|
عبدالمحمود الكرنكي ..يعود بـ ...المحنـة الحزبية
|
عبدالمحمود الكرنكي - الانباء
قبل أن يتمّ حلّ حركة الإخوان المسلمين عام 1989م، وتسريح كوادرها بطريقة إذهبوا فأنتم الطّلقاء، كان الإخوان المسلمون يتنفّسون أكسجين المحنّة المذاب في الحركة الإسلاميّة!. قبل إذهبوا فأنتم الطلقاء، كان «الأخ المسلم» ينادي «أخاه» في الحزب والتنظيم بعبارة يا أخونا وأحياناً يا أخانا. في جلسات «التّعارف»، ووقفات التّعارف حول أكواب الشّاي، أو بدون أكواب الشاي، بعد أداء الصّلوات المكتوبة في جماعة، والفراغ من سنّة الباقيات الصالحات، كان يعمّ الصّمت الجليل، قبل أن تبدأ طقوس التّعارف: أخوكم في اللّه، فلاني الفلاني. وأحياناً تصحبها زيادة فتصبح عبارة التَّعارف أخوكم في اللّه إن شاء اللّه ... إلى ما شاء اللّه... فلان الفلاني! . باختصار كان الإخوان المسلمون «شايلين المحنّة»! .
كان ذلك قبل خسوف قمر الإخوان المسلمين بكثير، وظهور الوجه المظلم للقمر. قبل ظهور قرين» حركة الإخوان المسَّمى العدل والمساواة، ينشر في الأرض الحرائق والموت والخراب. من يصدق اليوم أن العدل والمساواة كانت تقف في منظومات التّعارف وتشارك في التّعارف : أخوكم في اللّه ... إن شاء الله.. إلى ما شاء الله! من يصدّق اليوم أن الفئة الباغيّة، كانت تتنفّس الأكسجين المذاب في محنة الحركة الإسلامية! . مثلما تندب «جوليا بطرس» باكية: وين الملايين؟ الشعب العربيّ وين؟ الشرف العربيّ وين؟؟. جرائم العدل والمساواة جعلت الحليم حيراناً، يقف على أطلال المحنة الحزبية يتساءل «الأخ المسلم» وين؟ ثمَّ ازداد قاموس المحنّة الحزبيّة ،ثراءً بعد يا أخونا ويا أخانا، فكان رواج كلمة يا مولانا ويا شيخنا. ثمّ أُسبغت الكلمة على البنوك والمصارف. فصار «بنك الخرطوم» «شيخ البنوك». بعد عقدين من الزمان بعد أن نزع التأميم الإشتراكي «برنيطة» باركليز، جاء من يضع على رأسه طاقية ياشيخنا. وذلك ريثما يتمّ بيع بنك الخرطوم «الشيخ». جاء بيع بنك الخرطوم، بعد أن لبس «البدلة» وخمج «القدلة» في لقب شيخ البنوك!. أيضاً في عهد المحنّة الحزبيّة القديمة، عندما كان الحزب الشيوعي يمشي في الأرض مرحاً، وقبل أن يصبح الحزب يسير على كرسي متحرك، كان الشيوعيون يتداولون يا زميل ويا زميلة. أحد القيادات الشيوعية عندما تمّ تعيينه وزيراً، قال له أحد كوادر الحزب في الوزارة ببراءة: يا زميل. فكان أن «هرشه» الوزير الشيوعي وحذّره من «مغبَّة» مخاطبة الوزير بـ يا زميل! حكى تلك القصة السيد الوزير. وحزبٌ من أحزاب أجدادنا القدماء، بعد أن عرف الناس الحبيب بورقيبة والحبيب الشطّي والحبيبالعائد، أصبح يتداول من باب المحنّة الحزبيّة مصطلح «الحبيب». دعاة الجندرة والمساواة يسألون هل يتداول ذلك الحزب أيضاً مصطلح «الحبيبة» ، أم هي أحزاب رجاليّة فقط؟ لكن يلاحظ أن «المحنّة الحزبيّة» تسقط سقوطاً مرعباً في إمتحانين. الإمتحان الأول هو إمتحانالتّعامل مع الآخر. أي من كان خارج القوقعة الحزبية والتنظيميّة. حيث يتمّ التعامل معه بجفاءوشراسة وقسوة كاملة ودموية إذا دعا الأمر. كذلك تسقط المحنّة الحزبيّة في الإمتحان الثاني، عند إنقسام الحزب. حيث تصبح المحنّة الحزبيّةكراهية كفيفة البصر. هكذا سقطت الأحزاب في امتحان العبور من الكهف الحزبيّ إلى الفضاء الوطنيّ والإنسانيّ. المحنّة الحزبيّة في حقيقتها صورة من صور المحنّة السّودانيّة، التي تفيض بها الثقافة الإجتماعيّةوالتربية العائلية المحافظة.
السودانيّون هم الشعب الوحيد الذي يقول: «أخوي» ود عمّي، و«أخوي» ود خالتي، و«عمِّي» ودعم أبوي، و«خالتي» بت خالة أمي،وعمّتي بت خال أبوي، وغيرها. مجتمع المشردين يعبّر عن المحنّة والإخاء بعبارة يافردة! يا قريبك! يا جستبة! يا عمّك!. أيضاً لا يُخاطب من كان أكبر سنّاً باسمه مجرّداً. في مجتمع المطاعم توجد يا ظريف يا أبوها يا أخينا يامعلّم. في الطرق الصوفية يا فقير يا مقدّم يا خليفة يا خليفة الخلفاء. ويتداولون هذه الأيام يا دكتور ويا بروف يا جنابو يا سعادتو يا زعيم يا عمدة يا باشا يا بطل ياكوتش. أمّا أمهات السودان فيتفوّقن علي كلّ الأمّهات في كلّ الشعوب، حيث يستخدمن لغةً ثروَى وقاموساًضخماً غنيّاً بالعاطفة والمفردات. مثل جناي. حشاي. وليدي. حبيب القسا وغيرها. أيضاً تتدرّج ألقاب الزوجة منذ العرس، من العروس إلى «الأولاد» و«الجماعة» حتى تصل لقالحاجَّة! . لكن هذا الشعب «الحنين» ما سرّ أن يخوض حروباً أهليّة مع ذاته نصف قرن؟ كيف يخرج منشعب متسامح اجتماعياً للغاية، مفعم بالأصول واللياقة والأدب والدبلوماسيّة، كيف يخرج من بينهبعض السياسيين، الذين بسبب إختلاف الرأي، يفجِّرون حرب داحس والغبراء في كلّ ركنٍ؟ لقد هزمتهم مركزية الذّات. تحدث الامام الغزالي في «الإحياء» مطوّلاً عن غريزة حبّ «الجاه»، عن غريزة هى جرثومة البلاءالسياسي.
الذين ينشرون الحرب الأهلية لم يضعوا جبال تكبّرهم تحت أودية تواضعهم. لم يدفنوا حبّ الجاه وحبّ الدّنيا وحبّ الذات فى «متربة» أهل الفناء. قال شاعر الثورة والتربية الصوفية أحمد ود سعد فى ذمّ حبّ الذّات: قالوا الكرام ياعبّنا...إن كان صحيح بتحبّنا...أمسك طريقنا ودربنا... في متربة أهل الفناء... أَحَفِرْ لها زِييين وأدفنها... لماذا تنقلب المحنّة الحزبيّة عداءً شرساً مع الأحزاب الأخرى؟ لماذا تصبح المحنّة الحزبيّة كراهية عمياء بعد إنقسام الحزب؟ لماذا يصبح «الحنين» مسيخاً، «مساخةً تقصّ الكَبِد» كما يقول الشيخ بابكر بدري!. بعض الإجابة نجدها في كتاب «الوثائق السياسية للعهد النبويّ والخلافة الراشدة»، والتي جمعها العلاّمة الدكتور محمد حميد اللّه «الحيدر أبادي». في هذا الكتاب خطابان أحدهما من مسيلمة والآخر جواب رسول الله «|». جاء في خطاب مسليمة الكذّاب إلى النبّي «|»: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه. سلام عليك. أمّا بعد. فإنيّ قد أُشركت في الأمر معك، وإنّ لنا نصف الأرض، ولقريشٍ نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوماً يعتدون. فكان جوابه صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة: بسم الله الرحمن الرّحيم من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذّاب: السلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد: فإنّ الأرض للّهِ يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين
|
|
|
|
|
|