|
محجوب شريف.. محاكاة نبض المجتمع شعرا
|
مقال لي كان قد نشر في مجلة "الصدى" الاماراتية قبل شهور، وأعيد نشره هنا تضامنا مع المبدع محجوب شريف في محنة مرضه شفاه الله
يعثر القاريء المتأمل لنتاج الشاعر السوداني محجوب شريف بدون صعوبة على ثمة تشابه بين هذه النتاجات ونتاجات الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا لجهة التأثير غير المحدود الذي لا زالت تخلفه هذه النتاجات ليس في حقل الجمال فحسب وإنما أيضا في مجال التأثير غير المحدود في بنى الوعي بالنسبة للمتلقيين. فمن مفردات شائعة ودارجة و"عادية جدا" استطاع هذا الشاعر الفذ أن يصيغ تجربة شعرية لا زالت تتجذر في الوجدان السوداني وتمنح الشاعر مكانة عالية بين نظرائه. ولربما تشابه منجزه الإبداعي في هذه الناحية مع منجز نيرودا خصوصا في أناشيده التي اشتغل من خلالها على رصد بيئته ومن خلال أدق تفاصيلها ناسجا ملاحم كبرى تظل شعوب أميركا الجنوبية تنظر إليها بعين الاعتبار والتبجيل. يرصد الكاتب السوداني سيدأحمد علي بلال حركة شريف الشاعرية على مستويين، الأول يتمثل في حب ينتقل بالعالم من حال ذبول إلى حال نضارة. أما المستوى الثاني –وهو الأجدر بالمعاينة في تقديري- فيتمثل باحتفاليته بالفعل الجماعي للإنعتاق، والذي يقوم مقام الحب في المستوى الأول. ويضيف بلال أن الشاعر ينتقل في هذا المستوى بين صوت الذات وصوت الجماعة حتى يبدو أن صوت الذات قد تقمص روح الجماعة. يقول في "يا شعبا تسامى": "يا شعبا تسامى.. يا هذا الهمام.. تفج الدنيا ياما.. وتطلع من زحاما.. زى بدر التمام" والحقيقة أن عناية شريف موجهة في شعره بشكل غير خاف إلى تحسس أوجاع الجماعة ومن ثم بث الأمل وتأمل الطريق المفضي إلى الخلاص والإنعتاق من خلال نسج مفردات غاية في البساطة لكونها مأخوذة من حكي الشارع، لكنها غاية في الصعوبة حين تعاين في فضائها الشعري، كما أنها تكشف وتتعمق في حثها الجماعة على معرفة دخيلتها الجمعية بل و"عظمتها" وخصوصيتها. في "يا شعبا لهبك ثوريتك" يغزل شريف على نول سعة المعاينة الداخلية الحاثة الآخرين على الوقوف كما الأشجار بوجه من يسلبهم انسانيتهم وحقوقهم: "ماك هويّن .. سهل قيادك.. سيد نفسك.. مين أسيادك" ولعل ما شدّ السودانيين بقوة إلى تجربة محجوب شريف ذلك التطابق الرهيب بين مرئياته الشعرية وواقعه الشخصي المعاش، إذ لم تبد على الشاعر مظاهر الانفصام التي يعانيها بعض الأدباء بين قوانينهم الأدبية ومبادئهم التي يبثونها في أعمالهم وبين الضعف الانساني الذي يقصف مبادئهم في لحظة مساومة مع السلطات الاجتماعية والسياسية. ويعوّل شريف في شعره –كما هو الحال في حياته- على الوطن تعويلا لا نهائيا يكتسب صفة الايمان الذي لا يتزعزع بقدرات الوطن ومن ثم شعب هذا الوطن. فهو ينادي الشعب بـ"المعلم" و"أبونا" بكل ما تحمل هذه المفردة في الوجدان السوداني من دلالات التوقير والمحبة والرفعة. ثم لا يلبث أن يذوب في حال أشبه بحالات الجذب الصوفي مكاشفا : "بخاف الطريق الما يودي ليك.. وأعاف الصديق الما يهمبيك معاك انتظاري.. ولو بالكفاف" بمعنى أنه زاهد في أي صديق لا يهتم لأمر الوطن، وخائف من أي طريق لا يعبر إليه، وسينتظر هذا الوطن على الكفاف. ويقرفص في حضرة الوطن –الذي يمثل بالنسبة إليه شخصية اعتبارية غاية في المهابة- ليناجيه: "في حضرة جلالك.. يطيب الجلوس.. مهذّب أمامك.. يكون الكلام". وينتقي شريف على الدوام لغة شعرية تنسل بخفة من "لغة الشارع" ومفرداته السهلة لتعجن في ماعون الشعر مع مفردات فصحى مفضية إلى "لغة محجوب شريف الشعرية"، حتى لكأنها أضحت طابعا لغويا يخصه. وفي قصائد عاطفية صرفة كما هو شأن قصائد وطنية، تبرز هذه الخاصية الجمالية التي تخاطب الجميع وتتغلغل في وجدانهم إنما من دون أن تفقد جذوتها الإبداعية الأصيلة. في "أنا مجنونك" يقول: "معاكي معاني حياتي بتبدأ.. وأفتح بابا ياما أنسدّ.. ليالي طويلة.. وأشوف العالم ربوة جميلة عليها نسيم الصبح مخدّه". وتجدر الاشارة أيضا إلى أن شريف كان من أوائل المبدعين الذين تنبهوا لإشكالية شمال/جنوب وسعى –في شكل انساني وابداعي راق- لمعالجتها بمنظار الشعر والعاطفة المقتدة تجاه الانسان.. انسان الوطن دون تمييز. وبلغة هي أقرب لـ"عربي جوبا" الذي يتحدث به الجنوبيون في السودان إلى جانب اللغات المحلية والإنكليزية يقول في "عشة كلمينا ميري حدثينا": "بي تمن طبنجة.. أحسن الكمنجة.. أحلى شتل منقة.. أحسن الحليب.. إيد وإيد وإيد.. نزرع الجديد" * كاتب سوداني مقيم في الإمارات [email protected]
|
|
|
|
|
|