|
الراحلين عبد الخالق ورفيقه الشيوعي الشفيع حيث كانا يتقدمان الصفوف في المسجد
|
رمضان كريم!
بقلم: سليمان نزال*
للهوية طقوسها، مدفع الإفطار في الغربة صرخة كبيرة. رمضان مبارك، والمسحراتي الصغير ما زال يقرع على صفيح ذاكرته كي يوقظ النيام في حارة الجامع، ويصوم درجاته في الثامنه من عمره! وذاك صوم نصف النهار، كما كانت تقول جدتي المرحومة الخضراء.
والمشهد الآن الكئيب في حيرته يجتاح العالم العربي، فنحتفل بقدوم رمضان، نعد عدته، يستدين الكثيرون في الدول العربية والإسلامية كي يلبوا إحتياجات ومصاريف الشهر الكريم. وقد يستدين بعض الفقراء كي يتصدقوا على فقراء من أمثالهم لنيل بركة الصيام كاملة. بينما يضع أغنياء العرب وبعض المسؤولين والفنانين ألوان السخاء والأريحية والموائد العامرة بلذيذ الطعام على رفوف "الرحمة"، وما أن ينتهي السهر حتى يصوم السمان اللئام من كبار القوم! عن جليل الأعمال ويعودون إلى سيرتهم في النهب والرشوة والفساد والإستعلاء على وقع طبول العولمة التي تستعلي عليهم وتذلهم وترغمهم على البقاء في ذيل الأمم.
فما أصعب صوم المقهور في بلاده يقاوم أبشع أحتلال عرفه التاريخ؟ وكم هي قاسية حياة الناس في الوطن المحتل، يستشهدون ويجرحون ويعتقلون، ويتعرضون لمجازر ومذابح وإغتيالات وإجتياحات مستمرة، يتراكم العذاب فوق العذاب، حصار وضائقة عيش وتدمير منازل، وفساد في طوابق "النرجس" القيادي. ومع ذلك، يصومون، يتمسكون بهوبة الأرض والإنسان والقدس الشريف. عوائل نسفت بيوتها تمضي رمضان عند قريب قد يقصف بيته قريبا! معاناة دائمة لا تحيط بها كل لغات الدنيا.. وينتحر الكلام ولا يصف الفلسطيني في رحلة آلامه ونضاله وصبره وبطولاته المجيدة، وليس آخرها عملية نتساريم البطولية.
إقتربَ مني صديقٌ وقالَ: رمضان كريم: قلت الله أكرم..نظر إلى وجهي فألفاه شاحباً، فسألني أن كنت قد بدأت الصيام.. وقبل أن اتمكن من الإجابة، لاحظ خلو أصابعي من التبغ، فقال: أكيد صايم، غريبة! قلت: لماذا تستهجن الأمر؟ قال: ميولك يسارية في إطار قومي! وتصوم؟ قلت لماذا لا يصوم اليساريون والقوميون والوطنيون؟
إبتسمَ ليعلق؟ لا أناقشك في الهوية والميول، لكن مرادي أن آخذك إلى ضفة أخرى في هذا الطقس، أذكرُ ما أخبرتني به عن الراحلين عبد الخالق محجوب ورفيقه الشيوعي السوداني الشفيع، حيث كانا يتقدمان الصفوف في المسجد.أجبت: هكذا سمعت، أنا قصدت التمييز بين البعد الحضاري لفهم الموضوعات في حراكها وتطورها وملموسيتها، وذاك البعد الذي لا سقف له حيث الإنغلاق والتعصب وتكفير الآخرين لمجرد اختلاف وتباين الآراء والمنطلقات و..
قاطعني ليقول: أو لا تراها مناسبة لحمل الجسد على محفة الزهد والتأمل والقبض على فسحات في دنيا رسمها الحجاج والجنيد والنفري.. بفضاء التماهي الفريد؟
قلت متعجباً: تغيرت اللغة فينا، وتبدلت لهجة العتاب في سؤالك روحي ومصادرها أو تترمي إلى ما لا أرغب..أنا أقوم بواجبي فقط، وأربي ما تبقى له من أيام فوق هذه البسيطة على أتمام البسيط من المسائل والمهم منها، لأن العسير والشاق، لا يتاح لأمثالي المشردين.
-: أشفقت عليك من السياسة ولعبتها.. وحين تكتب خارج الحدود تربح خصوما بلا حدود.. فلماذا لا تجرب حظك في الكتابة عن اشياء تسلي الناس، وتخفف عنهم همومهم بمواضيع خفيفة أو تتزهد في سوريالية ما فوق حداثية؟
-: وهل تراني أحمل اداة تحليل تحت أبطي فلا أفهم ما أره مفهوماً عند فقراء ومهمشي هذه الأحوال العربية؟
-: نظرت إليك، رأيتك مرهقاً تطلب إجازة، فتخجل أن تذكرها.. كأن قشة تلقيها في كومة الكتابات والمقالات ستظهر زيادة في الكوم الكبير..
فتكابر على إستحياء..كأنك تقول: لم أهرب..لن أهرب.. وهنالك مقاومة للغزاة، أضعف أشكالها الكتابة والتصريحات..
قلت:- مقاومة المحتلين مقاومة في الشكل وفي المكان الذي يناسب ويخدم جوهر المسألة.. الصهاينة يقولون بيأس: "سنطارد أعداءنا في كل مكان" ونحن نقاتلهم عسكريا في المكان الذي اغتصبوه من شعبنا، ظلما وعدوانا.. أما الإنسحابات الذليلة "لشلة السلام" التي تروح على نفسها، في جنيف أو في أي منتجع أو فندق، فأنها لا تمثل شعبنا وصوته وإنتفاضته المباركة وفصائله المقاتلة. وكل كلمة غاضبة تعري زيف هذا التفريط وأباطيل خططه، تشكل الكتاب الكبير الذي يحمل عناوين لن نمل من أعادتها علىمسامع الدنيا، هي: حق العودة للوطن والممتلكات السليبة، أقامة الدولة المستقلة وعاصمتها الأبدية القدس الشريف، الحرية، الإستقلال والسيادة.. ودحر الإحتلال..
قال: قصدت التجديد.. رمضان فرصة لكتابة شيقة، لا تزعج أحداً.. جرب أن تطرق أبوابا جديدة.. إبحث عن الصوفي في آفاق التسامي، وإبتعد عن أوجاع الواقع، الذي لن يقف على قدميه.. مهما فعلنا وفعلوا!
قلت له: يكفي هذا، سذاجة أو تغييب، تسطيح أو ركض وراء رؤى كسيحة مثل تلك التي زعمها لنا الرئيس بوش، قبل أن يغرق في جحيم الرافدين وأهواله، فيشتكي من ضراوة المقاومة العراقية الباسلة قادته ويفر جنوده من سلاح "التحرير"..
دعني أكمل صيام هذا الشهر دون منغصات ومشاكل.. تأتيني من أقوال نصفها سديم والنصف الآخر لا يستقيم! تجربة الصوم تجعل الإنسان قليل الكلام.. فقد أكثرت عليّ فأكثرت.. صيام الغربة والشتات صعب أيضا.. بعيداً عن العائلة.. والجذور.. هنالك مسلسل يذاع في رمضان، أغضب الصهاينة، أسمه "الشتات"، أنصحك بمشاهدته، حتى لا تشاهدني في صورة لا احبها، فأخاصمك!
رمضان كريم، لشعبنا الفلسطيني المعطاء الكريم، للبواسل، للصامدين. لشعوبنا العربية والإسلامية.. التي تبحث عن مخرج لأزماتها وهمومها، بصورة كريمة.
*كاتب وشاعر فلسطيني يقيم في الدانمارك. http://www.amin.org/views/suliman_nazzal/2003/oct27.html
|
|
|
|
|
|