دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
حياة محسن خالد السرية ... بقراءة سورية
|
الحياة السرّية للأشياء رواية "محسن خالد" جمال ملحم
في مقدمة بيانهما الشهير نجد ماركس وإنجلز يستشهدان بقول الشاعر الألماني العظيم "غوتة": "شجرة النظريّة جافّة، وشجرة الحياة خضراء دائماً". وفي هذا القول نجد بياناً واضحاً يَنْعَى الأيديولوجيا مهما امتدّ بها العمر. رواية "الحياة السرّية للأشياء" تكشف بوضوح عن خلفيّةٍ لا تخلو من كُرّيات وأنزيمات أوفورمولات أيديولوجية، إذا صحّ لنا استعارة هذه المفردات العلميّة لها. لكنّها في سلوك شخوصها، وتفاعل الأحداث، ومعطياتِها تؤكّد الانتماء إلى الحياة وخصوبتها، وتُلقي جانباً بالرؤى الضيّقة التي طالما تفنَّنَ في تزويقها ونَحْتِها المؤدلجون. هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى تتعلّق بالجانب الفنّي الصِّرْف نجد إنّها لجرأةٌ، وجرأةٌ بالغة أن يقوم روائيّ –وخصوصاً أنّه شابّ- باختيار بيئةٍ بعيدة عنه، مكاناً وزماناً وشخوصاً، ليكوِّن من هذا العالم وحيثيّاته روايةً فنّية كاملة. "الحياة السرّية للأشياء" هي الرواية الثانية للروائي السوداني "محسن خالد" بعد روايته الأولى "إحداثيات الإنسان"؛ وفيها يقوم بالانتقال، فكراً ومخيّلةً إلى أمريكا، وتحديداً إلى "سان دييغو" في حوض المسيسبّي الشهير، الذي شهد تاريخه الماضي القريب صراعاً إنسانيا دموياً وضارياً، ومأساوياً ومرعباً بامتياز. أبدعته عنصريّة الأبيض المتفوّق تجاه أخيه الإنسان الأسود، والملوَّن المستضعف، الذي كان ذنبه الوحيد ذلك اللون الذي منحتْهُ إياه شمس العدم القاسية؛ ليتلقّاه شقيقُه الآخر على أنّه وليمة شواءٍ أنضجتها له الآلهه المتنعّمة في عليائها النورانيّ الباهر. إذاً فإنّ اختيار البيئة المكانية للرواية ليس بريئاً ولا محايداً، ولهذا فإنني أجد أن المتلقّي سيظلم الرواية كثيراً إذا ما اعتبر أنّ عالمَها واقعيّ تماماً كما تُوحي به الرواية نفسها، وراح ليلتقط الرموز المنبثّة في هذا الواقع؛ في حين أجد الرواية بكليتها هي رموز وأفكار ورؤى، عمَدَ إليها الروائي، وكساها لُبُوسَ الحياة، وأديم الواقع الحيّ، ونسجها عبر أسلوبٍ لغوي هو مزيج من نسيج الحاضر وأناقة الكلاسيك، وبخطابٍ عولمي –من العولمة- بمعنى أنّه خطاب لا يحمل سمات مجتمع معيّن، ولا يختص بشعب أو قوم أو إثنية، وإنما هو لكلّ أولئك مجتمعين. وإذا كان كلُّ ذلك امتيازاً للرواية؛ فإنه امتياز يجعل من قراءتها أمراً ليس سهلاً، وهذا ما يؤثر كثيراً على متعةِ القراءة، ويجعل بلوغها أمراً يحتاج إلى جهدٍ وتأنٍّ. مجموعة "أطلنتس" فرقة شبابٍ موسيقية، أفرادُها ذوو أصول شيوعية أو ماركسيّة، ولكنها لا تمثل في الرواية أيديولوجيا معينة، أو تعبّر عن فكرٍ أو منهج معين. إنها تمثل تطلعا جديداً ومنفتحاً إلى الحياة، ويرتبط أفرادها بصداقات حميمة مع أشخاص ليست لهم ذات الأصول الفكرية السابقة، أو النهج الرؤيويّ الذي ينتمون إليه. كالبورجوازي المُهذَّب "برودواي" ومثله "لورا" وكذلك الشابة "جولي" وحبيبها "فوكنر" المحارب في فيتنام، فضلاً عن علاقتهم المشاكسة مع "جورج" صاحب السوبرماركت. انتهاء بعلاقات أقل قرباً كعلاقتهم بالعمّ "جيمس" و"كاترين" أو بالشريف والضابط "آرثر" وهما يصلحان أن يكونا رمزَيْن مفارقين. لكنَّ ما هو بيّن لا لبس فيه؛ هو أن تلك العلاقات بين هذه الأطراف المختلفة ليس فيها شيء من الصدام التناحريّ، الجذري، أو الصراع العميق بهذا المعنى، بل هي علاقات تكامل، وإن تباينت فيما بينها، وذلك تبعاً للخصوصيّة الشخصيّة لدى كل واحد منها. و"أطلنتس" بين هذا المجموع لا تتميز إلا بكونها تمثل رؤيا حديثة للحياة، أو لنقل رؤيا خاصة تعبر عنها من خلال موسيقاها، وهي رؤية لها طابع إنساني مشترك متمخض من تفاعل الوجود البشري بمختلف إثنياته وعقائده وأطيافه الفكريّة، يتجلى ذلك من خلال الأسماء ذات الدلالات المعبّرة التي انتقاها المؤلّف لشخوص المجموعة "أطلنتس": "شادي" الاسم العربي المتحدر من عائلة أندلسية، و"ماكلين" الاسم الشائع جداً لدى الزنوج، وهو في الرواية زنجيّ بطبيعة الحال، و"كارولين" الأمريكية، و"هكتور" سليل الأبيض الجديد، و"رونالد" الاسم الإنجليزي العريق، ومثله "روبرت". ولعلّ المعبّر الأكبر عن التنوع هو تلك العبارات ذات الدلالات الواضحة التي تتخلل حواراتهم، كقول أحدهم: "بحقّ المسيح" وآخر يتحدث مع والدته فيرد تعبير "صلة الرحم" أو "المرحوم فوكنر"، وهناك صيحات "هورا هورا" وهذه العبارات تُحيل إلى خلفية مسيحية وإسلاميّة، وإيقاعات نابعة من الغابة الإفريقية. ولعل اختيار الراوي اسم "أطلنتس" لمجموعة الفرقة الموسيقية هو بحد ذاته إشارة إلى أنها ترمز إلى حلم مفقود، أو "يوتوبيا" ضائعة يريد بعثها، أو إحياءَها من جديد. "في لحظة ما... أكتشف وجودي بين الناس أفيق وألمح ما أمامي من حياة أُقَبّلهم كأني عدت من سفر أشعر بالكون هائلاً وقابلاً لكل شيء أفاجأ بقلبي في موضعه، ومكتمل العاطفة ومذاق قُبلة ما فارقت شفاهي وفمي قُبلة لا تزال بدوخة لحظتها فأمور الحب وحدها، ما لا يصيبها التعفن"، ص145. وجعله لـ"أمريكا" مسرحاً للأحداث ليس لكونها الرمز الأكبر للإمبريالية، والقوة العظمى المهيمنة وحسب؛ بل لأنها تمثل أيضاً العالم الجديد الذي ليس له هوية تاريخية عريقة، أو إرث حضاري عميق يوجه أو يؤثر في مسار طاقته المنبثقة والفاعلة في هذا الوجود، ولأنّ أمريكا حقل جديد، ومجتمع له ميكانيزمه الخاص الذي يتسع لاحتضان كل ما يخدم طفرته الجديدة والمستمرة بزخم وقوّةٍ هائلَيْن. "أمريكا" إذن رمز حديث وخصب، لكنه في الوقت نفسه يحمل آثار دماءٍ دلالة على الجانب الوحشي والضاري فيه. وفي هذا الحقل نفسه "أطلنتس" رمز حديث وخصب أيضاً، لكنه يتميز بأنه يحمل الفكر والموسيقا كأداة إنسانية راقية لبعث الحياة وتجديدها. وقد نجح "محسن خالد" في جعل الصراع بين هذين الرمزين صراعاً غير ذلك الصراع الأيديولوجي المبتذل، والذي ساد عقوداً طويلة، جارحة ومأساوية، من قرننا العشرين المنصرم، هذا وبالرغم من الجرأة الواضحة لديه في إظهار الخلفية الفكرية الماركسيّة لأطلنتس، إذ جعل من الموسيقا القوة المخصّبة للحياة، لتمنح ثمارها الجديدة، أو مواسمها القادمة، بدلاً من تخصيب الموت والفناء عبر أسلحة الدمار، وآلاته الجبّارة. ففي قلب أمريكا "وجار الذئاب"، كما يسميها الراوي، تنمو شجرة "أطلنتس". وعلى أصولها تنبت فروع أخرى صديقة تمثل الجانب الإنساني الجميل الموجود في الحقل الآخر المغاير، كالبورجوازي المهذَّب "برودواي" وحتى "الشريف" والضابط "آرثر" وهما رمزان للسلطة والنظام المغاير نجدهما يبكيان على مقتل "روبرت" الذي سرق معلبات الطعام من بيت البورجوازي البدين في الليل، الذي أطلق عليه النار بفعل الخوف، لا بدافع القتل. "هنالك رجل يموت قريباً من الحياة، وآخر يموت قريباً من هروبه الدائم من الموت، الناس لا تُتقن مسألة الموت هذه"، ص88. "إنه روبرت، الذي كأي دابة ترعى كان يرعى ولا يُخطّط لرزقه، الشخص من أمثال روبرت حين يموت لا يُعتبر مبدعاً، فقط يُكرّر طالعَه"، ص 98. والرواية هنا لا توجه الاتهام لأحد، أو لطرف، لاعلانية ولا خفية، وإلا كيف نتلقى الدلالة الجميلة لتلك الحركة الرائعة التي قام بها الضابط "آرثر" والذي لم يكن من المحبين أو المتحمسين لتلك الفرقة –في العلن، إذ قام بشراء جيتار عظيم، ودفنه مع روبرت، كتعبير واضح عن رفضه لمنطق القتل والموت. وهذا ما تقوله الرواية بوضوح في الصفحة "89". "الحياة أصلاً خطرة". وإذ يدرك الصيف شجرة أطلنتس، فيبدّد خضرتها، وتذوي فروعها، ويغادرها هكتور، وجولي، وشادي، ويتبعثر الآخرون كرونالد وماكلين، ونحسب أنها النهاية المؤسية؛ نجد الفرقة تعود بعد فترة معيّنة، ويلتم شملها من جديد، وبشكل مقنع وجميل ضمن منطقية سياق الأحداث، فكأنما عاد ربيع الحياة يخضر ويبعث ما حسبناه قد مات وانتهى. إنه انتصار للحياة عبر معطيات متجدّدة، بمعنى أنها ليست عودة رومانسية ساذجة، واجترار لما كان، بل هو بعث وانتصار لا يخلوان من دفع ضريبة ما، فالمدينة نسيت هكتور وروبرت، إذ لم يعد الأوّل إلا في النهاية. "لم يفتقد سكان المدينة هكتور، ولم يتذكر روبرت أحد. فالمجموعة قد أدَّت أعمالها بشكل تام ويخلو من الثغرات. أي أن اختفاء هكتور وروبرت ليس بشأن فني. أو هذه هي الحياة في صورتها القاسية ولكن الطبيعية. وهذا هو السبب نفسه الذي يجعلنا نرجع إلى بيوتنا بعد زيارة قبور الأقارب مع ذلك التأثُّر المهيب للموت، ولا نلبث قليلاً حتى نقوم بلعن طعم الصلصة في طعام الغداء"، ص148. أما كارولين فقد عادت ومعها طفل هو ثمرة زواج فاشل، مع ألمها وحزنها، ليصفها رونالد بأنها أصبحت: "تعيش كالدودة، تدخل التراب من طرفها هذا، وتخرجه من طرفها الآخر"، ص137. في حين عاد ماكلين ومعه رفيق جديد هو العازف "هيوستن" الملقّب بـ"الأدميرال". وهذا ينفحنا بأنّ الحياة تأخذ وتبعثر وتبدّد وتُفْني، ولكنها أيضاً تجمع وتمنح وتجدد وتحيي. الحياة، أو بمعنى آخر نهر الزمان المستمر جمع من الناس قدرات وطاقات فأنتج آلات الحرب، وأسلحة الدمار، وقوى الاحتكار والعنصرية والفاشية، والتعصب والتطرف والإرهاب والقتل، وذلك هو الجانب الوحشي من حضارة الإنسان: "حين تنتشر أوهام العدو هذه، ويمتلك أي شخص بندقية تصبح الحياة خطرة" ص "89". لكننا في الجانب الآخر من هذه الحضارة التي شيّأت الإنسان، وسلّعته وقتلته؛ نجد قدرات وطاقات أخرى قد أنتجت "أطلنتس" والموسيقا والروح الباحثة عن السلام والحبّ والصداقة، وتلقائيّة الحياة الجميلة والمفتقدة على مستوى مجتمعات وأمم. من هنا نحس أن الرواية أمطرتنا بمفردات حياتية يوميّة وعارضة ومؤقتة، وكذلك بمفردات حياتية أبديّة وخالدة. والجميل والقبيح هنا وهناك في كلا النمطين من المفردات مثل: "الحبّ – الحزن – البراءة – المزاح – الشهوة – اللهو – البطولة – العنف – التطرّف – البهجة – التلقائية – المناكفة – البذاءة – المبهمات الدافئة المركّبة – تنازع الأجيال والأذواق – الحياء – الجمهور – السُّلطة – الموت – الموسيقا...". هذه المفردات وغيرها هي لصيقة جداً بذات الإنسان. وعندما تقول الرواية إن الإنسان سيرة ذاتية، فإنها تحمّله كامل المسؤولية، لكنّ: "آلات الموسيقا سرُّها اللحن، أو أكثر من سيرة ذاتية عكس الإنسان" ص "77" ولأن الرواية لا تمنحنا رؤية مثالية، أو تلقي في روعنا رومانسية ساذجة، فهي تشافهنا بعبارة فلسفيّة هامّة في الصفحات الأخيرة منها: "الحياة السرية للشمس تخرج من حيِّز عطاء للدخول في حيز عطاء آخر. ليس ثمّة ضياء لا ينطوي على حياةٍ سرّية مجهولة وقاسية" ص "160" والرواية تُنقِّب وتتوغّل في العميق من ذواتنا ورؤانا، ومفرداتِ الحياةِ والكون لتجلي لنا هذه الجوانب الحية والخفية، القاسية منها والجميلة، حتى نقرأ في واقعنا المعيش عميقاً وجيداً، ومن هنا أحسب جاءت تسمية الرواية. وبالعودة إلى الرمز الرئيس "أطلنتس" فإن المعبر الأبرز عن واقعية هذا الرمز بل منتهى الواقعية هو جعل انتصارها ليس بطولة مجردة، أو فكراً أو شعاراً؛ بل هو انفتاح أبواب "هوليود" لها للعمل. بقيت هناك نقطة فنية ليست في صالح الرواية، ولا تخدم متعة القراءة الروائية، وهي متعة صعبة في هذه الرواية كما أشرت من قبل. وهذه النقطة تتمثل في الحوارات التي اتسمت بالكثير من اصطناع الإجابات الذكية والحذقة والبليغة جداً، حتى شملت كل شخوصها فأكسبتهم أبعاداً نمطية ومتشابهة. في حين أن الحياة تنفحُنا بألوانٍ متنوعة من الذكاء، وبضروب مختلفة من الحذاقة، وبأنواع متباينة من شخصيات تتحلى بروح النكتة وحس الدعابة والفكاهة، ولكن لكل واحدة منها أسلوبها الخاص وطعمها المميز؛ في حين نجد شخوص الرواية هنا يتكلمون جميعاً بمستوى واحد من الذكاء وأسلوب السخرية، والبذاءة الحذِقة والمميزة، ومهما كان المستوى الثقافي والاجتماعي الذي ينتظمهم واحداً، والذكاء الذي يتميزون به متقارباً، فإن هذا لن يشفع لهم فنّياً لدى المتلقي. لأنّ ذلك جعل مستوى خطابهم خالياً من التباين والإثارة وغدا بالتالي خالياً من البصمة الشخصيّة التي تميز كل فرد عن الآخر. وهذا يجعلنا كمتلقين، لا نعود نميز بين الشخصيات أثناء حوارها إلا من خلال أسمائهم، وفي هذا – على ما نحسب- خطرٌ فني كبير. لكننا في النهاية نجد في رواية "الحياة السرية للأشياء" أنها تحمل ملامح جديدة وهامة، جريئة وواعدة في روايتنا العربية اليوم، يجب أن يتنبّه النقد لها عند هذا الروائي السوداني الشاب والموهوب بحق "محسن خالد".
جمال ملحم: شاعر وناقد سوري
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: حياة محسن خالد السرية ... بقراءة سورية (Re: خالد أحمد عمر)
|
أخي بدري الياس رجاء أن تجذب هذا الكاتب المجذوب لهذه الساحة فهو سيكون أضافة حقيقة لها رجاء آخر ..أن ترفع بوست كلب السجان ( كيف ..؟ لا أدري !! ) أو تنزله هنا من جديد .. فهو ما زال طازجا وصالح للتناول وحرام وضعه في الرف وحفظه في الأرشيف والبورد جائع لمثل قلمك الفتي ونقدك الأدبي الرائع للكتابة ولمحسن خالد.. مع تحياتي وأمنياتي بعام سعيد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حياة محسن خالد السرية ... بقراءة سورية (Re: خالد أحمد عمر)
|
الأخ عاطف أحمد عمر دائماً اجدك ..ودائماً يسعدني وجودك .. فشكراً لك اخي شكرااااااااااااان لكل الجمال الذي تصنعه .. حقيقة هذا الولد كتاب .. كتاب بجد .. يكتب بجنون لا يشبه أحداً أبداً وأكيد ستقرأ له ..وكثيراً وأتمنى معك ايضاً أن يلتفت النقاد السودانيون - إن وجدوا - لما يكتبه الشباب جميعاً .. هذه الكتابات الفالته والمتمردة ..كاصحابها الصاخبون في هدوء يحير حجر الكلمات .. الموجدون براحهم في كل ضيق. مرة أخرى : ما يجي يوم شكرك
| |
|
|
|
|
|
|
|