دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
وقائع ليلة { المتاريس التي شيدتها في ليالي الثورة الحمراء هاتيك الجموع } كمال الجزولي
|
رزنامة الأسبوع المَتَاريسُ الَّتي ..! [email protected] الذكرى 44: صمت الصُّدور! رغم أن ليلة التاسع إلى العاشر من نوفمبر عام 1964م، والتي مرَّت بنا الأسبوع الماضي ذكراها الرابعة والأربعون، تكاد تشكل زبدة المخض العنيف الذي شهدته بلادنا خلال ما سبقها من أيام رائعات دخلت تاريخنا الحديث باسم (ثورة أكتوبر)، ودخلته هي باسم (ليلة المتاريس)؛ إلا أنها، من عجب، لم تحظ بذات القدر من دقة التوثيق التي حظيت بها وقائع تلك الأيام المجيدات، سوى بضع كتابات هنا وهناك، ونشيد يتيم لمحمد الأمين من كلمات مبارك حسن الخليفة، وألحان مكي سيد احمد، لم يعُد أحد يسمعه، بل لم يعُد حتى محمد الأمين نفسه يردِّده: "المتاريسُ التي شيَّدَتها في ليالي الثورةِ الحمراء هاتيك الجُّموعْ/ وبَنتها من قلوبٍ وضلوعْ/ وسقتها من دماءٍ ودموعْ/ سوف تبقى شامخاتٍ في بلادي/ تكتمُ الأنفاسَ في صدر الأعادي/ فالمتاريسُ دماءُ الشُّهداءْ/ والمتاريسُ عيونُ الشُّرفاءْ/ والمتاريسُ قلوبُ الكادحينْ/ والمتاريسُ ضلوعُ الثائرينْ/ والمتاريسُ شفاهٌ لصغار يلثغونْ/ والمتاريسُ أيادٍ لكبار يَهدِرونْ/ والمتاريسُ حُداء الثائِراتْ/ والمتاريسُ ستبقى شامخاتٍ في بلادي/ تكتمُ الأنفاسَ في صدر الأعادي"! مع كلِّ ذلك البهاء بقيت (ليلة المتاريس)، إلى يوم الناس هذا، أسيرة بقعة معتمة من ذاكرة الأجيال، ومحلَّ أخذٍ وردٍّ بلا جدوى، ومغالطاتٍ وسجالاتٍ بلا طائل، رغم أن بعض أهمِّ صُناع وقائعها، وشهود خلفيَّاتها، ما زالوا أحياءً، أطال الله أعمارهم جميعاً ومتعهم بالصحَّة والعافية، وعلى رأسهم جعفر كرَّار، السكرتير العام لجبهة الهيئات التي قادت الثورة، والمحامون أعضاء قيادتها: فاروق أبو عيسى وشوقي ملاسي وأحمد سليمان وأنور أدهم، علاوة على بابكر عوض الله، رئيس القضاء الأسبق الذي سوف يصبح، لاحقاً، رئيس وزراء أولي حكومات انقلاب مايو 1969م، وحسن الترابي، الذي سوف يصبح، في ما بعد، زعيم الحركة الإسلاميَّة (1964 ـ 1999م)، وحالياً الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، وغيرهم كثر. فحتام يستعصم جُلهم بالصمت تاركين إحدى أهمِّ صفحات ثورة أكتوبر نهباً للقيل والقال، أو، في أفضل الاحتمالات، محض طيف لذكرى قصيَّة مقبورة في حنايا الصدور؟!
شهادة ملاسي --------------- مساء التاسع ـ فجر العاشر من نوفمبر: الحقيقة والوهم! نحمد للأستاذ الكبير شوقي ملاسي المحامي، أحد المؤسِّسين والقادة التاريخيين لحزب البعث العربي الاشتراكي بالسودان، وعضو قيادة جبهة الهيئات إبان ثورة أكتوبر، حرصه على إصدار مذكراته (أوراق سودانيَّة ـ تحرير وتقديم محمد سيد احمد عتيق، دار عزة للنشر، الخرطوم 2004م)، حيث أورد أنه كان قد توجه، صباح 9 نوفمبر، للمشاركة في اجتماع كانت جبهة الهيئات تزمع عقده بنادي الأساتذة بالخرطوم، لكنه وجده قد تأجَّل إلى المساء. وعندما عاد في المساء لم يجد سوى عدد محدود من الزملاء ذكر من بينهم صديقه أنور أدهم وموسى المبارك. ولمَّا طال انتظارهم إلى ما بعد العشاء دون أن يحضر أحد، قام بتوصيل أنور الذي لم تكن لديه سيَّارة إلى منزله بأم درمان .. "وفي طريق عودتي، وأنا في غاية الإرهاق والنعاس .. وأمام الفندق الكبير بالضبط، قطعت إذاعة أم درمان إرسالها، فجأة، وبدأت في بث إعلان بصوت الأخ فاروق أبو عيسى قال فيه إن هنالك انقلاب عسكري، مناشداً الجماهير أن تخرج لحماية الثورة وحكومتها. إستفقت تماماً. وحسب إعلان فاروق كان قراري الفوري أن أذهب إلى دور السينما وتحريض الجماهير" (ص 86). ويروى ملاسي كيف نفذ فكرته قائلاً: "توجَّهت أوَّلاً لسينما كلوزيوم بشارع القصر، والتقيت بالأخ حسُّون، مديرها آنذاك، وشرحت له الموقف ذاكراً أنني مندوب عن الجبهة، وطالباً أن يسمح لي بمخاطبة الجمهور بالمايكرفون الخاص بالدَّار، فسمح لي الرَّجل، وأعطاني المايكرفون المتنقل. وبعد أن وقفت في منتصف الصالة بين القاعة الشعبيَّة وبقيَّة المدرَّجات، أوقف العرض. فخاطبت الجمهور الذي خرج جميعه منطلقاً نحو رئاسة مجلس الوزراءالكائن، آنذاك، في شارع النيل. ثمَّ ذهبت إلى الخرطوم بحري، وقمت بنفس المهمَّة في سينما الخواجة (الوطنيَّة). وأيضاً تدفقت الجماهير إلى الشوارع. وفي طريق عودتي من الخرطوم بحري إلى الخرطوم أوقفت سيَّارتي في منتصف كبري النيل الأزرق، وأفرغت إطاراتها الأربعة من الهواء، وبذلك أصبح الجسر مغلقاً أمام المركبات. وواصلت السير على أقدامي إلى نادي أساتذة جامعة الخرطوم القريب من هناك" (المصدر نفسه). ويمضي ملاسي في إفادته قائلاً: ".. في النادي وجدت جموع المهنيين والنقابيين تتقاطر، ووجدت من أعضاء قيادة الجبهة الإخوة محمد الحسن البدوي المحامي والمرحوم على محمد ابراهيم المحامي وبدوي الحارث وعدداً ليس بالكثير من اليساريين، بينما كان الإخوان المسلمون كثيرين، وفي حالة هياج وثورة، زاعمين أن هنالك مؤامرة يدبِّرها الشيوعيون ومندوبهم فاروق أبو عيسى من وراء إذاعة هذا البيان، وأنهم سيشنقون فاروق! وبالفعل ربطوا عدداً من عمائمهم ببعضها استعداداً لشنق فاروق! وكان الرأي أن يأتي أحد المسئولين إلى النادي ليروي ما حدث بالضبط .. فاستقر الأمر على أن نذهب أنا وبدوي الحارث لاستجلاء الموقف وإحضار بعض المسئولين، فاستعرنا سيَّارة أحد الإخوة وقصدنا بها مجلس الوزراء. وفوجئنا بأمواج هادرة من البشر تسدُّ الطرقات بالمتاريس المختلفة، ووجدنا بعض الأشجار قد تمَّ اقتلاعها من جذورها، فكنا نضطر للتوقف عند كلِّ حشد ونعلن أننا فلان وفلان مندوبا جبهة الهيئات، فيسمحون لنا بالمرور، إلى أن وصلنا مجلس الوزراء ووجدنا بابكر عوض الله وعبد المجيد إمام. وطلبت منهما أن يذهبا معنا إلى نادي الأساتذة. وفي الطريق وجدنا أحمد سليمان المحامي يترنح بين مبنى القضائيَّة ومصلحة الري المصري .. يا أبو سلمون تعال معنا .. كذا وكذا، قال: لا مانع، لكن خذوني أوَّلاً إلى منزلي فأنا في حاجة لحمام (دُش)، فأخذناه إلى منزله جوار مدرسة الأقباط بنات بالخرطوم، ودخل ونحن في انتظاره بالسيارة. وبعد انتظار طويل اكتشفنا أنه وقع نائماً! وعدنا عن طريق الطابية حيث سمعنا من راديو السيَّارة بيان المرحوم خلف الله بابكر وزير إعلام حكومة أكتوبر الذي أعلن عن عدم وجود أيِّ انقلاب، وأن المعلومات خاطئة، وناشد الجماهير بالهدوء والتفرُّق" (ص 86 ـ 88). ويواصل ملاسي شهادته بقوله: "في النادي كان الجدل محتدماً حول بيان خلف الله، فقرَّرنا العودة مرَّة أخرى إلى مجلس الوزراء. صعد معي بابكر عوض الله في المقعد الأمامي من السيَّارة، بينما صعد أبو عيسى والترابي في المقعد الخلفي، وكانا يتناقشان بحدَّة وعصبيَّة. وبعد قليل، في منتصف الطريق، احتد النقاش بينهما أكثر. وفجأة هجم أبو عيسى على الترابي، وأمسك برقبته، وبدأ يخنقه بشكل خطير! فأوقفت السيَّارة، واستطعنا بصعوبة أن نحرِّر رقبة الترابي من قبضة أبو عيسى، وواصلنا السير!" (ص 88). ويسترسل قائلاً: "ظلَّ الناس كلهم يتنقلون من هنا إلى هناك حتى وقت قريب من الفجر، وتأكدنا، بعد ذلك، أن كلَّ تلك الضجَّة كان مصدرها أن عسكرياً شيوعياً يعمل في سلاح الإشارة، وكان يقوده الأميرالاي عثمان نصر عثمان، شقيق محمد نصر عثمان عضو المجلس العسكري المنحل، جاء مساءً إلى مطعم مطار الخرطوم، حيث اعتادت مجموعة من المحامين والوزراء اليساريين والشيوعيين تناول العشاء والشرب هناك، وكان به في تلك اللحظة أحمد سليمان وعبد الكريم ميرغني وفاروق أبو عيسى، فأبلغ أحمد سليمان أن الأميرالاي عثمان نصر قد جمع الجنود وخاطبهم مهاجماً ومسيئاً للثورة. ويبدو أنه يقوم بتهيئة الجنود لانقلاب عسكري مضاد! فاستقبل القوم الأمر بتضخيم شديد، وحسبوه تحرُّكاً انقلابياً يستهدف الثورة. هكذا كان قول أبو عيسى، فحدث ما حدث!" (ص 88 ـ 89). وأخيراً يختتم هذه الجزئيَّة من مذكراته بتقويم إجمالي لـ (ليلة المتاريس) قائلاً: "لكن، رغم كلِّ شئ، كشف الحدث عن استعداد جماهير العاصمة العالي لحماية ثورتها، ومقاومة أيَّة محاولة انقلابيَّة معادية، كما كشف أيضاً حجم التأييد الشعبي الذي تحظى به الجبهة الوطنيَّة للهيئات" (ص 89). إنتهت شهادة شوقي ملاسي المثيرة. ولأن للحقيقة أكثر من وجه، فقد لزمني السعي للوقوف ولو على وجه واحد من وجوهها الأخرى.
شهادة أبو عيسى ------------------ أهميَّة التوثيق ظللت، طوال السنوات الماضية، أستنطق، ما بين القاهرة والخرطوم، أستاذي وصديقي فاروق أبو عيسى إفادته حول الأمر. بل إنني لم أكل أو أمل، طوال ما يربو على ربع القرن، من مناشدته، إلحافاً، أن يدوِّن مذكراته. ولا غرو، فالرجل شاهد عيان مُهمٍّ على الكثير من وقائع وأسرار تاريخ بلادنا السياسي الحديث، وربَّما المنطقة العربيَّة بأسرها، خلال العقود الأربعة الماضية، بكلِّ ما يحتوش تلك الوقائع والأسرار من ظروف وملابسات! ولقد أسعدني في مطالع الألفيَّة، أيَّما سعادة، عندما بعث إليَّ، عن طريق ناشره المنتظر صديقنا الياس فتح الرحمن، بالمسودة الأوليَّة للفصول الخاصَّة بثورة أكتوبر لأغراض مراجعتها وتحريرها، لولا أن تلفاً بالقرص المدمج حال، وقتها، دون ذلك؛ ثمَّ ما لبث أن انشغل هو بإدارة اتحاد المحامين العرب، وبأهوال السياسة في قيادة التجمُّع، وبتفاصيل مهام ما بعد العودة إلى البلاد مؤخراً، داخل وخارج البرلمان الانتقالي. غير أنني ما زلت آمل أن يتمكن من اقتطاع جزء من وقته، وسط مشاغله الجمَّة، لإنجاز ذلك النصِّ المُرجأ المُرتجى. نهار السابع من نوفمبر: طرد واعتقال ضباط الثورة! الشاهد، كما قلت، أن مقتضى الموضوعيَّة ألزمني بالتماس وجه آخر من الحقيقة لدى أبو عيسى نفسه بطبيعة الحال. وبالفعل وافى الرجل طلبي، مشكوراً، عن طريق الهاتف، ولأكثر من ساعة من بعد ظهر السبت 18/10/08؛ قال: "للأسف الأخ ملاسي لم يكن مطلعاً على خلفيات الأحداث التي لم تبدأ وتنتهي ليلة 9 نوفمبر كما ذكر، بل بدأت قبل ذلك بيومين! ففي نهار 7 نوفمبر، وفي ظروف تنازع السلطة خلال الأيام الأولى لثورة لم يرَ اليمين في حكومتها سوى ثمرة وقعت بمحض الصُدفة لنخبة أفنديَّة يساريين، تسرَّبت، فجأة، معلومات بأن القيادة العامَّة أصدرت قراراً بالطرد من الخدمة والاعتقال ضدَّ مجموعة من الضباط الذين كانوا قد لعبوا الدور الحاسم في انحياز الجيش للشعب، وفي محاصرته للقيادة العامَّة والقصر الجمهوري، ومن ثمَّ في القضاء على نظام عبود، وأبرزهم فاروق حمد الله والرشيد ابو شامة والرشيد نور الدين وجعفر نميري ومحمد عبد الحليم وأحمد عبد الحليم وتوفيق محمد نور الدين وفيصل حمَّاد توفيق". بعد ظهر السابع من نوفمبر: واجب تنبيه الشارع! وواصل أبو عيسى شهادته بقوله: "في الرابعة من عصر نفس اليوم طلب مني عبد الخالق محجوب عقد اجتماع عاجل لقيادة الجبهة لمواجهة هذا القرار باعتباره حلقة مفتاحيَّة في سلسلة عمليات ترمي لإجهاض الثورة. توجهت من فوري إلى منزل أحمد سليمان، ووجدته على علم بالأمر. كان جالساً على مرجيحة، ومعه أمين النور شقيق الضابط بابكر النور، فطلبت منه الاتصال بسر الختم الخليفة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء، وطلب مني، بدوره، الذهاب لإبلاغ عابدين اسماعيل المحامي، أحد أبرز قادة الثورة، بمنزله بالخرطوم/2، ففعلت. ومن هناك توجَّهت إلى منزل المهندس سيِّد عبد الله ببحري، حيث وجدت أغلب أعضاء القيادة، وأذكر من بينهم جعفر كرار وعلي محمد خير وعبد الله محمد ابراهيم وطه بعشر، يتداولون الأمر، فقرَّرنا الإسراع في تنبيه الشارع إلى خطورة طرد واعتقال أولئك الضباط". مساء السابع من نوفمبر: قرار تاريخي! ومضى أبو عيسى يقول: "توجَّهت، أوَّل المساء، إلى حيث كان الحزب الشيوعي يعقد ليلة سياسيَّة شرق ميدان عبد المنعم بالخرطوم. ووجدت المعلم مصطفى محمد صالح على المنبر خطيباً، فشققت الصفوف، وصعدت إليه أستأذنه في أمر خطير عاجل، فسلمني المايكرفون، حيث كشفت المعلومات التي توفرت بشأن طرد واعتقال ضباط الثورة، وناشدت، باسم قيادة الجبهة، ثوَّار أكتوبر بالتحرُّك صوب مجلس الوزراء لحثه على اتخاذ قرار في هذا الشأن. بعد ذلك توجَّهنا، علي محمد ابراهيم وشخصي، إلى استاد الخرطوم، حيث كانت تجري مبارة في كرة القدم، فاستنفرنا الناس أيضاً للانطلاق إلى مجلس الوزراء. وبالفعل، وكما تسري النار في الهشيم، امتدت ألسنة لهب المظاهرات العارمة إلى كلِّ أرجاء العاصمة، فتدفقت الجموع تحاصر مجلس الوزراء الذي اختتم اجتماعه الاستثنائي ذاك بإصدار قراره التاريخي بالقبض على أعضاء مجلس عبود، ما عداه، والذين كانوا طلقاء حتى ذلك الوقت، وتوزيعهم على سجون السودان المختلفة". الثامن والتاسع من نوفمبر: إبتهاج وقلق! وصف أبو عيسى القرار بأنه "أشاع مناخاً من الارتياح التام في الشارع، والترحيب العظيم في الأوساط الشعبيَّة، خصوصاً وقد أعقبه إعلان باسم القائد العام عن إلغاء طرد واعتقال ضباط أكتوبر. ومع ذلك ظلَّ الناس يتناقلون بقلق وتوتر، طوال اليومين التاليين، الثامن والتاسع من نوفمبر، ما تسرَّب من معلومات عن اعتزام الأرستقراطيَّة العسكريَّة القيام بتدابير انتقاميَّة تتوَّج بانقلاب كامل على الثورة! وقد رصدت، في السياق، أحداث بعينها تشير، بأكثر من إصبع، إلى ذلك المعنى، وتؤكده. منها ما تردَّد في أروقة مجلس الوزراء، نهار 9/11، من أن أبارو، كبير البوليس السِّرِّي للنظام السابق، جاء إلى مكتبه، شاهراً مسدَّسه، يهدِّد بتأديب قادة أكتوبر ورموزها! وأن بعض أركان النظام المدحور التقوا في زيارة إلى حسن محمد صالح، المدير العام السابق للشرطة، والذي كان، وقتها، طريح الفراش بالقسم الجنوبي لمستشفى الخرطوم يعاني من كسر في ساقه، حيث تداولوا الرأي في ما بينهم حول ضرورة عمل شئ"! أوَّل مساء التاسع من نوفمبر: تسرُّب خبر الإنقلاب المضاد! مضى أبو عيسى في إفادته قائلاً: "في ذلك اليوم نظم اتحاد طلاب المعهد الفني (جامعة السودان حالياً) أمسية احتفاليَّة بمناسبة مرور أسبوعين على انتصار الثورة، وقد دعيت للتحدُّث فيها إلى جانب آخرين أذكر منهم الشفيع أحمد الشيخ وفاطمة أحمد ابراهيم. وفي الجزء الثاني من الاحتفال نظمت ليلة للأناشيد الوطنيَّة شدا فيها محمد وردي ومحمد الأمين. لكنني غادرت الاحتفاليَّة قبل نهايتها لألحق بموعد سياسي ثابت يومياً في مكان محدَّد. أثناء خروجي صادفت عبد الكريم ميرغني وسيِّد عبد الله ومحمد عبد الله نور وعلي محمد ابراهيم وآخرين. وعندما أخبرتهم بأنني جائع لم أذق الطعام طوال اليومين الماضيين، اقترحوا أن نذهب لنتعشى في الفندق الكبير. قدت سيَّارتي بمفردي، وتوجَّهت أولاً إلى موعدي المحدَّد، فتأخَّرت شيئاً. ولما ذهبت من هناك إلى الفندق وجدت، على مائدة قريبة من المدخل، الصديق الصحفي والكاتب المصري اليساري أحمد حمروش الذي كان قد جاء في زيارة قصيرة إلى البلاد، وفي معيَّته الكاتبة السودانيَّة البارزة خديجة صفوت التي حضرت للترحيب به. حيَّيتهما، وعلمت منهما أن أصدقائي وصلوا قبلي، وفوجئوا بأن عمال الفندق في إضراب عن العمل، فانتظروني لبعض الوقت، ثمَّ توجَّهوا إلى مطعم المطار طالبين منهما إبلاغي بأن ألحق بهم. ذهبت بالفعل إلى هناك، ووجدت عبد الكريم ميرغني وأحمد سليمان وعلي محمد ابراهيم، فطلبت الطعام وجلست أتعشى. لكن لم يمض وقت طويل حتى لمحت محمد نور السيِّد يلوِّح لي عند باب المطعم. قمت إليه، فأبلغني بأن لديه رسالة من عبد الخالق محجوب لأحمد سليمان. عدت، وهمست لأحمد، فذهب إلى حيث يقف نور، ثمَّ ما لبث أن عاد ليخبرنا بأن ثمَّة معلومات خطيرة مفادها أن انقلاباً يوشك على التحرُّك من سلاح الخدمة، خلال الساعات القادمة، بقيادة القائمقام بشير حسن بشير، كردِّ فعل على أحداث مساء 7/11. إقترح أحمد سليمان أن يذهب هو وعبد الكريم ميرغني لإبلاغ رئيس الحكومة سر الختم الخليفة بالأمر، على أن أذهب أنا وعلي محمد ابراهيم للتشاور مع قيادة الجبهة بنادي الأساتذة حول ما ينبغي عمله". التاسعة مساء التاسع من نوفمبر: إذاعة أمدرمان! واسترسل أبو عيسى قائلاً: "ما أن دلفنا من بوَّابة النادي، حتى هبَّ يركض نحونا كلٌّ من مكاوي خوجلي والشفيع أحمد الشيخ ومصطفى بعشر وكذلك علي طالب الله، المرشد العام لجماعة الأخوان المسلمين وقتها، ومحمد كامل العاص القيادي بالجماعة. وعلمنا منهم أن بعض الطلاب والشباب الذين يسكنون بالقشلاق جاءوا مسرعين إلى مكان الاحتفال بالمعهد الفني، بعد مغادرتنا مباشرة، وطلبوا مقابلة رئيس الحكومة في أمر عاجل. ولمَّا أخبروهم بأنه قد غادر الحفل أيضاً، طلبوا مقابلة مدير المعهد. ولأنه لم يكن متواجداً هو الآخر ساعتها، فقد استقبلهم نائبه عبد الله رابح في مكتب المدير. هناك أفضوا له بأنهم آتون، لتوِّهم، من أحد المعسكرات، حيث كانوا قد ذهبوا إليه بتكليف من أسرهم للسؤال عن آبائهم من ضباط الصف الذين، على غير العادة، تأخروا كثيراً في العودة إلى القشلاق. لكنهم فوجئوا بأنهم في حالة اصطفاف يستمعون إلى الأميرالاي عثمان نصر عثمان، القائد الجديد لسلاح المُدرَّعات، المنقول إليه من قيادة الفرقة بملكال، حيث كان يخطب فيهم قائلاً إنهم سيستردُّون اليوم كرامة الجيش التي مرَّغها في الوحل شويَّة أفنديَّة وصعاليك"! وواصل أبو عيسى روايته قائلاً: "تشاورنا. كان لا بُدَّ لنا من تحرُّك سريع. إقترح علي طالب الله، مرشد الأخوان المسلمين، استنفار الشعب عن طريق مايكرفونات المساجد للخروج لحماية ثورته. واقترحت، من جانبي، الاتصال بخلف الله بابكر، وزير الإعلام، لاستخدام جهازي الإذاعة والتلفزيون. وافق الجميع على اقتراحي. كانت عقارب الساعة تزحف نحو التاسعة، موعد نشرة الأخبار في إذاعة أم درمان. ركب معي في سيَّارتي طالب الله والشفيع وبعشر والعاص وعلي محمد خير، وانطلقنا نسابق الزمن. وقبيل بلوغنا حديقة الموردة بمسافة قصيرة كان رأينا قد استقر على أن من غير المتوقع أن يرفض خلف الله فكرتنا، فيجدر بنا ألا نهدر الوقت في الذهاب إلى بيته، وأن نواصل سيرنا بشارع النيل إلى الإذاعة، ونكتفي بالاتصال به هاتفياً من هناك. في الإذاعة صادفنا، لحسن الحظ، أحد العاملين الذين كانوا قد شاركوا في تنفيذ الإضراب السياسي. تحمَّس للأمر، وسعى لمساعدتنا في الاتصال بالوزير لولا أنه لم يتلق ردَّاً، فاقترح أن يتصل لنا بمدير الإذاعة، وقتها، محمد صالح فهمي. تردَّدنا، في البداية، لكون المعلوم عن الأخير أنه لم يشارك في الإضراب السياسي. لكن، ولأنه لم يكن قد تبقى سوى أقل من ثلث الساعة على موعد النشرة، فلم يكن ثمَّة مناص من أن نوافق. ولدهشتنا، ما أن ردَّ على المكالمة، وأبلغته بالمطلوب، بعد أن ناولني الإذاعي المتحمِّس السمَّاعة، ذكراً له إسمي، حتى أشعرني، على غير المتوقع، بحرارة الاستجابة، طالباً أن يتحدث إلى موظفه الذي أبلغنا، بعد هنيهة، أنه أمره بتنفيذ ما نطلب حرفياً"! ثمَّ مضى أبو عيسى يقول: "هرعنا إلى المدخل المؤدي إلى الاستديوهات، فصادفتنا هناك مشكلتان: الأولى أننا لم نكن، حتى تلك اللحظة، قد صغنا البيان المطلوب إلقاؤه، فالتقط بعشر ورقة وقلماً وعكف على صياغته في كلمات معدودات. أما الثانية فهي أن مذيع النشرة نفسه، عبد الحميد عبد الفتاح، كان يعاني من كسر في ساقه أصيب به أثناء مشاركته في مظاهرات الأيام الماضية، فاضطررنا إلى حمله حملاً والهبوط به إلى حيث الاستديو في الطابق تحت الأرضي، وهو ما ينفكُّ يستحث الفنيين صائحاً: شغلوا الأناشيد .. شغلوا الأناشيد! وهكذا، ما أن دقت التاسعة مساءً، حتى كانت حنجرة عبد الحميد القويَّة تنطلق ببيان (ليلة المتاريس) الشهير، لتعقبه نداءاتها المتواصلة بصوت ذو النون بشرى وآخرين". من التاسعة مساء التاسع وإلى صباح العاشر من نوفمبر: الطوفان! وواصل أبو عيسى إفادته قائلاً: "حاولنا أن نكرِّر النداء من التلفزيون، لكننا وجدناه قد أنهى بثه وأغلق أبوابه. وفي الحقيقة لم تكن ثمَّة حاجة لذلك أصلاً، إذ تكفلت الإذاعة بالأمر على أكمل وجه، لدرجة أننا وجدنا مشقة في الخروج من حوشها الذي كان، قبل دقائق معدودات فقط، ساكناً وخالياً تماماً إلا من بضعة عاملين ليليين، فإذا به وقد امتلأ الآن، على سعته، بطوفان بشري يكاد هديره يصمُّ الآذان، ولا ينفكُّ يتدفق من الملازمين وبيت المال وأبروف والشهداء وود أرو ومكي والموردة والعرضة والعبَّاسيَّة وفريق السوق وفريق الاسبتالية وكلِّ أحياء الجوار. فكنا، بين كلِّ خطوة وأخرى، نضطر للتعريف بشخصيَّاتنا، صائحين، لتفسح لنا الجموع الموَّارة كي نشق طريقنا إلى البوَّابة الخارجيَّة لمبنى الإذاعة. وتضاعفت المشقة ونحن نتلمَّس سبيل العودة إلى نادي الأساتذة بالخرطوم، حتى أن سيَّارتنا انفلتت بالكاد من جسر النيل الأبيض. لقد كانت الثورة تتجدَّد، في تلك اللحظات، كما أوَّل أمرها. وكانت الجماهير تشعل ليل المدينة بالهتافات الداوية، وسط مشاعر الغضب الحارق، وتغلق الشوارع والجسور بالمتاريس في وجه الدبَّابات المحتملة. شارك في ذلك رجال ونساء من مختلف الأحياء السكنيَّة. إستخدموا أكوام الحجارة الضخمة، وجذوع الأشجار الكبيرة، والإطارات الملتهبة، وحتى السيَّارات الخاصة، وكلُّ ما أمكن لأياديهم العزلاء أن تبلغ. وسلخوا، إلى ذلك، ليلتهم الليلاء تلك على الطرقات، وفي الساحات، وفوق الكباري، يحرسون المداخل والمخارج كلها، بأعين لا تغمض، وهمَّة لا تفتر، وعزيمة لا يغشاها الوهن، حتى انفلق الصباح، وتراجعت الظلمة، وانبلجت أشعة الشمس". أما حادثة اشتباكه مع الترابي، فقد أكد أبو عيسى أنها صحيحة، وإن كان قد استدرك بأن ".. ملاسي قد ضخمها، بصورة دراماتيكيَّة، ضمن مذكراته. ثم نحن أصلاً لم نستقل سيَّارته كما ذكر. فبعد عودتنا من الإذاعة إلى نادي الأساتذة، توجَّهنا بسيَّارة علي محمد ابراهيم إلى مجلس الوزراء، وكان ذلك حوالي العاشرة والنصف مساءً، وكان يجلس إلى جانب علي في المقعد الأمامي كلٌّ من بابكر عوض الله والترابي، بينما كنا أنا وملاسي وعبد المجيد إمام في المقعد الخلفي. وكان الجو كله مشحوناً بالتوتر والغضب. والحقيقة أن وقائع (ليلة المتاريس) لا يمكن إدراكها بمعزل عن ظروف وملابسات الصراع الذي احتدم، منذ البداية، بين تيارين متمايزين في قيادة الثورة. فعلى حين كان المحافظون حريصين على تحجيمها في حدود التغيير السياسي في المستوى الفوقي فقط للسلطة، بما يهيئ الأرضيَّة المناسبة لوراثتهم الناعمة لنظام الجنرالات، كانت جبهة الهيئات تدفع باتجاه تعميق التغيير ليطال المستويات كافة، وبالأساس المستوى الاجتماعي الاقتصادي الذي يضمن للعمال والمزارعين وكلِّ جماهير الكادحين، في المدينة والريف، المردود الذي يستحقونه من ثورتهم. ولعلَّ تطوُّرات الأحداث، خلال السنوات اللاحقة التي أعقبت ثورة أكتوبر وسبقت إنقلاب مايو، تؤكد ذلك الواقع، وتعزز هذا الاتجاه العام في تحليله. لقد احتاج (اليمين) للانتظار حتى (ليلة المتاريس) كي يدرك أن ثورة أكتوبر فعل شعبي حقيقي، وليست محض لقية وقعت، بالمصادفة، لثلة أفندية في جبهة الهيئات! وأما ما ظلَّ يُتداول، وما أورده ملاسي في كتابه، من (فولكلور) شائع حول أنني أنا الذي أعددت بيان تلك الليلة، أو أذعته بصوتي، فغير صحيح تماماً. لقد أسهمت في وقائع تلك الليلة المجيدة بكلِّ ما أوتيت من قدرة، لكن، فقط، في حدود ما رويت"! .................................... .................................... وبعد، إنتهت أيضاً شهادة أبو عيسى التي لا تقلُّ إثارة عن شهادة ملاسي؛ فهل لنا أن نتوقع إفصاحات أخرى، من شهود آخرين، بما يقشع الغموض عن وقائع ليلة "المتاريسُ التي شيَّدَتها في ليالي الثورةِ الحمراء هاتيك الجُّموعْ"، ويجلو الصدأ الذي ران، زهاء نصف القرن، عن هذه الصفحة المهمَّة من صفحات ثورة مهرها، بزكيِّ النجيع، نفر من أنبل أبناء وبنات شعبنا؟!
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: وقائع ليلة { المتاريس التي شيدتها في ليالي الثورة الحمراء هاتيك الجموع } كمال الجزولي (Re: عبدالكريم الامين احمد)
|
كلمات: مبارك حسن خليفة ألحان: مـكــي الـســيِّـد
المتاريس التي شيدتها
في ليالي الثورة الحمراء
هاتيك الجموع
وبنتها من قلوب وضلوع
وسقتها من دماء ودموع
سوف تبقى شامخات في بلادي
تكـتمُ الانفاس في صدر الاعادي
فالمتاريسُ دماءُ الشهداء
والمتاريسُ عيونُ الشرفاء
والمتاريسُ قلوبُ الكادحين
والمتاريسُ ضلوعُ الثائرين
والمتاريسُ شـفاهٌ لصغارٍ يلتقون والمتاريسُ أيادٍ لكبارٍ يـهدرون
والمتاريسُ حِـدَاءٌ الثائرات
فـالمتاريس ستبقى شامخاتٍ في بلادي
المتاريس سوف تبقى شامخاتٍ في بلادي تكـتُـمٌ الأنفاسَ في صدرِ الأعادي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: وقائع ليلة { المتاريس التي شيدتها في ليالي الثورة الحمراء هاتيك الجموع } كمال الجزولي (Re: محمد أبوالعزائم أبوالريش)
|
Quote: وجدنا أحمد سليمان المحامي يترنح بين مبنى القضائيَّة ومصلحة الري المصري .. يا أبو سلمون تعال معنا .. كذا وكذا، قال: لا مانع، لكن خذوني أوَّلاً إلى منزلي فأنا في حاجة لحمام (دُش)، فأخذناه إلى منزله |
الناس دي يا ابوساندرا ما بترحم بعض اصلو واتمني ان يتمكن الاستاذ كمال بتجميع كل اوجه الحقيقة في ذلك الزمان... فشوقي ملاسي يحكي بوجه وابوعيسي بوجه واحداث اخري واعتقد بان كلا يحكي في مداره والاشياء التي شاهدها او حضرها.. اجمل الشاياء في هذا الامر هي ان الشهود والاشخاص الذين ساهموا في تلكم الليلة لا يزال الكثيرين منهم احياء اولهم شيخ حسن الذي يبدو ان هاشم بدرالدين ليس الاول الذي نال منه ولا بطيخ اهل المجلد الفاسد بل هنا نقراء عن خنقة (بنت لذينة) في عربية تجوب طرقات الخرطوم واتمني ان اقراء افادات شيخ حسن عن هذه الليلة
| |
|
|
|
|
|
|
|