخدمة المواطن لفاز كل في منطقته ولتصرف بحرية أكثر لإنتزاع ما يستطيع إنتزاعه, ولو ترشح كل نواب الإقليم مستقلين لفازوا بالتزكية وسط أهلهم ولكوَّنوا مجموعة برلمانية لا يمكن تجاوزها من أى حزب, ويمكن أن يتطور الوضع تبعاً لذلك إلى مستوى تشكيل حزب ذو نفوذ قوى يستطيع أن يؤثر في القرارات الهامة خاصة فيما يتعلق بالإقليم ومستقبله فى إطار القومية السودانية.
الكلام كثير والمجال ضيق ونأسف للإطالة, ونحن علي أتم إستعداد للتعاون فى كل ما يفيد دارفور, وهناك الكثير من الأخوة ينتظرون من يحركهم ويفجر طاقاتهم, وبصراحة يا دكتور نحن خجلانين من أ نفسنا عندما ننظر إلي الوراء ونتفكر فيمن أسسوا هذا المجد والنسيج الإجتماعي المتماسك, وحافظوا عليه لقرون عدة رغم أميتهم ومحدودية إمكاناتهم حتى أوصلوه لنا سليماً معافى, وكان سلاحهم هو تقوى الله ونقاء السريرة وصدق النوايا وإباء النفوس, فكيف لا نستطيع فقط المحافطة عليه رغم ما تيسر لنا من فرص تعليم وإمكانات لم تكن متاحة من قبل, والله نسأل أن يوفقنا لرد جمائل أهلنا الغبش ويهئ لنا السبيل إلى ذلك.
وبدورنا نشكر الأخ إبراهيم على هذه الأطروحة العميقة والتجرد الأصيل والتى بلا شك سوف ترى النور إذا وضع أبناء الإقليم أعينهم بتركيز نحو ذلك. إنَّ الأحلام تتحول إلى أفكار إذا ما صادف الإلتزام القوى, والدول العظيمة ما قامت إلاَّ على أفكار عظيمة, فإعمال الفكر وتفعيل العقل يؤدى دائماً إلى التفوق والنجاح, وتلك من سنن الله فى خلقه, فيكتسب كل مخلوق حسب جهده ومبادرات عقله. لقد سادت بريطانيا العالم لقرون طويلة حتى أطلق عليها بريطانيا العظمى والإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس, لكن وتبعاً لسنن النشؤ والتطور أخذت تنحدر فى الجانب الآخر من قمة الجبل التى كانت متربعةً عليها, لكنَّ أولئك القوم إستفادوا من إرث التاريخ وآمنوا بضرورة ألاَّ يتوقف عقولهم عن الإنتاج فتحولت بريطانيا بفضل ذلك إلى أكبر مستودع لإنتاج الأفكار فى عالم اليوم, ولذلك فعندما يندفع الأمريكان اليوم فى مغامراتهم الطائشة فإنَّهم غالباً ما يتحركون بفعل الأفكار التى توضع وتبرمج فى لندن, وهم بالفعل لا يجدون أفضل من الإنجليز لتقديم الأفكار لهم بل ومساعدتهم فى الخروج من الورطات التى يقعون فيها, وما أكثرها. وكمثال على السياسة البريطانية فى مجال الأفكار فقد تبنى الأمير فيليب, زوج الملكة إليزابث ملكة بريطانيا, مشروعاً لتنمية المواهب العلمية والتكنلوجية للشباب منذ ستينات القرن الماضى, وتم تخصيص جوائز قيمة للأعمال الفائزة نهاية كل عام, ومن شروط ذلك المشروع أنَّ الأعمال المقدمة يجب أن تتميز بقابليتها للتصنيع, وكانت النتيجة مذهلة إذ سرعان ما إستجاب له آلاف الشباب والمعاهد العلمية المتخصصة فى تطوير التكنلوجيا فظهرت آلاف المشاريع فى مدة وجيزة, ويقال بأنَّ الصناعة البريطانية قد إزدهرت نتيجة لذلك, وأمتدت درجة الإهتمام بها فى أمريكا ومحيطها التكنلوجى الأوسع والأعمق بحيث أصبحت بريطانيا اليوم أكبر دولة فى العالم تملك إستثمارات ضخمة تدور فى صلب الإقتصاد الأمريكى.
إضافة إلى "أحلام" الأخ إبراهيم أعلاه فقد وردتنى رسائل مشابهة من آخرين أيضاً, من بينهم الأخ أبوالقاسم بالسعودية, مقترحاً ما أسماه ب "منتدى أًصدقاء دارفور", يكون شبيهاً ببنك للأفكار, شعاره وهدفه إعداد وخلق ثورة إجتماعيةاقتصاديةتنموية خلال العشرة أعوام القادمة لأحداث التغير المثالي التام في مجتمع دارفور حتى تستطيع الأجيال القادمة العيش بسلام ورفاهية, ويتساءل:
هل يمكن ذلك يا أبناء دارفور؟
هل يمكن تدمير ودفن شماعة الأخطاء التاريخية إلى الأبد والبداية من مواردنا وعلاقتنا الدولية؟
هل يوجد لدينا إرادة؟
هل يمكن أن يحدث التغير في مجتمعاتنا حتى يحس الفرد فينا بالسمو والكرامة؟
هل نحن رجال لذلك ؟
كل منا يتذكر كيف كانت المراحل التعليمية, وكيف كان الطعام والشرابالمصاريفوكيف عانى الوالد و الوالدة الأخوةالأخوات كيف كانت الزراعة الرعيوجلب الماءالحطباعداد الطعامالسفر للدراسة ....الخ .
المعاناة, المعاناة, المعاناة, ....... و للأسف الآن أسوأ!
للعزة و الكرامة أركان وقواعد!
قام الأخوة البسطاء اللذين عانوا وسئموا ويئسوا بدورهم, بالركن الأساس الخطير, لإحداث التغيير الكبير بإذن الله للأحسن, وبقي الركن الآخر, هل يمكن أن نساهم فيه جميعا بشراسه في الإعداد لها بالفكر والعقل والقلم؟ وتجهيزه تحت وعاء جامع يقاتل التيارات السياسية المستوطنة الكاذبة والحالية في دارفور والعمل من أجل بسط البرامج التى نتفق عليها؟
تطوير حوض البقاره للإنتاج الحيواني والزراعي بالمستوى الدولي للصادر من الموقع!
تطوير مناطق إنتاج الجمال والضأن وتصدير الحي والمذبوح من الموقع!
تطوير حزام السافنا لزيادة وتحسين رقعة إنتاج الحبوب الزيتية وإقامة صناعات تحويلية!
زيادة رقعة إنتاج الصمغ العربي وتصنيعها محليا!
الدخول في شراكه مع شركات النفط العالمية لإكتشاف وإنتاج البترول!
تطوير القدرات والإستعانة بشركات التعدين العالمية لتعدين النحاس والحديد واليورانيوم!
إقامة السدود والخزانات على كامل مصادر المياه في دارفور: أزومباريكجاهورنيالاكتموادي صالحوادو الكو ....ألخ!
تطوير مشاريع جبل مره كبكابية ومناطق غرب دارفور الزراعية لتصدير الفاكهةالخضرواتالتباكو والمنتجات الاخرى!
حصول الفقراء على الأرض والائتمان والبنية الأساسية والمدخلات الزراعيةَ!
ربط الإنتاج في الإقليم من الخضرالفاكهةاللحومالزيوت بالأسواق الدولية ذات الثقافة الغذائية الحديثة (من الأرض إلى الفم) ماكروبيوتك!
الإكتفاء الذاتي من إنتاج السكر بالإقليم غرب دارفور ووادي صالح!
الإكتفاء الذاتي من إنتاج القمح بالإقليم: شمال دارفورمليطالكومهالميدوب (الري من إمتداد حوض باره, حوض أم كدادة, حوض ساق النعام, حوض وادى هور, الحوض النوبى أساس النهر الصناعى العظيم بليبيا)!
ربط الإقليم بالطرق بكل المدن ومناطق الإنتاج!
إنشاء محطات توليد الكهرباء الضخمة التى تمد كل المدن بالكهرباء 24 ساعة فى اليوم!
بناء المطارات للصادر الفاشرالجنينةنيالاالضعينجبل مرهشمال دارفورشرق دارفورجنوب دارفورغرب دارفور!
إعادة كتابة التاريخ وجمع التراث والبحث في العادات والتقاليد وكشف الآثار وربطها بمناهج التعليم!
تغيير وإعداد مناهج تعليميه تتماشى مع التطور العالمي مع توفيرالخدمات الإجتماعية (الإستثمار البشري)! ربط الإقليم بالطرق مع دول الجوار وكذلك الإقليم الجنوبيكردفانأم درماندرب الاربعينطريق ليبيا!
فصل وإدارة تجارة الحدود مع دول الجوار بواسطة الإقليم!
توحيد الإقليم إلى إقليم واحد فقط هو إقليم دارفور والرجوع إلى التقسيمات الإدارية 1956م!
إنشاء جيش إقليمي قوي تحت إدارة سلطات الإقليم للتصدي بقوة للمشاكل المحلية!
إنشاء جهاز أمن يحترم تقاليد وعادات وكرامة أبناء الإقليم ويوظف لخدمة أهداف ومصالح الإقليم الداخلية ومصالحها الإقتصادية!
إقامة قنصليات بدارفور حسب المصلحة: السعوديةمصرليبياتشادأفريقيا الوسطىالمانياهولندافرنساإنجلتراإيطالياالنرويجاليابانأمريكاالهندجنوب افريقيانيجيريا!
إقامة مركز دارفور للحوار, أهدافها:
توحيد القبائل.
نشر ثقافة السلم.
تطوير المناهج وربطها بالتراث.
تطوير أداء المرأة.
تطوير أداء الشباب.
تطوير التراث والفنون والموسيقى والمسرح.
إقامة مراكزالبحث العلمي:
مركز البحوث الإقتصادية وتطويرالإنتاج للصادر.
مركز للبحوث الزراعية والمراعي.
مركز التاريخ والتراث والفنون وتطوير المجتمع.
مركز الثروة الحيوانية وتطوير الإنتاج.
تطوير الرياضة وظهور الشباب بقوة في المنافسات الدولية.
إنشاء الله يا رب!!
"أحلام/أفكار" الأمير محمد أبو مدين تنزلت عليه قبل أكثر من مائة وستين عاماً, نترحم عليه ونسأل الله أن ينزله نعيم جناته, ونقول له إنَّ ما كان يدور بخلده قد صار يتنزل اليوم على أفئدة أكثر من عشرة مليون إبن من أهل دارفور المنتشرين فى ربوع السودان وحول العالم, وسوف يتحقق الكثير منها بإذن الله. والملاحظ فى أطروحات الأخوين إبراهيم وأبوالقاسم أعلاه التطابق الكامل فى أجزاء عديدة منهما, وكأنَّهما كانا يقرآن أفكار بعضهما البعض, بالرغم من إختلاف الزمان والمكان بين رسائلهما لى, ولعلَّ فى ذلك ما يؤكد توافق عقول أبناء الإقليم فى الهَّم الدارفورى الشيئ الذى يدعو للتفاؤل بقرب إنبلاج فجر جديد برغم ما حدث ويحدث الآن, ولنتذكر أن اليابان وأوروبا قد دمرتا تماماً فى الحرب العالمية الثانية فى نهاية ثلاثينات وبداية أربعينات القرن الماضى, لكن بالعزيمة والفكر والتخطيط صارتا تقودان العالم اليوم إقتصادياً وتكنلوجياً, وقد صدق نابليون الذى أطلق عبارة "لا مستحيل تحت الشمس", وبدورنا نقول لا مستحيل فى تعمير "دارفور بلدنا" والإنطلاق بها إلى الدرجات العلا فى دروب التنمية والتطور, ونزيد على ذلك عبارة (Never again) كما تتردد فى ثقافة اليهود المعاصرة.
................................................................................. يتبع .. هذه المشاركات للدكتور حسين ادم الحاج ، نشرت علي صفحات سودانجيم الاكترونية .. راينا ان نعيد نشرها هنا للتوثيق عبر المنبر الحر للاجيال القادمة.. مع غزير شكرنا للاخ الدكتور حسين ..
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: تأريخ دارفور الحديث ... للدكتور حسين ادم الحاج ( وثائق ) .. (Re: hamid hajer)
|
إدريس دبِّى ... والحياد المفقود
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
تمهيد:
أبسط ما يمكن أن يوصف به مواقف الرئيس التشادى إدريس دبِّى حيال تعامله مع قيادات الحركة المسلَّحة بدارفور, وقضية دارفور بصفة خاصة, هو أنَّه قد سمح للحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية بإستخدامه كحصان طروادة لإختراق أى محاولات جادة لتحقيق حل عادل ومنصف لهذه القضية, وهو بذلك أثبت أنَّه ليس محايداً البتة فى وساطته المزعومة لتحقيق السلام فى هذا الإقليم المنكوب بل على العكس من ذلك تماماً أثبت بأنَّه منحاز لمواقف الحكومة السودانية وسياساتها تجاه التعامل الشفيف مع هذه القضية مما يستدعى حسم هذا الموقف المهزوز نهائياً وبصورة عاجلة.
ولعلَّ قادة الحركات المسلَّحة وأهل دارفور قد مدُّوا حبل الصبر طويلاً فى إنتظار تعامل منصف مع رجل يعرفونه جيداً, بل وربما كانوا السبب المباشر فى تسنُّمه لحكم دولة تشاد, الشيئ الذى يثير الإستغراب والدهشة فى الأهداف الحقيقية لمواقفه التى لا يمكن وصفها إلاَّ بالمعادية لمواقف الثوار ومن خلفهم مصالح أهل دارفور. من جانبها عملت الحكومة السودانية جهدها من أجل تعزيز ذلك بل وإستخدام الرئيس التشادى لتنفيذ رؤاها الخاصة وتنفيذ خططها السريَّة فى التعامل مع الحركات المسلَّحة, ومن هنا يمكننا فهم إصرارها المطلق لحصر القضية فى النطاق التشادى الأفريقى ورفض أى تدخل دولى قد يكون مدركاً لمراميها ومن ثمَّ عجزها عن مجابهة ذلك.
تاريخ العلاقة بين إدريس دبَّى ودارفور:
يمتد حدود منطقة قبيلة إدريس دبَّى, وهى "خشم بيت" فى قبيلة الزغاوة, فى داخل الأراضى السودانية التشادية وقد كان والده "تيمان دبَّى" ملكاً لقبيلته فى مقره ببلدة "باهاى" على الجانب التشادى, وقد درس إدريس فى صغره فى مدرسة كرنوى الإبتدائية قبل أن ينتقل لتشاد ويواصل تعليمه هناك. وتدرج بعد ذلك فى الجيش التشادى وإنحاز لجانب حسين هبرى فى صراعه على السلطة ضد جوكونى عويدى, وقد لعبت قبيلة الزغاوة دوراً حاسماً فى ذلك مما مكَّن إدريس دبَّى فى أن يترقى لمنصب القائد الأعلى للقوات المسلَّحة التشادية بعد إنتصار حليفه حسين هبرى وتسلمه إدارة البلاد, لكن يبدو أن هبرى, وهو من قبيلة القرعان, قد أصابه الشكوك فى ولاء إدريس وبقية كبار قادة الزغاوة فى الجيش التشادى لنظامه وخطط بالتالى الإيقاع بهم, لكنَّ إدريس دبِّى وحلفاؤه تمكنوا من الفرار من إنجمينا وبعد مطاردات عنيفة وصلوا إلى دار الزغاوة بالأراضى السودانية فى حالة يرثى لهم ولا يزيد عددهم على المائة, بعضهم حفاة ومجرحين ولا يملكون شيئاً, لكنَّ الأهالى أحسنوا عليهم وإحتضنوهم, وكان أول مكان نزلوا بها هى منطقة "بامشى" إرتحلوا منها إلى منطقة "عين سيرو" ثمَّ إلى منطقة "الجنيك". كان ذلك فى نهاية عام 1988م وبداية عام 1989م. ومنذ تلك الفترة بدأ إدريس يستجمع قواه وبدعم مقدر من الأهالى بالمنطقة لكنَّه تعرض لهجمات متكررة من قوات حسين هبرى التى كانت تراقبه جيداً والذين تمكنوا من الإغارة عليه ومطاردته ذات مرة حتى مدينة "كتم" حيث دخلوا المستشفى وإختطفوا الجرحى من قوات دبًّى وأعدموهم فى الحال, لكنَّ أهالى المنطقة أخفوه ودعموه بعد تلك الكارثة, ومع حلول شهر نوفمبر عام 1990م تمكنَّ دبِّى من إستجماع قواه وبذل أهله وأهالى شمال دارفورعامة الغالى والرخيص فى سبيل ذلك, ودعموه بالمال والرجال وتمكن بالفعل من إلحاق هزيمة كاسرة بقوات القيادة الشمالية لجيش حسين هبرى إنهار جيشه كلها على أثرها وفرَّ هبرى إلى دولة النيجر ليدخل إدريس دبِّى العاصمة إنجمينا ظافراً فى الثانى من ديسمبر عام 1991م, وبعد أربعة أيام فقط من تلك المعركة, ويتسلم بعدها رئاسة الدولة التشادية والتى لولا أهل دارفور لما تمكن منها. لقد لجأ إدريس دبَّى إلى أهل دارفور طريداً كسيراً جائعاً مبهدلاً فأخذوا بيده وأطعموه وحموه ودعموه ثمَّ نصروه على عدوه بتشاد ونصبوه حاكماً عليها واليوم ينسى الرجل كل ذلك ويعض على تلك الأيادى البيضاء التى أقلته بعد عثرته ورفعته إلى مستوى رئيس دولة (الله يخزى اللى كان السبب).
المشاكل الداخلية التى يتعرض لها النظام التشادى الحاكم:
مما تقدم أعلاه يتضح تشابه النظامين الحاكمين فى كل من تشاد والسودان فى أنَّ كلاهما قد أتى للحكم عن طريق البندقية, لكنَّ النظام التشادى لا يجد حرجاً فى ذلك كونه قد صعد للسلطة عن طريق شرعية الحرب والمقاومة المسلحة بخلاف نظام الجبهة الإسلامية القومية الذى إعتمد أسلوب الغدر بنظام ديمقراطى منتخب. غير أنَّ ذلك لا يعنى أنَّ النظام التشادى ليس له أعداء فذلك مفهوم تبعاً للظروف التى قادته أساساً للصعود إلى السلطة. وبالرجوع لطبيعة الصراع السياسى فى الدول الأفريقية المتخلِّفة نجد أنَّ القبيلة والجهوية ظلَّتا تمثلان مرتكزات أساسية للسلطة الحاكمة فى الدولة, وعلى هذه الخلفية لا تختلف الأمور فى تشاد عن هذا النحو فإدريس دبَّى القادم من بطن من بطون قبيلة الزغاوة إنتزع الحكم من حسين هبرى الذى ينتمى إلى قبيلة القرعان, الذين أصبحوا خارج دائرة السلطة, ولا بد أنَّهم يفكرون فى إعادة مجدهم الزائل, كما إنَّ هناك خلافات أخرى مستترة مع فئات أخرى من بطون لزغاوة, بجانب إحتكاكات سابقة مع قبيلة البرقو فى منطقة أبَّشى, وبالرغم من أنَّه لم يرشح شيئ من قبيلة السارا حول بحيرة تشاد إلاَّ أنَّ ما يحصلون عليه من نصيب من عائدات النفط المستخرج حديثاً من مناطقهم قد كفتهم عن أى مطالبات مقلقة بالنسبة للنظام الحاكم بالرغم من أنَّهم أكثر الفئات تعليماً وثقافة فى الدولة. إضافة إلى ذلك تظل تحركات الجماعات الإسلامية المتطرفة على الحدود الشمالية الغربية لتشاد تمثل شوكة فى خاصرتها خاصة بعد أن دخلت القوات الأمريكية فى حرب مع تلك الجماعات بدعم من الجيس التشادى بدعوى القضاء على الإرهاب, كما أنَّ توتر العلاقات بين تشاد وجارتها الجنوبية الشرقية, جمهورية أفريقيا الوسطى, والمعارك العسكرية التى دارت بين الجانبين فى منطقة الحدود بينهما بداية العام الماضى والذى أدَّى إلى هزيمة قوات الرئيس فيليب أنج باتاسي وفراره إلى الكاميرون نهاية شهر مارس من العام الماضى قد أثَّرت فى قوة تشاد العسكرية, وكانت الحكومتان السودانية والليبية قد دعمتا باتاسيه بينما دعمت تشاد المتمردين الأفريقيين. وأخيراً تبقى المجموعات العربية المتذبذبة فى ولائها بين مناطقها فى التشاد وإمتداد أهاليهم فى السودان, وهم على أية حال قد يمثلون قنابل موقوتة إن لم يتحسب الرئيس التشادى لهم خاصة وأنَّهم قد بنوا علاقات تحالفية حميمة مع نظام الإنقاذ خاصة حول الوعود التى بذلتها لهم بالحصول على الأرض.
كما لا يغيب علينا فى هذا المجال أن نشير إلى الإشاعات التى تقول بأنَّ الرئيس التشادى يعانى من مرض السرطان وأنَّه يحتاج للقيام بزيارات دورية لباريس لتلقى العلاج, ولا يفوت على المراقبين حيال ذلك إحتمال وجود صراع على السلطة بين خلفائه, خاصة مع بدء الدولة إنتاج وتصدير النفط, الشيئ الذى قد يفتح الباب لتدخلات أجنبية لدعم الأطراف المختلفة فى ذلك الصراع المحتمل.
على هذه الخلفية المعقدة يمكننا بسهولة قراءة هشاشة البناء السياسى التشادى وإمكانية تجيير بعض القبائل بها للعمل ضد نظامها الحاكم من أى جهات خارجية بقصد الإبتزاز والضغط لتنفيذ أهداف محددة لمصلحتها, وتبعاً لذلك يمكننا أيضاً تفسير الهجمات المتكررة لمليشيات الجنجويد عبر الحدود, فقد لا يكون الهدف منها هو قتل اللاجئين فقط, بعد أن فروا وتركوا قراهم وأراضيهم نهباً لتلك المليشيات, بل قد يمثل ذلك رسالة مبطنة للقيادة التشادية بمصير مأزوم إن لم ترضخ طائعة مختارة لما يطلب منها وذلك جرياً على المثل الشعبى الذى يقول "دقَّ القُراف.. خلى الجمل يخاف"!
إستغلال نظام الإنقاذ للرئيس التشادى:
أدرك نظام الإنقاذ أنَّ سياساتها المعادية لأهل دارفور قد أدت إلى نشوب ثورة فى الإقليم قوامها أكبر قبيلتين فيه, هما الفور والزغاوة, بجانب العديد من القبائل الأخرى ذات الأصول الأفريقية مساندة للثورة ومقاتلة بجانبها مثل المساليت, التاما, الداجو, الميدوب, البرقد, وبعض العناصر العربية لاحقاً, وغيرها من قبائل صغيرة, لكن تظل قبيلة الزغاوة ببطونها المتعددة هى القوة الضاربة الحقيقية فى الصراع. ويبدو أنَّ الحقيقة التى لم يفطن لها نظام الإنقاذ بداهة هى أنَّ العديد من قيادات الثوار قد سبق لهم أن شاركوا بقوة فى حروبات المنطقة المتداخلة ما بين السودان وتشاد وليبيا, بل مثلوا السبب المباشر فى إلحاق تلك الهزائم المنكرة بالقوات الليبية وإجلائها من هضبة التبستى وقطاع أوزو الغنى بعنصر اليورانيوم والتى سبق لليبيا أن ضمتها لحدودها من جانب واحد. هذه العناصر تدربت على حروب العصابات المرعبة والخاطفة التى تثير الهلع فى الجانب المناوئ وتخلف موتاً ودماراً هائلاً بين صفوفها فى فترة وجيزة من الهجوم, وتعتمد على الحركة السريعة فى عربات "اللاند كروزر", ذات الدفع الرباعى, وتجيد إستخدام المكامن والمنحنيات والمناطق المكشوفة على حد سواء, وهى طريقة فى الحروب لم يعتد عليها الجيش النظامى السودانى أبداً ولذلك كانت تلك الهزائم المتتالية التى تعرض لها بجانب الدمار الهائل فى قواتها وعتادها فى فترة أقَّل من عام واحد قد تطال خسائر الجيش السودانى طوال حربها فى جنوب السودان.
تبعاً لذلك لم تجد الحكومة بداً من الإعتماد على الرئيس التشادى فى لجم زمام هؤلاء الثوار مستفيدة من روابطه الإثنية معهم ونفوذه المشروع كرئيس لدولة قد لا تسقط كلمته على الأرض بين تلك القبائل التى خرج منها. وبالرغم من توفر عدداً من الفرص السانحة لنظام الإنقاذ فى التوصل لحل مبكر مع قيادات الثوار, خاصة عبر مؤتمر الفاشر التداولى, إلاَّ أن العقلية التآمرية لجهازه الأمنى, بجانب نظرته الدونية لأهل دارفور, حالت دون ذلك وأدَّت لتفاقم الأزمة بصورة مضطردة تمثلَّت قمتها فى الهجوم الصاعق على مدينة الفاشر وتدمير الطائرات الحربية الجاثمة على مطارها وأسر قائد السلاح الجوى وضرب القيادة الغربية, ومضت الأمور بعد ذلك إلى حرب شاملة فدخل الثوار عدة مدن من بينها مليط وكتم والطينة وتحولت معظم مناطق شمال ووسط وغرب دارفور إلى ساحات حرب لم تجد الحكومة وسيلة لمجابهتها سوى الإستخدام المكثف للطائرات الحربية من أنواع الأنتينوف ومدرعات الهليكوبتر وتجييش الجنجويد, بجانب أتباع سياسات متنوعة لإستقطاب الرئيس التشادى لجانبها بل ومحاولة جرَّه للإشتراك فى الحرب معها ضد الثوار إن أمكن, وفى سبيل ذلك فقد إتبعت الحكومة السودانية عدة محاور لتحقيق تلك الغايات تمثلت فى الآتى:
(1) محور سياسات ليِّنة ودودة بقصد الحصول على الولاء وتحقيق التجيير وأعتمدت هذه السياسة أساساً على الإغواء بالمال والرشوة.
(2) محور سياسات إقتصادية أعتمدت أتفاقيات بينية ووعود بالمساعدة فى إستثمار ثروة بلاده النفطية.
(2) محور سياسى ظلَّ ينشط بإستمرار تحت دعاوى تقوية العلاقات بين الحزبين الحاكمين فى كلا البلدين وهما المؤتمر الوطنى فى السودان والحركة الوطنية للإنقاذ التشادية الحاكمة فى تشاد, والموافقة لإجتماع دورى كل ستة أشهر.
(4) محور عسكرى أمنى, وهذا هو بيت القصيد, نشط فى إبرام الإتفاقات الأمنية والعسكرية إلى درجة الإتفاق على تكوين قوة مشتركة من ألفى جندى من كل جانب لمراقبة الشريط الحدودى ومكافحة التهريب والنهب المسلَّح, وإن كان فى ذهن الحكومة السودانية تطوير تلك القوة المقترحة وإستخدامها لسحق الثوار بمساعدة مليشيات الجنجويد والذين تمَّ جلب بعضهم من دول مثل مالى والنيجر والجزائر وتشاد نفسها.
(5) محور التهديدات المبطنة, وسياسة العين الحمراء إن حاول الرئيس التشادى النكوص عمَّا هو مطلوب منه أو محاولة دعم الثوار, ولعلَّ إنشاء معسكرات للجنجويد والمليشيات الوافدة بالقرب من الحدود التشادية, وإحتمال التلويح بدعم قبائل القرعان والجماعات الإسلاميةالمتطرفة, تمثل رسائل ضمنية تحمل تهديدات أمنية بضرورة الإذعان والتعاون.
(6) محور سياسة الإملاء المباشر عن طريق إصدار خطط محددة للجانب التشادى لتبنيها لصالح الحكومة السودانية ضد حركات الثوار, قد تتطور لاحقاً إلى توجيهات تستبطن أوامر واجبة للتنفيذ.
لقد ظلَّ الجنجويد يجتازون الحدود ويهاجمون اللاجئين فى معسكراتهم النائية لقتلهم ونهب حيوانات من إستطاع اللجوء بها فى تلك المناطق المقفرة, وقد أكدَّت منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية التى تعمل فى تلك المناطق بجانب العديد من بيانات منظمة العفو الدولية حدوث تلك التجاوزات, ويقال أنَّ جهاز الأمن التشادى قد ظلَّ يشتكى للرئيس دبِّى من ذلك لكنَّه ظلَّ متردداً فى إتخاذ أى رد حاسم مع تلك الهجمات مما دفع الجيش التشادى لإتخاذ قرار منفرد, بعد إبلاغ دبِّى بالإبتعاد عن ذلك, وقام بقتل عدد كبير من الجنجويد فى أحدى هجماتهم, وبالرغم من ذلك ظلَّ الجنجويد يواصلون الهجوم عبر الحدود حتى بعد توقيع إتفاقية إنجمينا الأخيرة, وقد ذكر بعض المشاركين فى تلك المفاوضات أنَّ الرئيس التشادى قد تمَّ إبلاغه قبل دقائق قليلة من قراءته لنص الإتفاق النهائى لتلك المفاوضات, فى إجتماع ضمَّ طرفى التفاوض, بخبر مصرع قائد عسكرى كبير من قواته فى أحدث هجوم للجنجويد على معسكرات اللاجئين.
ويبدو أنَّ الرئيس التشادى من ناحية, وأجهزته الأمنية من ناحية أخرى, قد أبدوا قلقاً متزايداً من تعاظم نفوذ الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية على القرار السيادى التشادى, وبدا لهم كما لو أنَّ النظام التشادى قد تحول إلى مخلب قط لتنفيذ سياسات الحكومة السودانية ضد الثوار الذين تربطهم بهم أواصر القربى والدم بل والنضال المشترك سابقاً من أجل تثبيت سلطتهم فى تشاد, ولذلك جاءت زيارة الرئيس دبِّى لفرنسا بدعوى إجراء فحوصات طبية فى نهاية شهر يناير الماضى على هذه الخلفية وتزايد قلقه من تأثير تطور الأوضاع فى دارفور على حكمه بتشاد طالباً العون والحماية من فرنسا, وكرد على ذلك قام وزير الخارجية الفرنسي السابق (والداخلية الحالى) دومينيك دوفيلبان بزيارة إنجمينا فى منتصف شهر فبراير كبادرة لطمئنة الرئيس التشادى, ثمًّ واصل رحلته إلى الخرطوم التى وصلها فى العشرين من ذلك الشهر حيث ركزت زيارته على الاوضاع المتدهورة في ولايات دارفور إضافة إلى مناقشة رغبة المجموعة النفطية الفرنسية توتال لإستئناف عمليات التنقيب عن النفط في منطقة دارفور, وقد حاولت حكومة الخرطوم إستخدام عقليتها الأمنية مرة أخرى لتجيير فرنسا لجانبها أملاً فى إمكانية إستخدامها لمواجهة النفوذ الأمريكى المتزايد فى المنطقة وللتأثير غير المباشر على سياسات الرئيس التشادى حيال الأوضاع فى دارفور.
تحركات الخرطوم على هذا النحو تشى بشكوكها المتزايد فى إلتزام الرئيس التشادى بدعم سياساتها الباطشة بالأهالى بدارفور, فحتى وإن أحنى الرئيس التشادى رأسه للضغوط السودانية إلاَّ أنَّه يظل مفرداً بحاله فى سلطته بموازاة نفوذ جهازه الأمنى القوى والمتعاطف مع موقف الثوار من جانب وقلق قيادة الجيش التشادى المتزايد من هجمات الجنجويد عبر الحدود وتدفق اللاجئين المستمر إلى داخل حدود الدولة مما يُؤثر بلا شك على مجمل الأوضاع الأمنية بالبلاد من جانب آخر, خاصة وأنَّ الجيش التشادى قد خرج لتوه من حروبات أفريقيا الوسطى ليجد نفسه يقود حرباً من نوع آخر ضد المليشيات الإسلامية على الحدود الشمالية الغربية بمساعدة من الجيش الأمريكى بدعوى محاربة الإرهاب. على هذا النحو, وعلى خلفية هذه الأوضاع, تنوعت سياسات نظام الإنقاذ فى التعامل مع الرئيس التشادى ونظامه حيث نلمس ذلك جلياً فى الفقرات التالية.
مسلسل محاولات الحكومة لإستقطاب الرئيس التشادى لجانبها:
سوف ندلل على تنوع سياسات الحكومة لتجيير الرئيس التشادى لجانبها من خلال الأخبار التى ظللنا نرصدها من خلال وسائل الإعلام فى الإنترنت مع بعض التعليقات من لدينا وضعناها بين قوسين كبيرين فى نهاية الخبر, وهى كلها صادرة أساساً من مسئولى النظام وأجهزته المختلفة فى التعامل مع الملف التشادى, فقد جاء فى تلك الأخبار ما يلى:
* أكدَّ الرئيس التشادي إدريس دبِّى فى لقاء القمة التى جمعته مع الرئيس البشير بالفاشر تصميمه لحسم التمرد بدارفور وقال (لا يمكن السماح لأحد باللعب بالنار في حدودنا) مؤكداً إلتزام بلاده بتقديم العون المطلوب للقضاء على ممارسات التمرد، وزاد بأن القوات المسلحة في البلدين ستعملان سوياً لإعادة الإستقرار للشريط الحدودي الواصل بين السودان وتشاد (الخرطوم 13/4/2003م). {تعليقنا على ذلك هو أنَّ هذا هو موقف الرئيس دبَّى المبدئى من الحركات المسلَّحة}.
* تسلمت الحكومة التشادية مبلغ مليون ومائتي ألف دولار منحة من الحكومة السودانية لانشاء طريق دائري داخل إنجمينا... وقد إلتقى الأستاذ حسن برقو رئيس دائرة وسط أفريقيا بالمؤتمر الوطني رئيس الوفد السوداني الزائر إلى إنجمينا السيد موسى الفكي محمد، رئيس الوزراء التشادي الذى أكد له إلتزام الحكومة التشادية بما تم الإتفاق عليه مع حكومة السودان في المجالات الأمنية والإقتصادية والسياسية كافة (الرأى العام 18/8/2003م). {تعليقنا على ذلك: أكدَّت بعض المصادر العليمة بتشاد بأنَّه لا توجد طرقاً مرصوفة بالمدينة, وليست هنالك أى خطة معلومة لذلك, ناهيك عن إنشاء طريق دائرى بالمرة! وهنا يبرز تساؤل مشروع وهو هل فرغت الحكومة السودانية من إنشاء طرق دائرية فى مدن السودان كافة, خاصة بالعاصمة القومية نفسها, حتى ترسل مبلغاً بذلك الحجم لإنشاء طريق دائرى وهمى فى عاصمة تشاد؟!}.
* تشاد تعرض مبادرة لحل أزمة التمرد بدارفور(الحياة 2/9/2003م). {نلاحظ أنَّ توقيت هذه المبادرة جاءت عقب إستلام المبلغ أعلاه!}.
* وفد رفيع من المؤتمر الوطني ينهى زيارة غير معلنة لتشاد جاءت فى إطار التعاون بين البلدين في الجوانب الأمنية وتأمين الحدود على خلفية الأحداث الاخيرة بدارفور. وأبدت مصادر مطلعة إستفسرتها «الرأي العام» حول نتائج الزيارة (تحفظاً شديداً) ولكنها أكدت أن نتائجها ستظهر قريبا بعد لقاء الوفد بالمسؤولين (الرأى العام 2/9/2003م). {تزامن هذه الزيارة السرية مع إطلاق تشاد لمبادرتها لتسوية الأزمة بدارفور مما يشى بأنَّها مملاَّة من الحكومة السودانية خلال تلك الزيارة}.
* من المنتظرأن يتوجه اليوم الرئيس السوداني عمر البشير بزيارةإالى جمهورية تشاد في زيارة قصيرة تستغرق عدة ساعات تتعلق بجهود الصلح بين الحكومة ومتمردي دارفور (أخبار السودان 3/9/2003م). {نلاحظ أنَّ توقيت زيارة البشير هذه جاءت بعد ساعات فقط من إطلاق المبادرة التشادية, ويبدو أنَّ هناك تنسيقاً كبيراً قد تمَّ فى ترتيب ذلك}.
* يتوجه الفريق الركن عمر البشير رئيس الجمهورية اليوم إلى إنجمينا في زيارة رسمية لمشاركة الشقيقة تشاد في إحتفالاتها بإنتاج النفط, وجاء فى الأنباء أنَّه سيبحث مع الرئيس التشادي إدريس دبي على هامش فعاليات الاحتفال إمكانية استكمال بعض الجوانب الخاصة باتفاقية آبشي التي وقعت في الثالث من شهر سبتمبر الماضي بين الحكومة وحركة تحرير السودان التي حملت السلاح في دارفور (ألوان 10/10/2003م). {هذه هى الزيارة الثانية للبشير لإنجمينا فى غضون خمس أسابيع فقط الشيئ الذى يمكن وصفها بزيادة الضغوط على الرئيس التشادى خاصة وأنَّ الهدف الأساسى من الزيارة هو مراجعة بعض الجوانب الخاصة باتفاقية آبشي كما يبدو فى الخبر}.
* قال الأمين العام بالوكالة للتجمع المعارض شريف حرير، إنَّ سلطات الأمن التشادية طردته مع ثلاثة من معاونيه وصلوا مطار انجمينا بالطائرة الفرنسية، وأمرته بالمغادرة فورا من حيث أتى، تنفيذا لقرارات عليا شددت على حاملي الجوازات السودانية المشتبه في إنتمائهم إلى المعارضة المسلحة في دارفور، عدم الدخول إلى أراضيها (الصحافة 11/10/2003م). {هل هناك رائحة إملاء لإتخاذ مثل هذا القرار؟}.
* أفادت مصادر تحصلت عليها صحيفة (أخبار اليوم) أنَّ وفد الحكومة إلى مفاوضات إنجمينا كان قد رفض حضور وفد من المجموعات المسلحة الأخري وسلم الحكومة التشادية قائمة تضم 35 إسماً كانوا بصدد الحضور من الولايات المتحدة الأمريكية, السعودية, الامارات, ألمانيا, وعدد من الدول الأخري, ولقد إستجابت السلطات التشادية للطلب!! (أخبار اليوم 8/11/2003م). {لاحظ صيغة "أنَّ وفد الحكومة قد رفض حضور وفد من المجموعات المسلحة الأخري وسلم الحكومة التشادية قائمة تضم 35 إسماً" مقروناً بعبارة "ولقد إستجابت السلطات التشادية للطلب"!! هل كان ذلك أمر واجب التنفيذ؟}.
* وزيرا الدفاع بالسودان وتشاد يوقعان بروتوكولاً أمنياً ويتفقان على تكوين قوات مشتركة لمنع عناصر المعارضة المسلحة في كلا البلدين من ممارسة أي نشاط عدائي ويتم قبضهم وتسليمهم للجهات المختصة في البلدين (أخبار اليوم 8/11/2003م). {مثال صارخ لمحاولة الحكومة جر الحكومة التشادية للمشاركة فى قتال الثوار}. * يتوجه الدكتور نافع علي نافع الأمين العام المكلف بالمؤتمر الوطني مساء اليوم إلي إنجمينا على رأس وفد عالي المستوي حاملا رسالة خطية من الفريق الركن عمر البشير رئيس الجمهورية إلي الرئيس أدريس دبِّي تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين وفي مقدمتها القوي الأمنية المشتركة بالمناطق الحدودية (الأنباء 13/11/2003م). {الضغوط وتوالى الضغوط بهدف محاصرة الرئيس التشادى بالوسائل السياسية أيضاً}.
* تعقد لجنة العمل المشترك بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الوطنية للإنقاذ التشادية في مدينة الجنينة في الفترة مابين العاشر إلي الخامس عشر من يناير القادم، لبحث القضايا السياسية والأمنية المشتركة في إطار العلاقات المتطورة والمتميزة بين الحزبين الحاكمين في البلدين ولمتابعة القرارات السابقة بشأن إنشاء القوة الأمنية المشتركة بين البلدين (الصحافة 19/11/2003م). {توالى الضغوط السياسية بشأن إنشاء القوة الأمنية المشتركة بين البلدين }.
* أجرى الرئيس عمر البشير أمس، محادثات مهمة مع نظيره التشادي إدريس دبَّي الذي يزور الخرطوم، ركزت على تطورات الأوضاع الأمنية في ولايات دارفور، وتعهد دبَّى خلالها بعقد مؤتمر لوضع حد نهائي للمشاكل الأمنية في دارفور (الصحافة 11/12/2003م).
* وصل وفد عسكري سوداني رفيع المستوى إلى العاصمة التشادية إنجمينا أمس الأول. وتأتى هذه الزيارة في إطار التعاون العسكري بين البلدين (الرأى العام 15/12/2003م). {نلاحظ أنَّ هذه الزيارة جاءت بعد أربعة أيام فقط من زيارة الرئيس التشادى للخرطوم}.
* حمَّل وزير الأمن التشادي متمردى دارفور مسؤولية إنهيار مفاوضات أبشي, وأشار إلى أنَّ المتمردين قد وضعوا ثلاثة شروط للمصالحة وهي: بقاء قواتهم في دارفور لفترة إنتقالية توزيع عائدات البترول بصورة عادلة بقاء دارفور تحت إدارتهم في ظل إستقلالية الإدارة والتسيير (أخبار اليوم 18/12/2003م). {أولاً: لم تتم المفاوضات أصلاً حتى يعرض الثوار مطالبهم, ثانياً: حضر وفد الثوار للمفاوضات ولكنَّ الوفد الحكومى هو الذى إنسحب ورفض المفاوضات, ثالثاً: قام النظام التشادى بتوجيه من الحكومة السودانية بإلقاء اللوم على الثوار فى عملية مكشوفة إستغرب لها كل من تابع تلك المفاوضات}.
* إتفقت الحكومتان السودانية والتشادية على منع نشاط المعارضين ومكافحة الإرهاب والتهريب عبرالحدود المشتركة ومحاربة النهب المسلح والأعمال التى تخل بالأمن عبرالحدود المشتركة. وأوضح مسؤولون من الحكومة السودانية إنَّ هذا الاتفاق يأتى فى إطار الإتفاقيات الأمنية الموقعة بين الخرطوم وإنجامينا التى تنص على تكوين قوات مشتركة على الحدود لمتابعة الأحداث الأمنية (سودانيز أون لاين 1/3/2004م). {الإتفاقات الأمنية والإصرار على توريط التشاديين للمشاركة فى الحرب ظلَّت تمثل محور إهتمامات الحكومة السودانية فى علاقاتها مع الرئيس دبِّى}.
* أوضح مسؤول بالحزب الحاكم، أنَّ الرئيس التشادي إدريس دبَّى أكدَّ أن بلاده لن تسمح بأي توتر على الحدود من شأنه أن يمس العلاقات الإستراتيجية بين بلاده والسودان (الصحافة 2/3/2004م). {بمعنى آخر أنَّ الرئيس التشادى قد يدعم الحكومة عسكرياً فى قتالها ضد الثوار}.
* يتوجه إلى العاصمة التشادية إنجمينا اليوم وزير الخارجية الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل لبحث الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس إدريس دبي في معالجة الأوضاع في دارفور(الصحافة 18/3/2004م). * صرَّح د. مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية إلى أنَّ الرئيس التشادي سيقوم برعاية المؤتمر الجامع في دارفور - حسب طلب البشير- وتحديد موعده بناءً على الإتصالات التي سيجريها مع الأطراف المعنية (الرأى العام 20/3/2004م). {لاحظ عبارة "حسب طلب البشير"!, لماذا لا تكون العبارة مثلاً "حسب إلتماس" أو "حسب رجاء"}.
* وافقت الحكومة على مقترحات تشادية لتسوية النزاع في دارفور مع بعض التوضيحات، لكنْ متمردو دارفور رفضوها لإغفالها الرقابة الدولية, وأكد عضو وفد متمردي دارفور في مفاوضات إنجمينا نهار عثمان عثمان، رفض فصائل التمرد لهذه المقترحات لأنَّها أغفلت مبدأ الجانب الدولي، وإكتفي الوسيط التشادي بالإشارة إلي إنجمينا والإتحاد الأفريقي, وذكرت مصادر في حركة التمرد أنَّ المشروع التشادي تجاهل الرقابة الدولية سواء فيما يتعلق بإشراكها في المفاوضات أو مراقبة وقف أطلاق النار (الصحافة 6/4/2004م). {فى الحقيقة تبنى الرئيس التشادى طرح الحكومة السودانية برفض التدخل و الرقابة الدولية غلى المفاوضات والتى عرضها عليه وزير الخارجية السودانى خلال زياته التى سبقت بدء جولة التفاوض بأيام قليلة}.
* قام الرئيس السوداني عمر البشير بزيارة مفاجئة إلى العاصمة التشادية إنجامينا لإجراء مباحثات مع نظيره التشادي إدريس ديبي لدفع التفاوض السياسي بين الحكومة السودانية ومتمردي دارفور في إطار رعاية الأخير للمفاوضات. وتناولت الزيارة التي إستغرقت يوماً واحداً تعزيز العلاقات الثنائية بين الخرطوم وإنجامينا ويرافق البشير في الزيارة الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية والدكتور الطيب ابراهيم محمد خير مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية (الشرق الأوسط 12/4/2004م). {توالى الضغوط, وقد رشح من هذه الزيارة أنَّ البشير قد طلب من الجانب التشادى بصورة قاطعة عدم السماح لأبناء دارفور بالخارج من دخول تشاد, وأن يقتصر التفاوض فقط مع أسماء محددة من طرفى الحركات المسلَّحة سلمتها الحكومة السودانية فى قائمة للجانب التشادى}.
* أبعد الرئيس التشادى إدريس دبى بعض قيادات حركتى تحرير السودان والعدل والمساوة فيما أصبح إتفاق وقف إطلاق النار فى غرب البلاد مهدداً بالإنهيار بعد مرور يويمن من سريانه. ونقل د. شريف حرير أنَّ السلطات التشادية أبلغته مع عدد من القياديين من حركتى تحرير السودان والعدل والمساوة وممثلى الحركتين فى آلية مراقبة الاتفاق بمغادرة إنجمينا ليلة أول من أمس فى خطوة لم يتم تفسيرها. وحذر حرير من إنعكاس ظلال الخطوة سلباً على إتفاق وقف إطلاق النار حيث كان من بين المبعدين (سودانايل 13/4/2004م). {وهكذا يواصل الرئيس لاتشادى تنفيذ أوامر الحكومة السودانية ومؤامراتها ضد وفود الثوار وأهل دارفور دون هوادة أو كلل بينما يدَّعى فى نفس الوقت أنَّه يرعى المفاوضات بحياد}.
تجاوزات الرئيس التشادى فى حق وفود الثوار للتفاوض:
لقد مضى الرئيس دبَّى فى تنفيذ خطط الحكومة بشأن قضية دارفور بالضغط على أطراف الحركة المسلَّحة مستخدماً فى ذلك مدخل "أبوى" ضاغط ووعود كاذبة بمساعدتهم لتليين موقف الحكومة السودانية تجاههم, لكن مسلسل تعامله معهم يكشف زيف إدعاءاته وهوان قادة الحركات المسلَّحة عنده خاصة إذا إكتشفنا الإهانات المباشرة التى تصدر منه بحقهم, وسندلل على ذلك عبر الأحداث التالية:
(1) قبيل بدء مفاوضات أبَّشى الأولى فى مطلع شهر سبتمبر من العام الماضى طلب الرئيس التشادى من حركة تحرير السودان إرسال وفد للتشاور حول كيفية إنهاء النزاع فى إقليم دارفور بطريقة سلمية لكنَّه لم يوضح لهم طبيعة ذلك الإجتماع المزمع, وعند وصول الوفد برئاسة القائد الشهيد عبدالله أبَّكر فوجئوا بوجود وفد حكومى من جنرالات الجيش السودانى بقيادة الطيب إبراهيم محمد خير مستشار الرئيس للشئون الأمنية, وهو شيئ لم يتوقعوه ولم يكونوا مستعدين له بما فيه الكفاية للدخول فى مفاوضات بذلك الحجم, لكن الرئيس التشادى إستخدم زعامته "الأبوية" وفرض ضغطاً عليهم بضرورة الدخول فى مفاوضات رسمية بل ووعدهم بأنَّه سيقف إلى جانبهم فى مواجهة الوفد الأمنى للحكومة السودانية, لكنه لم يفعل ذلك ولذلك خرجت بنود تلك الإتفاقية كما خطط لها وفد الحكومة وبدت وكأنَّه إستسلاماً من الثوار فى الوقت الذى كانوا فيه مسيطرين على الأوضاع العسكرية فى الإقليم فى ظل تراجع مستمر للقوات الحكومية. ومن المعروف أنّه كانت هنالك ترتيبات أمنية واسعة ومسبقة تمت بين النظامين السودانى والتشادى للخروج بنتائج تلك المفاوضات على ذلك النحو.
(2) فى مفاوضات إنجمينا الأولى فى منتصف شهر ديسمبر من العام الماضى وصل الوفد المفاوض لحركة تحرير السودان لإنجمينا يوم 14/12/2003م ونزلوا فى المكان المخصص لهم, وفى اليوم التالى زارههم وزير الأمن التشادى وسألهم عن المطالب التى يودون عرضها على الجانب الحكومى فردوا عليه بأنَّهم سوف لن يكشفوا عن أى شيئ إلاَّ فى طاولة المفاوضات المباشرة مع الوفد الحكومي مع رقابة دولية كضمان لما ستفصح عنه المفاوضات, لكنَّ الوزير أصرَّ على الحصول على تلك الملاحق بحجة ترجمتها إلى اللغة الفرنسية فردَّ عليه وفد الحركة بأنهم قد رتبوا ذلك وسيكشفوا عنه خلال المفاوضات, وهنا خرج الوزير ولم يطلعهم على أى برنامج للإجتماع أو التفاوض. وفى اليوم التالى إستدعاهم الرئيس دبِّى وإستفسرهم عن بعض الملاحظات ثمَّ خاطبهم بأنَّه بدأ يشعر بتعنت الجانبين (الحكومة والحركة) فى مطالبهم وإستحالة وصولهم لحل فى ظل الأوضاع القائمة, وأنَّه قد قرر سحب وساطته بينهم, ثمَّ أمر بطردهم من بلاده فى نفس تلك الليلة! فأخذوهم على متن طائرة عسكرية فى المساء وأوصلوهم إلى الحدود التشادية السودانية وتركوهم فى الخلاء بين بعض الخيران والكراكير بعد أن قالوا لهم سيروا فى هذا الإتجاه وستجدوا أهلكم هناك!! ثمَّ فوجئوا صباح اليوم التالى بحملة أكاذيب أطلقها الجانبان التشادى والسودانى يحملونهم سبب فشل التفاوض والذى لم يتم أصلاً, ولقد تساءل القائد منى أركو مناوي الأمين العام لحركة تحرير السودان ورئيس وفد التفاوض فى رده لجريدة الشرق الأوسط عن سؤال حول ما إذا وصل التفاوض إلى طريق مسدود حيث أجاب "أنَّ المفاوضات لم تبدأ أبداً ولم نلتق مع أي أحد من الطرف الآخر.. فكيف تكون وصلت إلى طريق مسدود"، وروى ما دار في إنجمينا قائلاً: "حضرت على رأس وفد الحركة وإلتقينا في البداية معاوني الرئيس التشادي، طلبنا في اللقاء مفاوضات مباشرة مع الوفد الحكومي، ورقابة دولية، ويبدو إنه تم تسريب ما دار في هذه الجلسة إلى جهات حكومية، بدليل أنه عند لقائنا بالرئيس دبِّى سألنا عن رؤيتنا لحل قضية دارفور، وبعد أن إستمع لوجهة نظرنا قال لنا عودوا إلى مناطقكم لأن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، فإستغربنا لما جرى، ولم نأخذ حديث الرئيس مأخذ الجد بإعتبار أنهم لم يبدأوا أي مفاوضات أصلاً حتى تصل إلى طريق مسدود، ولكن بعد سماعنا بعد ذلك من إذاعة إنجمينا وأمدرمان أن المفاوضات قد إنهارت، عدنا أدراجنا" (الشرق الأوسط 18/12/2003م). ومن المعلوم أنَّ الرئيس التشادى قد زار الخرطوم وتحادث مع نظيره البشير حول الأوضاع الأمنية في ولايات دارفور قبل موعد تلك المفاوضات بخمس أيام فقط, لا بد فى أنَّهما تطرقا لتلك المفاوضات, وقد تعهد خلال تلك الزيارة بوضع حد نهائي للمشاكل الأمنية في دارفور, كما إنَّ وفداً عسكرياً سودانياً رفيع المستوى قد وصل إلى العاصمة التشادية إنجمينا قبل يوم واحد من الموعد المضروب لتلك المفاوضات.
(3) فى هذه الجولة الأخيرة فى إنجمينا بدت الحكومة التشادية أكثر لؤماً وسفوراً فى موقفها المعادى من وفدى الحركة المسلَّحة وخضوعها التام لرغبات الحكومة السودانية حيث تمثلت تجاوزاتها فى ذلك فى الآتى:
عند قدوم وفود الثوار لحضور المفاوضات قام بعض عناصر جهاز الأمن التشادى بالتفتيش الدقيق لحقائبهم وتجريدهم من تلفونات الثريا التى كانوا يحملونها, وبذلك إنقطعوا كلياً عن الإتصال بقواعدهم فى الخارج.
رفضت السلطات التشادية منح تأشيرات الدخول لأراضيها لتسعة من أفراد حركة العدل والمساواة السودانية كان من المقرر وصولهم من باريس, وكرد فعل لذلك أعلنت الحركة إنسحابها من المحادثات ولم تتراجع إلاَّ بعد تدخل الوسطاء.
تمَّ إنزال وفدى الحركات المسلَّحة للمفاوضات فى فندق يفتقر لأبسط أنواع الخدمات المطلوبة, إذ لم يكن يوجد تلفزيون أو هواتف فى الغرف, أو خدمات الفاكس, والهاتف الوحيد المتوفر مراقب, ولم يكن هنالك أيضاً كمبيوتر أو حتى آلة طباعة وقد تكرر إنقطاع الكهرباء عن الفندق طوال مدة إقامتهم بها.
ظلَّ أفراد من جهاز الأمن السودانى يراقبون الفندق على مدار الساعة ويرفضون زيارة أى فرد لأعضاء التفاوض, وبمعنى آخر وجد أفراد الوفد أنفسهم وكأنَّهم فى سجن حسب تعبير أحدهم.
مارس إدريس دبًّى ضغوطاً نفسية قاسية على أعضاء الوفد وحاول تجاهل حديثهم أثناء المفاوضات فى بعض الأحيان, وكان يتحدث باللغة الفرنسية مع بعض أفراد الوفد السودانى إذ لم يكن من بين أعضاء وفود الحركتين من يتحدث بذلك, وقد تلاحظ أنَّ بعض أعضاء وفد الحكومة يقتربون منه ويتحدثون إليه فى همس.
قامت قوات الأمن التشادية المراقبة لقاعة التفاوض بمنع أبوبكر حامد النور, القائد الميدانى لقوات حركة العدل والمساواة, من دخول قاعة التفاوض لمدة يوم كامل ولم يسمح له بالدخول والمشاركة فى التفاوض إلاَّ بعد تهديد وفد الثوار بالإنسحاب من التفاوض.
بعد تلاوة الرئيس التشادى لبيان المفاوضات وسريان خبر قدوم البشير فى زيارة مفاجئة لإنجمينا أمر الرئيس التشادى بطرد وفود الثوار من بلاده فوراً, بمن فيهم الأعضاء الممثلين فى لجنة مراقبة وقف إطلاق النار, مما يدل على نقض أهم نص فى الإتفاقية قبل أن يجف مدادها.
لم تكتف أجهزة الأمن التشادية والسودانية بمضايقات وفود الثوار فى مدينة إنجمينا فحسب، بل قامت بمتابعة مجموعة من توجه منهم إلى مدينة الطينة فى طريقهم نحو قواعدهم بدارفور وإعتقلت أفراداً منهم بغرض تسليمهم للحكومة السودانية إلاَّ أنَّ تدخل بعض النافذين من أجهزة الأمن والعسكريين التشاديين حال دون ذلك فتركوهم لمواصلة رحلتهم.
لقد أكد أعضاء الحركتين أنَّ الرئيس دبِّى قد فرض نفسه وصياً على الحركات المسلَّحة وظلَّ يمارس ضغطاً "أبوياً" وتعسفاً مقصوداً فى تعامله مع أعضاء وفدى الحركتين, بل وتجاهل مطالبهم وبدا وكأنَّه يريد إجبارهم على كل ما يطرحه الجانب الحكومى وكأنَّ هناك تنسيقاً كاملاً بينهم فى ذلك.
أشار بيان أبناء دارفور بالمهجر بخصوص وساطة الرئيس التشادى (سودانيز أون لاين 15/4/2004م) أنَّ ضباط وأفراد جهاز الأمن التشادى كانوا فى غاية الأسى والإحباط طوال فترة التفاوض بسبب تدخل أجهزة الأمن السودانية فى صميم عملهم " السيادى ", والمؤسف بالنسبة لهم هى أنَّ التوجيهات فى ذلك ترد إليهم من أجهزة عليا فى الدولة وبالتالى لا تترك أى فرصة لأفراد الامن التشادى للتصرف التقديرى فى التعامل مع المواقف المختلفة, وقد جاء فى ذلك البيان أنَّ كل المعلومات الدقيقة التى وردت فيه عن سير المفاوضات وتداعيات سفر وفد الحركة لإنجمينا والطينة والمآسى التى تعرضوا لها قد تم الحصول عليها من أجهزة الامن التشادية الناقمة بعين السخط على ما ظلَّ يحدث.
وجوب رفض الرئيس التشادى كراعى للمفاوضات:
ما تقدم أعلاه يثبت عدم أهلية الرئيس التشادى إدريس دبَّى لرعاية أى مفاوضات سلام بين الحركات المسلَّحة فى دارفور والحكومة السودانية, وقد إتضح جلياً من السرد أعلاه أنَّ هذا الرجل الذى يدعى الوساطة ليس محايداً البتة وأنَّه على علاقة وثيقة مع نظام الخرطوم فى ضرب ثورة دارفور من خلال الأدوار المشبوهة التى يتبناها خاصة فيما يختص بالجوانب الأمنية, ونسبة لذلك فقد إستمرأت أجهزة الخرطوم الأمنية والسياسية الضغط عليه واللعب على المكشوف على علاقته الإثنية مع بعض أهل دارفور, ولذلك نعتقد أنَّه على قيادات الحركات المسلحة الإصرار على إستبعاده عن أى أدوار مستقبلية فى التفاوض, وألاَّ تتعامل معه إلاَّ فيما يختص بالجوانب الإنسانية وأن يكون ذلك تحت مظلة الأمم المتحدة ورعاية المجتمع الدولى. تبعاً لذلك يجب على قيادات الحركة المسلَّحة وأبناء دارفور النظر فى الملاحظات والإقتراحات التالية:
(1) لقد قبل النظام الدخول فى هذه المفاوضات مكرهاً ومجبوراَ تحت سيف التهديد الدولى لكنه لن يتورع فى وضع المزالق والعطبات لتعطيل أى إتفاق لا يتماشى مع مصلحته, وما التردد الذى أبدوه فى الدخول فى المفاوضات السابقة ولعدة أيام إلاَّ دليلاً على ذلك.
(2) يجب ملاحظة التنسيق التام بين نظام الخرطوم والرئيس التشادى فى توجيه عملية التفاوض فى إتجاه يخدم أهداف حكومة الخرطوم بالدرجة الأولى, مما يلقى بالشك فى حيادية الرئيس التشادى.
(3) حصر كافة تجاوزات الرئيس التشادى منذ مفاوضات أبَّشى الأولى فى ملف واحد كدليل على عدم حياديته ونزاهته فى الوساطة.
(4) ضرورة الإصرار على نقل مكان المفاوضات من دولة تشاد, وتمثل حادثة طرد الرئيس التشادي لقيادات الحركات المفاوضة من بلاده, بما فيهم ممثليهم في آلية مراقبة وقف النار, تطوراً خطيراً يستدعى المطالبة فوراً بنقل التفاوض إلى دولة أخرى محايدة مثل جنيف مثلاً.
(5) إذا تعذر نقل المفاوضات من إنجمينا يجب مطالبة الوسطاء بتحديد دور الرئيس التشادى فى عملية التفاوض وحدود إختصاصه ومدى تدخله فى التوفيق بين الطرفين وضرورة إفهامه بذلك.
(6) طالما إنَّه لا يجب الركون على الحكومة السودانية فى الوفاء بأى من إلتزاماتها فى أى إتفاق إلاَّ أنَّها يجب أن تعلم بعدم قدرتها على فرض أى نوع من سياساتها الخاصة على أبناء دارفور من الآن فصاعداً, ولعلَّها بممارساتها البشعة خلال الفترة الماضية تكون قد أحرقت كل جسور الثقة بينها وبينهم, وأدى ذلك إلى بروز جيل جديد خرج من تحت أنقاض القنابل ونيران القرى المحروقة وهم مصممون على الوقوف بجانب أهاليهم, ولذلك يجب عليها أن تكون جادة فى حل المشكلة بالتفاوض المخلص والحوار البناء.
ختام:
نود أخيراً أن نشير إلى جملة من المطالبات يجب إستحقاقها قبل الشروع فى أى مفاوضات جادة, نجملها فى الآتى:
(1) وضع بروتوكول محكم لتوصيل المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين, فما زالت حوادث القتل والحرق تترى من الإقليم آخرها الهجوم الذى شنته مليشيات الجنجويد مساء أمس الأول على قرية "دونكي دريسة" الواقعة جنوب مدينة نيالا نتج عنه حرق عدد من المنازل بالقرية ونهب أعداد من المواشي وسقوط تسعة من الضحايا بينهم رجل شرطة (الصحافة 18/4/2004م). وقد قالت وزارة الخارجية الأميركية أيضا أنَّها لا تزال تتلقى معلومات غير مؤكدة حول هجمات تنسب إلى ميليشيات تدعمها السلطة ضد مدنيين في دارفور, في ما يعتبر خرقا لإتفاق وقف إطلاق النار المبرم في الثامن من أبريل, وأعلن المتحدث بإسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر "إنَّنا قلقون من أنَّ الحكومة السودانية لم تتدخل لتطبيع الوضع في دارفور وتستمر في عدم تسهيل وصول الفرق الإنسانية". وأضاف "أنَّه أمر غير مقبول", وتابع باوتشر يقول "ندعو الحكومة السودانية إلى منح تأشيرات فورية لفريقين تابعين للأمم المتحدة يحققان في الوضع في دارفور وللعاملين في الحقللإلانساني في دارفور" (البيان 18/4/2004م).
(2) تشكيل هيئة لوقف ومراقبة وقف إطلاق النار من كل مكونات المجتمع الدولى, خاصة الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبى, وليس من بعض الأفراد من الإتحاد الأفريقى فقط كما تشتهى الحكومة.
(3) تشكيل آلية قانونية عسكرية دولية للتحقق من جرائم الحرب وتحديد المتورطين وتقديمهم للمحاسبة القانونية الدولية. ........................................................................................
| |
|
|
|
|
|
|