|
في ذكرى رحيل "أبي القاسم"
|
عندما قرأت النبأ لم أصدق عيني .. لم أقو حتى على نقله للزملاء والأصدقاء ، العرب والسودانيين على السواء الذين نشأت بينهم وبين الراحل العظيم علاقة ود ، من خلال كتاباته ومقالاته التي كنّا ننشرها في صحيفة (أخبار السودان) ، وفيما بعد في صحيفة (الضفتان) ، وكتبه التي تبادلوها فيما بينهم وتدارسوها، والكل أجمع بأن الرجل سابق زمانه ، من غير أن يكون حالما، وانما عالم مستنبط من عمق التجارب وسعة الاطلاع ، بوصلة وقدرة نادرة على الاستشراف والتنبؤ بما هو آت. قليلون هم أولئك الرجال الذين تقرأ لهم فتشعر مع كل سطر وكل فكرة انهم قرءوا أفكارك وتلمسوا النقاط التي التبست عليك وأضاءوا لك أبعادا وأركانا كانت قد خفيت عليك.. وأقلّ منهم أولئك الذين تلتقيهم للمرة الأولى فتحس دفء الود يغمر المكان الذي يجمعكم ، ولكأنك تعرفهم ويعرفونك منذ بدأت تلتقط ملامح والديك وأخوتك طفلا ، وعاشوا معك سنوات الصبا والشباب ، ثم شاخوا معك , , تشعر باختصار شديد انهم تقمصوك وتقمصتهم . . قلت له ذلك عندما التقينا في القاهرة منتصف التسعينيات ., تلك كانت هي المرة الأولى والأخيرة التي التقي بها مع الأستاذ الصديق الحبيب الراحل ، مع أن اتصالاتنا على الهاتف كانت متواصلة لعقد مضي قبل اللقاء ، ولعقد تلاه ، بشكل اسبوعي وأحيانا يومي. . كان الأقرب اليّ من كل أبناء جيل الرواد الذين رحلوا قبله : الشريف حسين . . عبد الماجد أبو حسبو . . عمر محمد عبد الله . . كان عروبيا ، اسلاميا ، انسانيا . لا كصفات متلاحقة ، وانما كعلاقة جدلية لعروبة تحمل رسالة إنسانية. . عروبة منفتحة ، تستوعب وتستصحب معها تاريخ وتراث حضارات تلك الرقعة الواسعة التي نطلق عليها اليوم اسم العالم العربي ، والقابلة للاتساع بقدر اتساع وتنوع البشرية جمعاء , وفي نفس الوقت ، المهددة بالانكماش والتقوقع لتعود كما انطلقت خياما متناثرة وسط الصحراء . . جلست إليه بعد أن تناولنا طبق الفول . وجاء الشاي الذي أعده بنفسه في شقته بالقاهرة . أدار شريط الكاسيت على أغنية سودانية شعبية لا اذكرها الآن . سألته عن عبارة وردت على لسان المغني. فبدأ يحكي لي، وتحولت الحكاية إلى درس رائع من أستاذ متمكن . بدأ بعلي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ ، وعرج على ثورة اكتوبر ، لينتهي بما آل إليه حالنا الآن والمأزق التاريخي للسودان ، والحاجة الي صحيفة تكون منبرا يتحاور فيه السودانيون في المهجر , حتى لا تصبح هجرتهم أبدية ، وانما هجرة على طريق العودة . وتكررت لعشر قضيتها في القاهرة تلك الدروس ، وخرجت بذخيرة من معرفة وتفاصيل ما كنت لأعلمها لولاه رحمه الله وطيّب ثراه . تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي جالسته فيها وجها لوجه ، وليس في واحد من كتبه أو مقالاته. وتلك كانت هي المرة الأولى ، وأسأل الله أن لا تكون الأخيرة ، التي أرى فيها القاهرة . للأصدقاء الذين سألوني ذات يوم : زرت مصر ولم تر الأهرام وأبا الهول ؟! ولم أجد حينها ردا على تساؤلهم المنطقي ذاك . . أقول أني وجدت الإجابة الآن: رأيت أبا القاسم وجلست إليه . ورأيت هرما سودانيا شامخا قلّ أن يجود الزمان بمثله. رحم الله أبا القاسم ، وألهم زوجته وأبناءه وأهله وأصدقاءه الصبر . وعزاؤنا أن الرجل ترك لنا فكرا وعلما في زمن قلّ فيه المفكرون والعلماء. و إنا لله وإنا إليه راجعون
|
|
|
|
|
|