فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 06:51 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-31-2005, 07:06 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)"

    الصديق الأستاذ حامد بدوي عضو بمنتدى سودانيزآونلاين، ما لا يعرفه كثيرون هو روائي تشكل إطلالته "مدينة النهر الميتة" إضافة نوعية إلى الرواية السودانية، الرواية سبق ان تم تصنيفها كواحدة من افضل روايات قدمت لجائزة "الطيب صالح للإبداع الروائي" عام 2003 بمركز عبد الكريم ميرغني بأم درمان، حالت ظروف كثيرة بين الرواية و القراء حيث لم تنشر رغم مرور ثلاثة أعوام على إكتمالها، قيض لنا الزمان فرصة ثمينة بقراءتها و أحببت أن أودعها هنا و هي مودعة للطباعة بغرض النقد و التقييم ثقة في قدرات قراء الموقع و تمردا على موانع النشر الطبيعية و غير الطبيعية


    هلا رحبنا بالكاتب حامد بدوي بعد طول إقامة في المنبر


    مرتضى جعفر
                  

08-31-2005, 07:16 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (1)

    وقال: (هو ذا شعبٌ واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل و نبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فكفوا عن بنيان المدينة، وبددهم الرب على وجه الأرض.)
    سفر التكوين 1:11 – 9



    وظل الناس، كبارهم وصغارهم، يتحاشون الإقتراب من البلدة المهجورة. وظل سياج خفي من الحكايات الغامضة يمنع الجميع من الإقتراب. حكايات لايدري الإنسان متى سمعها ولا أين.

    ومع مرور الوقت، تصير هذه الحكايات قناعات راكزة وسياجاً من الخوف الغامض يبعد الإنسان عن شبح المدينة.

    واعتاد الرعاة وكل من يرد النهر من أهل المنطقة رؤية ذلك الشبح الطويل، شديد سواد البشرة، شديد بياض شعر الرأس، صاعداً هابطاً أزقة البلدة المهجورة في أسمال حالت ألوانها.

    نعم، يحدث أن يتجاسر بعض الصبية المغامرين من رعاة الشاة فيتلصصون على الشبح. غالباً ما يكون الأمر رهاناً لإثبات الشجاعة، وربما إكراماً لعيني طفلة واسعتين. يتلصصون بحذر من بين فرجات الشجيرات الكثيفة. يسترقون نظرات خاطفات في لحظات مخطوفة إلى ذلك المخلوق المخيف ثم يجفلون مدبرين متوهمين أنه قد بصر بهم وعبس. يعودون إلى رفاقهم المنتظرين بتلهف، يعودون إليهم بحكايات ليس لها من حقيقة إلا في خيالهم الطفل. حكايات تصير مع مرّ الأيام بعضاً من حقائق الحياة، لا يدري المرء متى وأين سمعها ولا ممن.

    ظلت البلدة وظل الرجل معاً، عالماً من الغموض المخيف لم يجرء إنسان على إقتحامه واضاءته. حتى الحيوانات من أبقار وأغنام وحمر، ظلت لسبب غامض، تتحاشى المرور وسط مباني المدينة الصامتة عندما تقصد النهر لتشرب. بل أن النار في مواسم الحرائق الكبيرة أول الشتاء، تظل تأكل الأخضر واليابس حتى تخوم البلدة الميتة فتتوقف وتخمد. وكثيراً ما شاهد الناس آثار النيران وقد تركت البلدة جزيرة من المباني والعشب والشجيرات وسط بحر أسود من الأرض المحروقة.

    وعرف الناس الرجل باسم أخرس جويكِرَّة بسبب أنه لا يوجد بينهم قاطبة من سمع له صوتاً. وتقول الحكايات أن هذه المدينة، جويكِرَّة، قد سكنها قبيل من الجان في لحظة شؤم وطردوا منها جميع سكانها من بني البشر، ولم يبقوا على أحد سوى أخرس جويكِرَّة هذا. وسبب الإبقاء عليه دون غيره هو أن إحدى بنات الجن قد عشقته وتزوجت به، وهي التي حكمت عليه بعدم مخاطبة أو مخالطة بني البشر.

    ولأن جويكِرَّة قد بقيت على حالها من الصمت والعزلة والغموض على مر الشهور والسنوات، ولأن أخرسها قد بقي كذلك، فقد صارت وصار جزءاً مألوفا من ذاكرة القوم. قد يثير الأمر فضول زائر يزور المنطقة للمرة الأولى، قد يتلكأ أول الرعاة وروداً للنهر فينتظر حتى يلحق به آخرون قبل الإقتراب من البلدة المسكونة بالجان، ولكن ما عدا ذلك فإن جويكِرَّة وأخرس جويكِرَّة قد صارا بعضاً من الأجزاء الثابته في لوحة الحياة، مثل النهر والغابة والريح وقعقعة الرعود، خطراً يتعايش الإنسان معه ويثير في النفس، عند مجئ الليل، قلقاً غامضاً وخوفاً مألوفاً. خوفاً يجعل الليل ليلاً والنهار نهاراً.

    غير أنك لن تفشل في الحصول على القصة الحقيقية من العارفين من أهل المنطقة. فهذا الرجل الطويل الأسود، شديد بياض الرأس، هذا الصامت المتجول بين أطلال المدينة، إسمه حكيم. وأنه على هذه الحال من الصمت والتجوال لما يزيد عن الثلاثين عاماً. ويقولون أنه قد ذهب عقله وفقد القدرة على النطق لهول ما مرَّ به في مخزن الموت. فحكيم هذا، هو الناجي الوحيد من بين المئات من رجال جويكِرَّة وضواحيها، حشرتهم الشرطة حشراً في مخزن مبني بكامله من الحديد ذات أمسية مشئومة إثر أحداث جويكِرَّة المعروفة للقاصي والداني. والواقعة مشهورة ومعروفة. فعندما جاء المسئولون بالمدينة صبيحة اليوم التالي لمباشرة التحري مع مثيري الشغب من رجال جويكِرَّة وضواحيها، وأمروا بفتح باب المخزن الحديدي الضخم، إنفجر الباب إنفجاراً وتناثرت جثث الرجال، إذ كان المخزن محتقناً بجثث البشر. جثث بعضها طري لم تفارقه الروح إلا من لحظات، وجثث متيبسة مات أصحابها من أول الليل. تلك كانت كارثة تسامعت بها مشارق الأرض ومغاربها ورج وقعها البلاد من قواعدها. فقد مات جميع من حشروا في المخزن إختناقاً ولم ينج سوى رجل واحد، إكتشف الطبيب، وهم يهمون بإهالة التراب على الموتى في حفرة كبيرة، أنه كان لا يزال حياً. ذلك الناجي الوحيد هو رجل من سكان المدينة المعروفين بالمرؤة و القبول، إسمه حكيم.
                  

08-31-2005, 07:25 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الرواية اسمها مدينة النهر الميتة، خلاف ما هو مكتوب في عنوان البوست حيث كتبت "المينة"، أرجو المعذرة على الخطأ

    مرتضى جعفر
                  

08-31-2005, 05:35 PM

wadabdean
<awadabdean
تاريخ التسجيل: 08-23-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى جعفر
    لك الود
    هل الروائى المذكور هو الصديق حامد بدوى بشير الناقد المعروف ؟ ام اسم على اسم ؟ ارجو اخطارى .. ومتى ستسمكر لنا هذه الرواية على غرار "سالم ود السما" ارجو ان ترد على تساؤلاتى واذا كنت تقابل حامد بدوى بشير "ابو نادر" تن تبلغه تحياتى
    عثمان عابدين
                  

08-31-2005, 05:39 PM

wadabdean
<awadabdean
تاريخ التسجيل: 08-23-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    مرتضى جعفر
    لقد تاكدت بعد ان قرات النص " ان حامد بدوى " هو صديقى الذى اعرفه واظن ان الرواية كانت من قبل باسم " الرجال المائتون "
    لك ودى
    عثمان عابدين
                  

08-31-2005, 11:01 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: wadabdean)

    العزيز ود عابدين

    Quote: واذا كنت تقابل حامد بدوى بشير "ابو نادر" تن تبلغه تحياتى


    نعم حامد بدوب هو أبو نادر كما قلت تحياتك له ستصل و أرجو أن تتقبل تحياتي أنا. أجزاء من الراوية سأنزلها تباعا، فقط أرجو الصبر علي لشدة الزحمة و المشغولية

    لك الود


    مرتضى جعفر
                  

09-01-2005, 03:12 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى جعفر,
    لك الود كله.
    في الزمن الفلاني الذي أظل أهل السودان, كان علينا أن نفرغ دواخلنا بالكتابة ونقول الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى. لم يكن النشر واردا لأسباب جمى. أشكر لك ما تقوم به تجاهي.


    ود عابدين

    أيها الصديق الذي أفتقده كثيرا وافتقد معه أجمل أيام العمر حين كنا قادرين على الضحك في أمدرمان والحصاحيصا. كيف أنت وكيف الاولاد؟
    قبل مدة وجيزة فوجئت بالسنيح يتصل بي. لكنه عاد إلى نيروبي قبل أن نكمل حديث الذكريات.
    لك تحياتي.

    حامد بدوي
                  

09-01-2005, 03:17 AM

mazin mustafa
<amazin mustafa
تاريخ التسجيل: 07-30-2005
مجموع المشاركات: 287

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    UP
                  

09-02-2005, 11:43 AM

wadabdean
<awadabdean
تاريخ التسجيل: 08-23-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    ازيك يا حامد بدوى بشير
    كيفك
    وكيف .. ملاذ.. ونادر وهاشم وامهم .. سعدت بنيلك الجائزة وانت تستحقها وقطعا "الرجال المائتون"قديما " ومدينة النهر " حديثا تستحق هذا التكريم ودعنا نقول بلغة فخيمة" تستحق التقريظ" ودى وسلامى للاسرة العظيمة واتمنى ان ترسل لى عنوان بريدك الالكترونى حتى نتواصل واطمئنك .. هناك الكثير من الذين يودون سماع صوتك .. لكن تعال ياحامد انت كيف انتقلت من خانة النقاد الفذاذ الى المبدعين الرواة " قرقر قر " وعى ذكر السنيح .. قابلنى صديق شايقى" النوبى" قبيل لحظات " لحظات دى يعنى قبل 24 ساعة من قراءتك لهذا الاى ميل او ايداعه من قبل مرتضى جعفر عندك .. وبعدين هناك من يذكرونك .. مثل فائز ابا .. والسريحى والصقعبى .. ومنصور عثمان .. والثبيتى .. ارسل لى سلامه ذات يوم من الرياض .. وكثيرون ولا انسى عبدو .. عبده خال .. لك ودى يا حامد ولااخ
                  

09-02-2005, 11:43 AM

wadabdean
<awadabdean
تاريخ التسجيل: 08-23-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    ازيك يا حامد بدوى بشير
    كيفك
    وكيف .. ملاذ.. ونادر وهاشم وامهم .. سعدت بنيلك الجائزة وانت تستحقها وقطعا "الرجال المائتون"قديما " ومدينة النهر " حديثا تستحق هذا التكريم ودعنا نقول بلغة فخيمة" تستحق التقريظ" ودى وسلامى للاسرة العظيمة واتمنى ان ترسل لى عنوان بريدك الالكترونى حتى نتواصل واطمئنك .. هناك الكثير من الذين يودون سماع صوتك .. لكن تعال ياحامد انت كيف انتقلت من خانة النقاد الفذاذ الى المبدعين الرواة " قرقر قر " وعى ذكر السنيح .. قابلنى صديق شايقى" النوبى" قبيل لحظات " لحظات دى يعنى قبل 24 ساعة من قراءتك لهذا الاى ميل او ايداعه من قبل مرتضى جعفر عندك .. وبعدين هناك من يذكرونك .. مثل فائز ابا .. والسريحى والصقعبى .. ومنصور عثمان .. والثبيتى .. ارسل لى سلامه ذات يوم من الرياض .. وكثيرون ولا انسى عبدو .. عبده خال .. لك ودى يا حامد ولااخ
                  

09-01-2005, 11:23 AM

TahaElham

تاريخ التسجيل: 07-22-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الجويكرة المدينة الحلم المائت



    صلاح جويكرة و اخرين
    الرواية عمل كبير نتشرف بالشارة اليها هنا من الغالي مرتضي جعفر

    ساكتب عن هذه الرواية في مساهمة قريبة

    الاستاذ حامد البدوي حد ذاته كنز معرفي و انسان جبار في ادراكه كتب عنا و كتب لنا عملا سيكون من الاعمال التي سيتشرف بها جيلنا في المستقبل
    هذا العمل شهادة علي الواقع و اثبات لضياع احلامنا و هي ايضا ترياق لاتعابنا في حوار الوحدة و الانفصال جنوب و شمال
    مايتم الان هو احد تنبوءات الرواية
    سيكون اتفاق الحركة و النظام ملاذا امنا لطالبي الديمقراطية و الاصلاح في السودان

    طه جعفر
                  

09-02-2005, 03:37 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    طه.. يا أبا جعفر,

    أنتم أحد الصدف الجميلة القليلة في حياتي المتاخرة. والله جد.

    أشكر لك إطراءا أنا قطعا لا أستحقه ولربما تستحقه الرواية التي انفصلت عني تماما الآن وتكاد تنكرني.

    الشكر لك وتحياتي لأم جعفر وجعفر والحمدلله علي السلامة.


    حامد بدوي
                  

09-02-2005, 05:31 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    الأعزاء ود عابدين، مازن مصطفى، طه جعفر و صاحب الدار الصديق حامد بدوي

    تحياتنا و شكرنا على الإطلالة و على هذه الكلمات الجميلة بحق هذا العمل الذي يستحق منا التوقف

    اليوم لاحقا سأعمل على إنزال جزء آخر من الرواية حتى نبدأ رحلة الغوص في أعماق هذا العمل الإبداعي بالنقد


    دمتم

    و شكرا جزيلا

    مرتضى جعفر
                  

09-02-2005, 09:59 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (2)

    وقعت الواقعة وحلت الكارثة. أصابت المصيبة الناس في جويكِرَّة أجمعين. من لم يفقد قريباً فقد صديقا ومن لم تترمل فقدت أخاً أو أبناً أو أباً. غشى الغم المدينة. النساء ثكلى والأطفال أيتام والرجال ينتحبون في أزقة المدينة المظلمة.

    ذهلت البلدة إذ وعت حجم الكارثة في اليوم الثالث فكفت عن البكاء. كان الأمر أجل من مقدرة الناس على التحمل فوجمت المدينة في اليوم الثالث. ونزل بها صمت حزين وتام. قالوا كأنما الصمت نزل على جويكِرَّة من السحاب أو جاءها مع الهواء. صمت الناس والحيوان. صمتت الحياة في جويكِرَّة. صمتت الغابة حول المدينة، والنهر صمت والريح. كانت الطيور تعود مع مغيب الشمس إلى أوكارها فوق أشجار المدينة دون ضجيج والضفادع على ضفة النهر تتعاشر دون مقدمات لحنية. سكنت أصوات صراصير الليل وعافت ذكور الحمام أن تهدل حول أناثها، وعاف الناس الكلام. فقد فقدت الكلمات معانيها أو انفصلت عنها. فجأة لم تعد الأصوات تدل على شئ فانقطعت. انفصمت الرابطة السحرية بين الأصوات وبين المعانى فلم يعد الكلام كائناً. ولأن الكلام هو أساس إجتماع الناس، فقد صار القوم يتحاشون مقابلة بعضهم بعضاً ولزم كل فرد داره لا يبرحها. حدث ذلك في اليوم الثاث للكارثة.

    قالوا أنه لم يمض وقت طويل على هذه الحالة المستحيلة، حتى بدأ الناس يغادرون البلدة وحداً بعد الآخر وأسرة إثر أسرة. لا، لم يجتمع أهل جويكِرَّة كعادتهم للتشاور حول أمر الخروج. لم يقل أحد للآخر ما أزمع عليه. ومع ذلك فقد كان قرار الخروج جماعيا.

    قالوا أن الناس قد خرجوا من مدينتهم، كما يخرج الناس يوم النشور، فرادى. خرج الأطفال متعلقين بأذيال أثواب أمهاتهم الذاهلات. وخرج الرجال لا يلتفتون إلى الخلف. قالوا أن الرجل كان يتعرف على أولاده وسط الجموع الذاهلة بعد أيام من الخروج. وغادر الناس مدينتهم دون أن يأخذ أحد منهم منها شيئاً. ترك التجار دكاكينهم مشرعة الأبواب والبضائع على الأرفف. تركوا جوالات المحاصيل مجمَّعة على رصيف الشحن عند شاطئ النهر. ترك الأهالي بيوتهم مشرعة الأبواب وأواني الطبخ على النار. تركوا البهائم هائمة في الطرقات. ترك موظفوا الدولة مكاتبهم تتقافز فوقها الجرذان. تركوا الأوراق فوق الأدراج.

    رحلوا جميعاً في الصمت والذهول ولم يتخلف عند أطلال المدينة سوى حكيم. لم يعرف أحد كيف عاد ومتى عاد, فقط رأوه هائماً بينهم في أزقة المدينة. تسللوا وتركوه يغرق في الصمت والذهول وحيداً. حكيم لم تخرج من بين شفتيه كلمة واحدة منذ عاد إلى الحياة. وبسبب هذا الصمت لم يعرف إنسان على ظهر الأرض حقيقة ما جرى داخل المخزن الحديدي في تلك الليلة الرهيبة. فحكيم هو الوحيد الذي شهد ما جرى، وحكيم منذ أن أفاق من غيبوبة الموت ورأى رفاقه يجرفون إلى حفرة كبيرة ويهال عليهم التراب، لم ينطق بحرف ولم يخرج من حدود المدينة المهجورة.

    بمرور السنوات أخذت المدينة تغرق أعمق داخل الصمت والتوحش والخراب وتتحول باستمرار إلى أطلال مدينة ميتة على ضفة نهر منسية. شاخت فيها أشجار النيم أمام المحلات التجارية وشاخت أشجار المانجو وسط باحات الدور وشاخت أشجار الأكاشيا على ضفة النهر. سقطت ثمار الأشجار وأنبتت شجيرات جديدة لم تلبث أن حولت المدينة إلى دغل كثيف. نمت الأعشاب كيفما شاءت مع توالي الفصول المطيرة وتكرار فصول الجفاف. نمت في الطرقات، داخل الأسوار، فوق سقوف البيوت وحتى على جدر المنازل. تكاثر البوم والخفافيش والغربان وباضت سلاحف النهر والتماسيح في ساحة السوق وتوالدت الأرانب البرية تحت أسرة النوم في البيوت المهجورة. توحشَّت الحيوانات والطيور الأليفة حتى لم يعد فرق بينها وبين وحشي الحيوان والطير. صارت الكلاب ثعالباً والبط أوزا برياً والماعز غزلانا. وظل حكيم بها وظل الرعاة وكل من يرد النهر يراه صاعداً هابطاً أزقتها. وظل الناس كبارهم وصغارهم يتحاشون الإقتراب من مبانيها خوفاً من الجن الذين استحلوها وطردوا منها سكانها.

    نعم... الحياة لم تتوقف بعد الكارثة. بقيت قبائل العرب الرحل تجوب بقطعانها من الأبقار مساراتها القديمة ثم تأتي وتستقر في مضاربها غرب جويكِرَّة. بقيت قرى القبائل النيلية الفقيرة تربي الماعز وتصطاد الأسماك وتبيع نساؤها الأواني الفخارية للعربان. بقي النهر وبقيت الغابة تظلل شاطئية. ولا تزال طيور الهجرة تروح و تجئ مع تبدل فصول السنة.

    نعم لم تتوقف الحياة ولكنها تغيرت. فبإغلاق مشروع جويكِرَّة لزراعة القطن، أقاموا مشروعاً أكبر من مشروع جويكِرَّة بعدة أضعاف. نشأت بنشؤ المشروع قرى عديدة وقرية رئيسة. أخذت تكبر وتتحول إلى بلدة عامرة لكثرة الناس الذين جُلبوا إليها أو الذين جاءوا من تلقاء أنفسهم بحثاً عن الرزق. نعم... بلدة عأمرة و اناس آمنون، ولكن الأمر قد اختلف. افتقدت الحياة روح جويكِرَّة. افتقدت إلفتها وتداخل الناس فيها. كانت جويكِرَّة تضم وتوحد سكانها. تذيب اختلافات البشر وتمنحهم هوية خاصة جديدة. أما في البلدة الجديدة فأن الناس قد سكنوا شعوباً وقبائل. كل قبيلة انتحت جهة من البلدة عزلت نفسها فيها وحافظت على اختلافها عن الأخرى. لكل قبيلة لسانها وطعامها وملبسها وطقوسها وقناعتها بافضليتها على الآخرين.

    نعم.. الحياة لم تتوقف ولكنها تغيرت. عاد الناس إلى ما كان عليه آباؤهم قبل ظهور المدينة. كأن الناس كانوا يلبسون ثوباً مستعاراً، أضطروا لخلعه، فعادوا سيرتهم الأولى. عادوا قرى وفرقان وقبائل وماتت روح المدينة. وعادت جويكِرَّة غريبة كما بدأت غريبة. لم تعد البواخر التي تمخر النهر تتوقف. لم يعد أحد يفهم لماذا يسكن الناس في مدينة على ضفة النهر مع الباعوض. ولم يعد أحد يتفهم لماذا كان أهل جويكِرَّة يوقدون الفناديل في أزقتها ليلاً.

    تغيرت الدنيا.... وإذا مالت الشمس نحو المغيب، عاد النهر، كما كان أول الخلق، مكاناً موحشاً ترتع على شاطئه الهوام والزواحف والمخلوقات اللذجة التي تقشعر لرؤيتها الأبدان. يغادر الرعاة مع حيواناتهم آخر النهار ثم لا يجرؤ مخلوق على الإقتراب من النهر وأطلال المدينة الشبح.

    ولا تزال الحكايات تسري ويتناقلها الناس مكتسبة قوة الحقيقة بين كل فم وأذن. يقولون أن أخرس جويكِرَّة، الذي يعاشر الجن، لا يبقى على هيئته الآدمية طوال الوقت. ثمة حكايات عن أناس شاهدوه يتمرغ عند طلوع القمر المكتمل على مملكة النمل فيتحول إلى حيوان ضار. قال بعضهم أسد وقال البعض ذئب. ويقول آخرون أن حكيماً هذا كان قد مات بالفعل ودفن مع رفاقه الذين اختنقوا داخل المخزن الحديدي، إلا أنه، وفي اليوم الثالث لدفنه، قد قام وخرج من القبر. وثمة تعليل جاهز لهذا الذي حدث من حكيم. فثمة اناس يقومون من قبورهم في اليوم الثالث لأنهم من نسل البنية المعروف. ويعرف أهالي المنطقة حكاية البنية التي كانت أول من قام من قبرة بعد دفنه بثلاثة أيام. ويقال أن أم البنية تلك، كانت قد تركتها وديعة عند نبي الله. غابت الأم زماناً وماتت البنية كما يموت كل مخلوق. غير أن الأم عادت في اليوم الثالث لدفن جثمان إبنتها. ولما عرفت ما جرى رفضت التسليم بالموت وهو حق وتمسكت بالباطل وأصرت أن يجئ لها نبي الله بابنتها سليمة كما استودعتها له سليمة. غضب النبي الكريم غضباً شديداً وسأل ربه وهو على تلك الحال أن تقوم البنية من قبرها ولما يمضي على دفنها ثلاثة أيام. استجاب الرب الحكيم وقامت البنية من قبرها وفرحت الأم الجاهلة وأخذت وديعتها وانصرفت. غير أن غضب النبي الكريم لم يذهب سدى، إذ صار كل من جاء من نسل هذه البنية يقوم من قبرة في اليوم الثالث لدفنه ويظل هائماً في الغابات والمباني المهجورة حتى قيام الناس أجمعين.

    غير أن الحاج حمد حوار الشيخ موسى الكبير، غضب غضباً شديداً عندما سمع نفراً من شبان القرية الجديدة يجدفون في سيرة حكيم وهم جلوس على كنبات مقهى القرية يقتلون الوقت بالحكايات وشرب الشاي. غضب الحاج حمد وصاح فيهم بأن ما يتقولون به عن حكيم حرام عليهم وأن عليهم أن يخافوا الله وغضبه. فحكيم من رجال الله الصالحين. كان الصديق المقرب للشيخ إسماعيل المنصور، إصطفاه من بين أهل جويكِرَّة قاطبة، عربهم وعجمهم. وعندما قبض العسكر على المزارعين قيدوا حكيما مع الشيخ إسماعيل، إذ كانوا يقرنون كل رجلين من أيديهما. وفي الطريق من جويكِرَّة إلى المركز، ظل الشيخ إسماعيل يلقن حكيماً كل ما عرف من الأسرار العلوية. كان الشيخ رحمه الله يعلم أنها رحلته الأخيرة، وأن حكيما سيعيش بعده دهراً. علمه من الكلمات والأسرار ما لا يعرفه عارف بالله في الناحية سوى الشيخ نفسه. ويقال أن الشيخ إسماعيل قد طلب من حكيم، بل أمره بالكتمان حتى يأذن له بالبوح وهذا أمر صعب لا يطيقه إلا القليل من صناديد الرجال. وحتى لا يعصي حكيم أمر شيخه بسبب السهو أو الخطأ، فيكشف من الأسرار ما يجب أن يكتم، إختار حكيم الصمت المطبق. وسوف يظل حكيم صامتاً وفاءاً لعهد شيخه وسوف يظل حتى يأتيه الإذن بالكلام. وأمثال حكيم لا يأتيهم الإذن بالكلام إلا لسبب عظيم، مثل وقوع الكوارث العظام. وأمر الحاج حمد الشبان أن يستغفروا ربهم وأن يدعونه ألا يتكلم حكيم وهم أحياء، لأن من سيشهد نطق حكيم سيشهد كارثة لا محالة.
                  

09-03-2005, 04:08 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    العزيز ود عابدين,
    أشكر لك الإهتمام.
    أّرجو أن تبلغ تحياتي لكل من تقدر على الإتصال به من الشباب (قديما) في السعودية. وأرجو أن تلفت نظرهم لمتابعة الرواية في هذا الموقع.
    بريدي الإلكتروني:
    [email protected]
    [email protected]
    تحياتي للأسرة الكريمة.

    حامد بدوي
                  

09-03-2005, 05:32 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    3

    سرى الزمان وتسربلت الأوقات وتمطت السنون وجاء اليوم الذي حطم فيه حكيم كل ما ركن إليه الناس من المألوف. أهل البلدة الجديدة والوافدون إليها والأعراب الذين عادوا لحياة التجوال والنيليون الذين قنعوا من الحياة بتربية الماعز وصيد الأسماك، كل هؤلاء هزَّتهم مفاجأة حكيم.

    وأصل الحادثة أنه قد مرَّت بالناس في جميع أنحاء البلاد سنة قاسية جاءت ختاماً سيئاً لحقبة من شح الأمطار وجفاف النهر وموت الزرع والضرع ونقص الأنفس والثمرات وفساد الحكام. كانت سنة من المجاعة الحقيقية، كثرت فيها الآفات والحرائق والأمراض. تعب فيها القاطنون قرب النهر إذ إكتظت قراهم الجائعة بوافدين من مناطق يموت فيها الإنسان عطشاً قبل أن يموت جوعاً. ضاق الناس بالحال وضاقت الدنيا بالناس حتى أكلوا القطط المنزلية.

    وذات ضحى والناس في البلدة الجديدة يروحون ويجيئون ويدورون بلا هدف محدد، بسبب الجوع والخواء والهلع وشبح الموت، وسط صراخ الأطفال وحشرجة المحتضرين من كبار السن، في هذه اللحظات الجحيمية، بان للقوم شبح طويل يتقدم نحو البلدة ببطء قادماً من ناحية الشرق، ناحية جويكِرَّة والنهر. ظلل القوم عيونهم بأيديهم لحجب أشعة شمس الضحى ودققوا نظرات أزاغها الجوع، محاولين معرفة القادم. تبين لهم أن الشبح يجر خلفه بصعوبة بادية، عربة من ذلك النوع الذي تجره الحمير في القرى. ورويداً رويداً أخذ الشبح يقترب وأخذ الناس يكفون عن حركتهم العشوائية. هدأت قليلاً النفوس التي أرعشها الجوع وشعشعها الخوف. كأنما أراحها نشؤ مصدر للأهتمام بؤرته الشبح المتقدم ببطء من ناحية جويكِرَّة. وببطء أخذت الجموع تتجمع في ساحة السوق، ترقب الشبح المتقدم بإصرار. ثم أخذت الدهشة تنمو وتنتقل من شخص إلى شخص وتبين على الوجوه النحيلة، حين عرف الناس في القادم أخرس جويكِرَّة. لم يسبق لأحد من الناس أن رأى أخرس جويكِرَّة خارج أطلال المدينة. ووسط الدهشة والخوف والترقب رأى الناس الجياع أن العربة التي يجرها حكيم محملة فوق طاقتها بكومة داكنة، عرف البعض من الذين كانوا أكثر جراءة و أكثر قرباً من القادم، أن ذلك الشئ المكوم فوق العربة هو نبات أو جذور نبات، إذ لايزال طين النهر الأسود الجاف عالقاً به. كتل داكنة مستطيلة من نبات مثل البامبي.

    تجمع الناس المذهولون، وقد اكتسبوا شجاعة من كثرتهم، ينظرون إلى أخرس جويكِرَّة وإلى العربة المحملة بذلك الشئ الداكن. وقف حكيم صامتاً يتفرس في القوم. طال الصمت من حكيم وطال التحديق من القوم وبدأ القلق والتوتر يسري وسط الجميع. إزداد القلق وازدادت الحيرة وبدأ حكيم يدور حول العربة ويؤشر للناس بيديه. كان يضع يديه على النبات الداكن ثم يأتي باشارات تعني الطحن والطبخ والأكل. واكتفى المتجمعون الجياع بالنظرات الملهوفة. تعاظم قلق أخرس جويكِرَّة وكثرت حركاته، بدا أنه يبذل مجهوداً مضنياً، كأنه يصارع شيئاً داخل نفسه. كان يفتح فمه ويغلقه ولا يصدر منه سوى الأنين وغرغرات مبهمه. تعاظم التوتر والترقب والإنفعال.

    و....فجأة.... تجمد الرجل الأخرس مركزاً ناظريه على طفل أخذ يترنح قبل أن يسقط. تجسد الرعب كله في عيني الرجل العاجز عن الكلام. بقي متجمداً مرعوباً مركزاً ناظريه على الطفل المحتضر مدة طويلة حتى تململ الناس. بعدها زاغت نظرات حكيم وبدا للناس أن الرجل سوف يسقط مغشياً عليه هو الآخر. ترنح حكيم ثم أمسك جبهته بكلتا يديه وأطرق إلى الأرض مدة طويلة. بعدها ثبت حكيم وتماسك ونظر إلى الناس كأنه يراهم للمرة الأولى. وفي اللحظة التالية قفز حكيم فوق العربة ووقف بقامته المهيبة فوق الحميع. نظر إلى الناس بثبات ثم فتح فمه وتكلم. نعم، تكلم حكيم بصوت واضح وبلسان أهل جويكِرَّة المبين. كل لبلدة الجديدة سمعت صوت حكيم في ذلك الضحى. قال إن ما يحمله إليهم فوق العربة هو جذور نبات البفره.

    - خذوها فإنها جافة وجاهزة للطحن. اطحنوها وستصير دقيقاً أبيضاً كدقيق القمح الاسترالي. أطعموا الأطفال والشيوخ والنساء أولاً. وليلحق بي القادرون من الشباب إلى جويكِرَّة، فهناك من هذه البفرة ما يكفي الجميع. لن يموت أحد جوعاً بعد اليوم. كل دكاكين جويكِرَّة ومخازنها مليئة بالبفره.

    قال حكيم قوله هذا ونزل من العربة واستدار صوب النهر، صوب جويكِرَّة ومضى.


    4

    الضوء... الضوء... الضوء...
    النجم الثاقب...النجم الثاقب...النجم الثاقب.
    بدد الظلمات المتراكمة ولم يذهب... لا يزال هناك.

    يغمض عينيه فيتغير لون الضوء... مئات الألوان الثاقبة تمضي صاعدة، ثاقبة الزمن الآتي كله... تمضي هابطة ثاقبة الزمن الماضي كله... لا.. لا.. الجنون لا... لايكون هكذا الجنون... هذا إدراك ثاقب.. الجنون إدراك زائف.. هذا إدراك قاتل... هذا فوق طاقة البشر.. الرحمة يامولاي الرحمة...

    و الدوي الهادر قاتل... الكون على وشك الانهيار... مالذي يمسك الكرات السابحة وسط المجرات؟..... مالذي يقيم هذا العمود المندفع من النار و الغبار؟....

    هو الآن يرى بغير عينيه ويسمع بغير أذنيه... يرى ما لا يستطيع بشري أن يرى، ويسمع ما لا يطيق إنسان أن يسمع.. نداء المجرات في الفضاء الكوني السحيق... نداء الحيتان في البحر المظلم العميق... نداء الأكوان في الأزمنة السحيقة...همس الجذور للأوراق...لغو فقاقيع الهواء بين الأسماك في قاع النهر ...

    ينتفض منه الجسد وتتخبط خطواته كالمخمور.. موزع بين عالم التماس المباشر بالجسد المحدود بالجهات وعالم الرؤيا المنفلت خارج الجهات... أين بدايته؟.... أين نهايته؟...
    إنقلب... صار داخله إلى الخارج و خارجه إلى الداخل.. مثل أمعاء الخروف حين يريدون تنظيفها.. إنه يُنظف.. يغسل دون إرادته.. تتساقط عنه أدران لا حصر لها .. النسيان، الغفلة، الحزن، الفرح، الرغبة، الحقد..

    ركز إدراكه على مسكنه بجويكِرَّة... هذا كلب يتلصص ليسرق طعامه... لو أخذ حجراً وقذفه تجاه الكلب.. لاخترق الحجر جسد الكلب المسكين مثل شهاب وسقط في النهر.. ركز إدراكه على القرية الجائعة.. الناس يتخاطفون البفرة... يتعاركون، يكاد بعضهم يزهق أرواح بعض.. أمرأة جشعة تجمع البفرة في أطراف ثوبها وتخطف ما في أيدي الأطفال...

    هو الآن يسيطر على الزمن و المسافة .. مشى خطوتين فإذا هو عند باب مسكنه... لو أراد الوصول إلى أقصى الأرض لمشى خطوتين...

    هل هو قادر على تحمل هذا؟... هل يقدر إنسان؟...

    ما بين الظلمة والنور... لحظة تجلي البدايات... لمحة تبدل الفصول... ما بين انقضاء آخر الأصوات وانبثاق أول الأصوات.... برز وجه الشيخ المنصور. قال: ياصديقي.... ياصديقي.... ياصديقي... نذر يسير ومع ذلك تعتريني عليك الشفقة.... سامحني ياصديقي فقد ألزمني الصدق والصداقة أن أذيقك قطرة من فيض.... لو زدت عليك لخلدت بالفناء في ما هو كلي... لكنك لن تستطيع معي صبراً. سأصحبك حتى الكشف الثالث ثم يكون الفراق الأبدي بيننا. فأنا معاقب بالحرمان منك لا محالة بعد الكشف الثالث. مياه الصحبة صافية ولكنها ضحلة لن تسعني.... إصبر على كل هذا ياصديقي... قريباً سيفترق نجمانا عند الكشف الثالث. لن تصحبني لأبعد من ذلك، لأنك منذ البداية تتوق للتفسير والفهم ويعجزك الانغماس في الشعور. سأعيدك إلى كثافة العبارة.... أصبر.... أصبر..... أصبر يا صديقي. أعرف أنك قادر على الصبر، فقد خبرتك، اصبر حتى ينجلي الأمر من تلقائه وتعود الروح إلى ضعفها والجسد ... إلى راحته.

    وقال، عندها، النهر: ... أخرج من جوفي، فأنت أوسع مني. إنك تحملني ما لا أطيق. ومع ذلك، فإذا فرغت ونصبت ورأيت أن تودعني جسدك هذا الفاني لأحمله إلى البحر، سأفعل... فهذه هي مهمتي الأبدية... أنا تكفيني صحبة هذا الجسد إلى البحر.

    عندها صاحت الأعشاب التي سوقها في الماء وجذورها في الطين وأوراقها في الشمس: ... أيها النهر الخائن... أيها المخاتل.... أنت هنا وهناك في الوقت نفسه.... أنت محاولة لا تنتهي لنقل جثة اليابسة إلى كفن البحر... لنقل دفء الأرض إلى ملوحة المحيط.... لنقل صلابة الجبال إلى سيلان الماء..... غافلٌ أنت عن أن تعاهدك مع البحر قد فسد.... فهو خيانة... ومصيرك أن يجف ماؤك يوماً قبل أن يبلغ الساحل.... دع الخيانة واترك ما زرع هنا لينبت هنا.... كف عن خيانة الأرض.
                  

09-03-2005, 07:46 AM

WadAker

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    سرد جميل ارجو الاستمرار
    تحياتى للعم المشاكس حامد بدوى بشير ولك مرتضى جعفر على اتاحة هذا السفر النبيل
                  

09-03-2005, 10:31 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: WadAker)

    الأخ ود عكر

    تشكر على هذا المرور الجميل و أتمنى أن نراك مرة أخرى ناقدا لهذا العمل الإبداعي الذي يحق لنا أن نفتخر به و حتى يرى النور مزيد من الجهد


    مرتضى جعفر
                  

09-03-2005, 11:20 AM

AlRa7mabi
<aAlRa7mabi
تاريخ التسجيل: 08-15-2002
مجموع المشاركات: 1343

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    مرتضى .. كيفك

    نقزقز بمزاااج شديد
    دا جهد يستحق الإشادة ، ونحمد لهذا النت جعل المستحيل ممكن

    نشكر استاذنا بدوي .. ونرجو المزيد


    تخريمة ..
    التمارين كيف ؟؟؟
    تحياتي الثنائي طه/الهام وأبو الجعافر


    عبدالرحمن

    (عدل بواسطة AlRa7mabi on 09-03-2005, 11:22 AM)

                  

09-03-2005, 01:42 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: AlRa7mabi)

    الأخ العزيز عبدالرحمن

    تحياتي و كيفك يا رجل

    تشكر على المرور بي هنا و أتمنى ليك مزيد من الإستمتاع بهذا العمل الإبداعي. تمارين مين يا عم ما خلاص الفينا كملت.

    ح نشوفك أكيد تاني

    مرتضى جعفر
                  

09-03-2005, 02:01 PM

خضر حسين خليل
<aخضر حسين خليل
تاريخ التسجيل: 12-18-2003
مجموع المشاركات: 15087

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الاخ مرتضي
    تحياتي الحارة لك وللكاتب حامد بدوي
    كتابه جديرة بالقراءة اتمني أن تمدنا بكل فصول الرواية أن امكن ولك الود والاحترام

    خضر
                  

09-04-2005, 00:55 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: خضر حسين خليل)

    الأخ خضر حسين خليل

    سلامي و إحترامي

    تشكر على كلماتك الطيبة بخصوص هذا العمل الذي و كما قلت يستحق القراءة و أنا سأقوم بإنزال كل فصول الرواية لكنني عمدت إلى هذه التجزئة حتى أعطي المهتمين الفرصة الكافية للقراءة و تدوين الملاحظات لأن واحدة من أغراض عرضنا لها هنا النقد أيضا.


    تشكر يا خضر و خليك معانا و أنا متابع إبداعاتك القصصية أيضا.


    مودتي


    مرتضى جعفر
                  

09-04-2005, 06:01 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (4)

    وصحى حكيم من نومه ذات يوم فإذا هو مثل كل الناس... يتذكر وينسى ولا يرى أبعد من الأفق المحدود بالتقاء السماء مع الأرض، ولا يسمع سوى غليظ الأصوات التي يهتز بها الهواء. بكى فرحاً وحزناً وخوفاً وأمناً وحياة وموتا. وحين تلفت حواليه، لم تعد أطلال المدينة قائمة.... فقد إختقت!!!


    ++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++

    خطى حكيم صوب النهر وجلس على الأرض الآن يتذكر بصورة غريبة. يضئ في ذهنه الماضي القريب والماضي البعيد في نفس الوقت. تختلط الصور، تختلط اللحظات وتختلط اللغات أيضا. بعض الذكرى تأتي برطانة القبيلة، وبعضها يأتي بعربي جويكِرَّة، وثمة لحظات حميمة تأتي بلا لغة محددة.

    تغمره مثل الموجة، يغرق فيها، يصير داخلها، تتلبسه كحالة وجد، تتواصل مع وعيه وذاكرته ولحظته الراهنة بلا وسيط، بلا لغة محددة وفي وضوح محير. كأن يتذكر مثلاً سحلية في فمها جرادة تحت شجيرة القطن في الحواشة التي كان يملكها مشاركةً مع صديقه علي. يحدث كل هذا وهو في لجة إحساس غامض لا يوصف. هذا الإحساس كان يأتيه قبل حادثة جويكِرَّة في لحظات خاطفات ويختفي قبل أن يستطيع إدراكه جيداً. كان يأتيه مع رائحة جذر نبات يتذوقه أو مع طعم الماء تحت نبات البردي المتخمر أو في نكهة العالم لحظة تغير الفصول.. لحظة دخول الخريف، لحظة إنبثاق الشتاء، لحظة نشؤ الصيف... الآن يضئ في قوة وثبات. إحساس بأنه جزء حي من كون حي وأن الإنسان أحتمالات مخيفة وعزلة لا حدود لها.

    جلس وحيداً. إزدادت حرارة الشمس. الطريق المرتفعة تحفها أشجار السيسبان. هذه الطريق تعاون أهل جويكِرَّة على ردمها وتعليتها حتى تكون فوق مستوى مياه الفيضان. جويكِرَّة تتحول إلى جزيرة في مواسم الفيضان. جاء المفتش الإنجليزي بنفسه لافتتاح هذه الطريق. وعندما كان أهالي جويكِرَّة يودعونه، التفت إلى سر التجار وقال:
    - لماذا لا تزرعون أشجاراً... صفين من الأشجار يحفان بهذا الشارع الجميل ويساعدان على تماسك التربة؟

    إلتمعت الذكرى حية قوية في ذهن حكيم الوليد. ليلة شديدة الظلمة. سار على نفس هذه الطريق المرتفعة لأول مرة في حياته، وخلفه سارت فتاته. كانت نجاتهما معجزة. استطاع مطارديهما من أفراد أسرة السلطان أن يقتفوا آثارهما حتى ذلك البيت المتفرد القائم وحيداً وسط الشجيرات. بعد تلك الليلة عرف حكيم الكثير عن صاحب البيت المتفرد. صارا صديقين. حمد البشير. من أهالي شمال البلاد، هناك بعيداً حيث يجري النهر وسط أشجار النخيل. جاء إلى جويكِرَّة مع عمه طيفور التاجر ليعاونه في العمل بالدكان. غير أن حمدا قد أحب بدوية وأصر على الزواج منها، فغضب عليه عمه الذي كان يدخره زوجاً لابنته وطرده من الدكان. ترك حمد المدينة والتحق بالعربان الرحل. تزوج من فتاته وعاش عيش العربان وصار واحداً منهم. تعلم رقصهم وبرع فيه. بل صار أحد شعرائهم المرموقين. يغني أغنيات الغرام في وصف الجميلات. سعى الأبقار والاغنام حتى عد من أغنياء البدو. فجأة سئم حمد حياة البداوة والترحال بعد أن أنجبت له زوجته ولدين وبنت. إختار حمد هذه البقعة المنعزلة ليسكن فيها عند منتصف المسافة بين مضارب البدو ومدينة جويكِرَّة. إبتنى بيتاً كبيراً من الطين وسوَّره بالشوك وفروع الأشجار. حول البيت زرائب الأغنام وحظائر الأبقار. دار بدوية من الخارج ومدينة من الداخل، حيث فرش حمد السرر، ووضع الآرائك والكراسي والطاولات التي لا مثيل لها إلا في قصر الملكة في جويكِرَّة. وكان في مقدور أولاده الذهاب إلى المدرسة في جويكِرَّة مشياً. كان حمد أول من باع الحليب والروب والزبد لأهل جويكِرَّة.

    وصل حكيم وفتاته مشارف دار حمد المنفردة بعد مغيب الشمس بقليل. كانا يركضان، فقبل فترة وجيزة تسلق حكيم شجرة عالية فتمكن من رؤية مطارديهما على مسافة ليست بالبعيدة. كانت الفتاة تقول من بين أنفاسها اللاهثة أنها سوف تموت حالاً إذا كان عليها أن تستمر في الركض أية مسافة أخرى. ولم يكن أمام حكيم سوى حثها على مواصلة الركض حتى يخيم الظلام ليتمكنا من الإختباء. كان الإرهاق قاسياً والخوف قاتلاً عندما برزت لهما دار حمد المنفردة، فجأة وسط الشجيرات. بعث ذلك الأمل في روحيهما. قصدا الدار، فخرج لإستقبالهما عدد كبير من الكلاب الشرسة. ووسط عواء الكلاب سمعا صوتاً قوياً لرجل يزجرها. تقدم منهما الرجل وشملهما بنظرة فاحصة في ضوء المغيب الشحيح. نظرة تقول أنه قد ألم تماماً بحالهما دون حاجة للسؤال. قال:
    - تفضلا داخل الدار.
    ثم مباشرةً وجه السؤال لحكيم.
    - هل تعتقد أن مطارديك قريبين من هنا؟
    هز حكيم رأسه إيجاباً. لم يكن بقادر على الكلام، ثم ان لهجة حمد قد بدت له غريبة. فهم معنى السؤال في عموميته فأجاب.
    - لا تخافا شيئاً. أنتما في حمايتي. تفضلا إلى الداخل.

    بالداخل قدمت زوجة حمد الروب الممزوج بالماء للضيفين. ولكن قبل أن يستردا أنفاسهما من الشرب النهم، سمعا أصوات الكلاب تتعالى مرة أخرى. الآن يتذكر حكيم ما جرى بدقة. إنه ليس التذكر، بل الأحداث تعيد نفسها أمام ناظريه بتفاصيلها كاملةً. كأنه يرى نفسه من الخارج. الآن يرى أنه قد قفز واقفاً وقلبه يدق بعنف. هذه إذن هي النهاية. هذه إذن هي اللحظة التي ظل يتحاشاها ويركض خوفاً من مواجهتها. نعم... أن يختطف شاب إبنة السلطان لهي مغأمرة حدودها الموت. كنت تعرف قبل أن تبدأ مغأمرتك تلك أن جميع القادرين من أسرة السلطان سوف يندفعون للبحث عنكما. كنت تعرف أنهم سيبحثون باصرار وغضب عظيم. غضب موزع على كل أبناء السلطان. غضب وقوده عدد الأبقار التي كان يجب أن تدفع مقدماً وهيبة الاسرة الكبيرة التي أهينت. غضب مثل النار في روث البقر الجاف لا يبرد أو ينطفئ. كنت تعرف أنهم لا يتوقفون عن البحث أو يتهاونون. وأنهم سوف يبحثون في الغابات المظلمة، عند غدران المياه، عند موارد الاسود والنمور، بين أوكار التماسيح وأعشاش أفراس النهر. وعندما يعثرون عليكما فأنت شاب انقضى أجله.

    نعم... نعم... هي مغأمرة الحياة والموت مع أن فيها كل الإثارة اللذيذة في لعب الأطفال عندما يختبئ بعضهم ويبحث البعض الآخر عنه. الآن في هذا البيت المتفرد ينتهي الركض والإختباء ويصل البحث إلى غايته. هنا تنتهي الحياة. هو لن يجبن، هذا أكيد. سيواجههم بغض النظر عن عددهم. ولكنه لن يضرب ليقتل. ما جدوى قتل الناس؟ ماجدوى قتل البعض قبل أن يموت؟ سوف يناوشهم بحربته وعصاه حتى يتغلبوا عليه فيموت وسلاحه في يده. لن يقتل.

    دخل حمد إلى الحجرة وبيده بندقية يلمع خشبها الصقيل في ضوء المصباح الصغير. قال:
    - يبدو أن القوم قد وصلوا. لكن لا تخافا. لن يمسكما أحد بسوء في داري. فقط أبقيا حيث أنتما. ومهما حدث أيها الشاب لا تغادرا هذه الغرفة حتى أعود أنا. هل تعدني؟
    كان حمد يتكلم بهدوء وثقة في النفس وعزم لا يمكن مقاومته. ولم يغادر الغرفة حتى انتزع وعدا من حكيم بعدم التسرع وإظهار نفسه لاعدائه. غاب حمد زمناً بدا لحكيم كأنه دهر. كانت الكلاب تعوي بشراسة عندما عاد حمد.
    - لقد انصرفوا. إنهم غير مقتنعين بعدم وجودكما داخل الدار. واضح أنهم لم يصدقوني. لكن مع هذه، وهز البندقية، لم يكن لديهم خيار سوى الانصراف.

    كانت نجاة حكيم معجزة وكان حمد شجاعاً وكانت زوجته عظيمة الحنان. مكث حكيم وفتاته بقية تلك اليلة ونهار اليوم التالي. اقترح حمد أن يتحرك حكيم وفتاته ليلاً. قال لهما أن يتوجها إلى جويكِرَّة. قال لهما أن الإنسان إذا أراد الإختباء من إنسان ريفي فعليه أن يقصد المدينة. الريفي يشعر بالضياع في المدينة ويرتبك وتنعدم ثقته في نفسه. لا تركضا هكذا في الأحراش فهذا في صالح مطارديكما. أما إذا كنت تخشى إنساناً من أهل المدن فأقصد الخلاء والغابات. هناك يتوه إنسان المدينة. قال، جويكِرَّة مدينة عامرة تعج بخليط ضخم من البشر والإختباء بها سهل. واذا وصلتما إلى هناك فاسأل عن قصر الملكة. إنه قصر ضخم لن تتعب في الوصول إليه. إذهب إليها وقل لها أنك مرسل من قبل حمد البشير وسوف يكون كل شئ على ما يرام. قال لحكيم أن يعود تجاه الجنوب حتى إذا تجاوز ذلك الدغل الكثيف لينحرف إلى ناحية الشرق ويسير حتى يجد الطريق المرتفعة المحفوفة بأشجار السيسبان. هذه الطريق ستقودكما إلى جويكِرَّة على ضفة النهر. وجاءت زوجة حمد لتوديعهما. تأملت في وجه فتاة حكيم وقالت بحنان دافق فتاتك جميلة حقاً. حافظ عليها وكن رجلاً حكيماً.
    على الطريق المرتفعة المحفوفة بالسيسبان، همس حكيم وشفتاة تلامسان خد فتاته:
    - في جويكِرَّة سيكون اسمك جميلة.
    - و أنت سيكون اسمك حكيم.
    - لماذا حكيم؟
    - ألم تسمع زوجة الرجل تقول لك كن حكيماً
                  

09-04-2005, 01:57 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    ***
                  

09-05-2005, 03:50 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى جعفر,
    لدي نسخة من الرواية (سوفت كوبي), أعتقد أنهاأقل أخطاء في الطباعة عن التي لديك.
    سأجتهد في أن تصل إليك في أقرب فرصة. واصل ... وأشكرك.


    حامد بدوي
                  

09-05-2005, 05:40 PM

wadabdean
<awadabdean
تاريخ التسجيل: 08-23-2003
مجموع المشاركات: 117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    يا حامد
    ما ترد على ايميلى البعتو ليك مهم جدا جدا
    لك ودى وتحيات الشاعر محمد مدنى
    عثمان عابدين
                  

09-06-2005, 03:10 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: wadabdean)

    العزيز حامد بدوي

    منتظرك

    مرتضى جعفر
                  

09-06-2005, 08:00 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (5)

    إستمر حكيم غارقاً في الذكريات. مدخل البلدة العزيزة، أول ما يواجه ناظريك مبنى المستشفى. هذه دوارة الرياح وهذا مقياس المطر. صدئت دوارة الرياح ولم تعد تدور وتحطم مقياس المطر. هذه هي جويكِرَّة.

    هنا ينقسم النهر العتيق الهادئ إلى فرعين. يستأنف أحدهما مسيرته شمالاً لا مبالياً، ويعرج الآخر ليلامس حافة المدينة مثل كلب الصيد يتحسس بأنفه الرطب أعتاب البلدة الأليفة. قامت على ربوة تشرف على جزيرة بين فرعي النهر. في موسم الفيضان تتحول جويكِرَّة نفسها إلى جزيرة، ولا يصلها بالدنيا سوى الطريق المرتفعة المحفوفة بالسيسبان والنهر. لقد كانت جويكِرَّة ميناءاً نهرياً حتى قبل أن يقطن بها أحد. في البدء كانت الميناء. قيل أنها كانت غابة ضخمة كثيفة الأشجار مليئة بالحيوانات المفترسة. كانت البواخر والمراكب الشراعية تتوقف بها من أجل أخذ الأخشاب الممتازة ولصلاحية مرفأها الطبيعي العميق. كان البحارة ينزلون ويسرعون إلى الغابة فيجمعون ما يريدون من خشب الوقود وخشب البناء وخشب الأثاث وفلنكات السكة الحديد. يفعلون ذلك في عجل ويحملون ما جمعوا ويهربون إلى سفنهم ومراكبهم الشراعية خوفاً من النمور والأسود والأصلات التي تلتف حول جسد فريستها حتى تزهق روحها.

    في مرحلة تالية، أقامت الحكومة الإستعمارية معسكراً للجند في ميناء جويكِرَّة. كانت مهمة هؤلاء الجنود هي قطع وتجهيز الأخشاب لوقود البواخر الحكومية وتنظيف الغابة من الحيوانات المفترسة. ويبدو أن هؤلاء العسكر قد تعرضوا للإهمال وتأخر صرف مستحقاتهم ومؤنتهم، فتمردوا ورفضوا تنفيذ أوأمر قادتهم. كانوا جميعهم من السودانيين، فأرسلت الحكومة جيشاً من الإنجليز والمصريين والهنود لسحق تمردهم. ودارت معركة بين الجانبين ودوت فرقعة الاسلحة النارية في أرجاء غابة جويكِرَّة. هزمت الحكومة المتمردين ونسي التاريخ أمر هؤلاء الجنود وهم أول من تمرد على الإستعمار من السودانيين.

    بعد حادثة التمرد إستبدلت الحكومة الإستعمارية الجند برجال مدنيين أطلقوا عليهم اسم الملكية تفريقاً لهم عن العساكر السابقين. وظلت جويكِرَّة ردحاً من الزمن ميناء للأخشاب غير مأهول بالسكان. لكن بمرور الوقت، إستقدم بعض الملكية أسرهم كما تزوج بعضهم من نساء القبائل النيلية المنتشرة قراهم على ضفتي النهر. كون الملكية وأسرهم نواة مجتمع جويكِرَّة، ولكن جويكِرَّة بدأت تتحول إلى قرية حقيقية عندما حررت الحكومة الإستعمارية رقيق العربان في الناحية فانفصلوا عن أسيادهم وتخلصوا من حياة الترحال واتخذوا من جويكِرَّة موطناً. وقد أسبغ تجمع الرقيق المحرر على جويكِرَّة روحاً من البهجة والمرح. فقد كانوا قوماً في حالة احتفال دائم بحريتهم الوليدة. وهكذا تحول معسكر جمع الأخشاب إلى بلدة ميناء، لم تلبث أن جاء إليها بعض صيادي الأسماك من غرب أفريقيا وبعض التجار من أبناء الشمال. وأخذت البلدة تنمو حتى صارت مركزاً تجارياً للعرب البدو ومركزاً إدارياً للحكومة الإستعمارية. ثم جاء تجار هنود وآخرون من حضرموت وزنجبار. ووصل إليها اندرياس الإغريقي في معية بيترو الطلياني. وأخذ أندرياس يتجول بحماره زمناً وسط مضارب العربان محاولاً إغراءهم ليبيعوه حليب أبقارهم من أجل تشغيل مصنع الجبن الذي جلبه معه من اليونان. وقد اصطدم أندرياس هذا بما لم يكن يحسب حسابه. فقد جلب إلى جويكِرَّة مصنع الجبن لأنه كان قد رأى في زيارة سابقة له أن المنطقة حول جويكِرَّة تعج بقطعان الأبقار، فضمن نجاح مشروعه. إلا أن الأعراب قابلوا محاولته شراء الحليب منهم بالسخرية. فقد كان بيع الحليب والروب يعد عيباً عند البدو ودليلاً على الفقر والبخل والخروج على عادات العرب. هكذا فشل مشروع أندرياس الإغريقي لصناعة الجبن بجويكِرَّة. عانى الخواجة الفاقة وظل زمناً بلا عمل سوى التجوال في سوق المدينة وإطلاق النكات البذيئة حول البدو بلغته الركيكة. ولم ينقذ أندرياس من ورطته سوى مقدم حسين الصعيدي إلى جويكِرَّة. فقد أقترح حسين على أندرياس أن يستفيدا من وجود كميات الصفائح الفارغة بمصنع أندرياس وأن يعملا معاً في صناعة الفسيخ التي يتقنها حسين. وبالفعل فقد ازدهر عملهما واشتهر في أنحاء البلاد فسيخهما وصارت البواخر والمراكب الشراعية تحمل، فيما تحمل من جويكرة، الفسيخ الممتاز ماركة فينوس. وتحسنت أحوال أندرياس أكثر عندما تزوج من نيلية جميلة كانت من بيت جاه وسلطان وذات نفوذ في جويكِرَّة حتى أنها قد لقبت بالملكة. وقد شيَّد لها الخواجا أندرياس قصراً فخيماً على طراز قصور أوربا، يشرف على النهر ويليق بملكة. قصر إستجلب أندرياس لتشييده وزخرفته مهندسين وفنانين ومنمقي حدائق أغاريق وشوام ومصريين، ظلوا يعملون ليل نهار حتى أخرجوا للوجود تحفة فنية صارت مفخرة لأهل جويكِرَّة. وعند اكتمال القصر أولمت الملكة ولائم دعي إليها الحكام الإنجليز وكبار ساسة وأغنياء البلاد حتى سارت بذكرها الركبان كما تقول العرب.

    نعم لم يلبث ميناء الخشب أن تحول إلى مدينة عأمرة تعج بالحياة. وتحول سوق جويكِرَّة إلى سوق ضخمه للمحصولات من السمسم والفول والدخن والذرة والكركدي والصمغ العربي، حتى أوفدت الشركات الكبرى مندوبيها ونظمت السلطات السوق وأسست الحكومة مكتباً لتحصيل الضرائب والعوائد والرسوم. بني سوق البلدة بناءاً جميلاً تتوسطة ساحة مربعة ضلعها الشرقي هو النهر. نهضت أشجار. النيم صفوفاً منتظمة أمام المحلات التجارية وبقيت ساحة السوق الواسعة مكاناً لتكديس المحصولات المعدة للشحن على البواخر والمراكب. وخلف السوق من الجهات الثلاث قامت المساكن. مساكن التجار والموظفين من الغرب والجنوب. خلفها المستشفى ونقطة الشرطة والمحكمة. من ناحية الشمال قامت مساكن أهالي جويكِرَّة. هذه هي الأمم المتحدة التي عناها صلاح الأفندي. خليط من البشر مختلفي السحنات والألوان والأديان. خليط لا يقدر على استيعابه سوى جويكِرَّة. الهنود والإغريق والطليان، مختلطين بالأحباش والحضارمة والأفارقة. كل ذلك وسط بؤرة إجيماعية أعمدتها رقيق العربان المحررين والملكية والنيليين.

    بكل هذا الخليط كانت جويكِرَّة مدينة لا أحد ومدينة الناس أجمعين. مدينة الحياة والحرية. حب الحياة وحب الحرية هو القاسم المشترك الأعظم الذي جمع كل هذا الشتات وازدهر بجمعه. فيها اختلط البشر وذابت هوياتهم. تزوجوا وتصاهروا حتى أنجبت النيلية طفلاً إغريقياً أخضر العينين وأنجب الحضرمي هدندوية مجعدة الشعر. وجاء إليها كل الناس. جاء طالبو التجارة وطالبو العمل وطالبو المغأمرة والحرية. ومن الصباح الباكر يتساقط الناس من القرى والفرقان إلى جويكِرَّة. كانت الدروب التي تقود إليها كثيرة. من يريد أن يبيع ومن يريد أن يشتري. من يريد أن يعمل ومن يريد أن يلهو. أعداد من البشر تدخل إلى جويكِرَّة منذ الصباح الباكر، أضعاف عدد سكانها. يقضون فيها يوماً مميزاً من أيام حياتهم، وكل يوم في جويكِرَّة هو يوم مميز عما سبقه من الأيام، ويخرجون منها آخر النهار وفي النفوس حسرة وهوى وتوق لا يرتوي لسحر جويكِرَّة، ولديم الأعراس في جويكِرَّة. وديم الأعراس هذا، هو حي كامل منفصل مكانياً وإجيماعياً عن بقية أحياء البلدة. له سور عالي من اللبن تعرش عليه النباتات المتسلقة. بمجرد الولوج من مدخل السور يجد الداخل نفسه تحت عريشة كبيرة تتدلى من سقفها الزينات. الموسيقى والغناء والضحكات الغنجة وروائح البخور والعطور تملأ الهواء. ومن هذه العريشة إما أن يتخطى القادم داخلاً عالماً من السحر والجمال والنشوة، وإما أن يطرد خارجاً من الباب الذي دخل منه. فتحت هذه العريشة يقابل الداخل (أم البنات). أمرأة فلسطينية ضخمة الجسد، يجلس على كتفيها المكتنزتين رأس صغيرة تحمل وجه طفلة بريئة متوردة الخدين. تقابل (أم البنات) الداخل بالترحاب والبشاشة وتخبره من بين ابتسامتها الودودة شروطها لتزويجه من إحدى بناتها. المهر، كميات الخمور وأنواعها، العطور وأصنافها والذبائح. فإذا رفض القادم هذه الشروط رد على عقبيه وإن وافق دفع ما يطلب منه نقداً. هنا تصفق (أم البنات) بيديها المكتنزتين ثلاثاً فيبدأ صف البنات بالمرور أمام طالب الزواج. عشرات الفتيات من كل أنحاء الدنيا. السمراوات والبيضاوات. النحاف والبدينات. الفارعات والقصيرات. الزنجيات والأوربيات. يختار طالب القرب العروس وينضم لمهرجان الأفراح القائم ليل نهار بديم الأعراس. وفي نهاية المدة المحددة يخرج الخارج من ديم الأعراس وفي النفس حسرة وهوى وتوق لايرتوي.

    وآية سحر جويكِرَّة أنها مدينة من يدخلها. يدخل الداخل إليها أول مرة فلا يحس أنه غريب. يبقى بضعة أيام فتبدأ جويكِرَّة تغسله، تنقيه، ثم تتمثله فإذا هو هي. كأنما قد ولد فيها أو ولدت فيه. تخلع عنه قيودة، إخفاقاته، مرارات حياته وأحزانه القديمة. يخلع هو طائعاً مختاراً، تاريخه الشخصي، خصوصيته وتفرده، يخلع حتى لغته. فالناس في جويكِرَّة قد اصطلحوا عفوياً وبالتدريج ودون أي تحديد مسبق على لغة واحدة يتخاطب بها الجميع. لغة خاصة وحَّدت كل الشتات الذي جمعته جويكِرَّة. نبتت كما تنبت الأشجار، وكانت بدايتها لدى رقيق الأعراب المحررين، بؤرة الحياة الإجيماعية في جويكِرَّة. عرفت هذه اللغة في جميع أنحاء البلاد باسم (عربي جويكِرَّة). وقد أكسبها تعدد واختلاف الأصول اللغوية لمتحدثيها ثراءاً أسطورياً. يكون جذر الفعل فيها عربياً ولكنه يتحول إلى اسم على نسق الرطانة الأفريقية ويجمع تبعاً لقواعد اللغات الهندية. حروف الجر وأسماء الموصول سواحلية. لا تعرف التفريق بين المذكر و المؤنث وتعج بمفردات الثناء والتقدير وتكاد تنعدم فيها مفردات وتراكيب السباب و العنف.
                  

09-07-2005, 04:10 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى جعفر,

    أرسلت لك نسخة (سوفت ) في بريدك الإلكتروني. أرجو أن تكون أقل أخطاءا.
    واصل النشر وأشكرك.

    حامد بدوي
                  

09-07-2005, 06:53 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    هذه كتابة غريبة. فى الاول كادت ان تصرفنى عنها بنثرها الممهول، والغامض. ولكننى صبرت عليها. فقد خطر لى انها تنطوى على ابداع، لا يكشف نفسه دفعة واحدة. يتجلى رويدآ رويدآ. وبالفعل تحول النثر الممهول، المتكاسل، الى خطو سريع، وخبب، وعدو سريع فى بعض الاحيان. وقفز بزانة الزمن المتوازى والمتقاطع. وفى مزج التاريخ الواقع، مع اسطورة هنا واخرى هناك. ثم اقترب النثر من تخوم الشعر. وسال النص بغنائية عذبة. منبعها اسى. ومصبها فجائع البلاد التى قتلت عاشقيها.
    عنبر جودة
    النيل الابيض شاهد صامت
    المراكب التى حملت السكر والدقيق حملت الجنود والذخائر.
    هذا النص، الى الان، فتح البلاد على نفسها. على جروحها. على تاريخها الملتبس، وعلى فجائع زمانها القريب.
    ثم قوى السرد. وضح القص. وتمكن الكاتب من حرفة الرواية. فظهرت شخوص من ضباب الشعر وغموضه. وظهرت بلدات ومدن من كدح المزارع، والحرفيين. ثم هاجر المهاجرون. طمعآ فى مال. جلبوا معهم حداثة زمن، وتقدم افق من اوطانهم الاصل. هذه الحداثة اصطدمت بتقاليد سالفة. وراسخة. لكن لم تمنعها من ضرب جذورها، الحداثة، وبناء مؤسساتها. من فنادق، وملاهى، واسواق، ودولة وقانون. باختصار ظهرت مدينة من تواريخ الرق، والاستعمار، والهجرات. والصدامات. ظهر السودان؟

    هذه خواطر سريعة خطرت لى. اتمنى ان نقرأ المزيد من هذا العمل الذى يقوى كل يوم. ويشدنا الى عالم بقدر ما نراه غريبآ، بقدر ما نراه مألوفآ. فهو نحن، ونحن هو.

    شكرآ حامد بدوى.
    وشكرآ مرتضى جعفر.
                  

09-08-2005, 04:13 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Adil Osman)

    الأخ حامد بدوي

    سلام يا شاب (جد ما هزار)

    أولا دعني أرحب نيابة عنك بهذه القراءة الناقدة و المليئة التي أتحفنا بها الأخ عادل عثمان و أنا تماما مثله أتحرق شوقا لإنزال الراوية كاملة حتى نمطرها بسهام النقد و من كل إتجاه.

    أخي عادل خيرا فعلت حين صبرت على النثر و يغمرك شعور بأن إبداع ما في مكان ما أت في وقت ما في الراوية فهو لم يكن إحساس زائف "حسب رأي طبعا" و إن غلب هذا النثر و الحكي على كامل أجزاء الرواية لكن بقراءتها كاملة نسبين سبلا للإبداع و أخرى للمتعة، سأعمل على إنزال الباقي من الرواية "دفعة واحدة لو حامد ما عندوش مانع" لإنني أود أن نتحاور بعد ده؟!!!! رأيكم شنو.

    مودتي


    مرتضى جعفر

    (عدل بواسطة Murtada Gafar on 09-08-2005, 04:20 AM)

                  

09-09-2005, 10:08 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (5)

    فجأة بدا لحكيم أنه يدرك كل شئ. الناس في القرية يتحدثون بألسن شتى. لكل قبيلة لسانها. الناس في جويكِرَّة كانوا يتحدثون بلسان واحد، (عربي جويكِرَّة). أحس أن ذهنه يشتعل. أحس بالفرح والخوف من الفرح. عادت إليه تفاصيل الحياة في جويكِرَّة.

    ذاك زمان للرخاء والاخاء والبهجة والحرية. كان دفق الحياة قوياً وإرادة الحياة عميقة. مجلسهم، مجلس الأصدقاء الثلاثة، حكيم وسط صديقيه علي وصلاح الأفندي عند حافة الماء المترقرق على الرمل الأبيض الناعم. ثلاثتهم شباب حول العشرين من العمر. شباب في حالة حب متبادل مع الحياة من حولهم.
    .... نقطتان من الماء انحدرتا من مكانين متباعدين وظلتا في انحدار ودحرجة حتى التقى مسارهما، فتوحدتا، صارتا نقطة واحدة، ذات مسار واحد ومصير واحد، نقطتان من الماء.. حكيم وعلي....
    .... أنت يا علي ظللت تتدحرج من مكان بعيد على صحراء كردفان، وتدحرج حكيم من مكان قصي على نهر السوباط. أحدكما من الشمال الغربي والثاني من الجنوب الشرقي للبلاد. على طريق جويكِرَّة ذات السيسبان التقى مساركما في ليلة شديدة الظلمة. وها أنتما الآن، لا يظن من يراكما إلا أنكما من بطن واحدة....
    هكذا كان يقول صلاح الأفندي أو صلاح الأمير حسب وجهة نظر المتكلم عنه. هكذا كان يحلو له التأمل بصوت عال عند الكأس الرابعة من العرق. وصلاح يمتلئ حباً لكل الدنيا وكل البشر عند الكأس الرابعة.
    - غداً ميعاد ري الحواشة يا حكيم. هل تريد أن تراقب الري أثناء النهار أم أثناء الليل؟
    - اختر أنت.
    - لا أنت تختار.
    ويتدخل صلاح. يضحك، يقول بصوت ممتلئ بحكمة مفاجئة:
    - إذهبا سوياً في النهار وفي الليل. أنتما تعرفان أنكما لا تستطيعان إلا أن تكونا معاً. لماذا المجادلة الفارغة؟




    كان القمر قد غاب. غرب كما تغرب الشمس تماماً ناحية الغرب. أظلمت الدنيا وسكن الكون إلا من أصوات الليل في الغابة. تلمَّس حكيم صرة أغراضه. يعرفها واحداً واحداً من ملمسها داخل الصرة. إناء الطبخ، دقيق البفرة، النقود القليلة والملح. الليلة هي الموعد.

    هيا أيتها الغزالة المتوحشة، إستعدي للركض. أنا قادم لآخذك بعيداً. هيا لنركض بصمت وسرعة، ليندغم جسدانا بظلمة الليل والغابة. لا تحدثي جلبة، فالغزلان لا تحدث جلبة في ركضها. ألقاك الآن عند المكان. الشجرة التي تشبه في الظلام ذكر النعام. ألقاك الآن. أصيخي السمع. إذا تناهى إليك صفير صغار الدجاج البري، فهذا أنا. أركضي شمالاً، فصغار الدجاج البري لا تصدر الصفير ليلاً.
    - هل هذا أنت؟
    - نعم.
    - هل أحضرت كل الأشياء.
    - نعم.
    - إناء الطبخ؟
    - نعم.
    - طحين البفرة والملح؟
    - نعم.
    - النقود؟
    - نعم.
    - هيا نسرع.
    لن يتزوج إلا بهذه الطريقة. لن يمر بطقوس الزلة والهوان. لن يتزوج زواج الشباب الهادئ الضعيف. شهد هذا الزواج وشهد كل طقوسه المذلة. كان ذلك زواج أخيه الأكبر. عند مدخل القرية واجهتهم كبيرات السن من النساء اللاتي محت الأيام حياءهن فيما محت. تساءلن عن سبب الزيارة وهن أدرى بالسبب. سألن عن أسبار الموت والولادة وبلوغ الرجولة. سألن عن تسلسل نسب عائلة طالب الزواج وهن يعلمن أن زواج القريبات محرم. ولم يدخل رهط العريس إلى القرية إلا بعد دفع مقابلاً مالياً عن يد وهم صاغرون. كان على الجميع طأطأة الرؤوس. هكذا هي الأعراف في مثل هذا النوع من الزواج. يمتحنون صبر العريس وسعة صدره. في القرية أجلسوهم على الأرض، ثم أهانوا أحدهم إهانات بالغة بألسنة من نار، وكل ذلك لأنه قد نسي، وهو القروي البسيط، أن يخلع نعليه قبل دخول المجلس. في المجلس أحضروا الفتاة، خطيبة أخيه، وطلبوا منها أن تشير إلى الرجل الذي ترغب بالزواج منه من بين الحضور وكأنهم لا يعرفونه. وعندما أشارت الفتاة المرتبكة إلى شقيق حكيم، ضحكوا استهزاءاً وتباروا في السخرية منها ومنه.
    - ما الذي أعجبك في هذا المخلوق البشع؟
    - هل يبقى اعجابك به بعد أن يشيخ وتذهب قوته؟
    - واذا مرض هذا المخلوق الهزيل، هل تتحملين خدمته؟ هل تتحملين العمل الشاق من أجل تاطعامه واطعام أطفاله؟

    الكبار يقولون أن هذا النوع من الزيجات مبارك ومستقر ومثمر. أنا لا أريد هذه البركة ولا ذاك الثمر المخلوط بالخنوع والمسكنة. سأهرب بك، بعيداً وسأخفيك زماناً. وعندما نعود وأنت حامل أو في حضنك طفلٌ جميل، فسوف يسقط في يد أسرتك. نعم سوف يجيئون ويتصنعون الغضب والتشدد. لكن ليس لهم، وهم يعرفون ذلك، سوى مهر ابنتهم من الأبقار. بعضهم سوف يختلق بعض الشجار، لكنه شجار زائف، بلا غضب حقيقي. وفي قرارة أنفسهم سوف يكونون معجبين بي، معجبين بقوتي وبسعة حيلتي. معجبين بقدرتي التي أثبتها على حماية إبنتهم.


    ويبرز أمام حكيم وجه حبيب. الشيخ المنصور. ذلك الذي علمه أن في الإنسان، مطلق إنسان، طاقات لو عرف طريق الوصول إلى مفاتيحها لمكنته من فعل المعجزات. كان حكيم قد قيد من يده اليمنى مع اليد اليسرى للشيخ المنصور.

    كان عددهم قد قارب الستمائة. بقوا مقيدين بالحديد وهم جلوس على وهج الشمس يوماً كاملاً في انتظار العربات التي نقلت الجرحى من رجال الشرطة أن تعود وتنقلهم. لم يكونوا يتوقعون شفقة أو رحمة من العساكر الذين يحيطون بهم. مع الجرحى من رجال الشرطة اقتادوا صلاحاً الأفندي مكبلاً.
    بعد أن مضى أكثر من نصف النهار، عادت العربات. أمروا المزارعين المقيدين بالركوب عليها. كان رجال الشرطة يفيضون قسوة وحقداً. كانوا يضربونهم بالعصي والسياط وأعقاب البنادق وهم يحاولون الصعود إلى العربات بأيديهم المقلولة. لم يسلم أحد من الضرب. بدأت دماء البعض تسيل. كان الضباط يقفون بعيدا، ينظرون في صمت مشجع إلى جنودهم وهم يمارسون إذلال المزارعين. بدأ الغضب يغلي في صدر حكيم. أخذ يفكر... لماذا نتحمل كل هذا الإذلال؟ هل نتوقع إنصافاً حيث يأخذوننا؟ لماذا لا نموت هنا والآن موتة مشرفة؟
    - هون عليك ياصديقي.
    همس الشيخ المنصور في أذنه.
    - هؤلاء ليسوا بشراً. هل تغضب من الثور أو الحمار إذا وضع حافره على رجلك وآزاك؟
    في الطريق إلى المدينة عرف حكيم أي رجل هو الشيخ المنصور. كان يدير وجهه إلى الناحية الأخرى حتى لا يرى ضعف الرجال وهم يتخطفون جرعة الماء. كان لا يشارك في معركة الماء. ولما وصلته جرعة آثر بها حكيماً. قال: أنا متعود على الصيام. كان هادئاً، يحاول أن يخرج من كل هذا بحكمة ما.
    - أنظر... أنظر يا حكيم، الناس لا يتمايزون بالقبيلة أو اللون أو الجنس. الناس يتمايزون بالمهنة. انظر إلى هؤلاء العساكر. من الشمال والجنوب من الشرق والغرب، لكنهم جميعاً على طريقة واحدة في معاملة أسراهم. المهنة وهذا الكاكي والسلاح الذي يحملونه، كل ذلك يوحدهم. يجعل منهم نسخ متماثلة، يمنحهم نزعة مشتركة وسلوكاً مشتركاً. نزعة العسكر وسلوك العسكر. هذا ليس له علاقة بالعرق أو اللون أو الدين. جميعهم، كما تسمع، يسبون الدين. المسلم و المسيحي منهم يسب الدين للمسلم و المسيحي منا. وصاح شاب يافع من العسكر موجهاً تهديده للشيخ المنصور:
    - إنت هناك، إمنع الكلام، عامل دقنك زي التيس كده. أمنع الكلام، أحسن ليك. أنا لو وصلتك هناك بكسر ليك خشمك ده. أمنع الكلام يا حيوان.
    بدأ حكيم يرتجف غضباً من الإهانات التي وجهت لصديقه الشيخ الجليل. صار يتنفس بصعوبة وبصوت مسموع. تقلصت كل عضلة في جسده. فكر أن يطبق عضده على رقبة هذا العسكري الوقح ويقفز به خارج العربة المسرعة. تحفز، ثم تذكر أن يده مقلولة إلى يد الشيخ المنصور. حسناً هو يستطيع أن يلوي عنقه ويكسرها رغم القيد. أحس الشيخ بما يضطرم داخل حكيم. ومرة أخرى همس مهدئاً:
    - يا صديقي أصبر. هذا وضع أراده الله لنا. يجب الا نعترض وأن نصبر لنرى نهاية هذا الوضع. يجب أن نحتمل يا حكيم. سيمر وقت طويل جداً على هذا البلد قبل أن يعي لابسو الكاكي أن إذلال المواطن ليس من الواجبات العسكرية.
    وتهتز الشاحنة بعنف وهي تسرع على الطريق السيئة، تحمل المزارعين من أهل جويكِرَّة وعربان الفرقان والنيليين إلى مصير مجهول لهم في تلك اللحظات وإن صار معلوماً للعالم أجمع في اليوم التالي. وصلوا إلى مشارف المدينة منهكين والليل يقبل مسرعاً. أنزلوهم بالضرب من اللواري وكادت الأيدي أن تتقطع من قيود الحديد. مرة أخرى أجلسوهم على الأرض وأحاطوا بهم داخل سور من السلك الشائك. المكان كله كئيب كآبة الموت. فداخل هذا السور من السلك الشائك، قامت مباني ضخمة كئيبة من الحديد المطلي كله باللون الأسود. الحديث، حتى همساً ممنوع. كان رجال الشرطة لايزالون يتناوبون الصراخ والتهديد أمرين بمنع الكلام. وبين فينة وأخرى ينزل السوط بقوة على ظهر أحد الرجال من سيئي الحظ، أو يصطدم الحذاء العسكري الغليظ بالوجه.
    - حكيم إنني أريد أن أصلي.
    إكتشف الشيخ أن حكيماً كان غارقاً داخل نفسه. لم يع ما قاله.
    - حكيم، حكيم...
    إنتبه حكيم إنتباهة من كان في غيبوبة وعاد.
    - أين كنت؟
    - ديار أهلي في الجنوب. وأنا طفل. جاء الأب المبشر برفقة بعض المتعلمين من أبناء القبيلة. كان منظرهم رائعاً وهم يلبسون البنطلون و القميص. كان الأب رجلاً طيباً وودوداً. جمعونا له. تحدث عن الرب عيسى المسيح الذي عرض جسده لآلام الصلب ليفتدينا. يجب ألا نعذب بعد المسيح لأنه تحمل كل العذاب نيابةً عنا. كان ذلك الأب الطيب يتحدث عن عذاب الآخرة. لكن يبدو أنه لا يزال على الإنسان أن يتحمل عذاب الدنيا. عذاب الإنسان للإنسان. والمسيح يقول أحبوا ظالميكم.
    صمت حكيم بدأ يغوص داخل نفسه مرة أخرى. ومرة أخرى نبهه الشيخ:
    - حكيم قلت لك أريد أن أصلي. لم أصلي هذا اليوم سوى الفجر.
    - حسناً. ماذا تريدني أن أفعل؟
    - سأتيمم وأقف لإقامة الصلاة. هؤلاء العساكر قد لا يسمحون، لكني مصمم على تحديهم، قد يضربونني... سأحاول أن لا ألتفت إليهم. سأجرب طريقة غاندي. هل سمعت بطريقة غاندي في المقاومة السلبية؟
    - نعم، حدثنا عنها صلاح الأفندي.
    - سأحاول أن أستغرق في صلاتي حتى لا أحس بآلام الضرب. أريد أن أخوض هذه التجربة. أنا أحتاج إليها الآن. لكن أنت مقيد معي وقد تتعرض للضرب. لا أريد أن أظلمك.
    - اسمع يا شيخ المنصور. أنا أستطيع تحمل الكثير من الألم في صبر. لكن الشئ الذي لن أحتمله أو أصبر عليه هو أن أرى غراً أعمى القلب يضرب شيخاً بالسوط. إذا ضربك أحد هؤلاء الشباب وطالته يدي الطليقة هذه، فهو عسكري ميت. ليس ثمة إهانة للإنسان أقسى من ضربه بالسوط.
    - حكيم، هذا بالتحديد ما لا أريده.
    - هذا بالتحديد ما سوف يحدث. عندها قد يطلقون النار علينا أنا وأنت.

    فجأة بدا الشيخ المنصور كمن تذكر شيئاً بديهياً فات عليه ذكره. فجأة غير اتجاه الكلام وقال:
    - حكيم، لماذا لا تسلم؟
    - أسلم؟ تعني أدخل دين الإسلام؟ لماذا؟
    - حكيم، إسمعني جيداً. أنت إنسان نادر. طيب وشهم وشجاع. لقد عرفنا بعضنا زمناً طويلاً. زمن طويل ونحن أصدقاء. وفي هذه السفرة عرفتك أكثر. لم يسبق لي أن دعوتك لترك دينك واتخاذ الاسلام. هل هذا صحيح؟
    - نعم.
    - كنت أنتظر أن تأتي من تلقاء نفسك. لم أكن في عجلة من أمري. الآن اختلف الوضع. أنت لا تحتاج لأكثر من أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لنكن واضحين مع بعضنا. نحن لا ندري إن كنا سنرى شمس الغد. أنا مسلم، وأرى في الاسلام كل الخير لكل الناس. وأنت أول من أتمنى له الخير. هل هذا كاف بالنسبة لك؟
    - لا أعتقد أن هذا ظرفاً مناسباً ليغير فيه الإنسان ديانته. فهذا أمر يحتاج وقتاً طويلاً للتفكير.
    - أنت مسيحي، أليس كذلك؟ طاوعني وانطق الشهادة.
    - لقد طلبت مني أن نكون واضحين مع بعضنا، حسناً أظن أنه سيكون أمراً صعباً عليك إذا طلبت منك الآن أن تترك الإسلام وتدخل معي في ديني. ولعلمك أنا دخلت المسيحية طفلاً. جاء الأب المبشر وأخذنا إلى الكنيسة. كان ذلك يعني الملابس النظيفة والغذاء الجيد واللغة الإنجليزية. وعندما كبرت عدت إلى دين قبيلتي. رأيته أكثر إنسجاماً مع بيئة حياتي. في ديانة القبيلة تفسيرات وتصورات ليست موجودة في المسيحية. بدت لي المسيحية ديانة بيئة حياتية أخرى. جاءتني قناعة بأن لكل بيئة ديانتها الملائمة لها. ربما أن الإله قد أراد الأمر هكذا. ثم جاء البشر فأخذوا ينشرون الديانات كما ينشرون أساليب حياتهم.
    - حكيم... أنا ما أردت أن أجادلك. هذا ليس أسلوبي. أنت تعرفني. أنا رجل صوفي. فقط أريد منك أن تتيقن، في هذه اللحظة، إنني قد دعوتك للدخول في الإسلام لأنني أحبك و أحترمك.
    - أنا واثق من ذلك فأنا أعرفك وأنا متيقن من حسن نيتك.

    ولم يصل الشيخ المنصور ذلك اليوم سوى الفجر. قطع عليهم العسكر حوارهما وحشروهما مع الآخرين حشراً داخل المخزن الكئيب المطلي باللون الأسود. أخذت السياط والعصي تنهال على ظهور الرجال. كان واضحاً لكل ذي عينين أن ذلك المبنى لايسع عدد السجناء. لكن التعليمات واضحة وصادرة من جهة ليس لها عينين. يجب أن يحفظوا حتى الصباح في ذلك المخزن الحديدي. وأكثر من تلقى ضربات العسكر كان الشيخ المنصور وحكيم عند باب المخزن. كان الوقار يمنع من الهرولة وحشر الجسد وسط الرجال طلباً للسلامة. كان واضحاً ألا سلامة في تلك الليلة.

    (عدل بواسطة Murtada Gafar on 09-09-2005, 11:14 AM)
    (عدل بواسطة Murtada Gafar on 09-10-2005, 00:47 AM)

                  

09-10-2005, 00:50 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    صديقنا حامد بدوي

    وينك ياخي نحن متلهفين لعودتك و لتكملة الرواية حتى نبدأ الشغل

    ما تعوقش


    مرتضى جعفر
                  

09-10-2005, 04:26 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الأستاذ عادل عثمان,

    أدهشني تعليقك على الجزء الذي نشر من الرواية حتى الآن.
    هل تمارس النقد؟ أعني هل لك كتابات نقدية منشورة؟
    ما كتبته ينبئ عن ناقد.
    أنا سعيد بما جاء في تعليقك وتمنيت أن لو قد طال.
    وأتمنى أن تواصل إيراد خواطرك.
    لك تحياتي أينما كنت.

    حامد بدوي
                  

09-10-2005, 09:22 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    حامد بدوى، الكاتب العميق. تحية.. ولسانى معقود من حيوية قلمك. وإحتشاد نصّك بكل هذا الزخم، والالم، والشاعرية، والصوفية الوطنية..
    أنا لست ناقدآ. لا بالحرفة، ولا بالهواية. أنا محض قارئ يتذوق..
    شكرآ على حسن ظنك فى تعليقى القصير على كتابتك التى تتخلّق من تاريخ شخصى ووطنى شائك. ومن مصائر افراد وشعوب..
    ومن هزائم
    وخيبات امل
    ومن تطلعات
    ومن توقعات
    ومن صوت طفلة وسط اللمة منسية!

    واصل كتاباتك الشقية. وأشقى الناس فى الحياة هم الاذكياء من النساء والرجال.
                  

09-10-2005, 09:41 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    عادل عثمان,
    أعذرني فأنا لا أجيد التخاطب, ولا أستطيع أن أجاري أناقة العبارة لديك.
    في السنوات الفائتة كنت أكتب حتي لا أنفجر جراء تراكمات ردود الفعل الذاتية تجاه ما كان يحدث. كنت أهرب في الكتابة إلى الماضي الطفولي وفي نفس الوقت أجلد الحاضر الهراء.
    اليوم صار ذلك الفعل النكوصي أدبا يقرأ. هذا أمر يسعدني وفي نفس الوقت يدخلني في علاقة جديدة مع نصوصي. لقد صرت أحب نصوصا كنت بأت أكرهها.
    عادل عثمان, أرجو أن تواصل تداخلك مع النص, أنت تكتب كلاما رائعا.

    حامد بدوي
                  

09-11-2005, 09:33 AM

WadAker

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    اراقب عن كثب اناقة السرد ونتلهف لعميق التفاصيل ارجو عدم التاخير حتى لانصاب بداء الانفصال...
    هيا ياخ حامد بدوى دع قلمك ينزف دررا
                  

09-12-2005, 01:43 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: WadAker)

    ود عكر

    نيابة عن حامد بدوي لك الشكر مرة اخرى


    مرتضى جعفر
                  

09-12-2005, 10:21 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)


    (7)

    دخل عليّ القصر مع موكب الملكة، كأنه يمشي على الهواء. كأنه في حلم جميل. هل هذا حقيقة. كان يظن أن مثل هذا موجود فقط في القصص. قصر ود النمير، قصر هارون الرشيد، قصر السلطان. في القصص فقط.

    هل نجا حقاً أم أن الأقدار تخبئ له كوارث أخرى؟ لقد قطع المسافة من بارا إلى جويكِرَّة دون حوادث تذكر. في الليلة السادسة لهروبه وجد شجرة تبلدي بها ماء. سرق الماء. إغتسل وغسل ملابسه وسقى حماره.

    آخر مكان خرج منه في بارا كان الحراسة، وأول مكان دخل إليه في جويكِرَّة هو الحراسة أيضاً. ظل يحاول، يجاهد، منذ أن كان طفلاً، أن يتفادى المشاكل. كان مثل جرادة العشر، تبتعد عن الخطر بهدوء، بلا ذعر وبلا مغأمرة أيضاً. كان غريباً وسط القبيلة. والعرب تقول يا غريب كن أديب. لقد ولد ونشأ وسط القبيلة وظل مع ذلك غريباً فيها. أخواله من صرة القبيلة ورغم ذلك ظل غريباً فيها. كان غريباً لأن والده غريب. أبوه من جلابة الشمال. كان يتاجر في المواشي، الأبقار والأغنام. كان عمله يحتاج بدويه تراعي له مواشيه، فتزوج أم عليّ. وعندما انتهت تجارته سافر ولم يعد. ماتت أم علي بعد ولادته بشهور فرباه أخواله فيما بينهم.

    حاول مذ كان دون العاشرة ألا يتسبب لأخواله في مشكلة، فقد كانوا جميعاً شديدي الحساسية تجاه كل ما يمس ابن أختهم المرحومة، ويتبارون في الإهتمام به وفي رعايته. كان يتحمل في صبر وشجاعة تحرشات أقرانه من أبناء القبيلة. يعيرونه بأنه جلابي وأن أباه يرتعد خوفاً إذا صادفه ورل . ظلت طفولته معركة مستمرة للدفاع عن النفس. الكل يحاول أن يعتدي عليه حتى الأصغر منه سناً يتحرشون به إستناداً على أخوانهم وأبناء عمومتهم الأكبر سناً. ظل يدافع عن نفسه بضراوة. وكان يكتم كل ذلك عن أخواله. لا يحدثهم بما يحدث له في البرية أثناء رعي الأغنام. إذا لم يستطع أن يخفي خدشاً ظاهراً على الوجه إثر مشاجرة، كذب على أخواله وادعى أنه سقط من على الحمار. هذه الطفولة القاسية قوته، نمت داخله الصبر والاحتمال. حتى إذا صار شاباً، عرف بين كل أفراد القبيلة بالشجاعة وقوة التحمل والصبر. كسب، وهو شاب، إحترام الجميع وإعجابهم. الذين كانوا أعداءاً في الطفولة صاروا أصدقاء في الشباب.

    بدأ علي يذوق طعماً حلواً للحياة. تلك الرمال الممتدة الباردة في الليل. تلك الأشجار الظليلة في النهار. العد والسقيا للجميلات. الغناء والرقص في اليالي المقمرة. بدأ يذوق الطعم الحلو للحياة، لولا أن آمنة بدأت تهتم به. بدأت تركز عليه نظرات من عينين مثل عيني الغزال. كان يحس داخله دفء تلك النظرات وحلاوتها. ولكنه توجس خيفة من هذا الذي بدأ يحدث. وكان يمكن للحياة أن تمضي هكذا، حلوة، لولا أن آمنة قد بدأت تألف أغنيات الغرام وتذكر أسمه فيها.

    ولآمنة عدد من أبناء الأعمام. أشاوس ومندفعين مثل كلاب الحراسة. لو لم يكونوا هم بالتحديد أبناء عمومتها، لمرّ الأمر كما يمر دائماً في كل القبائل البدوية. فتاة شاعرة تتشبب بفتى أعجبها وتؤلف الأغنيات حتى يلجمها إبن عم لها بالزواج. وتنسى الفتاة وينسى الفتى في معمعة الحياة وتنسى القبيلة وتبقى الأغنيات يرقص على إيقاعها جيل كامل ثم تنسى هي الأخرى.
    أما أبنا عمومة آمنة، وبدلاً عن منعها من التشبب به، قرروا قتله. جاءه من يقول له ذلك ليأخذ حذره. في البدء ظن أن الأمر مجرد تخويف وتحذير. لم ينزعج لأنه لم يفعل شيئاً من الأصل. لم يرتكب أي نوع من الحماقة مع هذه المهرة العاصية. لكن في ليلة مقمرة والشباب يرقصون على إيقاع صفقة بنات الفريق، تحرش به أحد أبناء عمومة آمنة. كان صغيراً، يصغر علي بكثير، فتحاشى علي الدخول معه في عراك لصغر سنه. تدخل الشباب وأبعدوا الصبي.

    أصغر أخوال عليّ صديقه. يعرف كل تفاصيل موضوع آمنة. عندما تأزم الموقف أصبح يلازمه مثل ظله. لايتركه وحيداً لحظة من ليل أو نهار. وخوفاً من الفتنة أخذ علي يتحاشى المرور بأي موضع يجمعه بآمنه، فإزدادت ولهاً به. وفي يوم مشئوم جاءته بنفسها. بلا حياء من خاله الذي يلازمه. وقفت أمامه وقالت:

    - سأنتظرك غداً شرق الخور الشرقي. في الضحى. إذا لم تأت سأعرف بأنك خائف وسأحاول أن أنساك.

    دخل علي مع خاله في جدال عنيف. تعالت أصواتهما. كان عليّ يصر على أن يذهب إلى موعد الفتاة منفرداً وبدون أية رفقة. وكان خاله يصر على مصاحبته. حتى هدد عليّ خاله، إما أن يتركه يذهب بمفرده، أو أنه لن يذهب. وفي هذه الحالة فإنه سوف يفارق القبيلة إلى الأبد مدموغاً بعار الجبن وليتحمل خاله وإخوانه عار إبن أخت جبان. ولم يكن أمام خاله إلا التسليم بما عزم عليه عليّ. فالخيار الآخر أصعب.

    وجدها في المكان. كان قلبه مقبوضاً وهو يتقدم نحوها. بمجرد أن لمست يده يدها في السلام، برز من بين الشجيرات أبناء عمومتها الثلاث. هذا إذن هو اليوم المشهود. يوم امتحان الرجولة. هذا اليوم يظل كل فرد من رجال القبيلة ينتظره ويستعد له. قد يأتي وقد لا يأتي، لكن على كل رجل أن يستعد له. يوم هو مفترق الطريق. يخرج منه الرجل إما شجاعاً وإما جباناً وإما جثة هامدة. يوم منسوجة تفاصيله في أهازيج الجدات والخالات والعمات. لا يتعبن عن الحديث عنه لجنس الرجال منذ أن يكون الرجل طفلاً يحبو. وكل رجل عند إخواته وخالاته وعماته وجداته هو أشجع الرجال، إلى أن يأتيه اليوم المشهود. فإما أن يثلج صدورهن ويكون كما توقعن وتمنين، وإما أن يجلب لهن العار. يوم يحرم في التراجع أو التلجلج أو التردد أو التفكير في نتائج القتال.

    ومع ذلك ظل عليّ يفكر في نتائج قتاله المرير مع أبناء عمومة آمنة الثلاث. كان القتال بالعصي. العصى للدفاع عن النفس وإطاشة ضربات الخصم. والعصا للهجوم وتهشيم رأس الخصم. ولم يستطع عليّ أن يغلق منافذ التفكير. هذا خطأ. لاتفكير أثناء القتال... لاشك انها قد حكت لإحدى صديقاتها. ولابد أن الصديقة قد حكت لأخرى. أو آخر. لقد عرفوا بالموعد مكاناً وزماناً. إنهم يقاتلون بنية قتله وهو يقاتل ليتفادى قتل أي منهم. ماذا لو قتل أحدهم؟. الفتنة. أسرة ضد أسرة وفخذ ضد فخذ. أخواله يستحملون العبء كله. أناس كثر سوف يموتون قبل أن تتدخل الحكومة.

    بالعصا، وتطبيق كل تمرينات خاله، إستطاع أن يكسر يدي أثنين من مقاتليه الثلاث وأخرجهما من المعركة. لكن الثالث كان أكبرهم سناً وأقواهم. ضرباته كالصواعق. إستمر يضرب وعليّ يدافع. في إحدى الضربات إنكسرت العصاتان دفعة واحدة. عصاه وعصا عليّ. إستل سكينه من غمده وهجم على عليّ. خاض ضده عليّ صراعاً مريرا ًللسيطرة على السكين. أثناء الصراع سقطا معاً على الأرض. جاء سقوط إبن عم آمنة فوق السكين فاخترق صدره حتى بان رأسه من بين كتفيه... مات.
    الآن ستحصد الفتنة أرواح الرجال..... الحكومة في بارا.... لو ركض بسرعة فربما استطاع أن يأتي بالحكومة قبل أن تعلم القبيلة بما صار...

    ونجح... وجاء المفتش البريطاني وعساكره السودانيين وبمعيتهم ناظر عموم المنطقة والعمد ومشائخ الخطوط. إستطاعوا أن يخمدوا الفتنة بين أهل القتيل وأخوال القاتل على مبدأ أن الحكومة سوف تشنق القاتل. ظل عليّ في الحراسة ببارا أسبوعاً. تحرى معه شاويش انجليزي. ثم جاء مساعد مفتش المركز على رأس قوة كبيرة من البوليس لتعزيز الأمن بالمنطقة تحسباً لأضطرابات قبلية بعد حادثة القتل.

    وفي الليلة السابعة لعليّ في الحراسة، ومع مغيب الشمس، فتحوا باب الحراسة واقتادوه مكبلاً. في البدء ظن أنها لحظة الإعدام، لكنهم أدخلوه إلى مكتب وجد فيه مساعد مفتش المركز الذي وفد إلى بارا. بريطاني شاب في مثل سن عليّ تقريباً. أحمر الشعر، جعلت الشمس لونه نحاسياً. وقف عليّ أمام المكتب حيث جلس مساعد المفتش. سأله:

    - أين أبوك؟
    - لا أدري.
    - كيف لا تدري؟
    - أنا لم أره أصلاً. لقد سافر قبل أن أولد ولم يرجع.
    - وأمك؟
    - توفيت.
    - هل لك إخوان أو إخوات؟
    - لا.
    - إذاً لا أحد يهتم إذا عشت أو مت؟.
    كان مساعد المفتش، أثناء هذا الحوار، يشرب شراباً من قارورة كبيرة أمامه. يشرب من الزجاجة مباشرةً. يبتلع منها ملء فمه فتبين كل مظاهر التعاسة على وجهه الأحمر، ويظل وجهه مدة مكفهراً.

    - هل تعرف بأنك ستشنق؟
    - أعرف.
    - لماذا قتلته؟
    - أنا لم أقتله.
    - ماذا؟
    - أنا لم أقتل أحداً.
    - لقد مات الشاب إثر تشاجرك معه، ووجد مطعوناً وسكينك مغروزا في صدره.
    - تلك ليست سكينتي. إنها سكينتة هو.
    - كيف ذلك؟
    - لقد هاجمني وحاول طعني بالسكينة. تصارعنا للسيطرة على السكينة حتى سقطنا معاً على الأرض. وقع هو فوق سكينته التي كانت بيده فاخترقت جسده ومات.
    - هل قلت ذلك في التحري؟
    - نعم.
    - لماذا سلمت نفسك للبوليس بدلاً عن الهروب بعيداً؟
    - كنت أريد أن تتحرك الحكومة قبل حدوث كارثة في وسط القبيلة. وهذا ما حدث. لو هربت بعيداً دون أن أبلغ الحكومة لمات العشرات من بين أخوالي وأهل المتوفي.

    كان السكر قد استبد بالشاب البريطاني.
    - هئ... أنت رجل شجاع...وحكيم أيضاً... لكن مع الأسف فإنهم سوف يشنقونك. لا لسبب ما ارتكبته ولكن لمنع الفتنة. لا يهم إن كنت قتلته أو قتل نفسه.
    إستمر مساعد المفتش يشرب من زجاجته وهو صامت لمدة طويلة يتأمل علياً.

    - هذا ليس عدلاً. اللعنة، هذا بلد المتخلفين. هل تشاركني الشراب؟... أجلس، لماذا أنت واقف.
    - أنا لا أشرب الخمر.
    - هل تظن بأن الله سوف يقوم بحرقك بالنار بمجرد أن يشنقونك لأنك شربت معي كأساً من الويسكي؟. هذاسخف. هيا، أشرب قليلاً. هذا سيريحك.
    - أنا لا أشرب الخمر.
    - هيه . أنا هنا الحكومة، وانا أقول لك أشرب.
    - لن أشرب.
    - ألا تخاف من الحكومة؟
    - بعد الشنق أم قبل الشنق؟
    - لقد هزمتني بهذا المنطق. لماذا لا تجلس ونتحدث كأصدقاء.
    - لامانع.. فقط لا تحاول أن تجبرني على الشراب.
    - حسناً ، حسناً، هذا الويسكي لا يصنع قي بارا حتى أبذله لكل من هب ودب. لاتشرب. ألم تكن هناك طريقة للتتفادى بها ما حدث؟
    - لا، لقد كانوا ثلاثة، وأنا كنت أدافع عن نفسي فقط.
    - كان يمكن أن تهرب منهم مثلاً.
    - الموت أهون بكثر من الهروب وأفضل. أنت لا تعرف عادات القبائل هنا. موت الرجل خير ألف مرة له ولأهله من الهروب.
    - آه.... نسيت أنكم أمة متخلفة جأهلة. أن تموت أفضل من أن يقال هرب من مواجهة عدو يفوقه في القوة والعدد. هذا سخف... ومع ذلك فأنت تروق لي. هذا الثبات. هذه الثقة في بالنفس. أنا أميل إلى تصديقك... فأنت برئ. ومع ذلك سوف يشنقونك... نعم... منعاً للفتنة القبلية. أنتم أمة متخلفة حقاً. إن مهمتنا في هذا البلد صعبة للغاية. إنكم تحتاجون لمئات السنوات لتتعلموا أن تعترفوا بالحقائق البسيطة المجردة وتتعاملوا معها. أنتم أمة تعيش على الأوهام وعلى المفاهيم المؤسسة على أوهام. أعرف أنك لا تدرك ما أقول... ومع ذلك لابد أن أقوله... مثل قضيتك هذه في بلادنا... هناك في انجلترا... يمكن أن تتحول إلى قضية رأي عام. أنا درست ملفك كله. أقوال أخوالك وأقوال أهل القتيل وأهم جزء في القضية هي أقوال الفتاة...آ...آ... ماذا يسمونها؟
    - آمنه.
    - نعم.. نعم.. آمنة. تلك فتاة... تلك فتاة... منتهى الشجاعة، منتهى الوضوح، ومنتهى الإستقلال في الرأي... كأنها ليست منكم.

    بعد هذه الثرثرة، دخل مساعد المفتش في صمت طويل. إستمر يشرب ويدخن ويحدق عبر الباب في لا شئ. ثم التفت إلى عليّ. إستدار كلية ليواجهه حدق فيه برهة ثم بدأ يتمتم كمن يحدث نفسه:

    - نعم... أستطيع... نعم أستطيع.

    ثم انتفض وبدى جاداً بصورة مخيفة.

    - إسمعني جيداً. هل أنت سريع في العدو؟
    - لايستطيع إنسان أن يسبقني.
    - حسناً. لقد قررت، ولا أدرى لماذا، أن أمنحك فرصة للنجاة من حبل المشنقة الذي ينتظرك بالتأكيد. سأمنحك الفرصة لتهرب. لكن قبل ذلك يجب أن نضع خطة. خالك هذا الذي يزورك يومياً ويظل ينتحب أمام باب الحراسة. يبدو أنه يهتم بك كثيراً. إذا جاءك اليوم فقل له أن يحضر غداً عند مغيب الشمس. فإذا جاء أطلب منه أن يجهز لك حماراً سريعاً ويربطه لك على بعد خمسة كيلوميترات في نقطة تتفقان عليها، بشرط أن تقع في إتجاه الغرب من هنا. وأخبره أن يترك لك مع الحمار ثياب أمرأة بدوية. إفعل ما قلته لك، ودع لي ترتيب الباقي وسوف أعلمك ببقية الخطة غداً. الآن إرجع إلى حراستك
                  

09-13-2005, 04:56 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    ****
                  

09-14-2005, 04:35 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    العزيز وغالي, مرتضى
    ألاحظ وأتابع جهودك في إبقاء حضور الرواية على واجهة (سودانيزأونلاين).
    كنت أتوقع مداخلات أكثر من الذين أوصلت لهم نسخا من الرواية بيدي وبيد البريد تقليديا كان أم إليكترونيا. لكن نقول للناس مشاغلهم.
    أشكرك مرة أخرى.

    حامد بدوي
                  

09-14-2005, 09:55 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    مدينة النهر الميتة

    وجد حكيم نفسه مقعيا على نفس البقعة الرملية من شاطئ نهر جويكِرَّة. هنا كان مجلسهم اليومي ثلاثتهم. غالباً ما تبدأ الجلسة بالكلام المنظم الذي منبعه تلك الكتب الضخمة التي يداوم صلاح الأمير النظر فيها.

    يا الله... ذلك الشيوعي كان يقول كلاماً غريباً. (جويكِرَّة هي الأمم المتحدة). لماذا لم تصغ جويكِرَّة لصلاح. (لن يحصل المزارعون على شئ من الشركة. حاولوا أن تدركوا حقيقة وضعكم وعلاقات الإنتاج التي تحكمكم. هل أنتم مزارعون أم عمال زراعيون؟ هذا الأمر صمم بذكاء نادر، فأنتم لستم مزارعين لأنكم لاتملكون أرضاً، ولستم عمالاً لأنكم لا تعملون بأجر. الحكومة هي مجرد أداة، مثل العصا والبندقية. هي الآن في يد التجار أصحاب المشروع، ولن تفعل إلا ما يريدون. ستحصل الشركة على ما تريد. حتى لو أضطروا لإبادتكم). ذلك الشيوعي، لم يكن أحد يصغي إليه. نعم لقد أبادونا ورموا بالجثث في حفرة كبيرة وأهالوا عليها التراب.

    ورويداً رويداً يبدأ العرقي فعائله. يلج االحديث عالم جويكِرَّة الداخلي ونساء جوسكرة وفوران الحياة الحقيقي. يترجل صلاح الأمير عن منبر السياسة ويتداخل مع الحياة كإنسان له إحتياجات محددة وقاهرة. أحياناً يستخفهم المرح فيقررون العوم في مياه النهر ليلاً.

    - دع هذا العبد الجنوبي ينزل أولاً. ربما يكون هناك تمساح يتربص بنا في هذه اللحظة.
    - أنا لن أعوم معكما. أحدكما غرباوي مثل الحجر في الماء والثاني مندوكورو جبان.

    ويضحكون بقلوب صافية تفيض فرحاً وحباً.

    أطلقوا النار على عليّ فأردوه برصاصة على صدره. جاء حكيم والشيخ المنصور لأخذ جثمانه فاعتقلوهما...

    عليّ الكردفاني. كان حتى مماته نادماً على شئ واحد فعله وهو مضطر. لقد أضطر لأن يلبس ملابس أمرأة ليضلل مطارديه من رجال الشرطة. تلك كانت خطة مساعد مفتش المركز البريطاني. ولم يكن أمامه سوى تنفيذها.

    قال له: (إذا كشفوك فأنا أول من يطلق عليك النار). كانت الخطة أن يندفع عليّ راكضاً بأسرع ما يستطيع باتجاه الغرب لحظة أن يفتحوا باب الحراسة صباحاً ليسمحوا للموقوفين بالذهاب إلى دورة المياه. قال مساعد المفتش بأنه سيتأكد بان جميع أفراد الشرطة بلا سلاح في تلك اللحظة. ركض عليّ مسافة خمس كيلومترات بلا توقف. في البدء ركض خلفه ثلاثة من أفراد الشرطة، لم يلبث إثنان منهم أن توقفا خائري القوة. الثالث بقاري من أهل الناحية، ظل يركض خلف عليّ لأكثر من نصف المسافة قبل أن تنهار قواه. كانت الخطة أن يصل علي حيث يجد الحمار والملابس البدوية. يرتدي ملابس المرأة فوق ملابسه. يغطي وجهه كله، ما عدا العينين كما تفعل معظم البدويات، ثم يركب على الحمار ويعود راجعاً من نفس الطريق الذي فر منه.

    في منتصف المسافة وهو عائد على ظهر الحمار وفي ملابس البدوية قابله مساعد المفتش البريطاني وهو على جمل يقود قوة صغيرة لمطاردة السجين الهارب. أحد العساكر أصر أن يسأل البدوية ما إذا كانت قد رأت شاباً يركض في الإتجاه الذي أتت منه. وأصرت البدوية ألا تتكلم. تأزم الموقف... مساعد المفتش قال له إذا كشفوك فسوف أطلق عليك النار. كان الموقف دقيقاً وخطراً. أخيراً تدخل مساعد المفتش أمراً الشرطي أن يترك البدوية وشأنها.

    وسار عليّ على حماره من بارا حتى إلتقاه حكيم وفتاته ذات ليلة شدية الظلام على الطريق المرتفعة المحفوفة بأشجار السيسبان التي تقود إلى جويكِرَّة. وفي جويكِرَّة صار ثالث ثلاثة لم يفرق بينهم سوى كارثة جويكِرَّة والموت.

    قتل عليّ. وصلاح الأمير عاد إلى جويكِرَّة مرتين بعد الكارثة. لم يزر حكيم أحد أثناء فترة صمته غير صلاح الأمير.. و... و... نعم... محمد دينكا... م ح م د .. د ي ن ك ا ... نعم... كبف فات عليه ذلك؟ لم يتعرف عليه حكيم عندما توقف أمامه.
    حكيم، ألم تعرفني؟... أنا محمد دينكا... أنت معذور... أنا تغيرت كثيرأً.

    ... نعم... جاء مع بداية سني الجفاف...

    - حسناً يا صديقي ... أنا لم أعد أنا.. وأنت لم تعد أنت.... ولا الدنيا هي الدنيا... أنظر إلى هذه الأطلال، هل هذه هي جويكِرَّة العأمرة؟.

    ومدّ يده بحزمة من أعواد نبات كانت لا تزال خضراء.

    - خذ، هذه أعواد نبات البفرة. يقول حكماء القبيلة الذين لهم اتصال بأرواح الاسلاف، إن سنوات قاسية من الجفاف والمجاعة ستضرب هذه البلاد. ستأكل الطيور والجراد والآفات القليل الذي يقدر الناس على زراعته من الحصول. سيجوع الناس حتى يأكلوا القطط المنزلية. وقد أمروني بأن أعطي هذه الأعواد للرجل الصامت، حارس مدينة النهر الميتة. أظنهم يعنونك أنت. خذ هذه الأعواد. أغمرها في التربة واعتني بسقياها من النهر. فنهر جويكِرَّة لا يجف مثل بقية الأفرع. سوف تنبت لك نباتاً جذوره غذاء للإنسان وبديلاً عن الذرة. خذ. أنا راجع إلى ديار أهلي، هناك على ضفة نهر العرب الجنوبية. أنا مريض ياحكيم. مريض بالسل وذاهب لأموت هناك وسط عشيرتي. أنا ذاهب.

    وذهب محمد دينكا. بدا نحيلاً وهزيلاً وحزيناً. مسكين محمد دينكا. لا شك أن المرض قد غيره كثيراً. كم كان أنيقاً ومعتنياً بهندامه ونظافته... نعم... محمد دينكا.

    وثالث من إقترب من حكيم بلا خوف خلال فترة صمته، بعد صلاح الأمير ومحمد دينكا، كانت حليمة الضكرية. يقولون لها الضكرية لأنها أشبه بالذكور في سلوكها من الإناث. لاتتزين لاتلبس ملابس النساء وتجلس مجالس الرجال. لا تسير إلا وهي تحمل عصاها وعلى عضدها سكينتها. مثل الرجال تماماً. جاءته مع الصباح الباكر. حليمة هي التي حركت كل شئ. هي التي رجت البركة الساكنة. تقدمت نحوه وهي تنظر في عينيه مباشرة.

    - حكيم. أنا حليمة.. حليمة الضكرية كما يقولون. أتذكرني؟
    - .....................................
    - في القرية يقولون عنك بأنك تعيش مع الجان، كما يقولون عني بأني مجنونة. حسناً المجانين لا يخافون من الجان..
    - ...................................
    - جئت لأانني جائعة. كل الناس في القرية جائعون. لا يوجد ما يؤكل. ألا تعلم بأمر المجاعة؟ هل رأيت أبقارا أو أغناماً ترد النهر قريباً؟
    - ......................................
    - الناس في القرية يموتون من الجوع. الأطفال والنساء وكبار السن. تعب الناس الأحياء من حفر القبور. صار لا عمل لهم سوى حفر القبور ودفن الموتى.
    - .............................................

    ولأول مرة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، تحرك شئ ما داخل حكيم. في البدء شعر بأضطراب شديد. هزه ذكر الموت والقبور هزة عنيفة. ومثل ومضات كونية تأتي من قرار سحيق، ومضت في ذهنه الخامل صور سريعة فيها رعب وصياح.. جثث طرية تحت الأرجل. العرق..... البحث عن شهقة هواء.... الضيق في الصدر..... وحفرة كبيرة تجرف إليها الجثث بالبلدوزر المجنزر.
    كان حكيم يرتجف بعنف. تتسارع أنفاسه. وتغشاه الحمى. جسده المرتجف يتقطر عرقاً. أمسك حليمة من يدها بقوة ثم سحبها خلفه. لم يكن يمسك بحليمة بقدر ما يحاول أن يمسك باللحظة الراهنة، كان يخشى أن تنفلت منه، أن ينسى في اللحظة التالية ويغيب ذلك الوميض الذهني. أحس بها ترتجف وقد بان الرعب في عينيها، لكنه لم يفلت يدها ولم تبد هي مقاومة حتى دخل بها مسكنه. في الداخل إختارت مقعداً خشبياً قريباً من الباب فجلست عليه. أوقد النار وأعد لها طعاماً. فعل حكيم كل ما فعل وهو صامت صمته المعروف. خرج وتركها تأكل. كان كيانه كله ينتفض. بدأ ذهنه الخامل يعمل. بدأ يفكر ويتذكر.

    - أنا حكيم.. في الغرفة حليمة... قالت جائعة... هي تأكل الآن... الناس في القرية يموتون جوعاً... لايوجد ما يؤكل... البفرة... الأكوام المكدسة عبر السنوات في دكاكين السوق المهجورة... حليمة، طفلة يتيمة من أمها... وأبوها من البدو القليلين الذين هجروا حياة القبيلة. إستقر في جويكِرَّة... وظفه صلاح حارساً على جوالات المحاصيل... طفلة شقية كثيرة الحركة... وهي طفلة كان فيها شبهاً من نوع ما.. من جميلة...

    عندما لحقت حليمة بحكيم، كان مشغولاً بتحميل كتل البفرة على العربة ذات العجلين.

    - ما هذا الشئ؟
    - ................
    - ثم أين الحمار الذي سيجر هذه العربة الثقيلة؟.

    أشار بسبابته إلى صدره. إنفجرت حليمة ضاحكة. تقلص وجه حكيم بانفعالات عميقة. خليط من الضحك والبكاء المتراكم لعشرات السنين. تراقص أثر كل ذلك على صفحة وجهه الشديدة السواد. بدى كمن يعاني فرحاً وحزناً في ذات اللحظة. ثم فجأة انفجر يقهقه. إتسعت حدقتا حليمة دهشةً.

    - حكيم........ أنت تضحك!! لماذا لا تتكلم؟

    أحنى رأسه وعاد للعمل. ملأ العربة ووقف مكان الحمار. أمسك جيداً بكلتا يديه. إنحنى للأمام وشد العربة وسار بها غرباً.

    لم يكن حكيم يحس بنفسه وهو يقطع المسافة بين جويكِرَّة والقرية. لم يكن يحس بكثافة جسده. كأنه تبدد في فضاء الكون. كان عقله يعمل مثل آلة خربة يجري أصلاحها. كان إيقاع عقله مختلاً. يسرع أحياناً حتى يشفق على نفسه من الجنون. تتدافع فيه الأفكار والذكريات بجنون وتزاحم لايرحم. ثم فجأة يخمد كل شيئ. تختفي كل الأفكار وكل الذكريات حتى يفقد الخيط الرابط وينسى ما كان يفكر فيه أو يتذكره ويعود إلى الغرق في تلبده المعهود.

    هكذا إستمر حكيم يعاني تلك النوبات الذهنية حتى وصل إلى ساحة السوق. في القرية تجمع عليه الناس الجياع. هناك خبر حكيم أخطر تجارب حياته، وأقساها. رأى شبح الموت في عيون الناس. رأى الهزال والعيون التي فقدت بريقها وألوانها. رأى الأطفال، عيونهم شديدة البياض وبطونهم منتفخة وسيقانهم متورمة. عراه تنبض قلوبهم الصغيرة خلف الضلوع البارزة.

    وترنح طفل مثل سكران وسقط. هنا استيقظت في ذهن حكيم دقائق تفاصيل رهيبة حدثت ذات ليلة. ليلة الحفر بالأظافر على جدران الحديد وأرضية الاسمنت. الرجال مثل الذئاب المحبوسة ينبشون بأظفارهم. يضربون الرؤوس بجدران الحديد. نسمة هواء... فرصة أخيرة للشهيق... ثوان من العمر... لكن هيهات. تحركوا بعنف فاستهلكوا ما تبقى من هواء. ثم بدأ اليأس والتعب والتراخي يأكلهم واحداً بعد الآخر. خمدوا. هنا صاح الشيخ إسماعيل المنصور:
    - الجلالة يا رجال... شيلوا الجلالة... لا إله إلا الله... لا إله إلا الله.

    ودوَّت الجلالة... إستمرت مدة ثم بدأت تخبو... شئ مثل النعاس غشى القوم. ثم تكاثفت الظلمات فوق بعضها البعض... ولم يشهد أحد من الرجال الخاتمة. ختمت حياة الجميع...

    أفاق حكيم ووجد عيون القرية الجائعة جميعها تحدق به وتحدق فيه. كان مضطرباً يرتعش. أما ما حدث بعد تلك اللحظات، فلم يكن واضحاً في ذهن حكيم حتى بعد أن استعاد توأصله مع العالم. ذلك الضوء الباهر الآتي من أكوان سحيقة.. ذلك الإدراك المخيف... تلك المعرفة المميته... واندياح كل ذلك الضوء وذلك الإدراك وتلك المعرفة، وتمدد كل ذلك تجاه الماضي وتجاه المستقبل... والكشف....
    وفي اللحظة التي تلت ذلك، رأى نفسه واقفاً فوق العربة المحملة بالبفرة وهو يصيح ويخاطب الناس بكلام سليم... وعندما ترجل من العربة كان شخصاً آخراً. كان شخصاً جديداً وبقدرات إدراكية مخيفة.
                  

09-15-2005, 01:29 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    إلى أعلى للقراءة
                  

09-16-2005, 10:07 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    لا لم تكن جويكِرَّة وأهل جويكِرَّة أبرياء، أو غير مسئولين عما حاق بالحياة في المدينة. نعم جاء العسكر الأغبياء وألقوا القنابل المسيلة للدموع وأطلقوا الرصاص واقتادوا الرجال مكبلين إلى مخزن الموت. غير أن الأمر قد بدأ قبل هذه اللحظة المشؤومة بزمن طويل.

    بدأ حين سافرت مجموعة من التجار سوياً باللوري الفورد الوحيد في المدينة والمملوك لحمد طه الذي كان الأعراب يلقبونه (عرق الحجر) لشدة بخله وتشدده في معاملات الشيل . وعندما عاد وفد التجار كان في معيتهم المسؤول الزراعي بالمركز وبعض الأفندية. ونادوا في الناس، أن إجيمعوا لأمر هام يخص مستقبل جويكِرَّة والمناطق المحيطة بها.

    جاء سكان جويكِرَّة على كثرتهم، رجالاً ونساءاً وأطفالاً. وجاء الأعراب على دوابهم وبدون نساء أو أطفال. وجاء النيليون المنتشرة قراهم على ضفة النهر. تجمعوا جميعاً تحت أشجار النيم والأكاشيا في باحة السوق وكلّ يحاول أن يعرف من الآخر سبب هذا الجمع العظيم. هدأ اللقط عندما خرج على الناس وفد التجار الذي سافر إلى المركز وبينهم يمشي الأفندية من أولاد البلد الناهبين الذين خلفوا الإنجليز في إدارة شئون البلاد والعباد. صمت الجمع واشرأبت الأعناق وتدافع الناس للتملي في الأفندية.
    كان أول المتحدثين وآخرهم، إذا لم يتحدث شخص بعده، هو ذلك الذي قدمه التجار بصفته المسئول الزراعي بالمركز. قال، فيما قال، أن الحكومة الوطنية، بعد أن حققت للبلاد إستقلالها وخلصت الشعب من نير الإستعمار البغيض، قد التفتت الآن لمهمة إعمار البلاد واستخراج كنوزها لينعم بها أهلها.

    لم يكن ذلك الأفندي يتحدث بلسان جويكِرَّة. ومع ذلك فقد فهم الجميع كلامه، إذ كان يتحدث بلغة الراديو الفصيحة. وفهم الناس من كلامه أن مجموعة التجار التي سافرت إلى المركز وعادت اليوم، قد حصلت على رخصة من السلطات المختصة بإقامة مشروع ضخم لزراعة نبات القطن. ولم يكن أهل جويكِرَّة وضواحيها يعرفون القطن كزراعة. كانوا فقط يعرفونه خيوطاً وأقمشة يجلبها لهم التجار من مكان ما. وقال المسئول الزراعي بأنهم في المركز قد منحوا التجار رخصة بزراعة أربعة آلاف فدان تروى من نهر جويكِرَّة بآلات رافعة للماء. وأسهب المسئول في ذكر الفوائد التي ستعود على البلدة وسكان المنطقة بسبب قيام ذلك المشروع الزراعي. ثم جاء ضمن حديثه، الخبر الذي رج جنبات البلدة الغافلة. فقد حدد المسئول مكان الأرض الممنوحة للتجار أصحاب الرخصة، وقال أنها ستكون على إمتداد غابة الكتر الواقعة بين قيزان الأعراب والمنطقة المنخفضة التي تغمرها مياه الفيضان.
    بمجرد ذكر الأرض الممنوحة للتجار وتحديدها، هب شيخ الأعراب واقفاً. لم يقف الرجل كما يقف إنسان يريد أن يتحدث، أو يريد أن يغادر مكاناً لم يعجبه الحديث الدائر فيه، إنما هب كما يهب رجل بنية الدخول في عراك. حزم وسطه بثوبه الكبير الذي كان على كتفه. كان الرجل ينتفض انفعالا.ً ولدهشة الجميع تقدم شيخ الأعراب تجاه المسؤول الزراعي، حتى إذا إقترب منه أدار له ظهره وواجه رجال القبيلة. وقف يخاطبهم وكأن ليس في الساحة غيرهم:
    - إسمعوا يا رجال. هذا الأفندي يقول أنه منح الجلابة أرضنا وأرض أجدادنا. منحهم غاباتنا شرق قيزاننا. منحهم ديارنا ومراعي حلالنا. سمعنا ما قال. هيا بنا نذهب. وسوف يرى هو والذين منحهم أرضنا إن كان هذا سوف يصير.

    تعالت الأصوات وعم الهرج. حاول بعض شباب البدو أن يعتدوا على المسئول الزراعي فزجرهم الشيخ. ولم يكمل المسئول الزراعي خطبته كما لم يتحدث أحد بعده. وخرج الأعراب من جويكِرَّة على دوابهم. يمموا الغرب وشمس العصر على جوههم تزيدها عبوساً. وبقي أهل جويكِرَّة وقد توزعوا مجموعات تتداول الحديث حول أمر المشروع الزراعي. أما الذين جاءوا من قرى القبائل النيلية المنتشرة على ضفة النهر، فقد انصرفوا في صمت كما حضروا في صمت وكأن الأمر لا يعنيهم. أعراب الفرقان من البدو اختلفوا مع مع العرب الجلابة من تجار السوق. لا دخل لهم في الأمر كله.

    ولكن، ورغم ردود الافعال المتباينة تجاه إقامة المشروع، نفذت الحكومة ما أراد التجار. نعم تمسك الأعراب بموقفهم الرافض لقيام المشروع إلى حين، لكن في نهاية الأمر، تم استرضاء زعمائهم واسترضاء المتطلعين منهم للسلطة والجاه والمال. عمل هؤلاء على إقناع جماعاتهم وبشروهم بالكسب الذي سوف يعود عليهم. وقالوا لهم أن أراضيهم سوف تنظف وتحرث وتعود إليهم في شكل حواشات. فقد استطاعوا أن ينتزعوا من الجلابة ثلث مساحة المشروع وسوف توزع هده المساحة على من يشاء من العربان أن يصير مزارعاً. فصار من البدو مزارعو قطن. وثار رقيق العربان المحررين من سكان جويكِرَّة مطالبين بحقهم في امتلاك حواشات ضمن المشروع باعتبارهم من أهل المنطقة الأصليين، فاسترضوا مع بقية سكان جويكِرَّة بثلث مساحة المشروع وصار منهم مزارعون. ووقف زعيم النيلين الروحي وأكد بلسان أهل جويكِرَّة الفصيح أن هذا النهر ملك لهم، لا يشاركهم فيه سوى البدو أهل الأبقار والباعوض، فأعطي النيليون ثلث المساحة الباقي فصار منهم مزارعون.

    نعم حدثت كل هذه الترضيات، إلا أن جويكِرَّة قد انقسمت إلى جلابة ورقيق محررين وبدو ونيليين ودخلاء. ولأول مرة بدأ الناس يتحدثون في جويكِرَّة عن السكان الأصليين و الدخلاء. عن أولاد البلد والغرباء. صار الجلابة مالكين للأرض التي يعتقد الأعراب أنها قد أنتزعت منهم. وصار الأعراب والرقيق المحررون والنيليون شركاء في ريعها مقابل كدحهم فيها طوال أيام السنة. وكان الأعراب يطمعون أن تكون كل الحواشات لهم، لأنهم أصحاب الأرض الحقيقين. وكان الرقيق المحرر يرى أن البدوي لايصلح لفلاحة الأرض وأنهم الأجدر بأن تكون كل الحواشات لهم، فهم الذين كانوا يقومون بالزراعة لأسيادهم القدامى. وكان النيليون يشعرون بأن مياة نهرهم تسرق لفائدة العرب.
    كانت كل فئة إذ تخلو إلى نفسها تظهر ما بدأ ينمو في صدور أفرادها من غلٍ تجاه الفئة الأخرى. صارت المشاحنات تحدث لأبسط الأسباب، فيتحزب الناس. بدأت جويكِرَّة تفقد براءتها وتآلف الناس فيها، شيئاً فشيئاً. صار الأعراب يقولون عن الجلابي: (إن لقيته وحيده. ينطيك وليده. وإن لقيته في الغابه يقول لك يابا. وان لقيته جنب القاضي تر منه غادي) ويقولون عن الرقيق المحرر مثلاً صار سائراً بينهم: (ما تصاحب العب وما تبول في الشق، فالعب نسَّاي والشق حسَّاي). وبالمقابل كان الجلابة يؤلفون النوادر عن الأعرابي المغفل الجأهل، حتى صارت كلمة (عربي) سبة في جويكِرَّة. أما الرقيق المحرر فقد قابلوا مثل الأعراب فيهم بمثل آخر يقول: (ما تبول فوق الحجر وما تصاحب العربي. الحجر يرشَّك والعربي يغشَّك).
                  

09-18-2005, 05:32 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    ****
                  

09-18-2005, 08:44 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    على خلفية هذه الفصول البديعة من رواية حامد بدوى بشير، اسمحوا لى ان انقل هذه المتفرقات، ذات الصلة بالرواية، وبموضوع الرواية الكبير، السودان.
    __________

    http://www.alsahafa.info/news/index.php?type=3&id=2147495242
    مقالة فى جريدة الصحافة السودانية
    ***************

    - مجلس النواب : 1954 - 1958
    عدد الأعضاء : 95
    كيفية الاختيار : الانتخاب المباشر وغير المباشر
    دورات الانعقاد : ثلاث دورات
    رئاسة المجلس : بابكر عوض الله
    أهم إنجازاته :
    1/ إعلان الاستقلال من داخل البرلمان .
    2/ عملية السودنة .
    3/ اتفاقية مياه النيل .
    أهم الأحداث :
    1/ أحداث مارس 1954م
    2/ أحداث التمرد في أغسطس 1955م
    3/ احدث عنبر جودة بالنيل الأبيض
    http://www.sudan-parliament.org/history/
    *****************

    رواية فى شأن الحق والجمال
    ***************

    http://saf_pl.tripod.com/arabic/alsudan.htm
    ***************


    "The Black Hole of Kosti: the Murder of Baggara Detainees by Shaigi Police in a Kosti Barracks, Sudan, 1956," _Northeast African Studies_ Vol. 2, No. 1 (1995): 61-83
    "حفرة كوستى السوداء: مقتل المعتقلين البقارة على يد البوليس الشايقى فى عنابر كوستى،
    السودان، 1956،" مجلة دراسات شمال شرق افريقيا. المجلد 2، العدد رقم واحد، 1995 ، ص 61-83 "
    http://www.columbia.edu/cu/lweb/data/indiv/area/idass/BESWICK,Stephanie.htm
    *************


    لو أنهم
    حزمة جرجير يعد كي يباع
    لخدم الافرنج في المدينة الكبيرة
    ما سلخت بشرتهم أشعة الظهيرة
    وبان فيها الاصفرار والذبول
    بل وضعوا بحذر في الظل، في حصيرة
    وبللت شفاههم رشاشة صغيرة
    وقبلت خدودهم رطوبة الانداء.. والبهجة النضيرة
    لو انهم فراخ تصنع من اوراكها
    الحساء لنزلاء (الفندق الكبير)
    لوضعوا في قفص لا يمنع الهواء
    وقدم الحب لهم والماء..
    لو انهم..

    صلاح أحمد إبراهيم

    (عدل بواسطة Adil Osman on 09-18-2005, 09:11 AM)

                  

09-19-2005, 04:47 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الأستاذ عادل عثمان,
    أشكر لك مثابرتك على المتابعة.
    نعم, قد تكون جويكرة هي جودة وقد لا تكون. بل هي بالضرورة تكون ولا تكون في نفس الوقت. لأنها في نهاية المطاف بلدة متخيلة. والرأي الاخير لك ولكل من قرأ الرواية.

    حامد بدوي
                  

09-19-2005, 10:14 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    جلس صلاح محشوراً في المقعد القاسي. لم يكن قادراً على الاسترخاء لأن ركبتيه كانتا تضغطان على حديد المقعد الذي أمامه. وكان عليه أن يبقي ظهره منتصباً حتى لا يؤلم ركبتيه.

    حولوا لواري الشحن إلى بصات. نفس صندوق اللوري سقفوه وركبوا عليه ما استطاعوا من المقاعد المصنوعة من حديد البناء والخشب وضاعفوا مقدار الأجرة. السفر بلواري الشحن أريح ألف مرة. أقلها ينعم الركاب بالهواء. هذه الطريق بين جويكِرَّة والمركز، سافر عليها صلاح مرات لا تحصى. باللواري وبالتركتر في الخريف وأحياناً على الأقدام حين تتعطل وسيلة المواصلات. يعرف أسماء القرى على هذه الطريق قرية قرية. يعرف سكان المنطقة قبيلة قبيلة. ومع ذلك لا أحد يعرفه اليوم على طوال الطريق. فمنذ أن أُخذ معتقلاً مكبلاً عقب أحداث جويكِرَّة قبل خمسة وثلاثين سنة، لم يسافر على هذه الطريق سوى مرتين وهذه هي المرة الثالثة. وفي كل المرات كان متنكراً. هل كتب عليه أن ينكر نفسه طوال عمره؟. صلاح أفندي قد انتهى مع نهاية جويكِرَّة. مثلها صار من التاريخ المنسي.

    يعود إلى جويكِرَّة متخفياً ويلوذ بها كلما ضاقت به البسيطة. هي الملجأ الآمن الوحيد كلما احتاج الأمان رجل مثله إحترف السياسية من شبابه الباكر. عاد إليها للمرة الأولى بعد سبع سنوات من خروجه منها مكبلاً. كانت سلطة الجنرالات الأولى قد ضيقت الخناق على السياسيين ذلك العام. فالحزب قد كثف نشاطه المناوئ للسلطة وازداد معدل توزيع المنشورات وغطت الكتابات الحمراء حوائط العاصمة. بدأت السلطة تفقد الثقة في نفسها وتفقد بالتالي اتزانها. جاء التوجيه من أجهزة الحزب بالإختباء. لم يفكر كثيراً. تنكر في زي أعرابي واستقل أول وسيلة مواصلات صادفته واتجه جنوباً. وصل إلى المركز واتجه رأساً إلى حيث يجد لورياً يقله إلى جويكِرَّة. دخل إلى جويكِرَّة مع مغيب الشمس وجدها، في مظهرها العام هي هي. لكنها كانت خالية من البشر. لم يجد بها سوى صديقه القديم حكيم. لكن الفاجعة أن حكيماً قد صار مثل مدينته خاوياً. كانت جويكِرَّة صامتة بلا بشر. وكان حكيم صامتاً مثلها.

    وجد صلاح مكتبه القديم كما تركه. حتى الأوراق التي داخل الأدراج، كانت كما هي. وسريره لايزال باقياً وقد أكله الصدأ. والغريب في الأمر أن حكيماً، رغم ذهوله، قد قام بخدمته على أكمل وجه. في نفس ليلة وصوله قدم إليه السمك المشوي. وفي اليوم التالي جاءه بأرنبٍ. مد إليه الأرنب والسكين وهو صامت. ضحك صلاح.

    - تريدني أن أذبحه على الطريقة الاسلامية؟

    وبقي صلاح في تلك المرة خمسة أشهر مع حكيم. اكتشف أن أهل المنطقة كلهم يتحاشون الإقتراب من البلدة المهجورة، وكان هذا يناسبه تماماً. لهذا كان يعرف تماماً إلى أين يذهب عندما جاءه الأمر من الحزب بالنزول تحت الأرض في عهد سلطة العسكر الثانية. ورجع إلى جويكِرَّة للمرة الثانية بعد ست سنوات فقط من زيارته الأولى. كان الجنرال الثاني قد قاد مذبحة همجية ضد الشيوعيين. وفي الزيارة الثانية أيضاً كان حكيم صامتاً. كان صلاح يعرف بأن مدة بقائه ستطول لذلك فقد جلب معه في رحلته الثانية إلى جويكِرَّة عدداً من الكتب والأوراق. وقام حكيم بخدمته بلا كلل أو ملل. أحياناً كثيرة كان يضبطه وهو يحدق فيه بتركيز. هل كان يحاول أن يتذكر؟ حسنا يا صديقي... تذكرتني أو لم تتذكرني الأمر سيان.... أنا أيضاً أنتمي إلى هذه المدينة الميتة.... والناس في الناحية يخافونك ويتجنبون المدينة المسكونة بالجان...هذا يناسبني تماماً... هارب أنا من الناس... والجن خير من الناس... فهم لا يسربون الوشايات إلى أجهزة الأمن. وعمل صلاح في زيارته الثانية على ألا يظهر نهاراً مع حكيم في المدينة المهجورة حتى لا يثير تساؤل الرعاة وصيادي الأسماك على ضفة النهر.

    هذه هي الرحلة الثالثة، أو الهروب الثالث إلى جويكِرَّة. الأمر مختلف هذه المرة. كل المرات السابقات كانت إرهاصاً لما يحدث الآن. هذه نهاية الطريق الذي سارت فيه البلاد. كان الإعتقال السياسي يعني شهوراً أو حتى سنوات خلف جدران السجن العتيق بالعاصمة، ثم يأتي الفرج، إن عاجلاً أو آجلاً حسب تقلبات المناخ السياسي في البلاد. الآن اختلف الأمر. ليس الأمر أمر تغيير في مناخ البلاد السياسي, وإنما الأمر الآن تغيير الدولة. تغيير خط سير البلاد نفسه. هذه المرة لابد من نقض البنيان القديم من أساسه وإعادة بنائه. لا بد من الهدم أولاً. الحكام الجدد يدركون ذلك ويسعون إليه. والمعارضون لهم قد أدركوا مؤخراً ذلك وصاروا يتحدثون عنه. والصراع الآن حول خارطة البناء الجديد بعد الهدم. هذا ما ظل ساسة البلاد يتحاشونه ويسوفون فيه منذ رحيل المستعمر. الآن لابد من مواجهة الأمر. دولة لكل الناس أم دولة لبعض الناس أم يصير لكل أُناس دولتهم؟.


    صلاح محشور في المقعد الضيق القاسي، واللوري البص يتقافز على الطريق الترابية غير الممهدة. أخذت الأفكار تتقافز إلى وعيه المشوش. لقد ظل منذ أن كان في العشرين من عمره يناضل بعزم ويزهو كشيوعي ملئ بالتفاؤل والإيمان بمستقبل الكادحين والشغيلة فوق أرضية ثابتة ووطن مساحته مليون ميل مربع. الآن إهتزت الأرضية الثابتة، وحول المليون ميل تثور الأسئلة الأساسية. كان يناضل كشيوعي، الآن يناضل كمواطن. هل هناك فرق؟.

    جويكِرَّة الهادئة بنهرها القديم. هل لا تزال قادرة على منحه فرصة ترتيب أفكاره كما في المرتين السابقتين؟ هل لا يزال حكيماً عائشاً؟ وشعر بمباغتة السؤال. ماذا لو....؟ نعم هذا ممكن. لكنه لن يستطيع المكوث والعيش في جويكِرَّة إذا مات حكيم. لن يستطيع العيش يوماً واحداً بدون حكيم. بدأت هذه الفكرة المزعجة تلح عليه. نعم، فقد ظل حكيم صامتاً في المرتين السابقتين، لم يكن يبادله أي حديث. كان الحوار بينهما دائماً من طرف واحد. وفي إتجاهٍ واحد. لكن صلاح قد اعتاد هذا. بل أنه بدأ يرتاح له. فقد كان يعبر بحرية عن كل ما يخطر له من أفكار. وكان حكيم ينظر فقط ولا يرد. لكن حتى هذا الوجود المحايد كان ضرورياً لصلاح. أما أن يختفي حكيم... هذا مخيف. ثم هناك صعوبات عملية ستواجهه إذا مات حكيم. صعوبات تتعلق بالعيش من يوم ليوم. حكيم هو الذي يصطاد ما يؤكل. السمك، الأرانب، والدجاج البري. وهو الذي يجلب الأخشاب ويطبخ الطعام رغم صمته العنيد. ترى هل هي قضية البرجوازي الصغير الذي لابد له من الإعتماد على شخص آخر ليسهل له معاشه اليومي؟ هل جزعه الآن نابع من هذه الحقيقة؟ هل يستطيع أن يصطاد بنفسه؟ من أين سيأتي بأدوات الصيد؟ صيد الأسماك هو الأسهل. حسناً، من أين سيأتي بالسنارات والخيوط؟ كان يجب أن يفكر في ذلك ويجلب معه من المدينة ما يلزم للصيد. من الأفضل أن يدع التفكير في هذه الأمور حتى يصل إلى جويكِرَّة. الإنجليز يقولون أعبر الجسر عندما تصل إليه. أو لا تعبر الجسر حتى تصله. لا شك أن الصيغة الأولى هي الصحيحة.

    لا يزال البص يترنح ويواصل المسير بإصرار. الفقر يطل من القرى التي يمر فيها الطريق. مالذي أصاب هذا الجزء من البلاد؟ مالذي حطم الحياة فيه؟ لا حياة في المشاريع الزراعية. الأبقار عجاف تكاد لا تقوى على السير، والإنسان مثال للبؤس. ما كل هذا الفقر؟ الفقر هنا ليس لمحات من البؤس هنا وهناك، الفقر هنا هو الأساس. ليس ومضات من المظاهر بل السديم الذي يعم كل شئ. مثل الظلام والغبار والجفاف، ليس به نوافذ تطل خارجه. إنتهت المشاريع الزراعية. جفت الترع من الماء. نفقت الحيوانات وهاهي هياكلها على طول الطريق. لم تجد نساء الأعراب ما يحملن عليه قرب الماء سوى ظهورهن. أنت عليَّ كظهر أمي. لماذا الظهر؟ لماذا تتدهور الأشياء بدلاً عن أن تتطور في هذا البلد العجيب؟ لماذا لا تلد الزراعة الصناعة؟ لماذا يظل التدهور هو القانون وليس الترقي؟ تبدأ الأشياء في التراجع والتدهور منذ لحظة نشأتها. لا شئ يسير إلى الأمام. من الذي قال: (اللهم خذ حياتي إذا لم أكن أحسن من آبائي؟) هل هذه الأرض بكل هذا البؤس واليأس، أم أن لهذه الحرارة والانحشار في المقعد القاسي دخل بهذا الأمر؟.

    تقيأت أمرأة بدوية. لا شك أنها غير معتادة على ركوب الباصات ورائحة البترول. أصابها دوار البص. مثل دوار البحر. صارت رائحة المكان لا تطاق. قد يتقيأ هو الآخر إذا استمر على هذا الوضع. ليت البص يتوقف فينزل عنه ولو لبضع دقائق يعبئ رئتيه هواء نظيفاً. كيف يكون الإنسان قادراً على العيش وسط كل هذا الكم من البؤس والفقر والجهل ورائحة الغئ. سيصل إلى جويكِرَّة عند مغيب الشمس. دائماً يصل إليها عند مغيب الشمس. هو أصلاً يلجأ إليها عندما تغيب الشمس. إرتاح لهذه الفكرة الأخيرة. إنها شاعرية. البيوت تشيخ عندما يهجرها ساكنوها. تتهدم أسقفها وتهترئ أبوابها. تقتلها الوحشة. جويكِرَّة مدينة قتلتها الوحدة. ما هذه الأفكار الشاعرية؟ تذكر شيئاً فلم يستطع أن يمنع نفسه من الابتسام. فلتت منه ابتسامه. تلفت حواليه. هل لاحظ أحد أنه يبتسم لنفسه؟ كانا جالسين هو وحكيم الصامت، على شاطئ النهر، أول الليل. فجأة إنفجر صوت رهيب وعميق لا يصدر إلا عن وحش. أجفل صلاح وهب واقفاً متحفزاً للفرار. وفي اللحظة التالية انفجر ضاحكاً. إنه خوار فرس النهر. وبمجرد أن تذكر صوت فرس النهر الذي سمعه كثيراً قديماً في جويكِرَّة، ذهب عنه الخوف. الجهل أساس الخوف. المعرفة تميت الخوف. أعرف عدوك. هذه الحادثة كانت في فترة اختفائه الأولى. بقي في جويكِرَّة خمسة أشهر ثم عاد إلى العاصمة. شارك في المظاهرات والإجتماعات ضمن الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم العسكر الأول.

    الإختفاء الثاني كان أمراً آخر. كان صراع الحزب ضد السلطة صراعاً دموياً لعلع فيه الرصاص. المحاكمات والإعدامات وكلاب الأمن. كان وقتاً عصيباً. أضطر لأن يبقى مختفياً حتى أطاحت الانتفاضة الشعبية بحكم العسكر الثاني. لم تعرف أجهزة الأمن له مكاناً... هو لا يتنكر في زي أعراب البادية، بل يتحول إلى واحد منهم. لقد عاشرهم في جويكِرَّة وأتقن لهجتهم. يلبس العراقي على الثوب الطويل ويتلفع ثوباً متسخاً. على عضده السكين وبيده عصا غليظة. وعندما يضع نظاره سوداء تحت العمامة الضخمة لن يشك أحد في أنه ليس بدوياً. لهذا لم يقع في أيدي رجال أمن النظام بينما تم القبض على معظم قادة الحزب.

    فجأة اكتشف صلاح بأن الذي يحتل المقعد المجاور له يوجه له سؤالاً.
    ردد الرجل سؤاله:

    - اللخو من يين؟
    - من الوساع.
    - وعاني يين؟
    - والله انا مهمل لي بهايم. بروغ رواغة. ماني عاني بكان واحد.
    - وبهايمك ديل وصفهن شنوه؟
    - عجلتين، واحدة حمرا جت والتانية بيضا ليها سيحان زرق.
    - وفي زول طراهن ليك جاي؟
    - كو، مافي زول طراهن لكن المهمل بفتح خشم البقرة.

    يالله هذا الأعرابي لن يتوقف عن الأسئلة حتى يعرف كل شئ. هو يخبر هذا النوع من البشر جيداً. وراح صلاح يفكر في طريقة للتخلص بها من أسئلة الأعرابي الفضولي. واهتدى إلى أن أمثل طريقة هي أن يبادر هو بطرح الأسئلة. وبالفعل، صار صلاح يخترع سؤالاً جديداً كلما رد الأعرابي على السؤال السابق. سأله بطريقة الأعراب عن قبائل المنطقة وأفخاذها وشيوخها وعمدها. عن الرعي وأمراض الحيوان وكل ما يخطر بباله في تلك اللحظة. واستمر الرجلان هكذا حتى وصل الأعرابي منطقته واستعد للنزول. ولم يفته بالطبع أن يدعو صلاحاً للنزول ضيفاً عليه. وأصر في دعوته. إلا أن صلاحاً رفض بشدة.

    لقد تجاوزت الخمسين الآن يا صلاح. الشيب على الفودين والشارب. تذكر أنه لم يحلق ذقنه منذ ما يقارب الأسبوع. لا شك أن منظره يبدو بشعاً. تجاوزت الخمسين يا صلاح ولم تتزوج. تزوجت الحزب. في برلين كاد أن يتورط مع تلك الشقراء هيلين. ثم تراجع عندما بحث الأمر بموضوعية مع نفسه. كيف أعود إلى البلد بأمرأة ترى أن من حقها أن تشرب الفودكا مع الرجال. هيلين... ترى ما حل بك في معمعة البروسترويكا وزمان ليخ فاليشيا؟ هل انطفأ ذلك الايمان الصوفي بانتصار الشيوعية؟ كانت تقول: (لاشك أنكم تجدون أن النضال من أجل الإشتراكية أمراً سهلاً في أفريقيا. أمامكم كل تجارب أوربا والصين وحتى أمريكا اللاتينية، خاصة إذا تذكرتم أن آباء الإشتراكية في أوربا كانوا يناضلون بدون مثال يهديهم. بدون نموذج وتجربة سابقة). الآن يا هيلين صار المثال والنموذج عبئاً وخطيئة.

    ترى هل في الأمر أي نوع من الإنتهازية وسوء الطوية عندما نطالب اليوم بحرية التعبير وبالديموقراطية؟ ماذا لو كانت التي على السلطة هي حكومتنا؟ هل نمنح الأعداء الطبقيين حرية التعبير والديموقراطية؟ هل نهادن أعداء الشعب؟ ولكن ماذا عن أعداء الرب؟ أعداء الشعب يمكن إصلاحهم وإعادة تربيتهم وتحجيم خطرهم بانتزاع وسائل الإنتاج منهم. أما أعداء الرب فليس لهم سوى الإفناء. ولكن ماذا فعل استالين بالناس باسم الشعب. لا... لا... الأمر لا يتعلق بأعداء الشعب أو أعداء الرب. الأمر يتعلق بفرض الوصاية على الناس. هذا هو أخطر داء عرفته البشرية منذ الفراعنة. مجموعة تعطي لنفسها حق الوصاية على الناس أجمعين. مجموعة تعرف مصالح الشعب أكثر منه ومجموعة تعي رغبات الرب أكثر منه. هذا هو الداء.
    لا يا صلاح... توقف. قريباً ستصل إلى جويكِرَّة. هناك في الصمت والهدوء والإمتلاك الكامل للوقت، تستطيع أن تفجر كل الأفكار. تستطيع أن تقتحم كل أقاليم الفكر. ستقلب كل الأحجار السود والبيض والرمادية. فقط توقف الآن. لا شك أن مخك قد بدأ يسيح مثل الزبد في هذا الجو الخانق ورائحة قئ البدوية التي ملأت معدتها بالجوافة الرخيصة وأفرغتها على أرضية هذا البص اللوري. هل يستطيع الإنسان أن يوقف التفكير؟ سمكة القرش تظل تسبح... حكيم يبقي سمكة العجل مربوطة حية داخل الماء... بيض السمك يلقونه. يرمونه... غذاء.. كافيار.. البحر الميت.. صالة من الزجاج باردة... المطار... رائحة منظفات الأرض... البلاط الناعم... سجن كوبر... ذلك العسكري المحمر العيون... عيون الديك... بيضة الديك... الماستربيس... مريود وليس موسم الهجرة... الهجرة... الدومة... العرقي... غناء أبو عركي... المطر.... الطين ....... السمك...... الحارررررررررردلو..................................................................

    (عدل بواسطة Murtada Gafar on 09-23-2005, 05:07 AM)

                  

09-20-2005, 04:28 AM

WadAker

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    Quote: - اللخو من يين؟
    - من الوساع.
    - وعاني يين؟
    - والله انا مهمل لي بهايم. بروغ رواغة. ماني عاني بكان واحد.
    - وبهايمك ديل وصفهن شنوه؟
    - عجلتين، واحدة حمرا جت والتانية بيضا ليها سيحان زرق.
    - وفي زول طراهن ليك جاي؟
    - كو، مافي زول طراهن لكن المهمل بفتح خشم البقرة.

    تلك هى الرائحة/الرايحةالتى نبحث عنها ويوماتى رحيل فى بلاد الغربة التى لاتجد فيها مايزكرك برائحة البلد الا بعض اسطر من قلم شفيف وكاتب رهيف الوجدان عميق التوجة مثل الاستاذ حامد بدوى خضر الله ضراعة...
                  

09-21-2005, 05:06 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    قفز البص اللوري. أفاق صلاح دائخاً. هل كنت نائماً أم أنك دخلت في غيبوبة؟ .... سيان.... آخ.. ألم الظهر... الركبتين... شخت يا صلاح... وهذا المقعد اللعين... أليس في هذا البلد قانوناً يلزم أصحاب البصات بتركيب مقاعد مريحة؟... قضية انصرافية كما يقول الزملاء...

    من كان يظن أن جويكِرَّة العامرة ستشيخ وتموت؟ هو أول من لاحظ التناقضات المتجزرة في مجتمعها. تناقضات طبقية وعرقية ودينية وثقافية. لكن لم تخطر هذه النهاية الميلودرامية على قلب بشر. لقد كنت هناك وكنت تلمس مرارات الرقيق المحررين تجاه أسيادهم السابقين من الأعراب. والرقيق، في محاولة إثبات ذاتهم الحرة، كان لابد لهم من احتقار الآخر ومخالفته. كانوا شديدي الحساسية في كل ما يمس الكرامة الشخصية. كانوا شديدي النفور عن كل ما يمت بصلة لنمط حياة الأعراب. كانوا يتسرعون للإيغال في حياة التمدن. يتحدون تاريخهم. إباحيون لأن الأعراب محافظين. مهتمون بالنظافة والمظهر العام لأن الأعراب لا يلتفتون لمثل هذه التراهات. رفعوا المرأة وقدموها لأن الأعراب يضطهدونها. يرحبون بالغريب ويدنونه بسرعة عكس طبيعة التوجس البدوية تجاه الأغراب. في زمن قصير جمعوا إليهم كل شتات جويكِرَّة وأقاموا مجتمعاً متحرراً فريداً. أقاموا الأمم المتحدة.

    لاشك أن تراكم المال في خزائن التجار كان هو السبب. المال المسروق من جهد الأعراب بواسطة نظام الشيل. استخدم التجار ذلك المال ليعكسوا منطق التاريخ، منطق التطور التاريخي. سعوا لأن يحولوا مدينة تجارية إلى قرية زراعية فماتت المدينة ولم تنجح القرية. المدينة التجارية كان يجب أن تتحول إلى مدينة صناعية. وقامت القرية الزراعية هشة لا تملك إمكانية التطور إلى مدينة لأنها قامت على مغالطة تاريخية أخرى. مغالطة تحويل القبائل الرعوية إلى فلاحين بين يوم وليلة. بالأمس كان راعياً واليوم هو مزارع. ماتت القرية في هشاشتها ولم تتحول إلى مدينة. ولم يكتمل تحويل الراعي إلى فلاح حتى اليوم. حطموه هو الآخر. فقد ثقافته وتحول إلى مسخ مقلد لثقافة المدينة.

    إنتبه صلاح إلى أن أفكاره قد عادت إلى الإنتظام. كان قد استراح قليلاً في جلسته إذ نزل الأعرابي الثرثار وبرد الجو قليلاً مع تقدم اليوم. جويكِرَّة موضوع يصلح للدراسة. بحث، مقالة أو حتى رواية. لا شك أنها ستكون رواية سخيفة مليئة بالتحليلات الاقتصادية - الإجتماعية. ماذا عن قصة حبه والملكة؟ ألا تصلح موضوعاً لرواية رومانسية؟ كانا لا يطيقان الافتراق عن بعضهما. كان يهرع إلى القصر بمجرد الإنتهاء من عمله في مكتب تحصيل العوائد الحكومية. وأينما وجدها داخل القصر، أخذها في المكان الذي وجدها فيه. في المطبخ، في الصالة، في غرفة الجلوس. ومرة في الحديقة. أضطرت أمام نزواتهما المشتركة أن تصرف جميع الخدم قبل مجيئه. كان جنوناً.

    يخرج المساعد صفيراً حاد. يندفع بين سبابتيه الموضوعتين على شفتيه، فيتوقف البص. ينزل راكب أو راكبين. ينزل لهم المساعد أغراضهم من فوق سقف البص. يصدر الصفير الحاد مرة أخرى، فيتحرك البص.

    إنكسرت حدة الحرارة إذ مالت الشمس اللعينة غرباً بعد أن أودعت حرارتها أديم الأرض وأجساد البشر ومادة الأشياء. يلزم الليل ساعات يضيعها في امتصاص ما تخلف في الأرض من حرارة الشمس. في الندوة التي أقامها لتجار جويكِرَّة، حاول أن يوضح لهم أن الجشع لا يضر إلا بصاحبه. قال لهم، يجب أن تقوم علاقة إنتاج أكثر عدلاً بين المزارع المطري والتاجر. علاقة إنتاج تؤدي لتشجيع الأعرابي لبذل مجهود أكبر في زراعته. اقترح عليهم طريقة التمويل بدلاً عن الشيل. بدلاً عن الشراء القبلي للمحصول وباسعار زهيدة، إستغلالاً لحاجة البدوي، فإن الأفضل أن يدخل التاجر في شراكة مع المزارع المطري. يمده بما يحتاج من مؤن وملابس ونقد، وفي نهاية الموسم يسترد ما صرف ويشارك المزارع في الارباح. بدا معظم التجار، أول الأمر، مقتنعين بما اقترح صلاح، حتى بدأ بدر الدين الواعظ يوسوس لهم. وعلم صلاح أن بدر الدين قد أخذ يدور وسط التجار محذراً من أفكار صلاح الهدامة، وأنه لا ينوي سوى نشر الفساد والمجون والانحلال في مجتمع جويكِرَّة. وصار التجار يتحاشون الجلوس إلى صلاح. في كل موضوع يثور في جويكِرَّة كانا طرفي نقيض. حتى يوم الواقعة المشئوم، كان صلاح يقف وسط المزارعين وكان بدر الدين يقف بجوار ضابط الشرطة الغبي الذي أمر بإطلاق الغازات المسيلة للدموع والريح تهب في وجوه جنوده.

    فجأة والبص يقترب من جويكِرَّة، اكتشف صلاح أنه قد عاش عمره كله، ثلاثة وثلاثين عاماً من عمره، وهو في حنين دائم إلى جويكِرَّة. تكون معه جويكِرَّة أينما كان. في برلين، والفودكا بخاراً حاراً في رأسه، كان يحلم أن يعيش مع هيلين على ضفة نهر جويكِرَّة. يتخففان من ملابسهما قبل المساء، منذ انقطاع آخر الرعاة عن النهر، يتجولان بحرية تامة وسط مباني المدينة المهجورة. كل المدينة لهما. في الخمسين يا صلاح ولا تزال تستهويك أحلام المراهقين هذه فتتذكرها الآن. قالت: (أنتم محظوظون إذ تعانون من أجل بناء الإشتراكية. تخلقونها بأيديكم يوماً بعد يوم من خلال نضالكم) قالت: (نحن، أقصد، جيلي من الالمان الشرقيين، لم نقدم أي نوع من التضحية. نحن فقط نتمتع بإنجازات من ضحوا... ألا توافقني بأن للتضحية لذتها؟)... آخ يا هيلين، ألهذا كنت ستقومين بالتضحية الكبرى وتأتي لتعيشي وسط كل هذا الفقر والغبار وحرارة الشمس؟ لسعة واحدة من باعوض جويكِرَّة ستجعلك تندمين إن أنتِ ارتكبت الحماقة... أو أنا ارتكبتها وجئت بك إلى هنا. أنا يا هيلين منذ صار لي وطن مستقل. ظللت مطارداً. معتقلاً أو مختفياً. حتى في أيام الديموقراطية الاولى، بعيد الإستقلال، عندما خلى القطر كله من المعتقلين السياسيين، إعتبروني مسئولاً عن أحداث جويكِرَّة. لما لم تجد الحكومة الوطنية الأولى ما تقوله للعالم، وقد تسبب غباء مسئوليها في اختناق المزارعين، قالت أن شرزمة من الشيوعيين قد قامت بزرع الفتنة وحرضت المزارعين البسطاء مما أدى لهذه الكارثة المؤسفة. شرزمة الشيوعيين هذه، كنت أنا. لقد رأيت الضابط الغبي يصُفّ عساكره والريح تهب باتجاههم ثم يأمرهم باطلاق الغازات. في اللحظة التالية كان العسكر يتخبطون وقد أعمتهم الغازات. وبدأ بعضهم يطلق النار عشوائياً. سقط القتلى وسط المزارعين فكان لابد أن يدافع المزارعون عن أنفسهم بما لديهم من عصى وفؤوس. ثم ان غبياً أعلى رتبة في المركز قد أمر بحبس المزارعين المعتقلين في مخزن الحديد الذي لا يسع ربع العدد الذي حشر فيه، فاختنق الجميع وماتوا. وأنا، شرزمة الشيوعيين، مسئول عن كل هذا الكم من الغباء العسكري. في العاصمة، أسماه الزملاء صلاح جويكِرَّة. وقد دأب أحد الزملاء الظرفاء على تعريفه بطريقة ضاحكة: (أقدم لكم الشرزمة التي خربت جويكِرَّة، الزميل صلاح جويكِرَّة).

    هل يمكن أن يعشق إنسانٌ مدينة؟ هل يعشق الإنسان مدينة خالية لا سكان فيها؟ وما حب الديار شغفن قلبي... هذا شاعر مخنث. في المرتين التي جاء فيها إلى جويكِرَّة، كان صلاح يكاد يقطع المسافة بين طريق اللواري وجويكِرَّة ركضاً. خمسة كيلومترات يكاد يقطعها طائراً شوقاً. طعم الماء في نهر جويكِرَّة مختلف. رائحة نباتات أم صوفة المتخمرة... رائحة زهور الاعشاب النيلية... أوراق النباتات العائمة التي لا تبتل أبداً... ظلال الأشجار المستطيلة عصراً... والاسماك التي تتقافز لتودع الشمس.

    أيام الشباب في جويكِرَّة قد اعجب بفتاة صورة. جمال يفوق الوصف. إبنة أحد التجار. جاء بها أبوها مع بقية العائلة من رفاعة. لم يكن أمام صلاح بد من أن يتودد إلى أبيها السخيف. كان من ذلك النوع الذي له رأي قاطع ونهائي ولا يقبل النقاش في كل أمور الدنيا والآخرة. معه، عليك أن تستمع فقط وتؤمن. إحتمل صلاح سخفه من أجل عيون ابنته الصورة. في أول فرصة إلتقاها فيها وتحادثا إكتشف أنها صورة لا عقل لها. ثم أكتشف أنها أمية. إبتعد عنها فوراً، إذ أحس كأنه يغرر بها. كان كل ما يقوله لها جديداً عليها. أحس أنه في كل ما يفعل معها يغرر بها. تركها غير آسف. كل شئ يمكن التعايش معه إلا الغباء والسذاجة. وكيف تكون أمية وهي من منطقة رفاعة؟ حتى الجدات في رفاعة قد تخرجن من المدارس. لا شك أن أبوها هو السبب. كانت تجربة سطحية لم تخلف أثراً.

    التجربة العميقة هي تجربة الملكة. أمرأة ناضجة في كل شئ. قالت: (نتزوج) قال: (سأبدو انتهازياً) قالت: (هل أنت كذلك؟) قال: (أنت أدرى). قالت: (وماذا يهمك، إذا كنت أنا وأنت نعرف الحقيقة؟) قال بحزم: (لا أستطيع) قالت: (شيوعي عنيد، مجبول على الفقر والشقاء). في مرة ثانية قالت: (هل تخشى أن يقال تزوج بأمرأة أكبر منه سناً؟) قال: (انت تعرفين إنك أجمل وأشهى من أي بنت في جويكِرَّة). كان ابنها قد سافر للتو. جاءت عمته الإغريقية من العاصمة. قالت لا بقاء لنا في البلاد بعد خروج الإنجليز. كانت تتحدث وكأن البلد قد استولى عليها التتار. جمعت لها الملكة كل دفاتر أخوها المتوفي. جلست العجوز الإغريقية تعمل في الحسابات ليل نهار، وبعد أسبوعين استدعت الملكة وقالت لها وهي تنظر من فوق عويناتها الصغيرة: (عرفت أن القصر مملوك لك. هذا ما سجله أندرياس بخط يده. لن أهتم بالبهائم. سأبيع الدكاكين والمخازن ونصيب أندرياس من مصنع الفسيخ. كل ما أتحصل عليه من هذا زائداً المبالغ الموجودة في حسابات اندرياس بالبنوك في العاصمة والمركز، سيكون من حق إبنه ديمتريوس). قالت الملكة بهدوء الملوك: (أنا موافقة على كل ما تريدين. فقط سوف أشتري نصيب زوجي في مصنع الفسيخ وكذلك الدكاكين والمخازن.).

    في تلك الفترة تقاربا، هي وهو. طلبت منه المساعدة في تصفية التركة. أثناء ذلك جلسا عدة امسيات تحت قبة السلك في الحديقة وتناولا سوياً الشاي. وجد أمامه أمرأة ناضجة وجميلة، لا يملك المرء سوى الإنجزاب إليها. قال لها يوماً. بعد أن تطورت علاقتهما: (لعلك، فقط، تحاولين الهروب من الوحدة والفراغ بعد سفر ديميتروس.) كان ثملاً جداً، وصادقاً جداً. تركته جالساً تحت قبة السلك ودخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب. عاد بعد يومين. إعتذر بالسكر. قالت: (السكر عذر كاذب. إذا أهنتني مرة أخرى، سأقطع علاقتي بك. وأعلم، أنت الرجل الثالث في حياتي. الأول طلقته بعد شهور فقط من زواجنا. كان من التجار، أبناء الشمال. كان يغار علي غيرة مرضية. منعني الخروج من البيت لأي سبب كان، ومنع دخول أي رجل إلى البيت. لم أحتمله، طلقته. والثاني أندرياس. والثالث أنت، شيوعي لا يجيد التحدث إلى السيدات). كم كنت ناعمة ومستكينة وودودة أيتها الملكة... ترى أين أنت الآن؟..
                  

09-21-2005, 11:03 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الاخ مرتضى. تحية طيبة
    ارجو ان تقلل من النقاط فى هذه الجملة التى ذيلت البوست قبل الاخير:
    Quote: الحارررررررررردلو........

    فقد صار البوست بسببها اكبر من شاشة الكمبيوتر. مع فائق التقدير.
                  

09-23-2005, 05:09 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Adil Osman)

    شكرا أخ عادل عثمان على التوجيه و قمت بإصلاحه

    لك المودة


    مرتضى جعفر
                  

09-24-2005, 05:46 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    إقترب البص من النقطة التي قرر صلاح أن ينزل فيها. لابد أن يترك البص قبل وصوله للقرية المحازية لجويكِرَّة. لا يريد أن يراه أهل القرية يتوجه إلى جويكِرَّة مع مغيب الشمس. هذا لافت للنظر. لا أحد يتوجه صوب النهر مساءاً. هذا سيجعل المسافة التي سوف يمشيها أطول والسير أشق وسط النباتات والشجيرات. ولكن لابد من ذلك. طريق السلامة للحول، قريب. هكذا تقول الأعراب.

    أشار للمساعد، فأطلق الصفير الحاد وتوقف البص. لم يجلب معه الكثير من الأغراض. قليل من الكتب والأوراق وبعض الملابس وبطانية. صابون وبطارية يدوية. يستطيع في تنكره هذا كأعرابي أن يسافر إلى المركز ويعود متى شاء. نزل وترك البص. انتظر في مكانه حتى إختقى البص تماماً ثم شرع يمشي مفارقاً الطريق. علق مخلاة الشعر على العصا ووضع العصا على كتفه وسار كما يسير أي أعرابي في الناحية. ألقى نظرة إلى الشمس. مابين قرص الشمس والأفق مسافة تكفي ليبلغ جويكِرَّة قبل حلول الظلام. الثعابين في هذه البرية خطرة جداً. اللدغة تعني الموت حاول إرادياً أن يغلق عقله تماماً أمام احتمال ألا يجد حكيماً. أبعد هذه الخاطره قسرياً عن بؤرة تفكيره. هذه أطول فترة يغيب فيها عن جويكِرَّة. في المرة الأولى جاءها بعد غياب مماثل تقريباً، بعد أن قضى ست سنوات في برلين الشرقية. أكمل دراسته الجامعية وحصل على الماجستير في التاريخ. العودة الثانية كانت عودة طويلة مكث فيها ما يقارب الخمس سنوات قبل أن تهدأ الأحوال في العاصمة. كان يسهر ليلاً على شاطئ النهر وينام نهاراً داخل مبنى مكتب العوائد ويذهب كل أسبوعين إلى المركز. في المركز كان يتصل بالزميل المسئول عن تأمينه، يعرف منه الأخبار ويأخذ منه مطبوعات الحزب ويوصل عبره آراءه للحزب.

    هذه المرة رصدت السلطة جائزة مغرية لمن يدل على مكان إختبائه. لن يعثروا عليه. هو في جويكِرَّة، وجويكِرَّة قد إختقت من خارطة البلاد. هي غير موجودة إلا في قلبه. وهو سيكون في قلبها. الآن، وفي كل مرة يعود فيها إليها، يخامره إحساس بأنه سيصل إلى ضفة النهر ثم لا يجد شيئاً هناك. في أحيان كثيرة تبدو كحلم لا واقع له إلا في مخيلته. هل يجدها اليوم؟ إنه يحتاجها ويحتاج حكيماً. يحتاج أن يغسل من ماء نهرها الحلو كل التعب والمعاناة. خيانة الرفاق، ألم الجماهير التي يشتري ولاؤها بالمال، وحالة النكوص التي تسمح بتمرير هذا الهراء. ستة عشر عاماً والنظام العسكري الثاني يمارس تجهيلاً منظماً ضد الشعب حتى سادت الغوغائية والإنتهازية والفكر الخطابي. الآن يستفيدون من كل ذلك الإرث العظيم.

    أجهزة الأمن، في غبائها الوراثي، لن تظن أن متعلماً في اوربا، يكتب في الصحف ويتحدث في الندوات، بقادر على العيش في بقايا مدينة مندثرة، على ضفة النهر وسط الأحراش. الأحراش نعمة أمنا أفريقيا. خفق منه القلب حين لاحت خضرة أشجار السيسبان. مختلفة خضرة السيسبان عن خضرة بقية الأشجار. لكن أين البلدة؟ لا شئ يبين. أين المباني الحكومية البيضاء؟ المستشفى، المدرسة، نقطة الشرطة؟ أين القصر؟ لا يمكن أن يكون قد أخطأ الطريق. هذه هي الطريق الوحيدة المرتفعة والمحفوفة بأشجار السيسبان. صار يتخبط في مشيه. رجلاه لم تعودا قادرتين على حمل جسده. بدأ الجفاف يزحف من الفم إلى الحلق. أين ذهبت المدينة؟ من أخذها؟ من سرقها؟ هل انتصروا عليك أخيراً وأخذوا مدينتك؟ هل جرفها سيل عرمرم إلى قاع النهر؟.

    وصل إلى مشارف البلدة القديمة. مشارف بقايا البلدة. بقايا تراب. بقايا طوب محروق. بقايا جدر. والكثير الكثير من الأشجار. فجأة من بين غصون الشجر برق بياض مبنى العوائد. خفق قلبه إزداد. أسرع. إتسعت خطواته وانتظمت. صارت أكثر ثباتاً. برق ماء النهر. وجد نفسه يركض دون أن يعي.

    عاد يمشي. مهلاً....
    مهلاً... نعم.... نعم... ثمة بقية لا تزال من المدينة... إنتهى الخوف... سقط الحزن... نمت مكان اليأس أوراق الأمل... ذاك هو حكيم يخرج من المبنى... حي يرزق... تتراقص الشمس على سواد وجهه وضد بياض شعر رأسه... ضد الموت واليأس الخوف... سنقيل هذا البلد من عثرته... سنبنيه وطناً جديداً لكل أبنائه... أسودهم وأبيضهم... مؤمنهم وكافرهم.
    رآه حكيم. وقف ينظر ناحيته وهو يظلل عينيه بيده من أشعة شمس الغروب. وعلى عكس ما توقع صلاح، أخذ حكيم يتقدم تجاهه. كل منهما صار يمشي تجاه الآخر. كل خطوة تنقص المسافة الفاصلة خطوتين. خطوة من صلاح.. خطوة من حكيم... خطوة من صلاح... خطوة من حكيم... أخيراً عدت يا صلاح... أخيراً لقيتك يا حكيم... الآن تنتهي الوحشة... الآن ينتهي الخوف... تعانقا في صمت، عناقاً حاراً. أثناء العناق جاءت الفكرة لحكيم. سيتركه يظن أنه ما يزال صامتاً.

    - حكيم ... كيف حالك.. اشتقت إليك كثيراً يا رجل.
    - .............................................
    - وماذا حدث للبلدة؟ أين ذهبت المباني؟
    - .............................................

    تناول حكيم المخلاة من كتف صلاح وتقدم تجاه المبنى في صمت. إنه يفكر كيف يفاجئ صديقة، كيف تكون المفاجأة أقوى؟

    - هل جرفها سيل أو أي شئ؟
    - لا.
    - إذن ماذا حص... ماذا قلت؟

    إلتفت صلاح بعنف وهو يسأل. ظل حكيم ينظر إليه في تبلد.

    - لقد بدأت أتخيل الأشياء... وأسمع الأصوات. تخيلت أني سمعتك تقول لا.
    - نعم... هذا ما حدث بالفعل.

    إستدار صلاح فاغراً فمه غير مصدق، صائحاً:

    - لا... مش ممكن... حكيم أنت تتكلم.

    إندفع نحوه يضمه ويقبله. يتراجع عنه قليلاً وينظر إليه ثم يندفع نحوه مرة أخرى، يضمه ويعانقه. تعالى صياحهما... أطلقا لانفعالاتهما العنان... ضحكا معاً وبكيا معاً حتى توارت الشمس وسط ضجة الطيور العائدة إلى أعشاشها. بدا العالم حياً ومحتفلاً ومبشراً بالحياة.

    جلسا مجلسهما القديم أيام كان معهما عليّ. عند حافة الماء أمام مبنى مكتب العوائد. المبنى الوحيد الآن الذي بقي سليماً في كل جويكِرَّة. رقد صلاح على ظهره واضعا يديه تحت رأسه ووجهه للسماء، يبتسم لنفسه في غبطة طفل. ظل حكيم جالساً بقربه ينظر إليه وكأنه لا يصدق عينيه. رجلان في الخمسين عادا شابين في العشرين. أغمض صلاح عينيه. جويكِرَّة بكل صخبها وضجيجها تنهض الآن حية خلف مكتب العوائد. الآن يبدأ قسم الله العجوز إشعال القناديل في باحة السوق وفي الشوارع الرئيسية. يخرج التجار الرتاين ، ينظفونها. يملأون خزاناتها بالكيروسين الأبيض. يصبونه من الصفائح. جويكِرَّة لم تعرف أواني البلاستيك. جويكِرَّة عاشت قبل العصر البلاستيكي اللعين. الآن، أهالي الأمم المتحدة يرسلون أطفالهم لشراء حاجيات العشاء، ويشترون السكر والشاي لصباح اليوم التالي. كان مجئ اليوم التالي أمراً مفروغاً منه. حتى جاءت ليلة لم يعقبها صباح. إعتدل صلاح جالساً. كان حكيم لا يزال يحدق في وجهه.

    - هل عدت أخرساً مرة أخرى.
    - نعم.
    وضحكا ضحكاً نقياً صادقاً لا مجاملة فيه أو نفاق. ضحك صديقين.
    - حكيم دعنا نعوم.
    - أنا أستطيع، أما أنت فقد شخت. ستتعب بسرعة وقد لا تستطيع مقاومة التيار. أخشى أن يأخذك النهر ويعيدك إلى العاصمة.
    - لنجرب ونرى من منا الذي شاخ.

    كان صلاح قد بدأ فعلاً في خلع ملابسه. ملابس البدوي.

    - صلاح ما هذا اللبس الغريب؟ وسكين أيضاً؟ في المرتين السابقتين جئت بهذا اللبس. في المرة الثانية مكثت هنا زمناً طويلاً. هل هناك مشاكل مع الحكومة؟
    - بعد العوم نعد العشاء ونتحدث. ستقول لي كل ماحدث هنا أثناء غيابي وسأقول لك كل ماحدث في البلد أثناء غيابك. اتفقنا؟
    - اتفقنا.

    وقفزا في حضن النهر. الماء صافٍ وبارد ومنعش. عاما. حملهما التيار شمالاً شعر صلاح بالإرهاق سريعاً. إنكفأ عائداً تجاه الشاطئ. أحس بصعوبة مقاومة التيار. إستغرقه بلوغ الضفة زماناً أطول وحمله التيار مسافة أبعد مما كان يحدث في أيام الشباب. قال في نفسه: هذه المسافة هي فارق السن. جلس على الحافة يستحم. كان حكيم لا يزال يعوم ويقاوم التيار. عندما أراد الخروج، عام في خط مستقيم تقريباً حتى بلغ الشاطئ، ليس بعيداً عن موضع جلوسهما المعتاد.

    - أنت محظوظ. عندي عجل متوسط الحجم. كيف تريده، مسلوق أم مقلي؟
    - مشوي على الفحم. عجل محفوظ حيّ في الماء.. مربوط بخيط، تسحبه من الماء وقت ما تريد. ياللسعادة!.
    - هذه هي الطريقة الوحيدة لحفظ السمك هنا. إذن إعداد العشاء صار سهلاً.

    قال حكيم هذا ونهض يشعل النار.
    - الآن قل لي، ماذا حدث في البلدة؟ أين ذهبت المباني؟
    ومتى شفيت من الصمت؟.
                  

09-26-2005, 08:39 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    بدأ حكيم يتكلم أثناء إنهماكه في العمل.أحياناً يلتفت تجاه صلاح ليؤكد على شئ ثم يعود لموأصلة إعداد العشاء.

    - قبل خمس سنوات تقريباً، في عام المجاعة، جائتني هنا حليمة الضكرية، اتذكرها؟ تلك البنت النحيفة، إبنة موسى، موسى حارس الزريبة الذي كان يعمل معك.

    - نعم.. نعم، أذكره وأذكر بنته النحيفة. هل كان اسمها حليمة؟

    - نعم. حليمة كبرت وهي مصرة ألا تكون أمرأة، تصور أنها تلبس ملابس الرجال وتتسلح بالسكين والعصا!

    - هذا أمر مثير. معقول؟ تلك البنت النحيفة؟

    - المهم، جاءت. وفي ذلك الزمان ما كان أحد في الناحية يجرؤ على الإقتراب من البلدة. جاءت، وقفت أمامي وتحدثت إلي بشجاعة. وأنا في حالتي تلك، ولا أدري السبب حتى الآن، رسخت في ذهني كل كلمة قالتها حليمة، أنا الذي كان عقلي كالمصفاة، تدخله المعلومة من هنا فتخرج من الجانب الآخر، دون أن تترك أثراً، بقي في عقلي حديث حليمة.. تعرف يوجد شبه ما، بين هذه الحليمة وبين المرحومة جميلة.

    - شبه؟ أنت تهذي. من أين تأتي حليمة بشبه بينها وبين جميلة؟

    - لا.. يوجد... بصورة غامضة... أنا لا أستطيع أن أفسر لك الأمر الآن. شبه تحسه ولا تراه. هل جربت شيئاً مثل هذا؟ أقصد أن تحس شبهاً بين شخص وسيارة، أو بين حيوان وزعيم سياسي؟
    - حسناً ... حسناً، أكمل.

    - لا أدري، بسبب هذا الشبه الذي أحسه، أو بسبب ما قالته، رسخ الموضوع كله في ذهني. حليمة جائعة، تريد طعاماً وعلي إطعامها. والناس في القرية يموتون جوعاً. وقمت بإعداد طعام لحليمة، ثم بدأت مهمة إطعام القرية. هل تذكر تلك البفرة التي ظللت أزرعها وأحصدها وأعيد زراعتها طوال سنوات؟ لا شك أنك قد لاحظت ذلك أثناء زيارتك لي.

    - نعم أذكر. وقد لاحظت إنك تعمل مثل رجل آلي مبرمج. أغيب عنك سبع سنوات وعندما أعود مرة أخرى، أجدك تؤدي نفس العمل. زراعة وحصد البفرة. كنت أعجب لذلك النشاط المستمر. لكني قلت لنفسي، دعه يعمل حتى لا تتصلب عضلاته كما تصلب عقله.

    - نعم... كنت أكدس المحصول في مخازن البلدة، ولما امتلأت صرت أخزنه في أي مكان. داخل البيوت، في الدكاكين في أي مكان به فراغ. وأصل هذا العمل كان بسبب محمد دينكا.. أتذكره؟ ذلك الدينكاوي الأنيق الوسيم.

    - كيف لا أذكره؟

    - جاءني. فجأة وجدته واقفاً أمامي. لم تكن سنوات الجفاف قد بدأت بعد. كان مريضاً وهزيلاً، حتى أنك لن تعرفه إذا رأيته. أعطاني أعواداً خضراً من أعواد نبات البفرة. قال أن حكماء القبيلة قد أمروه أن يسلمها للرجل الصامت في مدينة النهر الميتة. كل هذه الاشياء تذكرتها بعد أن شفيت من الذهول. تعرف، كأنها كانت مخزونة في مكان ما من عقلي على الرغم من أنني كنت أبدو وكأن عقلي كان غائباً. تذكرت كل من جاؤني وتذكرت كل ما قالوه بمجرد أن شفيت. وعموماً لم يكونوا كثيرين. فسواك أنت ومحمد دينكا لم يصلني هنا سوى حليمة الضكرية. المهم، حملت البفرة فوق العربة وسحبتها من هنا إلى ساحة السوق في القرية الجديدة. لا أدري من أين جاءتني القوة. لم أكن أحس بشئ. لم أشعر بالإرهاق وأنا أجر تلك العربة الثقيلة. في ساحة سوق القرية قابلت الموت للمرة الثانية وجهاً لوجه. رأيته يحوم فوق رؤوس كل الأحياء في القرية. كان الأطفال هياكل بشرية تهيم في سوق القرية تنتظر نزول الموت. هزني ذلك هزة عنيفة. عادت إلى ذاكرتي تفاصيل تلك الليلة الرهيبة في مخزن الموت. كانت هذه الليلة هي أول حدث من الماضي، يعود، ومعه عادت ذاكرتي. كان أمراً مخيفاً. شئ مثل الإنفجار. ثم تمددت الذاكرة من تلك الليلة تجاه الماضي كله وتجاه المستقبل كله. أضاءت كل الأنوار في لحظة واحدة، وفجأة، بلا مقدمات. رأيت الزمن تتوالد لحظاته بلا شكل وبلا لون ومحايدة تماماً مثل أشعة القمر. أشعة لا تتخذ لها شكلاً ولوناً واتجاهاً وأثرا إلا يعد أن تسقط على الأشياء والناس. رأيتك تمشي شوارع مدينة غريبة شاهقة البنيان. رأيت حروباً تحصد أرواح الناس ثم رأيت الخير يتدفق والناس ناعمين. رأيت سيولاً تجرف الأطفال إلى تيار النهر، ورأيت سلالم تتحرك بالناس من تلقاء نفسها صاعدة هابطة. رأيت حقولاً مغطاة بالجماجم، كما رأيت أناساً يسبحون في أحواض صافية المياه. كل هذا وأنا أقف أمام العربة المحملة بالبفرة في ساحة سوق القرية. كنت أشعر كأنني أحلق في فضاءات عالية. في البدأ كنت بلا إرادة. يفعل بي الوميض المخيف ما شاء. ثم بدأت إرادتي تنمو شيئاً فشيئاً. وبدأت أهبط من تلك الفضاءات وأعود إلى ذاتي شيئاً شيئاً. أدخل إلى جسدي رويداً رويداً حتى رأيت نفسي أقف أمام العربة وأنا أتصبب عرقاً وكل عيون القرية تحدق بي في جزع حقيقي.
    صلاح، هل أقول كلام مجانين؟ هل تراني أهزي؟

    - لا يا حكيم. هذه تجربة فريدة حقاً. هذا شئ عجيب.

    - أردت التحدث إلى الناس، فتحدثت إليهم بصوت واضح ومنظم. أعطيتهم البفرة ودعوتهم للحضور إلى جويكِرَّة وأخذ ما يريدون منها. وعدت إلى جويكِرَّة وأنا شخص آخر. شخص مكشوف عنه الحجاب. عندما... عندما أتذكر حدثاً فإنني أتذكر كل التفاصيل وكل ما وقع مصاحباً للحدث الذي أتذكره. كأن أتذكر مثلاً أن صديقنا علي قد اشتبك في مشاجرة مع حمد طه عرق الحجر عصر الأثنين الرابع من يوليو 1955. وفي نفس تلك اللحظات، أرى أنك، وأثناء شجار علي وحمد طه، كنت تحادث الملكة تحت شجرة العرديب الضخمة وسط حديقة قصرها، وأن قمرية كانت تجلس على العش فوق الشجرة تراقب فرخا فقس حديثاً يحاول الخروج من البيضة، وأن ثعباناً عند طرف الحديقة المحازي للنهر كان يبتلع ضفدعاً ذكراً. وهكذا أرى كل ما يحدث في دائرة جويكِرَّة مصاحباً للحدث الذي أركز عليه ذاكرتي. كأنني كنت موجوداً في المكان كله وفي الزمان كله. والمخيف حقاً هو أنني، في لحظة التذكر الشامل تلك، كنت أعي أن كسر الحلقة الرئيسية في سلسلة الأحداث تلك، كفيل بتعطيل أو إلغاء كل بقية الأحداث. بمعنى، لو أنني كنت قد أخذت علياً معي إلى الحواشة، لما وقعت المشاجرة، ولما وجدت أنت الملكة ذلك اليوم تحت الشجرة، ولفشل فرخ القمري في الخروج من البيضة، ولهرب الضفدع الذكر من الثعبان عند طرف الحديقة. كانت كل تلك السلسلة المترابطة من الأحداث ستفشل في الدخول إلى اللحظة الزمنية وتظل إحتمالاً معلقاً قابل للتحقق كما هو قابل للعدم. والأدهى من ذلك انني كنت في تلك اللحظة أعي أن هذه السلسلة من الأحداث، هي كلها حلقة صغيرة في سلسلة أضخم، قد يكون موقع حلقتها الرئيسية في مصر أو الهند أو أمريكا الجنوبية. شئ معقد ومخيف.

    وقد صاحب هذه الحالة كشف آخر تجاه المستقبل. كنت ألقي بالسنارة في الماء، مثلاً، ثم أرى في زهني السمكة التي سوف تعلق بها من بين مئات الاسماك السابحة بمرح في النهر من منبعه إلى مصبه. كنت أبذر بذور الشمام، وأرى الحبة الواحدة وقد نمت وأخرجت ثلاث شمامات بأحجامها المتفاوتة. ثم أرى مصير كل شمامة منها. أرى من يأكلها وأين ومتى. إذا وقف أمامي إنسان، أرى في ملمحه ماضيه وحاضره ومستقبله. وكان هذا عذاباً آخر، أقسى من الصمت والذهول وفراغ الإدراك. كان أمراً مخيفاً. تصور لقد وصلت إلى مرحلة، عندما افكر في استخراج سمكة من النهر، إذا بها تقفز من الماء وترمي بنفسها أمامي. عندما أفكر في حوجتي لمبلغ لشراء السكر والشاي، أنظر إلى الأرض فإذا هو ملقى أمامي. لقد تعذبت كثيراً بتلك الحالة. شقيت بها شهوراً قاربت العام، حتى فكرت في الإنتحار لأتخلص منها. تمنيت من كل قلبي زوالها. وصحوت ذات صباح من النوم وإذا أنا مثل جميع البشر. إنساناً عادياً،أذكر بعض الاشياء وأنسى بعضها ولا أدري إلا ماهو واقع أمام ناظري في لحظة الزمن الحاضرة. إنك لن تستطيع أن تتصور مدى فرحتي بالخلاص من تلك الحالة.

    أثناء هذا السرد المطول من حكيم، كان صلاح صامتاً يحدق باندهاش. لم يقاطع، لم يسأل، لم يستفسر. أطرق حكيم برهة، ثم وأصل سرده:
    - أثناء هذه الشهور تعود أهل القرية الحضور إلى جويكِرَّة، لم يعد الإقتراب منها أمراً مخيفاً. صاروا يجيئون ويتجولون داخل البلدة طوال النهار. في بادئ الأمر كانوا يحضرون من أجل البفرة. كانت المخازن والدكاكين مكدسة بها، ومن حق أي إنسان أن يأتي و يأخذ ما يشاء. ثم صاروا يمدون أيديهم إلى بعض الأشياء النافعة من مخلفات أهل جويكِرَّة ويأخذونها. ثم اكتشفوا أن بالبلدة أشياء كثيرة صالحة. وبعد أن أفرغوا دكاكين ومنازل البلدة من كل شئ مفيد، بدأوا يأخذون مواد البناء. الاخشاب التي بقيت سليمة، ألواح الزنك، قرميد قصر الملكة، الاسلاك، الحديد وكل شئ. وأخيراً بدأوا يأخذون الطوب. يهدمون الجدران وينظفون الطوب مما علق به ويأخذونه. لم يتركوا حائطاً واقفاً إلا هذا المبنى. لقد انتقلت للسكنى به عندما كثرت حركة الناس في البلدة.

    وعندما انجلت الحالة التي كنت فيها، لم تعد جويكِرَّة كائنة. إختقت كل المباني ما عدا هذا المبنى. من ناحية، وجدت أنهم أسدوا إلي خدمة دون أن يقصدوا. فقد صارت كل مساحة البلدة خالية من المباني وصالحة للزراعة. صرت أزرع بقدر ما أستطيع. وعندما تحسنت أحوال القرى المحيطة بجويكِرَّة، إجتمع أهلها وقرروا أن يشتروا لي وابوراً لرفع الماء من النهر. هذه المزرعة تمد الآن كل القرى بالخضر. لو كنت معي تلك الأيام، كنت تستطيع أن تسألني أين ذهبت، الملكة فأعطيك جواباً.....

    هب صلاح واقفاً، مقاطعاً حديث حكيم بانفعال ودهشة:

    - حكيم، هذا ماكان على طرف لساني. كنت أنتظر أن تفرغ من حديثك لأسألك أين ذهبت الملكة. حكيم، أنت لا تزال قادراً على هذه الأشياء؟

    ضحك حكيم وإن ظل هادئاً:

    - لا تشغل بالك. هذه مجرد صدفة. صدقني، أنا الآن مثل أي إنسان آخر، محدود القدرات.
    ·

    23
    نضج السمك على الجمر فأخرج صلاح الخبز من مخلاته. أكلا باستمتاع. غسلا أيديهما بالصابون وجهز حكيم مكان نوم ضيفه وقال:

    - الآن إحكي لي أنت. أريد سماع ما حدث لك منذ أن أخذوك مكبلاً إلى المركز وحتى هذه اللحظة.

    - أخذوني من هنا إلى المركز وهم يهددوني بالشنق. كنت أضحك من سذاجة أولئك العساكر. وضعوني في الحراسة لمدة أسبوع كامل حتى وصل من العاصمة ضابط من البوليس السري ليحقق معي. كان الإتهام ضعيفاً، لا يستطيعون أن يقيموا على أساسه قضية. وكان واضحاً أن موت الناس هنا أو في مخزن الحديد قد حدث بسبب سوء الإدارة وسوء علاقات الإنتاج والمظالم التي ظلت تقع على المزارعين قبل وبعد قيام المشروع. وكان المحقق مضطراً لتسجيل كل ما أقول. وعندما يرفض تسجيل نقطة معينه. أعاقبه بعدم الرد على أسئلته. في النهاية أضطروا لأطلاق صراحي دون تقديمي للمحاكمة. شعروا أنني أتوق للمحاكمة. وعرفوا أنني سأفضحهم أمام الرأي العام. فالمحاكمة فرصة للصحافة وجماهير الشعب لمعرفة حقيقة ما حدث. وفي النهاية فبركوا رواية رسمية تقول بأن شرزمة من الشيوعيين، قد قامت بزرع الفتنة بين المزارعين البسطاء مما أدى لهذه الحوادث المؤسفة. وبالطبع، كالعادة، قللوا من عدد الموتى من المزارعين ورجال الشرطة. وفي النهاية قالوا أن التحقيق جاري لكشف كل ملابسات الحادث. وهكذا وضعوا النهاية للأمر كله. خرجت من المعتقل وصرت أدور مثل المجنون. أسأل وألهث من هنا إلى هناك لأعرف ما حدث للمزارعين. علمت أن شخصاً واحداً قد خرج حياً من المخزن. كنت واثقاً من أن هذا الشخص هو أنت. وعندما وصفوا لي الشخص الذي نجا، تأكدت من صدق حدسي. قالوا لي أن ذلك الشخص قد مكث بالمستشفى ثلاثة أيام ثم خرج ولا أحد يدري أين ذهب. قلت في نفسي، عاد إلى مدينته. وكنت أريد أن ألحق بك مباشرة، ولكنهم منعوني. حذرني الضابط بوضوح من محاولة العودة إلى المنطقة. وجعلني أكتب إقراراً بذلك. كانت السلطات تخشى ثورة من أهالي القتلى إنتقاماً لموتاهم. قالوا لي بوضوح إذا ذهبت إلى جويكِرَّة فسوف نعيد إعتقالك ونلفق لك تهمة تضمن لنا بقاءك في السجن ما لا يقل عن خمس سنوات. في تلك الأثناء جاءتني تعليمات الحزب بالتوجه إلى العاصمة، فأضطررت للذهاب.

    في العاصمة وجدوا لي عملاً بمكتبة محترمة وألحقوني بالعمل في تنظيم الشباب. بقيت في ذلك العمل مدة عامين، كنت خلالها كالمقيد أو المعتقل. كنت أتحرق شوقاً للعودة إلى جويكِرَّة لأرى ماذا صار بها. على الرغم مما في حياة العاصمة من مباهج، حدائق وبارات وحفلات وندوات، مع كل ذلك كنت أتوق إلى هذه البلدة. ثم وقع الإنقلاب العسكري واستولى الجيش على السلطة وبدأ العمل السري للمقاومة. واندمجت في هذا وغرقت فيه، حتى أنني لم أشعر بمرور السنوات. بعد ما يزيد عن الخمس سنوات من العمل السري النشط، جاءني التوجيه من الحزب الإختفاء لأن إسمي قد ورد ضمن قائمة بها عدد من المطلوب القبض عليهم. تلك هي الأيام التي جئت فيها لأول مرة. كنت أنتظر وأتمنى فرصة مثل تلك. بقيت معك ستة أشهر وأنت ذأهل غائب، تتحرك مثل إنسان آلي. تعمل في فلاحة نبات البفرة وتصطاد لنا ما نأكله. بعد ستة أشهر قالوا عد فعدت إلى العاصمة. كانت السلطة العسكرية تترنح. لقد بدأت الندوات والعرائض والاضرابات والمظاهرات، بدأت الثورة الشعبية التي أسقطت العسكر. لم أبق في البلد كثيراً بعد الثورة، إذ جاءتني الفرصة للسفر إلى برلين بألمانيا الديموقراطية. هناك أكملت دراستي الجامعية ثم تحصلت على ماجستير في التاريخ وعدت بعد ست سنوات.

    كان الإنقلاب العسكري الثاني قد وقع. وأيده الحزب في بدايته ثم لم يلبث أن وقع الخلاف بين الحزب والعسكر. حاول بعض الضباط أن يقوموا بحركة تصحيحية، لكنهم فشلوا. عندها شحذ النظام الديكتاتوري كل أنيابه وأظافره وعمل تمزيقاً في جسد الحزب. أقام المحاكمات العسكرية ونفذ الإعدامات وملأ المعتقلات. وجاء قرار قيادة الحزب الجديدة بالنزول تحت الأرض وإختفاء جميع قادة الصف الأول. حينها كنت قد تدرجت كثيراً في أجهزة الحزب. ومرة ثانية وجدت الفرصة تأتيني لأعود إلى جويكِرَّة. كنت قد فقدت الأمل في شفائك، واكتفيت ببقائك حياً. وما أعجبني، أنك قد تدبرت أمر معاشك بصورة جيدة. السمك والأرانب وسلاحف النهر والدجاج البري. عندما عدت إلى العاصمة بعد السنوات التي قضيتها معك هنا، قالوا لي بأن عمري قد نقص عشر سنوات. عدت شاباً. ويبدو أن هذا الأمر كان واضحاً بدرجة مدهشة. كل من قابلني ردد ذلك.

    خلال بقائي هنا حاولت بحذر أن أعرف مكان وجود الملكة، لكنني لم أستطع أن أعرف. بالطبع لم يكن من الحصافة أن أتجول في المنطقة واسأل عنها الناس. كنت فقط ألقي الكلام عرضاً لأعرابي يصادفني في البص مثلا. المهم نعمت هنا بالراحة التامة، وبعد عودتي إلى العاصمة بقليل إندلعت الإنتفاضة الشعبية الثانية ضد الدكتاتورية. وسقطت السلطة ثم عشنا أربع سنوات سيئة ومليئة بالعمل المضني لمنع عودة الديكتاتورية. لكن البلاد ظلت خلال تلك السنوات الأربع تسعى كالنائم إلى مصيرها المحتوم. تماماً، كانت الاجواء تماثل أجواء ألمانيا أيام صعود نجم الحزب النازي وديموقراطية الفيمار، إذ كان أصحاب القمصان الزرقاء يعملون علناً ويعدون العدة لوأد الديموقراطية، ولم يكن في استطاعة أحد منعهم وتجنيب العالم كارثة الحرب. نفس الشئ كان يحدث هنا. حسناً، وقع الإنقلاب، وأنا هنا بسبب ذلك. ورغم كل شئ أنا سعيد إذ ألقاك قد شفيت. الآن، هل تقول لي أين أجد الملكة؟

    - الآن، لا. لو كنت معي أيام الكشف والرؤيا، لقلت لك كل ما تريد معرفته. كنت تستطيع أن تسجل ما تشاء عن الماضي والمستقبل. الآن راح كل شئ وأغلق الطريق.

    وصمت الصديقان مدة طويلة. وعندما تكلم صلاح مرة أخرى، كان حكيم يغط في النوم. وظلّ صلاح، رغم إرهاق السفر، ساهراً يفكر. ماذا يعني هذا الذي حدث لحكيم؟ هل يعني أن كل شئ قد تقرر سلفاً، أم يعني أن هذا الكون يقوم على مجموعة من الصدف؟ هل يوجد ثمة نظام دقيق يحرك ما يبدو أنه مجموعة من الصدف؟ هل الإنسان أكبر كائن مقفل في الكون؟ يعيش فيه ولا يعرف القوانين التي تحركه؟ أين تقع مفاتيح هذا الكشف الباهر الذي حدث لحكيم؟
                  

09-27-2005, 01:11 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى جعفر,
    أقترح أن تنشر ما تبقى من الرواية دفعة واحدة.
    أقول قولي هذا بسبب إيميلات بعض الاصدقاء الذين قالوا أنهم يحتفظون بمداخلاتهم حتى يكتمل نشر الرواية.
    ولأني أتشوق لقرأة تلك المداخلات جئت بهذا الإقتراح والرأي في النهاية لك.

    حامد بدوي
                  

09-28-2005, 01:39 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الأستاذ حامد بدوي

    أصبروا فلم يتبق سوى القليل. أنا نفسي عندي مداخلة أنتظر بها إكتمال النشر.
                  

09-28-2005, 06:40 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    قضى صلاح زماناً طويلاً وهو يتجول يومياً خلال أنقاض المدينة الميتة. كان وقت تجواله محدداً، إذ كان عليه طوال النهار أن يتصرف كأعرابي لا يهتم بالأنقاض. يبدأ تجواله يومياً بعد العصر وقد خلى شاطئ النهر من أي طارق قد يأتى فجأة.

    هو يعرف البلدة دكاناً دكاناً، شارعاً شارعاً، وداراً وداراً. اكتشف أثناء تجواله شيئاً مذهلاً. الزمن يقلص المسافة. لم يسمع بشئ كهذا ولم يقرأ عنه. لكنه يراه أمامه على الأرض. رأى الأرض قد تقلصت بصورة واضحة. هو يعرف مثلاً المسافة بين المستشفى ونقطة الشرطة. كانت مسافة ممتدة تنمو فيها الاعشاب الشوكية في الخريف. الآن تكاد أنقاض المرفقين أن تصيرا كومة واحدة. المسافة الآن بين قصر الملكة ومكتب العوائد قد صارت ربع ما كانت عليه. هذه المسافة يعرفها خطوة خطوة. وحدث مثل هذا للشوارع. يعرف اتساعها في الماضي، الآن ضاقت صارت دروباً لا تكاد تبين. ثم أن البلدة كلها قد انكمشت. تقلصت المسافات بين أطرافها. هل هذه ظاهرة تخص هذه البلدة العجيبة، أم أنها ظاهرة عامة؟ هل قام كل ذلك القصر المنيف على هذه البقعة المتقلصة من الأرض؟

    هذه شجرة العرديب. شاخت وتدلت أغصانها نحو الأرض وانتقلت بجزعها قريباً من النهر. إنمحت المسافة بينها وبين قبة السلك. هنا كان يجدها، على كرسي هزاز وفي فستان قصير، فوق الركبة بكثير، تنتظره. تصرف كل العمال والخدم وتنتظره. يغادر هو المكتب بعد انتهاء عمله مباشرة. يقطع المسافة إلى القصر بخطوات يجهد في أن تبدو ثابتة. يعرف أن الكثير من العيون تتلصص عليه. خاصة عينا ذلك الواعظ. يكحل عينيه مثل النساء ويقول هذه سنة. يتولى الآن منصباً رفيعاً. لا يهمه من يراقبه، فالملكة تنتظر، والناس لا يتأخرون على الملوك. يدلف من الباب الكبير، فيراها على الكرسي الهزاز. فستانهاالقصير ينحسر عن معظم الفخذين. يجثو على ركبتيه ويقبلها. قبلات قصيرة وبأصوات. تطول القبلات وتموت الأصوات بالتدريج.................................

    إنتزع صلاح نفسه بقوة من هذه الذكريات. وجد أنه قد أثير. ما هذا يا صلاح؟ أنت في الخمسين. لماذا تركت قصرها؟ لو بقيت لبقي الناس أجمعين. قال حكيم أن أهل القرى حين اجتاحوا القصر، وجدوا أن الحيوانات توحشت. صار الدجاج الأليف قادراً على الطيران وقاد الأوز والبط صغاره إلى النهر وإختقى بين أعشابه. وجدوا أن الأبقار والأغنام قد استحلت غرف القصر وأن الحمام كان يبيض في الأواني المنزلية. أين ذهبت يا ملكة الملكات؟ لا بد أنها الآن عجوز في الستين. ترى هل زوى كل ذلك الجمال وخمد كل ذلك التفجر وانطفأ كل ذلك الشبق؟ الزمن قادر على أن يقلص أي شئ إلا الشجر. هذه العرديبة إستطالت وأترعت بالثمار أغصانها. لا أحد ينظر إليها لتسقط عليه. من هو ذلك القديس الذي قال: (قلت لشجرة اللوز: حدثيني عن الله يا أخت، فازدهرت شجرة اللوز)!

    في إحدى جولاته وسط أنقاض البلدة، ودون سبب واضح، تذكر صلاح أمه. توفيت وهو بالسنة الثانية من المرحلة الثانوية. أهلها من أعراب جنوب دارفور. آباؤها من الذين جاءوا إلى أم درمان إبان عهد الخليفة عبد الله التعايشي. أولئك الغزاة القساة رعاة الشاة. أزاقوا أهالي بقاع السودان الأمرين وهزمهم الإنجليز حين تحولوا من ثوار للتحرير إلى جيش لقمع الأهالي وتثبيت السلطة للسلطان. هل هذا قدر ومصير محتوم؟ أن تبدأ الثورات بأجمل الأفكار وأكثرها مثالية وتنتهي بأفظع أدوات القهر؟ كانت أمه إذا رأت من أحد بنيها مواقفاً فيها رائحة الجبن، هددت بقطع ثديها. ماتت بالسرطان بعد أن قطعوا ثديها. يالسخرية الأقدار. دخل أهلها عوالم السياسة الحديثة والتجارة بعد الإستقلال، حتى صارت أجيالهم اللاحقة تخجل من الأقرباء الذين يفدون متأخرين للعاصمة حاملين في ثنايا ثيابهم المتسخة البداوة المعتقة. وفي عرف الأعراب أن قريبك إذا أراد إهانتك نزل ضيفاً في مكان قريب من بيتك. لم يخذلها الجمال حتى لحظة الموت.

    وهو يعود من إحدى جولاته، رأى صلاح شخصاً يجلس مع حكيم خارج المبنى. توقف وهو واثق من أنهما لا يريانه من وراء الأعشاب والشجيرات. ترى من يكون؟. أخذ صلاح يقترب بحذر متلصصا من بين فرجات الأغصان. إنه يرتدي بنطالاً وقميصاً. ليس من أهل المنطقة بلا شك. هل اكتشفت أجهزة الأمن مكانه بهذه السرعة وبهذه السهولة؟ إقترب صلاح أكثر ثم جلس خلف شجيرة كثيفة الأوراق. بدأ يجتاحه القلق. الإعتقال هذه المرة لن يكون كالمرات السابقات. ها هو الزائر يشرب الشاي. لماذا يقدم حكيم الشاي لمخبر أو رجل أمن؟ هل فقد حكيم نعمة الحذر؟

    فجأة نهض الزائر، ونهض لنهوضه حكيم. إنه يعود من حيث أتى، يعود إلى القرية. تقدم معه حكيم مسافة قصيرة خلف المبنى، ثم مدّ كل منهما يده للآخر مودعاً. قال صلاح في نفسه (مع السلامة). سار الزائر غرباً تجاه الشمس الغاربة. وانتظر صلاح قليلا اًحتى عاد حكيم إلى مجلسه أمام المبنى. أظهر نفسه من مخبأه. إلتفتت إليه حكيم ثم قهقه ضاحكاً.
    - من كان هذا؟

    - لن تصدق. أتذكر صديقنا حمد؟.. نعم، ذلك الذي اعتزل الأعراب والجلابة وسكن منفرداً. هذا إبنه محمد. هو الآن طالب بالجامعة. هذا أصغر أبنائه. جاء من العاصمة قبل يومين ليزور أخواله في القرية، وجاء اليوم إلى هنا ليزور قبر أمه.

    - هل ذكر بأنه سيكرر الزيارة؟

    - نعم.

    - هذه مشكلة حقيقية. إنه يأتي في الوقت غير المناسب. يأتي في وقتي أنا. بعد إنقطاع الأرجل عن النهر.
    لماذا القلق؟ هذا طالب وليس رجل أمن.

    - في الوضع الراهن، يمكن أن يكون أي إنسان رجل أمن. حكيم، يجب أن تفهم جيدا، الوضع الآن خطير. إن مجرد بقائي طليقاً داخل البلاد هو هزيمة لأجهزة أمن السلطة. وأي إنسان يتعاطف مع هذه السلطة، مجرد تعاطف، يمكن أن يساعد في إعتقالي. هذه سلطة مختلفة، إما أن يكون الإنسان معها أو ضدها. في السابق يمكن أن تجد إنساناً محايداً، لا يهتم. الآن لا. ثم لاتنسى، فهناك جائزة مالية ضخمة لمن يساعد في القبض عليّ. حكيم.. يجب أن تكون أكثر حذراً. إن القبض على أمثالي لدى بعض هؤلاء المهووسين، واجب ديني، مثل الصلاة والصوم.

    - ما هذا؟ هل تعقدت أمور السياسية عندكم إلى هذا الحد؟

    - لدينا؟ وأنت، ألست جزءاً مما يحدث؟
    - عندما يصل الأمر للدين،... لا.. كنت دائماً أقول للشيخ المنصور إننا يجمعنا معكم الوطن ويفرقنا الدين.

    قال صلاح بإعياء وسأم، وهو يرمي بجسده على السرير:
    - إذا استمرت الأمور تسير في الإتجاه الذي تسير فيه الآن، فلن يتبق لنا، جنوبيين أوشماليين، وطن أو دين.

    وظل الصديقان صامتين بقية ذلك المساء. كل منهما غارق في بحر متوحد. يحاول كل منهما أن يبدو منهمكاً في عمل ما، لكن كان عملهما الوحيد في تلك لأمسية هو الصمت والتفكير.




    ***
    ماذا حل بك يا صلاح؟ كنت تمني النفس بفترة من الهدوء والإسترخاء في جويكِرَّة. فترة قررت أن تقلِّب فيها كل الأحجار وأن تواجه جميع الأسئلة التي ظللتم تتهربون منها أو تمارسونها في الخفاء مثل العادة السرية.

    تاريخ الحزب الشيوعي الروسي... مذكرات خورتشوف... آراء مجموعة ماركسييي العالم الثالث الذين نقدوا المراحل التناريخية الخمس وتنبأوا بسقوط روسيا في حضن الغرب الرأسمالي منذ ما يقارب العشرين عاماً قبل سقوطها. لماذا لا تجد في نفسك الآن رغبة في الكتابة. أنت لا تعرف كيف تفكر إلا من خلال فعل الكتابة. الآن كل الزمن ملك لك. لماذا لا تكتب؟ كل وقتك الآن للتجوال في أنقاض هذه البلدة. عمّا تبحث؟

    - ألم تتعب من التجوال في أنقاض جويكِرَّة؟ كأنك تبحث عن شئ.

    - أبحث عن شئ لا أعرف ما هو. أحياناً أشعر بأنني أكاد أمسك به. وفي اللحظة التالية يبدو بعيداً ومجهولاً لأقصى حد.

    - لن تجده.

    - لماذا يا حكيم؟

    - أنت تستخدم الطريقة الخاطئة.

    - ماذا تعني؟

    - كلما ظللت تفكر وتحلل بعقلك، فسوف يدير لك العالم جانبه الجاف المتحجر. أفتح قلبك، وتلق العالم بلا أفكار مسبقة أو قناعات قديمة. حاول أن تتناغم مع الحياة وحركتها المتجددة. عندها قد ينبثق الضوء.

    - حكيم.. أنت تتحدث كصوفي أو فيلسوف.. ما الحكاية؟ أنت لست حكيم الذي أعرفه.

    - يا صديقي.. لقد شهدت في حياتي عجائب كثيرة. عجائب لا يمكن أن تمر دون أثر. لقد خبرت حكماء القبيلة الذين لهم إتصال روحي بالأجداد الحكماء الغابرين، شهدتهم في طفولتي وهم يأتون بالخوارق. شهدت (نجانقو)، جد الشلك وهو ينزل من عليائه داخل غرفة معتمة ويحل مشاكل أبناء القبيلة فرداً فرداً، مهما استعصت. شهدت الشيخ المنصور تتفجر فيه طاقات مذهلة ويفعل المعجزات بمجرد رفع يديه للسماء. ثم شهدت ليلة الحفر بالأظافر على أرضية الخرصانة المسلحة، ومهرجان ضرب الرؤوس على جدران مخزن الحديد طلباً للموت السريع. ثم أصابني الصمت والذهول ومحو الإدراك عشرات السنين. وأخيراً برق لي الضوء في القرية وأدركت ما يذهب العقل. وتلبستني القدرات الخارقة دون علمي ودون إرادتي حتى تمنيت الموت. ومع ذلك فانا لم أفتح معك هذا الباب. أنت الذي فتحته وليس أنا. أنت الذي صرت تتحدث كصوفي وليس أنا. هذا الشئ الذي تبحث عنه ولا تعرفه. تكاد تمسك به ثم ينفلت منك. هل هذا نوع الكلام الذي إعتاد صلاح الأمير أن يلقيه على الناس؟

    - أقول لك الحقيقة منذ أن سمعت حكايتك عن الأضواء ورؤية الزمن والقدرات الخارقة التي تلبستك، وأنا لا أستطيع أن أفكر بوضوح. أنا الآخر، وجيلي كله، قد شهدنا من العجائب الكثير، على الأقل في مجال اهتمامنا، السياسة. شهدنا الإتحاد السوفيتي العظيم ينهار كبناء من كرتون. شهدنا ماو تسي تونق العظيم يتحول بعد مماته إلى صعلوك. شهدنا عمال أوربا الشرقية يحطمون تماثيل لينين. ثم انك تقارنني الآن بصلاح الأمير، الشاب ذي العشرين من العمر. أنا شيخ الآن. حتماً لكل عمر ملامحه في التفكير. نحن الآن ناضجون وقادرون على الإعتراف بالفشل. لقد فشلنا يا حكيم. أقصد كل جيلي من السياسيين بمختلف إتجاهاتهم. أنظر ما حل بالبلد إنها تعود اليوم إلى لحظة ميلادها، يوم فتح الخرطوم وموت المهدي، قبل مائة عام. مائة عام مرت دون أن تترك أثرا. كأن الناس كانوا يلبسون ثوبا مستعارا أضطروا لخلعه، فعادوا سيرتهم الأولى. الآن يبدأ عهد عبد الله التعايشي بكل تشوهاته. وكل ما كنا نعتقد بأنه إنجاز في اتجاه التحضر والتمدن، كان مجرد قشرة خارجية، سقطت مع أول هزة، وعادالناس سيرتهم الأولى. يجب أن نعرف، قبل أن نموت، أين يكمن الخطأ. هذا واجبنا تجاه الأجيال المقبلة. فعلى الأقل يجب أن نعطيهم كتاباً هادياً يجنبهم زلتنا وسيرنا التعس في طريق دائري. لا تقل لي إفتح قلبك وتناغم مع العالم. أنا لا أبحث عن حل شخصي. ما أبحث عنه لا يمكن الوصول إليه بالكشف وانبثاق الضوء. لا يمكن الوصول إليه إلا بالعقل ثم بعد ذلك بالفعل الإرادي البشري.

    - حسناً، أنت أدرى بما تبحث عنه. فقط لا تتوقف عن البحث.

    - أنا لا أعرف أن أفكر إلا من خلال الكتابة. ومنذ صباح الغد سوف أشرع في الكتابة. سأبسط أمامي كل مراحل تاريخ هذا البلد، وسأنظر فيها بحياد تام، دون أية غشاوة، سأحاول أن أعرف أين يكمن الخطأ في هذه التجربة بأكملها.

    - وأنا مسئول عن توفير كل وسائل الراحة لك. ليس عليك إلا أن تطلب ما تريد فتجده أمامك.

    - لكن ماذا عن إبن صديقك هذا. سيظل مصدراً للإزعاج حتى تنتهي زيارته لأخواله. وحتماً سيكتشف أنني أعيش معك هنا. حينها سوف يشك من أكون.

    - إحساسي يقول أنه ليس خطراً.

    - عندما نتأكد من صحة إحساسك هذا، أكون أنا في يد السلطة.

    - دعنا نتفاءل.
    نعم... دعنا نتفاءل.
                  

09-30-2005, 01:36 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    (مدينة النهر الميتة)

    وكما توقع صلاح، عاد الشاب محمد مرة ثانية. وجاء عصراً أيضاً. كان حكيم خارج حدود المدينة القديمة يجهز الشراك للأرانب عندما لمحه قادماً. أسرع حكيم عائداً ليحذر صلاحاً. قام صلاح حانقاً وهو يدمدم: (ما هذه المصيبة التي لم تكن في الحسبان).

    إستقبل حكيم الشاب بحفاوة ولاحظ أنه يحمل كيساً بلاستيكياً في يده. أخرج حكيم له كرسياً ووضع براد الشاي على الجمر المتقد.

    - عم حكيم، لا داعي للشاي.

    نظر إليه حكيم متسائلاً. بدى الشاب متردداً ومحرجاً.

    - أنا... أحضرت معي شراب.

    صمت منتظراً أن تتحول النظرة المتسائلة على وجه حكيم إلى شئ آخر. ظل التساؤل جامداً على نظرة حكيم. قال الشاب، دفعة واحدة وكأنه يلقي عن كأهله حملاً ضاق به:

    - عرقي.

    تجهم وجه حكيم. فكر في صلاح المختبئ بين الشجيرات وأن اختباءه سيطول. من يدري ربما سكر الشاب ولم يستطع العودة الليلة. فجأة خطر لحكيم خاطر آخر. نعم ... مع الشراب تسهل معرفة دخيلة الشاب وما إذا كان خطراً على صلاح.

    - عفواً يا عم حكيم.... يبدو أنني قد تجاوزت الحدود.
    - لا، لا. لاتقل ذلك. مرحباً بك. وتستطيع أن تشرب بلا حرج.

    إنفرجت أسارير الشاب. فكر حكيم، انه يشبه أمه حين يبتسم. أخرج من الكيس قارورة زجاجية جميلة الشكل. مستديرة وبعنق طويل وغطاء زجاجي مثل أغطية قوارير الدواء في مستشفى جويكِرَّة قديماً. سحب الشاب كرسيه إلى حافة الماء وعاد يطلب كوباً من حكيم.

    - هذه الزجاجة أحضرها لي صديق من السعودية. أظنها، في الأصل، قارورة عطر. هؤلاء العرب يحبون العطور.

    - سلام عليكو

    إنبثق صلاح فجأة من وراء الشجيرات القريبة. كان المساء قد تقدم. بدا النهر لامعاً هنا. داكناً هناك. أمواجه الرقيقة تهمس حديثها السرمدي لرمل الشاطئ. وصلاح في تنكره البدوي المتقن، المتجاوز لكل الشكوك.

    - أهلاً ... مرحباً. إتفضل قدام. أهلاً بالضيف.

    هكذا رد حكيم بذكاء.

    - إت الفضيل.

    جلس الأعرابي على السرير. قدم له حكيم الماء. شرب الأعرابي.

    - حمد لله. يا اخونا... أنا مهمل لي بهايم. شياه، نعيز، ثلاثة ومعاهن سخلتين. باليوم ده ليهن تلت إيام رايحات. بللقي ما شفتوهن جاي؟
    - والله ما فكرنا ليهن... لاكين بهايم العرب دول كلهم بوردن جاي. كن نم معانا لغاية الصباح، تقدر تروغهن في بهايم العرب. يمكن يكون شالهن معاهن.

    - والله كلامك زين تب. عين العقل.

    طوال هذه المحادثة بلهجة عرب المنطقة، كان محمد حمد متجمداً في كرسيه ، مديراً ظهره للرجلين، يحدق في النهر. وبين الفينة والأخرى يلقي في جوفه بكأس العرق. قام حكيم يعد العشاء، وأثناء إنشغاله بذلك، ألقى على الشاب السؤال:

    - أنت يا محمد بالطبع ستقضي الليلة معي هنا.
    - جميل، جميل جداً.

    بعد صمت قصير، إنبعث صوت الشاب. كانت به نبره غريبة.

    - يا عم حكيم ... انت بالطبع عاصرت صلاح جويكِرَّة. كان أبي لا يمل الحديث عن صداقتكم وأيام ازدهار جويكِرَّة.

    في الظلام تبادل صلاح وحكيم نظرات منزعجة. وخيم صمت قصير متوتر قبل أن يجيب حكيم.

    - بالتأكيد يا إبني، لقد عشنا هنا في هذا المكان أياماً عظيمة لاتتكرر. كان والدك يسهر معنا حتى منتصف الليل ثم يذهب إلى بيتكم. صلاح، أخذوه مكبلاً بعد الحادثة، ولا أدري ما حدث له بعد ذلك. فقد خرجت أنا من تلك الأحداث مريضاً.
    هنا استدار الشاب بكرسيه وواجه الرجلين.

    - لا تدري ما حدث له؟ لقد صار من أشهر السياسيين في هذا البلد.

    ثم بدأ الحماس المشتعل بشعشعة الخمر يتصاعد في نبرة الشاب.

    - لقد دوخ أجهزة النظام الديكتاتوري السابق لأكثر من عشرة سنوات. لم يغادر البلاد ولم يلق القبض عليه. والحكومة الحالية تقلب الأرض بحثاً عنه بلا فائدة.

    - هذا رجل شيوعي يا إبني. ربما هربوه خارج البلاد، إلى روسيا أو أمريكا.

    صمت الشاب. كأنما يأس من جهل الكهل. أدار كرسيه تجاه النهر واستمر يشرب ويحدق فيه. تذكر وهو يبتسم في الظلام ما فعلته به تلك القمرية وهو قادم عصر اليوم إلى جويكِرَّة. رأى العش وعليه فرخان حديثي الفقس، لم ينم على جلديهما شئ من الريش بعد. تعجب من غباء القمري. كيف تبني القمرية عشها بهذا الإنخفاض. أراد أن يدنو أكثر من العش وينظر، فإذا قمرية على الأرض تخبط جناحيها وتحاول الطيران دون جدوى. ترك العش وتقدم منها فسحبت نفسها على الأرض مبتعدة. إستمر يتقدم نحوها، ظن أن خيطاً أو شعراً تلعبث فيها فمنعها الطيران. إستمرت تخبط جناحيها على الأرض وتبتعد عنه في حركة مشوهة. أحياناً تنجح في رفع نفسها عن الأرض نصف المتر ثم تعود وتسقط على بعد خطوات منه. أضطر ليسرع خطاه. إستمرت محاولاتها المستميتة في الفرار. أضطر أن يركض إثرها. صارت تباعد المسافة بينه وبينها. لاحظ أن قوتها تزداد كلما زاد هو من سرعته. ثم فجأة طارت محلقة في الهواء وكأنها قد شفيت فجأة. وقف ونظر حوله. وجد أنه قد ابتعد عن مكان العش كثيراً. فجأة إنفجر ضاحكاً. لقد أدرك انه كان ضحية عملية خداع متقنة. هذا ذكاء إنساني تماماً. هو لم يكن ينوي شراً بالفراخ الصغيرة، لكن مالذي جعله يركض خلف القمرية الأم؟ لا شك أنه شئ من بقايا الطفولة وحب المخلوقات البرية. لكن كيف لم يمر بمثل هذا الموقف في طفولته وهو الذي عاش في قلب الطبيعة كل طفولته؟ كان بيتهم منفردا وسط الدغل. ما كان هو وأخوه الأكبر وأخته الصغيرة يعرفون أطفالاً آخرين ليلعبوا معهم. كانوا لا يعرفون أصدقاء سوى الطيور والقنافذ والحلازين والسحالي وحشرات موسم الأمطار الملونة. لقد ربّوا في بيتهم الأرانب البرية والثعالب والسناجب والقنافذ والقماري والعصافير والدجاج البري. كيف فاتت عليه هذه الخدعة البسيطة مع كل هذه الخبرة؟

    عندما دعى حكيم ضيوفه للعشاء، كان الشاب ثملاً تماماً. قال وهو يدنو من الأكل:

    - صديقك هذا. أقصد صلاح جويكِرَّة، هو من أعظم السياسيين السودانيين الآن. سوف يذكره تاريخ هذا البلد. هل تصدق أنني في الجامعة عندما أذكر لزملائي أنه كان صديقاً لوالدي، فإنهم لا يصدقون. يظنون إنني أحاول أن أضفي على نفسي وعلى أسرتي نوعاً من الأهمية الزائفة.

    لم يعلق حكيم. أكلوا عشاءهم في صمت. إنفصل الشاب عن الكهلين تماماً عندما اضجع على السرير. غرق في شئونه الخاصة. ماذا لو كان استجاب لإلحاح رحاب وأحضرها معه. هذا جنون. لن يفهم أخواله وأسرهم، لن تفهم القرية حضور فتاة غريبة معه. كيف كان يمكن أن يشرح لهم الأمر؟ يقول حبيبتي؟ سيضحكون على ميوعة أبناء المدن، و(إنطلاقة) بناتها. هذه الأنثى مُتعبة... يقول لها يا أنثى تقول له يا متخلف. يحاول أن يغيظها أكثر فيقول لها يا حرمة. تهب في وجهه (حرمت عيشتك يا متخلف). هي في حالة تحدي دائم. تتحدى كل العالم وتتحدى نفسها كذلك. تصر دائماً على أنها لاتقل عنه في شئ، إن لم تتفوق عليه. وأنها تستطيع عمل أي شئ يكون هو قادراً عليه. درست الكهرباء وتخصصت في التمديدات. قبضت عليها شرطة النظام العام مرة بحجة أنها تلبس البنطلون وتتشبه بالرجال. قالت للقاضي (أنا مهندسة كهرباء أضطر أحياناً إلى تسلق أعمدة الكهرباء. هل تريدون أن أرتدي إسكيرت وأنا معلقة في الهواء والعمال ينظرون إلي من أسفل؟). ومع ذلك لم يطلقوا سراحها إلا بعد حضور والدها وأخذ التعهد عليه بالمحافظة عليها.

    أبوها مثقف منفلت من القطيع. جزيرة وحدهُ وسط مجتمعه. جاء إلى المحكمة ثائراً وحاول أن يدلل للقاضي بأن لبس البنطلون أستر للبنت من غيره. لكن لا فائدة، لقد أجبروه على كتابة تعهد خطي بالمحافظة على إبنته وملاحظة لبسها عندما تهم بالخروج من البيت. رحاب تكره حياة (النسونة). تقول########## بنات).فكر محمد حمد ودفء الحب يملأه... فتاة جامحة صلبة... أنثى برية متوحشة غير قابلة للترويض أو التدجين. لم تقل له يوماً أنها تحبه. تقول (أنت الخيار الصالح الوحيد بين عدد من الخيارات السيئة). يكبرها في العمر وتخرجت قبله من الجامعة بسنة واحدة. أبناء المدن يدخلون المدارس صغاراً. تقول له: (كمُ التخلف فيك أقل من الآخرين). عندما رفض فكرة سفرها معه إلى قرية أخواله، قالت إنها أصلاً كان يجب أن تسافر وحدها. لكن الموضوع المقصود، قرية متخلفة. وأهل القرية لن يفهموا وجود فتاة بمفردها تتجول في منطقتهم. لهذا فهي (مضطرة) لأن ترافقه. وعندما أصرت على السفر معه، إستنجد بأبيها. شرح له صعوبة الأمر. سوء مياه الشرب والملاريا المنتشرة ونظرة أهل القرية. قالت: (هذا المتخلف يظن نفسه سوبرمان. لماذا تتحمل أنت كل هذا ولا أستطيع أنا؟ دي أوهام في مخك يا أستاذ. ما ممكن تحكم على العالم من خلال أوهامك). وظل أبوها صامتاً، كأنه كان يستمتع بتلك المناظرة.

    ماذا كان سيحدث لو قَبِلَ بمجيئها معه؟ كانت ستكون سعيدة. كانت ستصادق، دون شك، حليمة الضكرية. نفس النوع من الإناث المسترجلات. قالت: (يا متخلف، أنا مش عاوزة أسافر معاك عشان ألصق فيك. أنا مصره على الذهاب لأرى أطلال جويكِرَّة، البلدة التي عاش فيها صلاح جويكِرَّة في شبابه. لقد سمعته يتحدث عنها كثيراً، وبحب عظيم، في ندواته. بلدة قامت على أساس وحيد هو الحرية، وعندما إنتفت الحرية، ماتت البلدة). قالت أنها تريد أن تكتب بحثاً فريداً لم يسبقها عليه أحد عن هذه المدينة المندثرة. هي ترى أن اندثار جويكِرَّة يؤكد أن مجتمعنا يقوم على قانون معكوس. قانون التدهور بدلاً عن قانون التطور السائد في كل العالم. تقول أن هذا أمر شديد الخطورة. (يجب ألا أفوت فرصة زيارة نموذج تتجلى فيه نظريتي. نظرية التدهور. إنه نموذج محدد وواضح بالجغرافيا والتاريخ. نموذج جويكِرَّة. فلدينا مجتمع صغير بدأ يترقى حتى بلغ درجة رفيعة من آفاق الحياة المدنية. ثم فجأة يتدهور إلى أفق حياة القرى والفرقان. حياة البداوة الأولى. هذا يعني أن عناصر النكوص في مجتمعاتنا لها الغلبة على عناصر التقدم).

    تقول: (إذهب إلى دار الوثائق المركزية. اقرأ الصحف قبل أربعين عاماً. أقرأ المقالات السياسية والثقافية قبل ثلاثين عاماً. ستجد أن نسبة الحرية كانت أعظم من الآن. وأن نسبة الإرهاب الفكري كانت أقل بكثير مما هي عليه الآن. جويكِرَّة هي النموذج الذي يعطيني الفرصة لإثبات نظريتي). وعندما فشل في إقناعها، هرب منها. سافر وتركها، هكذا. عند إنتهاء إجازته سيعود ليواجه العاصفة. ماذا لو جاء بها ثم وجدا صلاح جويكِرَّة مختبئاً هنا مع عم حكيم؟ لو حدث هذا لماتت هذه المخبولة من الإنفعال.


    ***

    إزداد قلق صلاح من تكرار زيارات محمد حمد. كان حكيم في حرج عظيم. فهو من جهة يقلق لقلق صديقه صلاح، ومن جهة أخرى، غير قادر على إحراج الشاب إبن صديقه القديم. كيف يطلب منه أن لا يحضر إليه؟ ثم أن هذا قد يزرع في داخله الشكوك.

    كان صلاح وحكيم معاً قد تيقنا بأن الشاب لن يشي بصلاح إذا عرف حقيقته. ومع ذلك أصر صلاح على إبقاء سرية وجوده في جويكِرَّة. هكذا صلاح. لا يترك أمر إختبائه سائباً، في يد إنسان غيره. يكفي أن حكيماً يعرف. لذلك رأى صلاح أن من الحصافة أن يقضي النهار كله بعيداً عن سكن حكيم. كان يصحو مبكراً، ينزل إلى النهر فيستحم ثم يعود ليسخن ما تبقى من العشاء. يتناوله ويشرب الشاي ويذهب. مكانه الأثير هو شجرة العرديب الضخمة. الشئ الوحيد الذي بقي سالماً من قصر الملكة. وجوده راقداً تحت ظل العرديبة، وهو في تنكره البدوي، لن يثير ريبة أحد، فالنوم نهاراً تحت ظلال الأشجار عند شاطئ النهر، ممارسة مألوفة لدى عربان المنطقة. وإمعاناً في التنكر، إشترى صلاح حماراً مع سرجه وفروة يزين بها السرج. كان يربط حماره من قدمه اليسرى بحبل طويل يسمح له بأن يرعى كما يشاء من أعشاب الشاطئ الخضراء. كان يقول: (هذا أسعد حمار في العالم... ليس عليه بذل أي مجهود). وكان حكيم عندما يذهب إلى القرية بعربته التي يجرها حماره، يسأل بصورة غير مباشرة ويحاول أن يعرف ما إذا جاء إلى القرية شخص أو أشخاص غرباء. كان حكيم يذهب يومياً ليبيع إنتاج مزرعته من الخضر.


    ومع كل هذا الحذر، فقد تم الأمر بسرعة مذهلة. جاءت السيارة، (لاندكروزر ستيشن)، الساعة الثانية ظهراً، تنهب الشارع الترابي قادمة من المركز. لم تتوقف في القرية، بل إنحرفت يساراً صوب جويكِرَّة دون أن تقلل من سرعتها وسلكت الطريق المرتفعة المحفوفة بأشجار السيسبان. كان صلاح منذ الصباح الباكر يشعر بتوتر غريب. عندما ربط حماره كالعادة وافترش فروته في ظل العرديبة الضخمة، حاول أن ينام كالعادة. عادة ينام في الصباح حوالي الساعتين ثم يخرج من المخلاة أوراقه وأقلامه ويبدأ بالكتابة. في ذلك اليوم لم يستطع أن ينام. حاول تمرين الإسترخاء. تلك حيلة تعلمها من قراءته لأحد كتب الباراسايكولوجي. يمدد جسده باسترخاء، مضطجعاً على ظهره، مغمضاً عينيه ويتنفس بعمق. يجعل عقله يسيطر على جسده ثم يبدأ يركز إنتباهه على أعضاء جسده عضواً عضواً.، أمراً لها بالإسترخاء. يبدأ من أصابع قدميه، يتحرك منها إلى القدم فالساق حتى يصل إلى الحوض، فالبطن والظهر والكتفين حتى العنق والرأس. يتنفس بعمق. يظل هكذا وجسده كله مسترخياً. في ذلك الصباح فعل كل هذا ليعوض إرهاق التفكير.

    كان في حاجة ماسة لهذا التمرين. كان يحس توترا غريبا. فجأة سمع أزيز السيارة. قفز ناهضاً وقلبه يدق. لقد جاءوا أخيراً. تلصص بين الشجيرات فرأى لمحات من جسم السيارة. لون الشاي بالحليب. وقف. تنفس بعمق. إستعاد توازنه. أسرع إلى حيث وضع السرج. أخذ المنجل. شمر سرواله وخاض في الماء حتى بلغ ركبتيه، ثم بدأ يجز الاعشاب الخضراء. توقفت السيارة أمام المبنى الصغير تماماً. تكاد تلتصق بالجدار فتسد المدخل. إنهم يعرفون تماماً ماذا يريدون وأين. فتحت الأبواب دفعة واحدة ونزل من السيارة أربعة شباب أقوياء بلباس مدني. كان صلاح يعرف بأن الشاب محمد حمد بالداخل. وجاء حكيم يهرول من حيث كان يعمل في مزرعته.

    ظل صلاح يعمل في جز الأعشاب ويراقب جيداً. خرج الشاب محمد حمد من الغرفة ووصل إليهم حكيم. يبدو أن حديثاً يدور. دخل الجميع إلى داخل المبنى. حسناً، ها هم يا صلاح. لقد عرفوا الطريق إليك أخيراً. يستطيع في تنكره هذا أن يضع السرج على الحمار ويركب ويسير مبتعداً دون أن يثير إنتباه رجال الأمن. ولكن ماذا سيحل بحكيم وابن صديقه محمد حمد. الشاب لا يعرف شيئاً، الذي لا يعرف لا خوف عليه. هم يكتشفون سريعاً صدق الذي لا يعرف. لكن حكيم يعرف كل شئ. في هذه البقعة المقطوعة البعيدة كل شئ ممكن وجائز. التعذيب، وحتى القتل وإلقاء الجثة في النهر بعد أن يربطوا بها جسماً ثقيلاً. ما العمل؟ هل يتقدم ويكشف لرجال الأمن عن شخصيته وينقذ حكيماً والشاب الذي معه؟ وتعليمات الحزب التي لم يخالفها منذ أربعين عاماً؟ هل يخالفها اليوم؟.

    مضت الدقائق والجميع بداخل المبنى. لا شك أنهم يبدأون الإستجواب الآن. هذه هي المرحلة الأولى من الإستجواب. المرحلة الناعمة نعومة الحيات الرقطاء. حوار هادئ مع الضابط المسئول. ابتسامات ودودة وربما يقدم لك سيجارة. الأسئلة هادئة وهو يصدق كل ما تجيب به على أسئلتة. الخدعة أنه يسأل عن معلومات هو يعرفها جيداً. وأنت لا بد لك أن تكذب. لا يعقل أن تدلي بكل المعلومات هكذا لأن ضابطاً ودوداً يوجه لك الأسئلة. وهو يغريك بابتسامته أن تكذب، ويبدو لك أنه مصدق لك. ويستمر الضابط في هدوئه ليورطك في الكذب أعمق. والكذب أمر غير محتمل حتى للكاذب نفسه. يبدأ الكاذب يحتقر نفسه. تهتز ثقته في نفسه ويبدو متعجلاً إنهاء هذا الأمر. هنا، وفجأة تنقلب نعومة الحية الرقطاء سماً. يصرخ الضابط فجأة ويصب على رأسك كل ما يحفظ من ألفاظ السباب السوقية. يسبك ويسب أمك وأبوك. ويستمر يضغط على نقطة ضعفك كرجل جبان كذاب حتى توقن أنك كذلك.

    هذه هي المرحلة الثانية من الإستجواب. معظم الناس ينهارون في هذه المرحلة. في هذه المرحلة أنت لا شئ. كاذب وحقير وأمك عاهرة وأصلك وضيع، وبعد كل هذا تحاول أن تكون بطلاً، فتخفي المعلومات. ويفند لك الضابط كل كذباتك السابقات في المرحلة الأولى من الإستجواب. ويبدأ التهديد بالويل. يحضرون أمام ناظريك أدوات التعذيب. من مكان ما تسمع صرخات فظيعة لإنسان يتعذب.

    فجأة خرج أحد الزوار من المبنى. إرتجف قلب صلاح. لا شك أنه الضابط المسئول. إذن فقد وصلوا إلى المرحلة الثالثة. هذه هي مرحلة التعذيب الحقيقي لمن لم ينهار في المرحلة الثانية. هنا يكون الضابط محنقاً حقيقة. لقد فشل في انتزاع المعلومات في المرحلة الثانية. عادة يصرخ الضابط: (أبعدو هذا الحيوان من أمامي.. خذوه.. نيكو أمه). وهذا إذن ببداية التعذيب. في حالة حكيم والشاب، سيخرج الضابط عندما تفشل المرحلة الثانية. إذ لا مكان آخر يؤخذان إليه بعيداً عنه. الضابط محنق. فشل عرضه. من لم ينهار أمام المرحلة الثانية يمكن أن يصمد أمام التعذيب. الخوف من التعذيب. أقوى أثراً من التعذيب نفسه. إذا فشل التخويف، قد لا يجدي التعذيب. لكن هنا، في هذه البقعة المعزولة عن العالم، فلا حدود لما يمكن أن يفعله ضابط أمن، يعتقد أنه يحارب أعداء الله ... لا بد لصلاح من أن بفعل شيئا.

    إندهش الضابط المحنق وهو يرى أعرابياً على حماره يقترب منه بسرعة. كان يقف وخلفه السيارة. يواجه النهر، ويداه في جيبي بنطاله.

    - سلام عليكم.
    - عاوز شنو يا زول. أبعد من هنا.
    - عايزك انت. عندي معلومات عن صلاح جويكِرَّة.

    ضاقت عينا الضابط وهو يحدق في وجه الأعرابي.

    - معلوماتك شنو؟
    - أسلمك صلاح في إيدك. بشرط تخلي الناس الجوة ديل في حالهم.
    - انت منو يا زول؟ إسمك منو؟ أنزل من الحمار دا.
    - شوف يا أفندي، أنا عرضت عليك عرض. إما تقبله يا ترفضه.
    - إنت عربي مجنون؟ قلت ليك أنزل من الحمار.
    - يازول أقول ليك... مع السلامة.

    وهمز الأعرابي حماره وانطلق. أضطر الضابط إلى أن يركض خلفه.

    - أقيف يا زول مكانك. انت عربي حيوان ولا شنو؟
    - أسمع يا أفندي. أنا عارف في جايزة للقبض على صلاح. أنا عايز تضمن لي حقي. وعايزك تفك الناس المساكين الجوه ديل.
    - طيب وين صلاح؟
    - فك الناس ديل أولاً.
    - إت مالك ومالهم؟
    - لأني أنا الوحيد العارف مكان صلاح، ديل ناس مساكين ساكت.
    - طيب موافق.

    نزل صلاح من على الحمار وجاء مع الضابط إلى داخل الغرفة. كان حكيم ممسكاً بقارورة زجاجية، حطم جزءاً منها على حافة النافدة وبقي العنق وجزء منها سلاحاً حاداً في يده. وكان محمد حمد يئن على الأرض إثر ضربة قوية في وسطه. وكان أفراد الأمن الثلاث ممسكين بمسدساتهم في وجه حكيم. نظر أفراد الأمن إلى الضابط بتساؤل حين رأوه يدخل إثر الأعرابي. تقدم صلاح إلى حكيم. أخذ منه القارورة وعانقه بحرارة. مد يده وأنهض محمد حمد إستدار إلى الضباط، وفي هدوء تام قال:

    - هذا هو صلاح جويكِرَّة. أنا.

    وحين خلع العمامة من رأسه، إجتاحت الدهشة رجال الأمن الأربعة. أخرج كل واحد منهم صورة من جيب قميصه وأخذ يقارن بينها وبين ملامح صلاح. قفز الشاب محمد حمد معانقاً صلاح بانفعال وهو يردد من بين دموعه:

    - أنت؟ أنت صلاح جويكِرَّة.
    - نعم أنا صلاح جويكِرَّة صديق أبوك.
    - وليه سلمت نفسك. كنت تمشي وتختفي.
    - نحنا يا إبني إنتهينا. إنتهى دورنا. حاولنا وفشلنا. والشايفة ده هو نتيجة عملنا لنصف قرن. فشلنا في أن نسلمكم وطنا جميلا. واصلوا إنتو... واصلوا إنتو.. إمكن تكونوا أحسن مننا...قطعا حتكونوا أحسن مننا.

    (إنتهت)
                  

10-01-2005, 01:19 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    العزيز مرتضى,
    اليوم أكملت لنا نشر الرواية, فأشكر لك الجهد والمثابرة.

    قرأ الرواية حوالى 500 قارئ.
    لنقل أن 100 هي مداخلاتنا أنا وأنت والذين تداخلوا حتى الآن.
    يتبقى 400 قارئ.
    لنقل أن ربع هؤلاء لديهم ما يدلون به بعد اكتمال النشر, أي 100 .
    ولنقل أن نسبة 10% منهم لديهم ما يقولونه حول الرواية.
    إذن, نحن في انتظار هذه التعليقات والمداخلات العشر, فلا تبخلوا علينا بها.

    حامد بدوي
                  

10-02-2005, 01:34 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    Up ......Up ........Up

    في إنتظار من له مداخلة
                  

10-03-2005, 01:38 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق مرتضى,
    إنت عملت العليك والباقي على من قرأ.
    لك شكري وتقديري علي ما بذلت.

    حامد بدوي
                  

10-06-2005, 10:13 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الاستاذ حامد بدوى بشير. سلامات.
    لقد طبعت روايتك " مدينة النهر الميتة" منذ يومين. اكثر من 70 صفحة تحتشد بتفاصيل وافكار مرهقة، ومؤلمة، وبتاريخ ملتبس. وكنت تابعت فصول الرواية على الانترنيت. ولكن منظرها التقليدى على الورق، والحبر ما زال طازجآ ومثقلآ بكلماتها، مختلف جدآ. الان، استطيع القول، إننى عثرت على كتاب سوف يضيف الى افق معرفتى حزمة من الضوء. وسوف يزين مكتبتى، بل سوف يكون فخرها. شكرآ على هذا الكتاب الذى جاءنا باردآ. لم نتكبد المشاق الى بائع كتب، ولم ندخل ايادينا فى جيوبنا او محفظاتنا، لشرائه. اى اريحية هذه، واى كرم فى الروح وسخاء فى الوجدان. ومع ذلك ادعوك الى طباعة الرواية، وتسويقها. فهى جهدك. وثمرة تفكيرك. وحرقة حشاك على الوطن.
    وسوف اعود بالتعليق بعد قراءة الرواية على الورق Hard Copy كما يقولون.
    تحياتى من جديد لك ولمرتضى جعفر، هذا الشاب النابه والمثابر والجاد.

    قولك ككيف؟ تحرى البيشان؟ ولا الغربة البيل زندى؟
    يا بو السرة كج العين.
    عينى باردة على عقل مشغول، وقلب ذاكر، وقلم سيّال بهمّ الوطن.
                  

10-17-2005, 03:17 PM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الأستاذ عادل عثمان,
    كلامك يرد الروح المفوتة كم وكت.
    جائزتي وأجري كلمة إطراء على عمل إبداعي تجرأت على اجتراحه في الظرف الأصعب.
    وأعلى ما أتمنى نواله أن يقرأني إنسان رهيف الحس مغبر ثرثرة مثلك. وأنا في انتظار مداخلة مطولة منك.

    حامد بدوي
                  

10-18-2005, 01:35 AM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    تحياتي. أنا لست ناقدا بل مجرد قارئ. وقد تابعتها بتشوق.

    الراوية تعكس ملحمة تكون السودان الحالي بمختلف ثقافاته. تتجلى فيها أشياء مثل مأساة عنبر جودة واختفاء محمد ابراهيم نقد. إنها تشكل بداية جميلة لرواية ملحمية ضخمة تتجلى فيها كل البانوراما السودانية. لقد صدمت عندما انتهت الراوية فجأة باعتقال صلاح جويكرة وبدا لي أنها لم تكتمل. أيضا كنت أتمنى لو أن الرواية أسهبت أكثر في عكس البعد السحري الصوفي الذي يشكل جزءا بارزا من ثقافتنا السودانية منذ ود ضيف الله.

    إن ما حدث في السودان منذ الاستقلال حتى اليوم لهو أمر رهيب شلت أقلام روائيينا عن تصويره للآجيال القادمة مثلما فعل عظماء الرواية الروس الذين وصفوا معاناة الإنسان في روسيا القيصرية بحيث أصبح متاحا لنا اليوم أن نعيشها ونحن نقرأ لهم. إن ما حدث جعلنا سكارى وما نحن بسكارى ولكن هول ما حدث جعلنا عاجزين حتى عن فهمه. حرب الجنوب. حكم العسكر. انهيار الاقتصاد. انهيار الاخلاق. اغتراب ملايين السودانيين في دول تعرضوا فيهاللذل والاحتقار من أجل لقمة العيش التي تشردوا من بلادهم بسببها. ما قامت به الجبهة الاسلامية من محاولة لمسخ ديانتنا الروحانية التصوفية وتحويلها لايديولوجية سياسية عمادها الكذب وأكل المال بالباطل. وأخيرا كارثة دارفور. نحن في حاجة لآعمال روائية توثق كل هذه الكارثة وتساعدنا في فهم كيف حدثت وتحاول أن تصف لنا العلاج. راويات تقوم بتحليل لوعينا ولاوعينا الجماعي وتشخص لنا ما هي الامراض النفسية التي ألمت بأمتنا وتصف لنا العلاج. أعتقد أن كاتب هذه الرواية له القدرة على أن يكتب عملا كهذا وأتمنى أن يقوم بذلك.
                  

10-18-2005, 02:51 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: محمد عثمان الحاج)

    العزيز عادل عثمان

    تشكر يا سيدي على الإهتمام و حقيقة هذا كرم كبير من الأخ حامد بدوي إذ يهدينا ثمرة طاعمة من ثمراته الطيبة دون كبير عناء أو جهد، فله الشكر مرتان مرة إن كتب و مرة إن أهدانا ما كتب.

    حامد إستعد لسهام النقد أنا جاييك و جاي لأخونا محمد عثمان الحاج


    مرتضى جعفر
                  

10-18-2005, 03:18 AM

ABU QUSAI
<aABU QUSAI
تاريخ التسجيل: 08-31-2003
مجموع المشاركات: 1863

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: محمد عثمان الحاج)

    يا أيادي الله .... حامد بدوي مرة واحدة كدا .... رفقة الشباب .

    تداعت ذكريات يا حامد ..... الحنينه السكرة و( بيت العقارب ) وشارع العرضة ... على السيد وأبوكنه وسنقد وعوض احمد طه والأطرش ود مالك وهاشم كرار ومروان عثمان والقدير عبد الرحيم وغيرهم كثر ، وقبلهم الرائعات في مراكز الوعي رقيه وسميرة وبدرية ونفيسه ونعمات ومريم وعديلة وغيرهن كثر، وكثيرا ما كنا نتحدث عنك وعن أيام مكة وجدة أنا والأخ محمود ، يا لله يا حامد بدوي . كيف عاملة معاك الدنيا .

    لك التحية وللأسرة الكريمة ألف ألف سلام .

    أبو قصي
                  

10-18-2005, 03:45 PM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    ******
    *****
                  

10-19-2005, 02:27 AM

ABU QUSAI
<aABU QUSAI
تاريخ التسجيل: 08-31-2003
مجموع المشاركات: 1863

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    حامد بدوي

    سلام وراجع بريدك الالكتروني

    أبو قصي
                  

10-19-2005, 10:20 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق العتيق أبو قصي,
    قطعا أنت صديق عتيق بدلالة تلك الإضاءات الغائرة في أعماق التاريخ الشخصي.. بيت العقارب وود كرار والمتعوس علي السيد.
    وقطعا لم يكن قصي قد شرف الوجود البشري ذاك الحين. إذن من أين أعرف أنا؟
    لقد نظرت في بريدي الإلكتروني قبل قليل ولم أجد شيئا. وللتأكيد إليك بريدي:
    [email protected]
    [email protected]

    وإليك أحر التحايا أيها القادم بالذكريات القديمة الحية إلى آخر العمر.

    حامد بدوي
                  

10-20-2005, 03:44 AM

ABU QUSAI
<aABU QUSAI
تاريخ التسجيل: 08-31-2003
مجموع المشاركات: 1863

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: حامد بدوي بشير)

    حامد بدوي

    راجع الهوت ميل بتاعك .

    صاحبك محمود حامد قال راجع من جدة لي مكة يوم جمعة البدوي بتاع التاكسي قال ليهو ( الزول منقهوجي ) . ومحمود دائما لا تحلو له الونسة إلإ في سيرة حامد بدوي ،
    لك وله خالص التحايا وهو طول معاكم في الخرطوم . ودا عشان لازم البوست دا يكون فووووق

    أبو قصي
                  

10-21-2005, 01:53 PM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الصديق العتيق كتي,
    شكرا على الإهتمام,
    أرسلت لك رسالة على بريدك الإلكتروني.
    اقد أعدت إلي زمانا رائعا . أرجو مواصلة المراسلة .

    حامد بدوي
                  

10-23-2005, 10:22 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    الأستاذ محمد عثمان الحاج,
    أشكر لك صبرك والمثابرة على قراءة الرواية.
    سرني أنك قد شعرت أن الرواية انتهت قبل الأوان. فأنا شخصيا مفتون بالروايات التي لا
    أريدها أن تنتهي وتتركني أتلمظ للمزيد.

    أنا ضد المقابلة المباشرة بين العمل الروائي وبين الواقع إذ أن الرواية واقع مواز ولكنه متخيل في جوهره.

    أعمل الآن في رواية تتفسح عبر المساحة الزمنية ما بين اليوم ولحظة أن ظهر المهدي في توق الناس فبان في ورق الشجر وبيض الدجاج. أرجو أن تروق لك حين تنشر.

    أشكر لك إهتمامك مرة أخرى.

    حامد بدوي
                  

10-24-2005, 09:47 AM

حامد بدوي بشير
<aحامد بدوي بشير
تاريخ التسجيل: 07-04-2005
مجموع المشاركات: 3669

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصول من رواية غير منشورة للصديق الكاتب حامد بدوي أو "مدينة النهر المينة (1)" (Re: Murtada Gafar)

    ********
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de