دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
سودانيز أونلاين { المنبر الحر} وطارق الأمين في رزنامة الأسبوع
|
جدلية النيم!
ضيفٌ على الرُزنامة
بقلم / الخاتم محمد المهدي*
كمــال الجـــزولي
الثلاثاء:
ها أنا ذا أحزم حقائبي مغادراً دبي ، (دانة الدنيا) وفقاً لأهلها ، و(دار الحي) وفقاً لمقيميها ، حيث هي في ماثور قولهم: ''ترجع الشيخ صُبيْ'' .. على أن ذلك حديث آخر.
أحزم حقائبي وفي الذهن صورة الزميل والصديق الروائي الشفيف خالد عويس ، وهو يصر على العودة إلى الخرطوم بغير ما طريقة وسبيل ، لكنها تتأبى عليه! أحشر أطراف متاعي حشراً غير رفيق ، واستعيد نقاشات ممدودة عن جدوى العودة ومناط الاغتراب.
ولأن لخالد واشجة تثير فيه نوازع الشجن إلى الخرطوم ، فإنه يستغرق في مناكفتي بنقاش أفلاطوني عن (الشلة) ، ذات ونسة دُقاقة رائقة يتناثر عنكوليبها لدى كل ركن ، ومعلوم ، في عُرف (الشلل) بالطبع ، أن ''القطيعة عنكوليب الونسة''! وينازعني ، خلال ذلك ، أطراف القول ، في غير ما تشدد ، بأن الخرطوم ''حنينة بي ناسها''! ويؤكد ، في غمرة حماسته الكبرى تلك ، أن طعم العيش فيها (غير) ، وأن القرش فيها عزيز ومبتذل في آن ، وما إلى ذلك مما تثير الأشجان! لكنني ، وبمقتضى المناكفة ، ألقي إليه بالقول من فوق كتفي ، وطراطيف أنفي ، زاعماً ، بملء في ، أن الخرطوم ليست سوى الموئل الأكبر للتناقضات ، والمدينة التي تريفت مع سبق الاصرار والترصد ، يكتنفك ترابها وعثارها من كل جهة ، ولا تفضي بك طرقها الملتوية القصيرة الضيقة إلا إلى طرق أكثر التواءً وقصراً وضيقاً ، ويصدمك مرأى سِتات شايها وفولها المدمس في وسط سوقها الذي كان ، في الزمان القديم ، (أفرنجياً) ، ويباغتك كمين شرطة مرورها عند كل منعطف وجرمك مثبت سلفاً عندهم ، رضيت أم أبيت ، بينما أهلها مستكينون ، بين هذا وذاك ، إلى قليلهم الذي يرثى له زائروها ، ومنغصات أخرى كثيرة! قلت له إن مشكلتي مع أهل الخرطوم ، باعتبارها السودان مصغراً ، مشكلة ثقافية ، لجهة قدرتهم الهائلة على خلق الفوضى العارمة من أدق مفاصل النظام والترتيب ، ولجهة تفكيرهم المحدود الكسول المنطوي على عادة التقليد والاتباع في كل شيء ، دونما أدنى خيال يدفع إلى الابتكار أو الابتداع ، ناهيك عن لا مبالتهم التي غالباً ما تبلغ حد التبلد ، وقياسهم كل كبيرة من الأمور أو صغيرة بمقياس (طنشْ تعِشْ)!
خالد لم يقتنع ، فحزمت أمري وقلت له إن الخرطوم التي ''هبت في جنح الدجى'' لم تعد هي الخرطوم ذاتها ، ولا ام درمان عادت هي ام درمان! مسخت هذه وتفسخت تلك! سألته عن آخر منتدى شعري أو ثقافي ، من منتديات زمان ، حضره في الخرطوم خلال السنوات الثلاث الماضيات ، عن مسرحية ذات طعم يلصق بحلقك ، ولو ، فقط ، في المدى الذي تستغرقه عودتك إلى البيت ، وعن .. وعن! ما لم اسأله عنه كان السينما ، فظني أن ذلك من المعلوم من مآل الثقافة السودانية بالضرورة!
خالد هز رأسه ، ومال ، وابتسم ، وطفق يحدثني عن (الحراك السياسي) ولجنة (المصالحة الوطنية) .. بتاعة سوار الدهب وعثمان عبد الله! قاطعته على الفور ، لأحكي له ، في خاتمة مرافعتي ، وسحاب حقيبتي يستعصى على الإنغلاق ، عن وفد إعلامي عربي رافقته خلال القمة العربية التي انعقدت بالخرطوم العام الماضي ، وقد ضم من أكابر الناس وأصاغرهم خليطاً من جميع الأمزجة وكل الأذواق ، مكثوا أيامهم الخمس في خرطومنا ، وبعد أن أنجزوا مهتهم ، جاسوا في الديار يتفقدونها ، وعند كاونتر الجوازات في المطار ، بعد اجتياز آخر عقبة ممكنة أو غير ممكنة ، هز بعضهم رأسه إطناباً في مدح خصال السودانيين ، طارفها وتليدها ، لكنه ما لبث أن انعطف من المدح الصريح إلى المدح بما يشبه الذم ، وقذف بالسؤال في وجهي ، مستغرباً مآل حالنا رغم وفرة إمكاناتنا ، قائلاً:
ـ ''ما بال بلدكم هذه''؟!
ـ ''ما بالها''؟!
ـ ''كأن إعصاراً طامحاً ضربها ، أو هصرتها جائحة من غوائل الطبيعة والزمن''؟!
إصطنعت على وجهي كل أمارات الحيرة ودلالات الاستغراب .. واستعصمت بالصمت! لكنه عاد يلاحقني قائلاً:
ـ ''ليس فيها مبنى واحد متسق ، ولا رصيف واحد صحيح ، ولا طريق واحد مكتمل الإنارة ، وسياراتكم يقودها أناس من مجموعة شمسية أخرى ، ولا بد ، ووفق قوانين مرور لنظام نجمي ممعن في النأي عن كوكبنا''!
ولما رأى أنه أوغل في إيذاء مشاعري ، انقلب يطيب خاطري ويربت على كتفي بقوله:
ـ ''رغم ذلك فيها دلالات لا تخفى على عز قديم''!
ثم أردف مسرعاً كأنه يخشى أن يضبط متلبساً بالكذب:
ـ ''لكنها تكاد تمحي''!
عندها لم أجد ما أرد به على كلامه الجارح .. الصادق تماماً ، سوى قول صلاح أحمد إبراهيم: ''النيل وخيرات الأرض هنالك/ ومع ذلك .. ومع ذلك''!
و.. سكت خالد بعدها ، ولم يعد يناكفني أبداً!
الأربعاء:
أصدق صورة يمكن للمرء أن يصف بها سيرة السواد الأعظم من جيلنا المتفتح على قروح التسعينات وعصفها الباطش ، تلك الهيئة التي تفرد بها أبو الطيب المتنبي في باكر شبابه ، وشعره بعد أخضر: ''على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها يميناً أو شمالا''!
جيل شقي منكود ، كتب عليه من الهوان والذل قسط لم يعرفه الأولون ، ولن يستطيع ، حتماً ، أن يتصوره الآخرون! أسطع آلاء شقوته أن مدونة التاريخ السوداني لم تحفظ ، بعد ، شهراً يتسمى به ، شأن سلفه ، الغابر منهم والحاضر!
جيل الاستقلال ما زال يتوكأ على عكازة (يناير) ، رافعاً راية استقلاله! وغير بعيد خلفه يخب جيل (أكتوبر) ، شاهراً أناشيده وملاحمه التي لم يفعل جيلي غير أن حفظها عن ظهر قلب ، دون أن يبدع هو نشيداً واحداً يخصه ، أو يصنع ملحمة يتيمة يتباهى بها. ولا تكاد تستبين في لجة غبار جيلنا التسعيني قامة ذلك الجيل الثمانيني الهجين هجنة شهره الذي ادعاه لنفسه ، سلتاً من بين الشهور ، ونصراً سليقاً: (أبريل) الذي يحمل من طعم البارود بقدر ما يحمل من قسوة ''الطوب''! ثم إن (فبراير) شهر خديج ، وشهادته مجروحة ، في ما يصر المغني الصيدح على أن ''مارس ماسك كتف ابريل'' .. وأن كلاهما محصلة ''أعظم شعب وأعظم جيل''! أما ما كان من أمر (مايو) فقد (انعَرَف) ، وأما عن (يونيو) الذي جاء (لإنقاذنا) فحدث ولاحرج .. وبذا اكتملت عدة الشهور حتى منتصف العام ، ولم يتبق من خيار لجيلنا سوى ما يراوح بين (يوليو) و(سبتمبر) .. ألا ما أضيق الفرصة!
ذلك ما كان من سيرة الشهور وصكوك ملكيتها بين الأجيال ، وإن جيلنا لمضاع فيها ، حكماً وقياساً! لكن الأنكى أن جيلنا هذا لا يعرف ، بل ولا يملك أن يعرف ، حتى من ضيعه ، ولذا فإنك تجده منكفئاً على اتهام سديمي زائف أدمن مضغه ، صباح مساء ، بأن من ضيعه ، وضيع حقه ، ومستقبله ، هو جيل الستينات والسبعينات ، فينطلق ، من ثم ، يملأ الدنيا ضجيجاً عن تفرده بالنشوء من عدم ، والارتقاء إلى غير أفق! بخ بخ والله!
نعم ، جيلي مضاع ، أو ضائع .. سيان ، فما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟! لكنه اختص نفسه بفكرة الاغتراب من أجل الاغتراب ، فتفرق ، بحمد الله ، أيدي سباً ، في بلاد الله ، وهو فخور! يخرج واحدهم من مطار الخرطوم كمن نشط بغتة من عقال ، وحيثما ألقت به مقادير (العقود) أو (الفيزات) العجيبة تجده يشيح بوجهه إن لمح سودانياً أو حتى ما يذكره بحرف السين! فإن طاب له المقام بدار الغربة ، باض فيها وأفرخ ، وإلا استبدلها بأخرى ، لا يلوي على شيء ، جاعلاً دبر أذنه تحنان حمد الريح: ''بلادك حلوة أرجع ليها/ دار الغربة ما بترحم''! يخرج من السعودية ليدخل الأمارات ، ويغادر الأمارات ليذهب إلى هولندا ، ومن هناك إلى أمريكا .. لمن استطاع إليها سبيلا! لا تكاد تعيده إلى (كرش الفيل) حتى التعازي أو المواساة أو شوق الأم الرءوم ، هذا إن لم يخرجها معه إلى محدودية الشقق وضيق اللغة وسبل التواصل الانساني!
وهناك (في البلد البعيد) يتزوج واحدهم إن أصابته بحبوحة درهم أو ريال ، أو تمرغ في هناءة باوند أو دولار ، ثم ما يلبث أن يفرخ عيالاً كثيرين أو قليلين ، يتخير لهم أسماء ما أنزل الله بها من سلطان .. صكاً من قوالب (جوليان) و (لينا) وأنواع من المعربات ، القياسي منها والسماعي! ثم يعود ذات نهار محملاً بحقائب وصياح أطفال يخوزق به صماخ من حوله ، وينضم طائعاً أو مكرهاً لطابور الدافعين للرسوم والدمغات وسائر صنوف الجبايات .. ويصير أمره كله استنساخاً لسلفه. لكن الأغلب الأعم ، أنه لا يعود. وإن فعلها ، فخطف البصر ، سويعات تناهز طول (الترانزيت) ، ثم إلى منفاه المختار يؤوب.
اذكر ، في جامعة القاهرة فرع الخرطوم (النيلين حالياً) ، ركناً فكهاً في زاوية قصية من سراديب كلية الآداب ، علق عليه أحدهم صك ملكية لجماعته .. لافتة مكتوبة بالفحم وبخط جميل واضح: (جماعة التفكير في الهجرة) .. والمعنى واضح!
الخميس:
النادي الثقافي العربي في الشارقة يكاد يكون مناقصة مقفولة لمناشط السودانيين .. ولمكارههم! كل ندوة أو جلسة استماع أو بيت عزاء له فيه نصيب ، ويقوم على رعاية فعالياته الثقافية د. عمر عبد العزيز .. وعنه فحدث! يمني عالم ، يعرف عن السودان وأهله وصوفيته ومشائخه وفنونه وثقافته المحكية والمكتوبة ما تحسده عليه وزارة الثقافة السودانية!
ذلك الخميس كان في صدر القاعة ، كعادته. عن يمينه ويساره متحدثو تلك الليلة ، وفيهم د. يوسف عايدابي (وزارة الثقافة الأخرى .. المغتربة) ، وأمامهم حضور لا بأس بعدده ، وحديث ممدود عن (الوجدان السوداني). وكما هو متوقع ، ما أن أتيحت الفرصة للنقاش ، حتى نهض أحدهم ، وأرغى وأزبد بكلام كثير لم أفهم له أولاً من آخر ، وأكاد أجزم ألا أحد من الحاضرين فهم شيئاً! ذكرني ذلك المتحدث بما كنا نتندر به ذات شباب غابر في الخرطوم .. لفيف من المتثاقفة ممن حشوا رؤوسهم بكتب قاسية المعانى ، شائكة المبانى ، منبتة عن البساطة ، أورثتهم نمطاً في التفكير والتعبير دفع بهم للتقعر بلغة عويصة مغرقة في الترميز والتجهيل .. وذاك مأزق كان قد عبر عنه د. عبد اللطيف البوني ببساطته المحببة في تعليق له ، مع الفارق بالطبع ، على مقالات الصديق الرقيق محمد الربيع محمد صالح ، أيام الملحق الثقافي لطيبة الذكر (الصحافي الدولي) ، حيث قال البوني:
- ''يا محمد ياولدي بتكتب كلام شكلو سمح بلحيل .. لكن معناه شنو ما عارف''!
استحثني صديقي الذي كان برفقتي على الاسراع بالخروج ، للحاق بموعد أعلم أنه اخترعه في تلك اللحظات اختراعاً ، وأردف حضه إياي بعبارته الأثيرة:
ـ ''عليك الله خارجنا من الدبايب ديل''!
أثناء (تخارُجنا) أثار انتباهنا شخص يتكيء على مصباح الشارع. كان سودانياً فاره الطول. عرفناه من جلابيته ذات اللون الترابي ـ وأقسم أنني أستخدم هذا الوصف بحسن نية ، فلا داعي من فضلكم للحرج السياسي ـ وهو ، على أية حال ، لون شائع في الخليج ؛ كما عرفناه أيضاً بعمامته المائجة المقنطرة ، و(بسفته) التي مال يثفلها على الرصيف اللامع ، وهو يلحظ ، خطفاً ، قفا امرأة آسيوية عبرته للتو! علق صديقي ، متأففاً ، وبصوت يكاد يتميز من الغيظ:
ـ ''بالله عليك الله شوف جنس الدبيب دا! الواحد فيهم أصلو ما يتعلم! قدر ما يطلع بره ويشوف حيفضل برضو في عواليقو دي''!
ثم مال صديقي نفسه ، ولكن بطريقة حرص أن تكون (مهذبة) و(حضارية) ، ليبصق (سفته) ، هو الآخر ، في منديل ورقي استله بأناقة بائنة من علبة مذهبة مثبتة على لوحة التحكم في سيارته الفارهة! وإمعاناً في (روعة المشهد) أخذ ينبعث من الأسطوانة المدمجة نشيج كورالي غير متجانس بالمرة ، واضح أنه قد تم تسجيله ذات (قعدةٍ ما) ، وبمصاحبة آلات متنافرة: ''نحن في السودان/ نهوى أوطانا/ وإن رحلنا بعيد/ نطرى خلانا''!
و(دبيب) ، كمقابل في عاميتنا الفصيحة لـ (ثعبان) أو (حية) ، لفظ يطلقه سودانيو الامارات ، بدافع الغيظ ، على من لا يروقهم من الناس ، وبالأخص أولئك المحظوظين الذين يتنسمون المناصب العالية ، ثم يتمترسون بأخلاقيات صمدية ليس فيها مجال لـ (خدمة) أحد ممن هم أدنى حظاً وسط أبناء الجالية ، الأمر الذي يعتبره هؤلاء محض أنانية لا يتسامحون في التماس أي عذر لها ، فيطلقون عليهم هذا الوصف ، دلالة على اللؤم الصريح! وكي نكون موضوعيين ، ففي أغلبنا ، شئنا أم أبينا ، خصلة لؤم متمكنة ، تثيرها النعرات القبلية أو الطائفية ، ولا محل للثقافية هنا ، وهي خصلة يسميها الإنجليز في لغتهم المؤلمة: يعوmean streak ، ولم أجد ما يقابلها ، في العربية الفصحى ، بما يختزل كل معناها ، والله أعلم!
الجمعة:
حتام لون جلدك هذا ، لمجرد أنه يميل إلى الدكنة قليلاً أو كثيراً ، يخف به حظك في ميزان القبول؟! حتام هذا الباب المطاطي يضيق ويتسع ، على قدر الجنس والجنسية ، الطول والقصر ، السيارة والملبس ، وقبل كل شيء .. اللون! حتام كلما طوحَت بك طوائح المَلل إلى التماس طقس من الراحة الذهنية على شاطئ هادئ ، أو التنزه في حديقة وارفة الظلال ، أو التمشي ، كما خلق الله ، في شارع فخيم ، تقتنصك العيون الشقر ، فتروح ترمق بالدهشة البذيئة لون جلدك النابي عما اعتادت من درجات الألوان وظلالها؟!
حتام ، حتام ، حتام؟! أسئلة أزلية ولا إجابة! فلتكفكف دمعك ، إذن ، ولتجعل بينك وبين خائنة الأعين تلك الفريدة من أوابد صلاح أحمد إبراهيم التي سكب فيها انفعالات شخصية كانفعالاتك هذه تماماً ، في البلد الغريب ، ولتهدها ، في يومك هذا ، إلى كل إخوتك الملونين مثلك هنا ، في كل (مدن الملح) ، كما أهداها هو ، في ذلك الزمان البعيد ، إلى عبد الله الصومالي وإخوته في الغربة:
''هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة؟!/ والنوم على الأرض الرطبة؟!/ الأرض العارية الصلبة؟!/ تتوسد ثنى الساعد في البرد الملعون/ أنّى طوفت تثير شكوك عيون/ تتسمّع همس القوم ، ترى غمز النسوان/ وبحدّ بنان يتغوّر جرحك في القلب المطعون/ تتحمل لون إهاب نابٍ كالسبّة/ تتلوى في جنبيك أحاسيسُ الإنسان/ تصيح بقلب مختنق غصان/ وا ذل الاسود في الغربة/ في بلد مقياس الناس به الألوان''!
السبت:
للكاتب الصحفي العالمي المعروف توماس فريدمان كتاب قيم صدر العام الفائت بعنوان: (العالم مسطح) ، في معنى مضاد لكروية الأرض ، ولكن من باب آخر ، حيث يطرح نظرية واقعية مفادها أن العالم كما نعرفه لم يعد قرية صغيرة فحسب ، بل مساحة مسطحة منبسطة لايعيق التحرك فيها عائق. ويعزو فريدمان ذلك إلى عشرة عوامل طرأت على العالم منذ التسعينات القريبة فقط! على رأس تلك العوامل ، وبلا منازع ، الإنترنت ، وما استتبعته من تقنيات عززت التواصل بين الناس في سائر أركان الأرض.
غرقت في الكتاب غرقاً ، حتى نازعني فيه خاطر لئيم جعلني أتساءل عن مدى انطباق هذه النظرية على حالة بلد كالسودان ، بتناقضاته وتكويناته المعقدة ، وعدم خضوعه لأي قانون أو منطق يتصل بالتراتبية العالمية للحياة على كوكب الأرض!
خلصت من خواطري ، في غير ما تشدد ، إلى أننا ، في ما يبدو ، لا يخصنا من عوامل فريدمان العشرة لتسطح الأرض ، إلا عامل واحد: علاقتنا كسودانيين بالإنترنت! فهي علاقة لا مثيل لها سوى علاقة الإسكافي بعلم الفلك ، وذلك بجامع الجهالة في كلٍ! فقد أنفقت ، وأستطيع أن أزعم ذلك بالفم الملآن ، وقتاً طويلاً أنقب في الانترنت عن أي مصادر معرفية سودانية صرفة أو ممزوجة ، لكنني ظللت أعود ، في كل مرة ، بخفين افتراضيين أبلاهما الخصف والرقع! جل ما يستنفد شغفنا بالانترنت ، وتتبدد فيه طاقاتنا ، هو المنتديات العامة ، وهي (أركان نقاش) كتابية ومفتوحة للجميع ، ولعل أشهرها المنبر العام لسودانيز أونلاين لwww.sudaneseonline.com وعنه فحدث!
كان هذا المنبر ، أول أمره ، قبلة لسودانيي الشتات في مشارق الأرض ومغاربها ، يجعل الواحد منهم لنفسه إسماً ، أو لقباً ، أو حتى يكتب بهويته الصريحة ، ليبث لواعج أشواقه لبلاد أحبها وناس أحبهم ، رغم أن تلك اللواعج قائمة ، في حقيقتها ، على فكرة صوفية عن السودان أبعد ما تكون عن الواقع! لكن هذا المنبر أصبح ، منذ فترة ، معتركاً في غير ما مقتلة ، ينازل فيه سودانيو الشتات ذواتهم لأسباب لا تبدأ بالطائفية السياسية ، ولا تنتهي بالمطاعنات الشخصية بين (كوم فلان) و(جماعة علان)! هجر المنبر سدنته ، ومنهم نجوم يكتبون الآن في صحف الخرطوم. على أن أطرف ما يسترعي انتباهك فيه أن الكل ، بلا استثناء ، يجمعون على مر الشكوى من كل شئ .. من السودان ، والخرطوم ، والحكومة ، والمعارضة ، والسفارات ، والقنصليات ، والمثقفين ، وغير المثقفين ، وتجمعات الجاليات ، وروابط المغتربين ، جاعلين من كل ذلك مادة لمعاركهم الصغيرة! ولعل مرارة الشكوى قد انعقدت ، بدرجة صاهرة ، في موضوع كتبه طارق الأمين ، أحد نجوم الكوميديا من جيلنا ، مع مراعاة فروق التوقيت العمري ، تحت عنوان مثير: (قفلت معاي)! وهو تعبير دارج يفصح عن أحرج نهايات الضيق بأمر ما أو شخص ما. هذا الموضوع زاره ، حتى لحظة كتابة هذه السطور ، رقم قياسي بمعايير مشاركات المنبر. وفيه يعدد طارق الأمين دواعي ضيقه من الخرطوم ، ابتداءً من شمس نهاراتها الحارقة ، وغبارها المشهود ، مروراً بأشياء يجمل بنا ألا نعرض لها هنا ، وحتى غناء مغنين نمسك عن ذكر أسمائهم! تفاعل الكثيرون من زوار موضوع طارق معه تفاعلاً متصاعداً ، ورفدوه بذكريات وتجارب ، جلها مما خبروه في حلهم بالسودان أو ترحالهم عنه زائرين ومقيمين. لكن يبدو أن أغلب المشاركين هم ممن فارقوا السودان فراق الطريفي لجمله ، وباعد بينهم وبينه بون شاسع وزمن متطاول! ولعل هذا بالضبط هو ما حدا بكاتبه لأن ينشيء موضوعاً جديداً أسماه (فكّت حبة) ، في معنى أنها فرجت قليلاً أو كادت!
الحالة المزاجية التي أوعزت لطارق بكتابة ما كتب ، ولمشاركيه بالادلاء بدلائهم تلك التي يطول رشاها ويقصر ، هي ، بالتأكيد ، نتاج مباشر للتردي الاقتصادي والمأزق المعيشي والتلبك السياسي ، والتبلد ، إن لم نقل التكلس ، الثقافي الذي بات سمة الخرطوم الموسومة ، وصفة السودان المعلومة. وغني عن القول أن طريق الحل القريب ، إن لم نقل الصحيح ، لهذه الحالة ، وبالمنطق الشبابي العجيب ، هو الذي يفضي ، حتما ولا محالة ، إلى الاغتراب أو الهجرة ، وكلاهما فرار إلى الخارج! ناهيك عما يصحب ذلك ، أكثر الأحيان ، من نزوح إلى الدواخل ، أو الانكفاء عليها. وقد بات هذا الحل يسيراً بفعل العوامل التسع الباقيات لنظرية فريدمان ، مثلما بات علاجه عسيراً ، وبسبب العوامل ذاتها!
على أن الأمر ليس شراً كله ، في ما يبدو. ففي حالة مقايسة لما أسلفنا ، شكا لي قريبي اللدود محمد فول من أن بعضهم نشر في الانترنت صوراً لقدمه المصابة في مباراة كرة قدم في ساحة مغمورة في (الحلة) ، وبين أترابه ، فشاع الأمر واستشرى ، وانهالت عليه التعازي والمواساة من كل ركن في البسيطة (المسطحة) من أصدقاءٍ وزملاء دراسة فرقهم الشديد القوي أيدي سبأ ، فتشتتوا ، أو شتتوا ، بين المطارات! والطريف أن محمداً الذي يتمطى في سمعته كأحد عتاة أولاد الأحياء (الناشفة) أصابه لاعب (وافد) من حي (كافوري) ، حيث النعمة الممدودة ، وكل لين جلد وطري ناصية! والأنكى أن اللاعب (المرتاح) إياه يعمل في (الأمم المتحدة)! فأبرق أحدهم محمد فول إلكترونياً ، يواسي في الظاهر ، ويشمت في الباطن ، بأن إصابته تلك ليست مما يجدر أن يحزن له ، وإلا فإيش أدراه أنها لم تقع بموجب (الفصل السابع)!
الأحد:
للسودانيين ، أو الأزوال في دارج قول أهل الامارات ، مودة خاصة مع شارع الخليج في دبي ، لا يشاركهم فيها غير عموم الوافدين من غرب أفريقيا ، الذين يديرون تجارة لا تخسر أبداً في هذا الشارع وأسواقه ، يملأون منها جيوبهم وحقائبهم بأرباح غير منقوصة .. وكذا الهنود. لكن السودانيين يضربون أكباد السيارات إلى شارع الخليج لثلاث: إما زائرين ، أول المساء ، مقهىً حبشياً يحتسون فيه فناجيل الجبَنة ، وإما قاصدين ، آخر الليل ، مقصف ديسكو حبشياً أيضاً يتناولون فيه عشاءهم ، وإما متبضعين ، بين هذا وذاك ، في سوق من أسواقه المكتنزة بكل سلع الدنيا!
وقصة بني سودان في الإمارات مع أكل وشراب بني حبش قصة تطول. اوائل أيامي في الخليج حننت إلى قهوة بمذاق سوداني صرف يغسل عني مرارة النسكافيه ، فجرني صديق إلى (قهوة حبش) كائنة بناصية من تلك المضارب ، حيث عرفت أن سائر ما يكمل مزاج السوداني موجود هنا .. من متون الجبَنة وحتى حواشي (التنباك) ، مروراً بـ (الويكة) و(الونسة) حول (ست الشاي) ، وفي هذا نظر لعلماء النفس والاجتماع يطول أيضاً ، لكن ليس هنا مكانه!
وللجبَنة عند الحبش طقوس تفوق تلك التي تتبعها أمهاتنا في (قهوة سيدي الحسن) أيام الثلاثاء الخضراء ، تأتي المكان ملفوحاً بقيظ دبي اللاهب ، ورطوبتها القاتلة ، تخر ماءً دبقاً من أعاليك إلى أسافلك ، فإذا بجهاز التبريد يهش في وجهك ، والعيون المؤتلقة الوضيئة تتلقاك بالترحاب من لدن غيد حسان ، والديكور الحبشي أقرب ما يكون إلى ما تألفه عيناك في أي ركن من السودان: هنا طبق ملون ، وهناك مشلعيب مضفور ، وبينهما ككر محكر! أنت إذن بين أهلك ، تطلب فتأتيك الجبَنة في غير ما بطء ، محروسة بالابتسامات اللطيفة ، يضوع معها عبق بخور منعقد ، تصب لك الغادة الحسناء ، فتشرب ، ثم تلحقك بفنجان ثان ، وثالث .. ومن السقف يهطل عليك غناء الهضبة العذب بلسان عربي ذي عوج ، لكنه محبب ، يشق طريقه إلى قلبك وسط شلالات الموسيقى والايقاع الراقص: ''نسكن لندن عمارات فوق''!
وبينما أنت سابح وسط كل تلك الفيوض ، يسألك (دبيب) له ظل:
ـ ''أسمع .. راجع السودان متين''؟!
فتنظر حولك في شامخ البنايات ومصقولها ، وتسرح ناظريك في الشوارع والطرقات البهية ، تتراقص عليها سيارات من كل سنخ وأس ، فتتذكر على الفور ذلك المغترب العتيد الذي سئل السؤال ذاته ، وكان في بطن (مول) فسيح يشعشع بالأنوار والجمال الأخاذ ، فأمعن النظر حوله ، ثم رد بصلف لا يخلو من رباطابية لاذعة:
ـ ''وأرجع ليه؟ .. عرشوهو''؟!
الاثنين:
لا تغيب عن ذهني صورة أستاذنا ، كامل الدسم ، مجدي بخاري ، أستاذ (التاريخ) بمدرسة وادي سيدنا الثانوية ، أواخر الثمانينات. أسلوبه في تدريس مادته دق بيننا وبين المساق العلمي عطر منشم! وكان دائما ما يتساءل ، بأسلوبه الذي يدس النقد في المرح ، عن جريرة (شجرة النيم) في السودان ، مؤكداً أن تلك المسكينة تشارك في كل ثورات الخرطوم ومناسباتها الوطنية ، لكنها مهمَلة الذكر ومنسية بإفراط! ويضحك ضحكته المتهكمة ، وسط درس عن ألمانيا بسمارك ، ثم يروح يُعدِد:
ـ ''في الاستقلال ، قطعت أغصان النيم وهتف بها الناس فرحاً. جاء أكتوبر ، فقطعت أغصان النيم لتظلل هتافات المتظاهرين. ثم كانت مايو ومسيراتها المشهودة ، فكان النيم هناك. وذهبت مايو في أبريل ، فنال النيم نصيباً معلوماً من التلويح بأغصانه في لهيب صيف الخرطوم الحارق. إنهزم الهلال ، فقطع المريخاب الشامتون أغصان النيم ورقصوا بها ، وانهزم المريخ ، فشارك النيم في أهازيج الهلالاب المنتشين .. والله النيم مصيبتو مصيبة''!
يا أستاذي ، يا رعاك الله وسقاك حيثما كنت ، جيلي ، بحمد الله لم يشأ أن يوثق في محاضر التاريخ ما يمكن أن يدينه بأنه شارك في مجازر النيم أو باركها .. لكنه الجيل الذي (أكل نيم) ، في كل الأحوال ، حتى تجشأ!
* إعلامي سوداني في قناة (العربية) بدبي
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: سودانيز أونلاين { المنبر الحر} وطارق الأمين في رزنامة الأسبوع (Re: أبو ساندرا)
|
Quote: لا تغيب عن ذهني صورة أستاذنا ، كامل الدسم ، مجدي بخاري ، أستاذ (التاريخ) بمدرسة وادي سيدنا الثانوية ، أواخر الثمانينات. أسلوبه في تدريس مادته دق بيننا وبين المساق العلمي عطر منشم! وكان دائما ما يتساءل ، بأسلوبه الذي يدس النقد في المرح ، عن جريرة (شجرة النيم) في السودان ، مؤكداً أن تلك المسكينة تشارك في كل ثورات الخرطوم ومناسباتها الوطنية ، لكنها مهمَلة الذكر ومنسية بإفراط! ويضحك ضحكته المتهكمة ، وسط درس عن ألمانيا بسمارك ، ثم يروح يُعدِد: |
.. الف سلام يغشاك يا استــاذ مجدي بخــاري .. فقد كنــا في بداية التسعينات بوادي سيدنــا نشيل منــو حق الفطــور .. ومرات نديهـو حق الفطــور .. يعني الجيب واحد.. ومن الوقت داك لحدي الآن .. يانــا بناكل في النيــم .. اكل الفيله.
| |
|
|
|
|
|
|
|