|
فِى مَأْزَقُ الهُجْنَةِ والاسْتِعْرابْ! ; كمال الجزولي
|
فِى مَأْزَقُ الهُجْنَةِ والاسْتِعْرابْ! كمال الجزولى [email protected] حقَّ لنا ، نحن المستعربين والمسلمين السودانيين ، بالأخص ، وأيدينا فى النار ، دَعْ غيرنا ، أن نتساءل عن جدوى الزيارات التى قام بها مؤخراً للخرطوم عدد من الوفود العربية والاسلاميَّة ، كان آخرها وفد من (علماء الأمة) ، بقيادة الشيخ القرضاوى ، وصف أزمة دارفور بأنها محض (فتنة) دبَّرها أعداء الاسلام والمسلمين! وصبَّ جام شكوكه على الاغاثات كونها تأتى من الغرب بالأساس! ثم دعا الاطراف إلى مؤتمر لحل المشكلة فى مكة المكرَّمة ، قبل أن يحزم حقائبه ويقفل راجعاً من حيث أتى! وفى الحقيقة لا تكاد تخلو صحيفة أو منبر سياسة أو منتدى ثقافة فى السودان ، هذه الأيام ، وربما بمناسبة انعقاد مجلس الجامعة العربية المشمولة أجندته بقضية دارفور ، من غمز أحياناً، أو نقد مستقيم أحياناً أخرى ، للعجز المزرى الذى ما انفكَّ يتبدَّى من جهة العالمين العربى والاسلامى بإزاء هذه القضية ، حيث أضحت تتنامى لدى بعضنا ، فى أسوأ الاحتمالات ، نزعة اليأس المرير من أدنى رجاء يُرتجى فى تلك الوشائج أصلاً ، على حين ما ينفكُّ بعضنا الآخر يستبطن ، فى أفضل الحالات ، ضرورة المراجعة النقدية لمحتواها جذرياً! ولئن كانت الأولى عدميَّة ، بطبيعتها ، دون أن يشكل ذلك مُبرِّراً لتجاهلها أو تسفيهها ، فإن الأخرى أميَل للعقلانية ، فى رأينا ، وأجدر ، لهذا السبب ، بالاعتبار والحوار. فهى ، على الأقل ، تحاول أن تتلمَّس العوامل الباكرة التى أدت ، فى ملابسات نمطٍ تاريخىٍّ محدَّد من التطور الاقتصادى ، إلى بروز هذا النهج الاستتباعى السافر للثقافة العربيَّة الاسلاميَّة فى بلادنا ، ومن ثمَّ نشوء الحجاب الكثيف فى الوعى الاجتماعى العام بين العنصرين المستعرب وغير المستعرب ، المسلم وغير المسلم ، منذ ممالك الفونج والفور وتقلى وغيرها ، مروراً بتعميم النموذج مع الحكم التركى المصرى ما بين 1820 ـ 1885م (محمد المكى ابراهيم ، 1969م ـ أبكر آدم اسماعيل ، 1999م) ، وانتهاءً بمرحلة الحكم الوطنى بعد الاستقلال فى 1956م ، وحتى الآن. فى هذا الاتجاه يكشف الكثير من الباحثين عن الوضعيَّة المقلوبة التى تنزع لتوهُّم (نقاء) العِرْق العربى وكذا اللغة والثقافة ، والتى استقبل بها مستعربو البلاد ، (الجلابة) منهم بالأخص ، صورة الوطن ومعنى الوطنيَّة والمواطنة ، بالمفارقة لحقائق الهُجنة التى ترتبت على خمسة قرون ـ بين التاسع والرابع عشر ـ من اختلاط الدماء العربية الوافدة بالدماء المحلية النوبية والبجاوية والزنجية ، وإن بشكل متفاوت. وتشهد سلاسل الأنساب وأشجارها ، وجُلها مختلق ، على مدى ما أهدر الجلابة من جهد ووقت وعاطفة فى (تنقية) أصولهم من العنصر المحلى ، وإرجاعها ، ليس فقط لأعرق الأنساب القرشيَّة فى الجزيرة العربيَّة ، بل وإلى بيت النبوَّة نفسه! وفى سعيهم لتفسير الظاهرة من منطلقات معرفيَّة مختلفة ، أحالها بعض هؤلاء الباحثين إلى مجرَّد الجهل (يوسف فضل ، 1975م) ، بينما نسبها البعض الآخر إلى ما أسماه (أيديولوجيا الأصالة) ، مجترحاً مقاربتها من بوابة علم النفس الاكلينيكى ، بإحالتها إلى مجرد (عقدة نقص) مُزمنة تجاه الوضعيَّة التراتبيَّة لأصول المصادر فى الثقافة العربيَّة الاسلاميَّة (أبكر آدم اسماعيل ، 1999م). معرفياً حفرت حركة الاستعراب والتأسلم مجراها العميق فى بعض أجزاء البلاد ، خصوصاً على الشريط النيلىِّ من الشمال إلى الوسط ، وبالذات خلال القرون التى تلت صلح البقط عام 652م ، ثم انداحت ، من هنا ومن مسارات أخرى ، إلى بقية الأجزاء ، تؤثر وتتأثر. وأى تقدير سليم لهذه الحركة التاريخيَّة لا بد أن يقوم على النظر إليها كمصدر إثراءً مفترض ، ليس فقط للخارطة الاثنيَّة السودانيَّة ، بل وللثقافة العربيَّة الاسلاميَّة برمَّتها. فلا الهُجنة مطعن فى جدارة الانتماء لهذه الثقافة ، ولا الانتماء لهذه الثقافة يلغى شيئاً من خصائص هذه الهُجنة ، دَع أن يَحول دون الحوار السلمى مع غيرها من مكوِّنات المركب الفسيفسائىِّ الذى سوف يُطلق عليه مستقبلاً (الثقافة السودانيَّة) و(الأمَّة السودانيَّة)! غير أن التيار (السلطوى/التفكيكى) الذى ترعرع وسط كتلة الجلابة التاريخيَّة ، كما يترعرع الحنش الفاتك فى البرارى الخصيبة ، إنطلق يؤسِّس ، من فوق كل هذا التنوُّع الثرىِّ ، منظوره (الاستعلائىَّ) الخاص للبلاد التى لم تعُد ، من أقصاها إلى أقصاها ، غير كنف موطأ لامتيازه وحده ، وعلى مدى قرون طوال ، بالأرض والزرع والماشية والتجارة والعبيد ، وتبعاً لذلك بالعِرْق واللغة ونمط التديُّن والثقافة ، أما كلُّ ما (دون) ذلك فصقعٌ خلاء! ليست المشكلة ، إذن ، فى الاستيعاب المعرفىِّ لوقائع الهُجنة أو حقائق الثقافة ، بل ، على العكس من ذلك ، فى إنكارها أو تحاشيها ، أو تزييفها أيديولوجياً من جانب تيار الاستعلاء (السلطوى/التفكيكى) ، أو ما يُعرف فى الأنثروبولوجيا (بالمركزويَّة الاثنيَّة) التى تعكس نزعة الاحتقار وسوء التقدير داخل ثقافةٍ ما تجاه الثقافات الأخرى ، والسعى لتسويقها ، بهذه الكيفيَّة، فى الوعى الاجتماعى العام ، مقابل القصور التاريخى ـ الذى هو إلى الاستخذاء أقرب ـ فى ما يتصل بتمام التأهُّل لمنازلتها من جانب التيار (العقلانى/التوحيدى)! وقد لا تنتطح عنزان ، بالطبع ، على الدور القصدىِّ المباشر الذى لعبه الاستعمار البريطانى فى تكريس المشكلة ومفاقمتها. غير أن نقطة اختلافنا هى أنه لم (يخلقها) ، فلا معنى للتركيز على دوره وحده كما فى اجترارنا المتثائب لبعض المتداول غير المفكر فيه. بل إن بعض الكتاب لا يُخفون الآن ميلهم الصريح للمطابقة بين الاستعمار وبين مركز المستعربين الثقافى الاجتماعى المتبوع ، فى ما يتصل بالمنافسـة على الهامش الثقافى الاجتماعى المستتبع (المصدر نفسه). فليس الاستعمار ، على أيَّة حال ، مَن غرس هذا الاستعلاء الجهير فى حمولة الوعى الاجتماعى للمستعربين من (حِكَم) شعبيَّة وصياغات لغويَّة "تشكل حاجزاً نفسياً بين أهل السودان .. أمثال: جنس عبد مِنُّو الخير جَبد ـ عبداً تكفتو بلا غبينة ـ سجم الحلة الدليلها عجمى وفصيحها رطان ـ الهملة السـوَّت العبد فكى .. الخ" (الصادق المهدى ، 2004م). من هنا وجب النظر للمشكلة ، فى تجلياتها المعاصرة ، من زاوية الدور الذى لعبته إنتلجينسيا الجماعة المستعربة المسلمة (الجلابة) ، ونخبها المختلفة مدنياً وعسكرياً ، فى التصدِّى لقيادة الحركة السياسية الشمالية منذ فجر الحركة الوطنيَّة. لقد اشتغلت هذه النخب على ذات الخلفية الفكرية التى بلورت مقدمات الأزمة قبل الاستقلال فى الاتجاهات والميول الغالبة على فكر وثقافة المستعربين المسلمين ، وعلى الحركة الوطنيَّة عموماً ، ووسط إنتلجينسيا (الجلابة) بالأخص. فعلى سبيل المثال كرَّس الشيخ عبد الله عبد الرحمن الأمين عام 1921م كتابه (العربية فى السودان) لإثبات (نقاء) اللسان العربى فى السودان (كلِّه)! وفى ذات الاتجاه انطلقت الحركة الشعريَّة ، والتى كانت تمثل وقتها صورة الفكر الرئيسة ، تستلهم أمجاد العرب التالدة من على منابر الموالد وفعاليات الخريجين والمناسبات الدينيَّة والاجتماعيَّة المختلفة. ولعل المفارقة تتجلى هنا كأوضح ما تكون فى أنه ، وعلى حين كان على عبد اللطيف ، نوباوىُّ الأب دينكاوىُّ الأم ، يتزعم الحركة الوطنية فى عقابيل الحرب الأولى ، كان شاعرها الأكبر خليل فرح ، نوبىُّ الأصل ، ينشد ممجداً الثوار الوطنيين بأنهم: أبناءُ يعرُب حيثُ مجدُ ربيعةٍ وبنو الجزيرةِ حيثُ مجدُ إيادِ! ثم جاء محمد احمد محجوب عام 1941م ، وكان من أبرز مثقفى تلك الحقبة قبل أن يصبح من أميز قادة الفكر السياسي فى حزب الأمة ، وأحد الزعماء المرموقين الذين تقلدوا الوزارة فى ما بعد ، ليحدِّد شروط المثل الأعلى للحركة الفكريَّة "فى هذه البلاد" ، على حدِّ تعبيره ، بأن ".. تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، وأن تكون ذات مظهر عربىٍّ فى تعبيرها اللغوى ، وأن تستلهم التاريخ القديم والحديث لأهل هذه البلاد وتقاليد شعبها. هكذا يمكننا أن نخلق أدباً (قومياً) ، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد الى حركة سياسيَّة تفضى الى الاستقلال السياسى والاجتماعى والثقافى" (ضمن: أسامة ع. النور ، موقع أركمانى على الشبكة). ومن نافلة القول بالطبع أن المحجوب لم يكن يرى فى كلِّ البلاد ، بكلِّ ثرائها الاثنى والثقافى والدينى واللغوى المتنوِّع ، سوى تاريخ وثقافة ودين ولغة المستعربين المسلمين وحدهم! واستطراداً ، فإن عودة الإمام الصادق المهدى ، رئيس حزب الأمة ، بعد ما يربو على نصف القرن ، لينتقد ما أسماه (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السياسيَّة الشعبيَّة التى حكمت السودان بعد الاستقلال مما أدى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة (مصدر سابق) ، تكتسى ، بلا شك ، دلالة وأهميَّة مخصوصتين فى هذا السياق. مهما يكن من شئ ، فإن الجماعة العربيَّة الاسلاميَّة الكبرى فى المنطقة لم تقصِّر ، إلى ذلك ، فى رفد هذه الأزمة الفكريَّة بتفسيراتها الأحاديَّة لمعوِّقات الوحدة الوطنيَّة فى بلادنا ، حيث عكفت على تصويرها كمجرَََّّّد "حواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزى مصطفى ، 1972م) ، أى كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الاثنيات الافريقيَّة السودانيَّة بحركة الاستعراب والتأسلم! بالنتيجة ، وبإزاء عدم تأهُّـل تلك النخب لمجابهة مصاعب البناء الوطنى بعد الاستقلال السياسى ، وبفعل الدفع المعنوىِّ الهائل من الجامعة العربيَّة والمنظمات الاسلاميَّة التى انتمى إليها السودان أوان ذاك ضربة لازب ، والتى أناطت به مهمة (الجسر) الناقل للاسلام والثقافة العربيَّة إلى الأفارقة جهاداً على مبدأ الغلبة ، بل وتريد أن تنصِّب خرطومه عاصمة للثقافة (العربيَّة!) ، دونما استشعار لأدنى حساسيَّة واجبة فى هذه الأيام بالذات ، جرى إفراغ معظم تلك التصوُّرات فى سياسات الدولة الوطنيَّة الوليدة ، وفى برامجها الرسميَّة للتعريب القسرىِّ والأسلمة القهريَّة. ولأن الجامعة العربية كانت ، ومنذ بواكير يفاعتها ، قد انعجنت وانخبزت بحليب (العروبة) و(القوميَّة العربيَّة) و(الوحدة العربيَّة) واندياحاتها فى سائر أقطار المنطقة ، فإن نخب المستعربين التى توارثت الحكم عن الاستعمار فى بلادنا ما لبثت أن انغلقت على تلك الاستلهامات ، جاعلة منها ، بضيق أفقها الغالب ، (الممكن) التاريخى الوحيد لحلِّ مشكلة (الوحدة السودانيَّة). غير أن المردود العكسىَّ الفاجع لتلك الخطة البئيسة ، ضغثاً على إبالة المظالم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الأخرى ، سرعان ما وقع لدى الذهن (الآخر) غير المستعرب أو غير المسلم كمحض تمظهرات استعلائيَّة فجَّة ، واستقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة ، وترميزات ناجزة بنفسها للتيئيس من هذه (الوحدة) وحفز الميل (للانفصال) ، وسبحان من يقنعها بغير ذلك ، مِمَّا أورثنا هذا الحريق المأساوىَّ الشامل فى الجنوب ودارفور وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق وغيرها من أصقاع ما أصبح يعرف لاحقاً (بالهامش). لذلك كله فإن ألزم ما يلزمنا بإزاء التحديات المستقبليَّة فى بلادنا ".. أن نعترف ، نحن العرب المسلمين ، أن ثقافتنا مارست استعلاءً ثقافياً على الآخرين (وأنْ نعى أنَّ) الاستعلاء الثقافى فى أوحش صوره بضاعة غربيَّة ، وقد مارسته كلُّ الثقافات المركزيَّة فى عالم الأمس ، لكن الانسانيَّة أدركت مضاره وبدأ مشوار الاستقامة والعدالة" (الصادق المهدى ، 2004م). بل ويتوجَّب علينا ، أبعد من هذا ، أن نتجاوز محض (الاعتراف) إلى "النفاذ القوى برقائق الروح وسهر الثقافة إلى خبايا الاستضعاف المؤسسى ، الاجتماعى والتاريخى ، لأقوام الهامش السودانى .. فبغير (ذلك) .. لا ينفذ الشمالىُّ المدجج بامتيازاته التاريخيَّة إلى مشاهدة قبح نفسه فى مرايا تلك الامتيازات الظالمة" (عبد الله على ابراهيم ، 2004م). إن أجزاء أخرى من العالم العربى تعانى بلا شكٍّ من هذه المشكلة أيضاً ، كما فى العراق وشمال أفريقيا مثلاً ، مِمَّا بات يشكل ، بما لا يُقاس ، مهدِّداً أعظم أثراً من المهدِّد الأجنبىِّ ، وأكبر خطراً! فقد تأسَّس الفكر (القومى العربى) بمختلف أطروحاته ، سواء عند البعثيين أو الناصريين أو القوميين السوريين أو الكتابأخضريين الليبيين أو خلافهم ، علي فكرة أساسيَّة واحدة مفادها أن (العرب) في شتي أقطارهم ، مشرقاً ومغرباً ، يشكلون أمة (واحدة) هي الأمة (العربيَّة) التى ينبغى توحيدها فى دولة قوميَّة (واحدة) تعيد لها أمجادها التاريخيَّة ورسالتها الخالدة. لقد أوقعت هذه التهاويل ُالفكرَ القومىَّ فى شبهة العنصريَّة المعاديَّة للتكوينات القوميَّة المغايرة في بعض بلداننا ، ومن بينها السودان ، إلى حدِّ الانخراط في حرب أهلية طويلة بهدف حرمان هذه التكوينات من حقوقها ضمن وحدة الأقطار التي تنتمى اليها (كريم مروة ، 2003م). ولعل هذا ، بالتحديد ، هو ما حدا مؤخراً ببعض ذوى البصيرة والاستنارة من المفكرين والكتاب القوميين لأن يلتفتوا بجديَّة إلى هذا المأزق ، فأضحوا ينبِّهون إلى ضرورة إجراء المراجعات الواجبة ، واستصحاب الخاصِّيَّات (القطريَّة) فى التفكير القومى العربى الذى ما انفكَّ يتعاطى معها بشئ من الخفة ، إن لم نقل العداء ، بزعم أن (الأقليات) لا تختلف فى الرأى عن النهج القومىِّ العام (إيليا حريق ، 1996م). فما تلك ، فى واقع الأمر ، غير خطة (عنصريَّة) مبطنة ، وسواء جرى ترسيمها بوعى أم بدونه فإنها ما عادت تنطلى على أحد! هذه المراجعات هى بالضبط ما تحتاجه الآن الجامعة العربيَّة ، وتنظيمات العالم الاسلامى ، وسائر مؤسَّسات هذين الكيانين ، رسميَّة كانت أم شعبيَّة ، حيث يلزمها ، أكثر من أىِّ وقت مضى ، لجمُ مناهجها البالية ، والنأى بتقديراتها عن التبسيط الساذج لقضايانا ، وإبداء قدر أكبر من التفهُّم لمشكلاتنا فى تعقيدها ، والاحترام للفروق القائمة فى دولتنا القطريَّة ، ومساعدتها ، من ثمَّ ، على التكامل والازدهار من هذا الباب. فإذا كنا نريد فعلاً نصب (خيمة وطنيَّة) آمِنة ، تسَعُ قضيَّة الوحدة بقدر ما تسَعُ حركة المثاقفة الطبيعيَّة المسالمة بين مفردات منظومة التنوُّع السودانى ، بما فيها العروبة والاسلام ، على قدم العدل بالتأكيد ، والمساواة من كلِّ بُد ، فإن على هذه المؤسَّسات أن تكف ، وفوراً ، عن الاستمرار فى تبنى نفس الخيبات القديمة ، ودعم ذات الخطوط الفكريَّة والسياسيَّة الكاسدة للنخب الحاكمة باسم الجماعة المستعربة المسلمة ، وتوهُّم الواجب (المقدَّس!) ليس فى إدراك طبيعة المأزق الذى توحَّلنا فيه ، تاريخاً وجغرافيا ، وإنما فى محض التعرُّف الكسول على موقف (الإخوة) فى السودان لأجل نصرتهم (ظالمين أو مظلومين!) ، والدفع ، فى المحصلة النهائية ، باتجاه تلك الايديولوجيا القامِعة التى لا يُنتظر من ورائها سوى إعادة إنتاج نسخ متكرِّرة من الضغينة الاثنيَّة ، والحرب الأهليَّة ، والأسلحة المُشرعة فى وجه السلطة المركزيَّة، دورة من بعد دورة ، وحريقاً فى إثر حريق!
|
|
|
|
|
|