محمد علي جادين
الأمين العام لحزب البعث السوداني
عند توقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير الماضي استقبلتها جماهير الشعب السوداني وقواه السياسية والاجتماعية المختلفة باعتبارها حدثاً تاريخياً مهماً يفتح الطريق لتحقيق السلام والاستقرار واحداث تغييرات سياسية اساسية في نظام الحكم ونهجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهذه الآمال العريضة تستند الى ان الاتفاقية تؤدي الى خلق وضعية سياسية جديدة ترتكز الى شراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ومشاركة مُقدّرة للقوى السياسية الاخرى الشمالية والجنوبية ورقابة صارمة من قبل دول مبادرة الايقاد وشركائها والامم المتحدة ووقتها حذر احد خبراء الإدارة العامة والعلوم السياسية بأن لانذهب كثيراً في التفاؤل بما قد تحدثه اتفاقية السلام من تغييرات سياسية واقتصادية وذلك لأن الوثائق والاتفاقيات لا تعني الكثير في مجتمع متخلف مثل السودان فالقوى المهيمنة والمسيطرة قادرة، بحكم امكانياتها الفعلية وضعف قوى التغبير في المجتمع، قادرة على كبح عوامل التغيير واحتوائها واشار ايضاً الى عدم قدرة النخبة السودانية على المتابعة والمثابرة في ميدان التنفيذ خاصة في ظروف اتفاقية معقدة مثل اتفاقية السلام الشامل
إن تطور الاحداث يشير الى مصداقية هذا التحليل فقد مرت الآن اكثر من ثمانية شهور على توقيع الاتفاقية وهناك احباط عام وسط الشارع وقواه السياسية، وشعور بفشل الفترة الانتقالية منذ بدايتها فقد كان المخطط ان ينجز طرفا الاتفاقية مهاماً عديدة في الفترة الانتقالية التمهيدية التي تنتهي في 9 يوليو الماض ولكن الطرفين انشغلا بمشاكلهما ولذلك مرت الفترة التمهيدية دون انجاز المهام المحددة، وفي اسابيعها الاخيرة قامت مفوضية المراجعة الدستورية بصياغة الدستور الانتقالي بمشاركة متأخرة من التجمع الوطني الديمقراطي ومقاطعة قوى سياسية شمالية اساسية وهكذا بدأت الفترة الانتقالية في مواعيدها باجازة الدستور الانتقالي وتكوين مؤسسة الرئاسة على عجل ومنذ ذلك الوقت مرت حتى الآن اكثر من ?73? يوماً ?حوالى شهرين ونصف دون اي تقدم ملموس وبعد انتظار طويل قام الطرفان بتعيين اعضاء المجلس الوطني ?الاتحادي ومجلس الولايات دون اي مشاركة لقوى المعارضة الشمالية، وفشلا حتى الآن في تكوين ما تسميه الاتفاقية ?حكومة الوحدة الوطنية وكذلك اجازة دستور الجنوب ودساتير الولايات وتكوين مؤسساتها التشريعية والتنفيذية. صحيح ان وفاة زعيم الحركة في بداية اغسطس الماضي كان له تأثيره في تأخير انجاز هذه المهام ولكن السبب الاساسي يتمثل في انشغال الطرفين بمشاكلهما الداخلية واعادة ترتيب اوضاعهما، بالاضافة الى خلافاتهما حول المناصب الوزارية خاصة وزارة الطاقة والمعادن وفي العمق هناك نظرة الطرفين لتطور الفترة الانتقالية. هل تظل محصورة في شراكة مغلقة بين المؤتمر والحركة؟ ام تتطور الى شراكة واسعة تضم قوى سياسية واقليمية اخرى؟ وفي جانب الحكومة وحزبها الحاكم تبدو خياراتها واضحة ومحددة فهي تستهدف احتواء الحركة الشعبية، بعد غياب زعيمها التاريخي، ودفعها للغرق في مشاكل الجنوب بتعقيداتها وضخاماتها المعروفة على حساب الاهتمام بقضايا المركز والشمال، وبالتالي ضمان سيطرة نخبة الانقاذ على المركز والولايات الشمالية طوال الفترة الانتقالية الجارية. والصراع حول وزارة الطاقة ووزارة المالية يدخل في اطار السعي لتكديس هذه السيطرة ذلك بحكم الدور المركزي الذي بدأ يلعبه البترول في ايرادات الدولة وحركة الاقتصاد الوطني وتنمية الفئات الطفيلية بشكل عام ويساعدها في ذلك الضعف العام الذي اصاب الحركة بعد غياب جون قرنق، بحكم رؤيته الواضحة لمشروع السودان الجديد، وسيطرته على وحدة الحركة، وتحوله الى زعيم يجسد طموحات الجنوب ويجد سنداً وقبولاً واسعاً في الشمال بجانب علاقات وطيدة مع قوى اقليمية ودولية مؤثرة في السياسة السودانية في المرحلة الحالي. ولهذا السبب بالتحديد بدأ اهتمام الحركة يتركز في الجنوب على حساب اهتمامها بقضايا المركز والشمال، والواقع ان الحكومة ظلت تلعب دوراً ملموساً في احداث هذا التحول منذ توقيع الاتفاقية في يناير الماضي من خلال القوى الجنوبية المرتبطة بها المهم ان الحكومة تعمل على ترتيب اوضاعها استعداداً لمرحلة الشراكة والانفراج السياسي المتوقع خلال الفترة القادمة وبرز ذلك في البطء في تكوين مؤسسات الانتقال واستكمال مفاوضات التجمع ودارفور والشرق في اجازة بعض القوانين عن طريق المجلس الوطني السابق، مثل قانون مشروع الجزيرة، واصدار قوانين اخرى بأوامر مؤقتة، مثل قانون المنظمات الطوعية، واجراء تغييرات واسعة في تركيبة بعض الوزارات وقيادات الخدمة المدنية وغيرها وذلك بالاضافة الى نشاط سياسي واسع لإعادة بناء الحزب الحاكم ودعم وجوده في المدن والارياف باساليب عديدة ترتكز كلها على قدرات الدولة وامكانياتها وفي الوقت نفسه تعمل على اضعاف القوى السياسية الاخرى وتجريدها من مراكز نفوذها وقوتها ويتضح ذلك بشكل بارز في تعاملها مع التجمع الوطني وازمة دارفور والشرق
يتبع