دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
من سميح القاسم إلى محمود درويش : يا محمود .. إحذر البرد والشرطة والتدخين !
|
رسائل الأدباء يا محمود .. إحذر البرد والشرطة والتدخين !
* أخي محمود
هو أضحى آخر فكل عام وانت بخير وكل يوم واضحياتنا بخير يد على حجر حجر على دم دم على دم كل يوم ونحن بأضحى وبغير ذلك لن يكون هناك أي خيرا كان في نيتي ان استذكر برد لندن في هذا النهار القائظ. إلا ان وسائل الاعلام النشطة لا تتيح لي مثل هذه المتعة قد لحّت تلحُّ اصراراً (مع الشكر لصديقنا عادل امام) على التذكير بما لا تروقنا ذكراه.. وانني لأنتفض غيظاً كلما استعدت شريط الاثارة البوليسية البريطاني اذا تريد منا السيدة الشمطاء بريطانيا بقبعتها السخيفة وعروق ساقيها الزرقاء النافرة لقد ضربنا صفحاً عن كل موبقات التاج الانكليزي في وطننا وبشاعات تاريخية المتقرحة على جلودنا نقلنا وجوهنا من سحنة المندوب السامي القذرة إلى وجوه اصدقائنا الانكليز الشرفاء فانيسا ريدغريف وكولن ولسون وارنولد ويسكر ورالف ستيدمان وجون هيث ستبز واضرابهم ممن شبوا على طرق الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وانطلقوا في أرض الحضارة الانسانية بشراً سويين بذلنا جهدنا الممكن للابتعاد عن بريطاني الاستعمارية التي طبختنا وفق قوانين الكوشير اليهودية وقدمتنا وجبة كاملة على مائدة الحركة الصهيونية.. ثم بذلنا جهدنا الممكن للاقتراب من كل ما هو انساني ومتحضر لدى الشعوب البريطانية.. بيد ان مصداقية دستويفسكي تطرح نفسها من جديد لتؤكد مرة أخرى ان المجرم يعود دائما الى مكان جريمته. وتعود الضحية الطريدة لتكون الشبح الطارد..أنذا أعود الى مقر اقامتي في فندق تشلسي لاصطحاب قصائد الى قاعة البلدية حيث ينتظرنا جمهورنا الحار والطيب أدنو من المصعد وكما في الأفلام الأمريكية الرخيصة يندفع نحوي ثلاثة رجال باللباس المدني يشهرون في وجهي بطاقات ما ويعلنون: أنت رهن الاعتقال!
- بأية تهمة؟
- ستعرف التفاصيل في مركز الشرطة.
- لكن جمهوراً كبيرا ينتظرني الآن ليسمع قصائدي ولابد من إعلامه بما يجري.
- نحن نعلم منظمي المهرجان.
- في الخارج تنتظرني سيارة يجب أن أخبر المضيفين بالأمر.
- نحن نفعل ذلك. تفضل.
وفي الخارج كانت سيارتان مدنيتان تنتظران قبالة مدخل الفندق. أما سيارة البي. ام. في التي تنتظرني فكانت بعيدة ولم اتمكن من الاتصال بها لأن رجال الشرطة الثلاثة كانوا يدفعوني برفق لا يرحم الى داخل سيارتهم الأولى حيث تجلس سيدة خلف المقود.
قلت: كيف لي أن أتأكد انكم حقا من الشرطة وانني لست مخطوفا من جهة ما؟ أبرز الضابط الجالس على الجهة اليسرى بطاقته مرة أخرى..
من السهل تزوير بطاقة في هذا الزمن المزور. قلت:
- ان كنتم تخطفونني من أجل المال فقد خاب رجاؤكم.. وان كان ذلك لأجل السياسة فلنتحدث في الأمر.
عاد الضابط القصير الممتقع ليقول انه لن يكلمني حتى مركز الشرطة. (علمت فيما بعد انه مركز بادنغتون لمكافحة الإرهاب.. والمخدرات).
- هل أستطيع التدخين؟
- لا. ستدخن في مركز الشرطة.
- حسناً. لماذا نسافر في غابة؟ هل مراكز شرطتكم في الغابات؟
- .......
آنذاك وفي قلب الغاب غمرني شعور رهيب باللامبالاة.. تملكني الهاجس بأنني مختطف لصالح جهة لا علاقة لها بالشرطة. وأقول لك يا محمود انني لا استطيع ادعاء البطولة تذكرت زوجتي واطفالي دفعة واحدة.. تزاحمت في مخيلتي وجوه كثيرة.. أقارب أصدقاء ناس من الناس ورأيت جثتي المثقوبة بالرصاص طافية على مياه التيمز الآسنة.
حين اندفعت السيارة الى مدخل احدى البنايات تيقنت أنني أمام مركز شرطة.
مراكز الشرطة متشابهة في كل العالم. ومن سخريات التاريخ لا القدر انني ابتسمت بهدوء: الحمد لله أنا فعلاً في يد الشرطة!!
قرأوا عليَّ »حقوقي« وقالوا انهم يصادرون على هذه الحقوق الى حين وصول ضابط التحقيق المسؤول. ثم طلبوا افراغ جيوبي من محتوياتها: الأوراق قلم الحبر. بعض النقود. مفكرة. علبة سجائر. قداحة ومسبحة.
قلت لنفسي: الشرطة هي الشرطة في كل مكان. وسألتهم:
- هل أستطيع التدخين الآن؟
- تفضل.
- هل لي بمنفضة؟
تبادلوا النظرات وقال أحدهم:
- أنت أول يطلب منفضة هنا لا منافض لدينا تستطيع ان تستعمل المصطبة.
عبأوا نموذجاً. ثم أخذوني الى الحجز الانفرادي في غرفة ضيقة مصفحة.
ليست زنزانة كتلك التي نألفها. انها اوسع قليلاً نظيفة. وفي ركنها مرحاض من النيروستا. وهناك اريكة بغطاء بلاستيكي وطاقة ضوء في منتصف السقف. لم يكونوا بحاجة الى الأصفاد كما يبدو لأن بابين حديدين يصطفقان الواحد تلو الآخر بعنجهية واثقة من نفسها.
خلعت حذائي وأسندت ظهري الى الجدار البارد في زاوية الغرفة. لم تكن لدي هناك أية أفكار خاصة انتظرت. فقط انتظرت ثم ناديت الحارس وطلبت شيئا للقراءة. قال: انتظر حتى يحضر الضابط المسؤول.
بعد دقائق جلجل البابان الحديديان واقتادوني الى غرفة أخرى. كان هناك رجل آخر باللباس المدني قال: سيدي انت متهم بالإرهاب. ونريد بصمات أصابعك ويديك وصورتين أمامية وجانبية .
لم يضع وقتاً وباشر العمل قلت: نحن لسنا إرهابيين. نحن ضحايا الإرهاب هل تعرف كوميديا الأخطاء لشكسبير انكم تؤلفون الآن تراجيديا الأخطاء. تبحثون عن الإرهاب في الاتجاه المعاكس.
قال: هل أنت قلق.
قلت: قلق على جمهوري فقط
طلب توقيعي على لوحة البصمات.
قلت: انه عمل تشكيلي رائع. وبهذا التوقيع تستطيعون بيعه بسعر عال جداً.
هل استطيع الحصول على نسخة؟
دخل شرطي آخر:
- هالو
- هالو
- مستر درويش
- أنا مستر القاسم
- أين مستر درويش
- مستر درويش في فرنسا
- لكنكما كنتما معاً في منزل ناجي العلي.
- قمنا بواجب العزاء لدى أسرة صديقنا الفنان الكبير ناجي العلي. ثم ذهب كل منا لشأنه.
- لكنك تقول ان مستر درويش في فرنسا.
- صحيح هو في فرنسا.
- كيف سافر؟ ومتى؟
- سافر عبر مطاركم مثلما حضر عبر مطاركم. لم يتسلل وسافر في موعد اقلاع الطائرة.
خرج مسرعاً ثم عاد بعد دقائق.
- لم تعد شوارع لندن آمنة.
- هل بسببي انا لم تعد شوارعكم آمنة. قلت لصديقك وها انا اكرر: نحن لسنا ارهابيين نحن ضحايا الارهاب. شوارعنا نحن ايضا ليست آمنة. وكما ترى فأنا شخصياً لست آمناً. نحن أكثر الناس حاجة الى الأمن.
خرج وعاد بعد قليل.
- مستر القاسم نحن آسفون لقد حدث خطأ في التشخيص.
- خطأ في التشخيص؟ سكوتلانديارد ترتكب خطأ في التشخيص؟ شكراً على اعتذاركم لكن ذلك لا يلغي مرارتي واستيائي مما حدث.
- نحن آسفون وانت حر منذ هذه اللحظة. تستعيد اشياءك ونتمنى لك اقامة طيبة في لندن.
مرة أخرى يا محمود. لا استطيع ادعاء البطولة. فقد راودني الشك بأن اخلاء سبيلي يعني ان جماعة ما تنتظرني في الخارج للتصرف بي بشكل آخر.
قلت: اعتقد انه من المفروض ان تعيدوني الى حيث اعتقلتموني.
قال: انت على حق. سآخذك بسيارتي.
قلت: اذا كان الأمر كذلك فأرجو ان تأخذوني الى قاعة البلدية. لعل الجمهور ما زال منتظرا هناك.
وهكذا كان. وواصلت »الإرهاب« في القاعة. وكان التعاطف والانسجام بيني وبين الجمهور رائعا الى درجة البكاء. ولا أعرف كيف اسدد ديوني لهذا الجمهور الطيب الصادق الذي لف قلبي بالعلم ولف عيني بالأمل وشحن روحي وجسدي بشهوة الفداء المقدسة.
ويا أخي محمود درويش.
لسنا غصنا مقطوعاً من شجرة هذه الأمة نحن حراس احلامها وسدنة نارها الطاهرة. كان الله في عوننا كان الله في عوننا.
وكيف انت في هذه الأيام؟ لا تقلق كثيراً لكن يستحسن ان تحافظ قليلاً على صحتك.. لا بأس في شيء من الحذر في مواجهة البرد والشرطة والتدخين!
أخوك
سميح القاسم
(حيفا-1988/7/26)
|
|
|
|
|
|
|
|
|