خليل عبدالكريم يكتب عن السيرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 06:10 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-28-2005, 03:32 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
خليل عبدالكريم يكتب عن السيرة

    والجرى لصحابة آخرين


    لم يقتصر الجرى من وجه العدو على عمر بن الخطاب وبكره عبدالله والأموى عثمان بن عفان بل طال الكثيرين، منهم ذوو الأسماء اللامعة اللوامع: ( حدثنى داود بن سنان: سمعت ثعلبة بن أبى مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد، يومئذ حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به ) [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثانى ـ تحقيق مارسدن جونز ـ ص 764 ـ طبعة أولى 1965 ـ منشورات مؤسسة الأعلمى ـ بيروت ـ لبنان ـ سبق أن رقمنا أن هذا الخالد بن الوليد نافس العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم الرسول فى الإقراض بالربا ].


    ومنهم أبو هريرة الصحابى الذى اشتهر بكثرة التحديث ( رواية الحديث المحمدى ) عن ( صاحب البيان ) التى تصل لدرجة التشكيك فى مصداقية الأحاديث المروية عنه.


    ومنهم سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة، وهو ابن أم سلمة إحدى الزوجات الوضيئات الأثيرات لـ ( الأزج / الأزهر ):

    ( أم سلمة زوج النبى ـ ص ـ قالت لامرأة سلمة: مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ـ ص ـ ومع المسلمين؟، قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرّار، فررتم فى سبيل الله .. حتى قعد فى بيته فما يخرج ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 187 ـ طبعة أخبار اليوم ].


    هذا الخبر الذى أورده ابن إسحق والواقدى والاثنان من أميز المصنفات فى هذا المضمار يهدى إلينا عدة معطيات:


    1ـ أن الفرار من الزحف شمل حتى الفتيان أو الناشئة من الصحاب لأن سلمة بطل الواقعة هو صاحب ولاية عقد نكاح أمه هند لـ ( الراضى ) ويقول الإخباريون إنه وقت ذاك صبى لم يراهق. إذن هو يوم مؤتة لم يناهز الخامسة أو السادسة عشرة.


    2ـ أن اليثاربة ظلوا يعيرونه كلما خرج حتى ألزموه عقر داره ولم يبالوا أنه ابن بنت زاد الركب إحدى أجمل زوجات الرسول ومن احبهن إلى فؤاده.

    ونخرج منه أن تقديس الأشخاص لصلتهم بمحمد لم يعرفه المسلمون إبان ذاك إنما نشأ فيما بعد لأسباب سياسية ودينية.


    3ـ وجود رأى عام له دور فعال، يقوم بالإفصاح عن وجهة نظره بكل جراة وبمنتهى الشحاعة وبغاية الإقدام.


    إنما للأسف تقلص أو بمعنى أصح انعدم واختفى تمامًا بقيام الدولة المسماة الخلافة الأموية ومن بعدها الخلافة العباسية بعد ان تحالفت السلطة السياسية العليا والقُلّة الدينية ( الفقهاء ) واحتكرت المؤسستان كل الفضاءات: الحكم والدين والمال ـ وتركت القاعدة الشعبية مهمشة مهدورة الحقوق حتى الحق فى إظهار رأيها ـ

    واستمر هذا الوضع المأساوى لدى الشعوب الإسلامية ( عربية وأعجمية ) حتى يومنا هذا.


    4ـ أن ( البليغ ) لم يقمع الأثاربة ( منازيح ومستوطنين ) عندما انتقدوا فرار مؤتة بل حتى لم يمنعهم بطريقة رفيقة رقيقة من إعلان سخطهم لأنه لم ير فيه بأسًا، ولم يلف سندًا يخوله ردهم. وكل ما أقدم عليه طيّب خاطر الهاربين ـ وهذا ما سنتناوله فيما بعد.


    5ـ أم أم سلمة بعل ( الحجازى ) انزعجت لعدم حضور ولدها صلاة المسلمين.


    هل لوازع دينى؟. نعم بلا شك ـ بيد أنه ليس هو التحضيض اليتيم أو المفرد هناك بجانبه دافع سياسى هو: أن شهود المسلم إياها دليل على خضوعه لدولة بنى سخينة ( قريش ) وانضوائه تحت بيرقها ووقوفه تحت لوائها والعكس صحيح، ومن ثم خشيت هند بنت زاد الركب أن بكرها لمروره بلمحنة التى لاقاها فى وقعة مؤتة قد حاك فى صدره شئ وطفق يفكر فى التمرد والعصيان، وأول مخايله الإضراب عن التوجه إلى المسجد المحمدى الذى يعتبر بمثابة مقر الحكم ومركز السلطة، وهذا يرسخ ما كتبناه مرارًا، فيما سلف من أن قراءة سيرة ( المحمود ) بطريقة متأنية تنفح معطيات بالغة الثمانة شديدة النفاسة تساعد بدورها على إدراك بل وتفسير العديد من الأحداث المعاصرة وكيف أن لها جذورًا غوائر فى التاريخ.




    *******


    أنتم الكرار فى سبيل الله


    وكيما ندرك كثافة الصحبة الذى تفضلوا مشكورين وتصدقوا بأكتافهم على الروم ومن حالفهم من أوشاب القبائل، وبالمثل لكى ننقه مدى قوة الرأى العام فى أثرب إبان حياة ( خير من مشى على أديم الأرض ) والذى اضمحل ثم تلاشى على أيدى من انتسب إلى قبيلته قريش ( بنى أمية من بنى سفيان وبنى مروان ) أو من أرومته ( بنى العباس ) وغِبّ أن تحول الإسلام ـ شانه شأن سائر الأديان ـ من ثورة إلى مؤسسة:


    ( عن أبى بكر بن عبدالله بن عتبة يقول ما لقى جيش بعثوا معنا ما لقى أصحاب مؤتة من أهل المدينة، لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب أن يفتحوا له، يقولون ألا تقدمت مع أصحابك؟.


    فأما إن كان كبيرًا من أصحاب رسول الله ـ ص ت فجلس فى بيته استحياء، حتى جعل النبى ـ ص ـ يرسل إليهم رجلاً يقول أنتم الكرار فى سبيل الله ) [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثانى ـ ص 765 ].


    هذا الخبر يدل على أن الرأى العام الأثربى غدا فى عُرام الهيجان على الفارين حتى حولهم إلى عقائل فى إدبار دورهم لا يجرءون على مبارحتها ولا يقدرون على المروق منها ولا يستطيعون مغادرتها.


    ويقطع بأن صحابة أكابر من بين الهرّابين بلغ بهم الاستحياء ووصل بهم الخجل وشملهم العىّ لدرجة أنهم خنسوا عن لقاء ( الضارع / المتبتل ) إنما لأخلاقه الرفيعة ومحامده الوفيرة بادر من جانبه بإرسال من يطيب خاطرهم ويجبر كسرهم ويخبرهم أن ما فعلوه كر لا فر وتحرّف لا هروب، وميل لا زوغان وانعطاف لا دحور!!!.


    *******


    ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار


    مقدمة كتاب السيرة المحمدية التى هى أزكى السير، ننسخ ما يلى:

    ( وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: فررتم فى سبيل الله!!، فيقول رسول الله ـ ص ـ ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى ) [ السيرة المحمدية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 187 ].


    هذا الاستقبال الحافل الذى أعده بنو قيلة والمنازيح للصحاب الذين أطلقوا سوقهم الرعديدة يسابقون بها الدبور [ ريح تهدم البنيان وتقلع الشجر وهى القاصف والصرصر : المعجم المبتكر للتقوى ـ ص 188 ].


    استبقيناه واتينا به فى مؤخرة الفاصلة لأنه أجدر بختامها:

    لقد بلغت فوة الرأى العام أقصى مدى فهم التقوا فرار مؤته بالتراب يرمونه فى وحوههم ثم يجابهونهم بأقسى العبارات وأشدها إيلامًا وأبلغها جرحًا للمشاعر وشقًا للأحاسيس.

    والأبلغ أن جِماعه حدث فى حضرة ( الصادق / الصادوق )

    ولم ينههم، وفى علم الحديث أن هذه سنة إقرارية وتعنى وقوع فعل أمام ذاته الشريفة ولا يعترض عليه.


    إذن نخرج منه أن حق القاعدة الشعبية العريضة فى الإفصاح عن رأيها وإعلانه بالصورة المناسبة شرع تأكد بسنة محمدية إقرارية.

    بيد أن هذا الحق الطبيعى رحل إلى الظل ونقل إلى العتمة وغُيّب فى الظلام وتعاون على التعتيم عليه وتعاضد على إخفائه وشارك فى التضبيب عليه مؤسستان: السلطة السياسية أو الحاكمة والقلة أو الذروة الدينية ، فهما الإثنتان من مصلحتيهما أن تظل القاعدة الشعبية العريضة مخدرة وتبقى فاقدة الوعى.


    فالسلطة السياسية / الحاكمة يهمها أن تغدو الطبقة الشعبية معدومة الصوت، وقطوعة اللهاة، مبتورة اللسان حتى لا تزعجها بالمطالبة بحقوقها.

    والذروة الدينية تفضّل الشعب الأبكم والمحكومين الخرس والرعية الصامتة التى لا تحتج على انحيازها للحكام وممالأتها للسلاطين وتعاونها مع الطغاة.


    *******


    التفسيرات المُعْجِبة


    هذا موقف على قدر من الحروجة فمن ناحية ( الصالح / الصبور ) هناك قاعدة أصولية هى أن الفرار من الزحف إحدى الكبائر الوعرة والجزاء هو القرار فى قاع الجحيم، وبديهى أن الدافع على النص عليها أو تشريعها هو التحريم على أجناده الهروب من ميدان القتال وإلا ما تمكن من نشر الديانة التى جاء بها ولما استطاع دحر القبائل التى ترفض الديانة والانضواء تحت لوائه وهو يؤسس الدولة الحلم التى داعيت خيال جدوده قصىّ وهاشم وعبد المطلب.


    ( إن الإنهزام محرم إلا فى حالتين فقال: { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } هو الكر بعد الفرار يخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } إلى الجماعة ـ من المسلمين سوى الفئة التى هو فيها .... وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف فى غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر ) [ غرائب القرآن: للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 322 ].


    ويذهب الفقيه الحنفى أبو بكر الجصاص أن الثبات فى القتال وعدم الفرار من وجه العدو.........إلخ. ( كان ذلك فرضًا عليهم قل أعداؤهم أو كثروا ) [ أحكام القرآن ـ المجلد الثانى ـ ص 47 ].


    بل إن من يترك موقعه لينتقل إلى آخر فيه جمع من المسلمين دون مبرر فإنه اعتبر فى حكم الفار أو الهارب وليس متحرفًا أو متحيزًا إلى فئة وأنه قارف الكبيرة.

    ( أما إذا أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور فى قوله تعالى:{ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ} [ أحكام القرآن ـ المجلد الثانى ـ ص 48 ].


    هذه القاعدة التشريعية فى مضمار القتال والتى هى كما السيف الباتر خالفها عن عمد عدد من كبار الصحابة وأعداد وفيرة منهم وبعضهم اعترف لـ ( الخالص ) فما المخرج؟.


    لو طبق الحكم بحذافيره طال أولئك جميعهم وفيهم كما تَوَضّح أصحاب أسماء لوامع بالإضافة إلى الجم الغفير: ( وأقبلوا منهزمين فذاك: إذ يدعوهم الرسول فى أخراهم ولم يبق مع النبى ـ ص ـ غير اثنى عشر رجلاً ) [ صحيح البخارى ـ الجزء السادس ـ ص 48 ـ طبعة 1378هـ ـ كتاب الشعب بمصر ].


    منا تتهادى آية كريمة:

    { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }[ آل عمران 155 ].


    وهى خاصة بالذين فروا فى غزاة أحد: ( خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أُحدية.

    ثم قال: تفرقنا عن رسول الله ـ ص ـ يوم أحد .... إلخ )[ أخرجه الطبرى فى تفسيره 7/327 رقم 327 ].


    وأكده فى ذات الصفحة عند تفسيره لـ { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } يوم التقى جمع المشركين والمسلمين فى أحد، ثم أضاف " اختلف أهل التأويل الذين عنوا بهذه الآية فقال بعضهم: عنى بها كل من ولى الدبر عن المشركين باحد" [ المصدر السابق ].


    أما ابن كثير فقد سبق أن ذكرنا له تعبير عبد الرحمن بن عوف للأموى عثمان بن عفان عن فراره يوم أحد ورد الأخير عليه.

    فقال: كيف يعيرنى بذنب قد عفا الله عنه فقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ...... } [ تفسير ابن كثير ـ المجلد الثانى ـ ص 126 ].


    يؤكد القرطبى أنها بشأن الهاربين يوم أحد:

    ( والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر ـ رض ـ وغيره عن السدى يعنى من هرب إلى المدينة ... وقيل هى فى قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبى ـ ص ـ وقت هزيمتهم ) [ الجامع لأحكام القرآن ـ المشهور بتفسير القرطبى: لأبى عبدالله محمد بن أحمد القرطبى ـ المجلد الثالث ـ ص 1485 ـ دار الريان ـ د. ت. ].


    ثلاثة من كتب التفسير الشوامخ: الطبرى / ابن كثير / القرطبى، أطبقت على أن الآية الشريفة المذكورة بزغت لمناسبة الفرار من أحد.

    ذكرت الآية أن الشيطان استزل الفارين، ويفسر القاضى البيضاوى الاستزلال بأنه: " ذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتل قبل استخلاص التوبة والخروج من الظلمة". [ تفسير البيضاوى ص 93 ].


    وليس البيضاوى الذى انفرد بهذا التفسير المعجب بل نسخه أيضًا القرطبى. [ تفسير القرطبى ـ مصدر سابق ].

    ومن الطبيعى بل من البديهى أن ينسخ على نولهم ويقتفى خطاهم ويسير فى دربهم المفسرون المحدثون فيتبنون هذا التفسير الفطير:


    ( ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان فى الغزوة أنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ وسقطوا ) [ فى ظلال القرآن: لسيد قطب ـ المجلد الأول ـ الجزء الرابع ـ ص 497 ـ الطبعة الشرعية الحادية عشرة 1402هـ / 1982م ـ دار الشروق ـ القاهرة ].


    وهو ذات المنحنى الذى ذهب إليه صاحب ( الرحاب ):

    ( ...... تولوا فارين إنما أوقعهم الشيطان فى هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السايقة فإن الذنب الذى يفعله الإنسان يترك نقطة سوداء فى القلب فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء ) [ فى رحاب التفسير: لعبد الحميد كشك: الجزء الرابع ـ ص 730 ـ الطبعة الأولى 1408هـ / 1988 م ].


    *******


    أسطرة وتقديس الصحابة


    وصفنا هذا التفسير مرة بأنه مُعجِب والأخرى فطير ( غير ناضج ) لأنه غير مقنع ولا منطقى، فلو أن الشيطان ذكرهم بذنوبهم السوابق ففروا حتى تتم توبتهم ويخرجوا من مظالمهم، فإن الأقرب إلى البديهى أن يكفروا عنهم بنوالهم الأجر الجزيل والثواب الوفير بالثبات والمضى فى القتال ونصرة الدين الذى آمنوا به وشد أزر ( قائدهم محمد ) الذى بشرهم به، والاستشهاد فى سبيله ومعلوم لهم المنزلة التى يحظى بها الشهيد.


    هذا من ناحية ومن رجا آخر:

    هل الذين استمروا فى القتال ولم يولوا الأدبار خلاء من الذنوب العظيم؟.




    ومن ثالثة وأخيرة:

    من بين الذين أعطوا ظهورهم للمشركين وأصعدوا ولم يلووا: العدوىّ عمر، والأموى عثمان وغيرهما الأماثل المبشرون بالجنة.


    فهل ينطبق عليهم هذا الادعاء الفسيد ؟.

    وإذا جاءت الإجابة بنعم، فما هو حال عامة الصحاب الذين لم يدخلوا الإسلام إلا منذ عهد قريب؟.


    إذ معلوم أن عركة احد وقعت بعد النزوح من بكة إلى أثرب بثلاثة أعوام على الأكثر، أى أن غالبية من ثبت مع ( أبى القاسم ) فى العركة وهم من بنى قيلة لم يمض على إسلامهم سوى فترة يسيرة، فى حين أن العدوىّ والأموىّ عريقان فى اعتناق الديانة وانقضى على كل منهما أكثر من خمسة عشر عامًا.


    أليس من الأسهل والأوفق لتوجيهات الإسلام وأبسطها الجهر بالحق مهما بلغت مرارته أن يسطر أولئك المفسرون أن الجبانة والحرص على الحياة هما الدافعان اللذان وزا الفارين على الهروب؟.

    ويفسرون استزلال الشيطان لهم بدخوله إليهم من هذه الموالج.


    وهنا يتقدم سؤال على قدر من الأهمية:

    لماذا يسلك المفسرون قدامى ومحدثون هذا المنهج المعوج؟.


    فى رأينا أن باعثهم الحثيث عليه هو ما سبق أن رقمناه:

    عملية الأسطرة وإضفاء القداسات الزيوف والهالات المصطنعة على شخوص حقبة الفجر فهم لا يصح أن يظهروا فى هيئة الجبن ولا فى صورة الخوف ولا فى زى الرعدة ولا بمنظر الرعشة. بل هى شخصيات كاملة مثالية نموذجية لا يقرب منها شين ولا يمازجها عيب ولا يخالطها عوار.


    والحق أن المفسرين وأضرابهم من الإخباريين والفقهاء وأصحاب السير بعد أن غربت فترة التوهج والتألق والطزاجة نجحوا نجاحًا منقطع النظير فى أسطرة تلك الشخصيات، حتى إنها ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا لدرجة أن كاتبًا معاصرًا صدّر مؤلفه عن العدوىّ عمر بن الخطاب يالاستئذان فى الدخول !!.

    أرأيت لهذا الحد وصل التقديس وبلغت الأسطرة؟.

    مع ان الاستئذان فى القرآن العظيم باستثناء المماليك على أسيادهم والمحتملين من الأطفال على ذويهم لم يرد إلا فى حق ( الأعظم ) وحده دون غيره. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {58} وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {59}} [ النور 58، 59 ].


    والكاتب المذكور ينقهه أو من المفروض لأنه شيخ أزهرى وأنداده يردفون أسماءهم بعبارة ( من العلماء ).

    بيد أن الأسطرة التى استمرت ما يزيد على اثنى عشر قرنًا غسلت مخ المؤلِف وأنسته توجيهات الذكر الحكيم فى نطاق الاستئذان.


    إن الذى يثير الاستغراب ويستنفر الذهن ويحض عل التعجب أن الكاتب انطلق من أرضية تبشر باستنارة واعدة ولكنه نكص على عقبيه بل تبرأ من فاتحته!!.


    نفحنا القارئ هذا المثال لنبرهن له على مدى تأثير الأسطرة، لأنها على المسلم العادى أشد وقعًا وأعمق فعالية وأوعر غورًا وأمر حصادًا.

    ومن البديهى أن نؤكد أن زحزحتها سواء بالنسبة إلى النصوص الثوانى أو الأشخاص مهمة ثقيلة بيد أنها ليست مستحيلة كما نقدر وغيرى من البحّاث المفكرين ممن يسيرون معى أو أسير معهم فى ذات الاتجاه.


    *******


    مقارنة بين القرآن والنصوص


    هذه النقطة وهبتنا فرصة لنجرى مقارنة بين منحى البشرى ونعنى القرآن المجيد ومنهج النصوص الثوانى وفى مقدمتها التفسير والفقه، فالأول جاء صريحًا مباشرًا مفتوحًا:

    فرار واستزلال من الشيطان ثم عفو من الله جل جلاله لأنه غفور رحيم، غفر للهرابين ضعفهم البشرى وتغلب غريزة حب الحياة عليهم....إلخ.


    أما الآخر " منهج النصوص الثوانى" ونعنى تفسير المفسرين فاتسم وما زال باللف والدوران والتعمية والتغطية والتغبيش والتضبيب والأدلجة.


    ونذكّر القارئ هنا بما زبرناه فى المقدمة فى " السفر الأول" عن الفرق بين القرآن الذى حفظه الصحب فى صدورهم والقرآن الذى دُون و عُرِف فيما بعد بـ " مصحف عثمان" ونكرر أنه لا خلاف فى السور والآيات إنما فى التلقى والاستقبال والتعامل.


    الأول شفوى والآخر مسطور وليرجع القارئ إلى ما حررناه آنفًا فى هذه الخصوصية لأن المراجعة سوف تزيده فهمًا لما نؤم وإدراكًا لما نقصد ونقهًا لما نبغى ووعيًا بما يزيد.


    الخلاف بين الاثنين يتمثل فى الغاية التى استهدفها كل منهما.

    فالذكر الحكيم رمى إلى معالجة لحظات الخذلان وساعات الخور وأوقات التضعضع التى تضرب نفوس البشر عندما يمرون بامتحان عسير واختبار وعر وفتنة عمياء، أما خربقات المفسرين التراثيين والمعاصرين فتنزع إلى التبرير الفج والتسويغ البائخ والتجويز المسيخ، لماذا؟.


    لأن عددًا من أولئك الهاربين فى نظرهم لا يتعرضون للوهن ولا يعتريهم الغلط ولا يجوز عليهم الخطأ.


    مع أن ( سيد ولد آدم ) قال كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) [ رواه الترمذى وابن ماجة والحاكم فى المستدرك عن أنس ين مالك ].

    ثم نرجع إلى سياق الدراسة:




    *******

    وهروب آخر فى حنين


    فى غزاة حنين التى وقعت فى السنة الثامنة ولّى الصحاب البررة مدبرين ولم يبق مع ( المزمل ) إلا نفر قليل فى مقدمتهم أهل بيته وعلى رأسهم أبو تراب وأيضًا أسامة بن زيد ( الحب ابن الحب ) وأيمن ابن أم أيمن ( ظل صامدًا حتى استشهد ) بالإضافة إلى التيمىّ عتيق والعدوىّ ابن الخطاب ( لعله أراد أن يكفر عن خطيئته بوم أحد ).


    هناك العديد من كتب التراث التى يضعها المسلمون فى أعلى محل تؤكد أن الذى بقى مع ( صفوة الكائنات ) اثنان فحسب عمه العباس وابن عمه أو سفيان بن الحارث. [ تفسير البيضاوى، تفسير الجلالين، الكشاف على سبيل المثال ].


    وعدد الصحاب الميامين الذى خرجوا للقاء هوازن عشرة آلاف ودعك من الألفين من الطلقاء من أهل قرية التقديس الذين أسلموا بعد فتح الفتوح: ( ثم خرج رسول الله ـ ص ـ ومعه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة، فكانوا اثنى عشر ألفًا ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 277 ـ طبعة اخبار اليوم / الفصول فى اختيار سيرة الرسول ـ ص ـ تأليف الحافظ أبى الفداء إسماعيل ابن كثير 701/774 هـ تحقيق وتعليق محمد العبد الخطراوى وآخر ـ الطبعة الأولى ـ 1420هـ / 1999م ـ ص 182 من منشورات: مؤسسة علوم القرآن ـ دمشق ـ بيروت ـ ودار القلم ـ دمشق ـ بيروت ].


    قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله ـ ص ـ واختلفوا فى عدد عسكر رسول الله ـ ص ـ فقال عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفًا، وقال قتادة: كانوا اثنى عشر ألفًا: عشرة ألاف الذين حضروا مكة وألفين من الطلقاء. وقال الكلبى: عشرة آلاف. وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ). [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير: لفخر الدين الرازى ـ المجلد السابع ـ ص 614 ـ طبعة دار الغد العربى ].


    ويؤكد أبو البركات النسفى هذه الأعداد إن فى جانب تُبّاع ( أول من تنشق عنه الأرض ) أو بالنسبة لعدوه: ( حنين واد بين الطائف ومكة كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفًا بين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ... ) [ تفسير النسفى لأبى البركات عبدالله النسفى ـ لجزء الثانى ـ ص 122 ـ د.ت. دار إحياء الكتب العربى بمصر ].


    وملأ الزهو نفس ابن أبى قحافة لما نظر إلى ذلك الجيش العرمرم " فقال أبو بكر: لا نُغْلَب اليوم من قِلّة" [ الطبقات الكبرى: لابن سعد ـ الجزء الثانى ـ ص 200 ـ طبعة 1358هـ ـ سلسلة التاريخ الإسلامى ـ لجنة نشر الثقافة الإسلامية ـ مصر ].


    نلحظ أن ابن سعد كاتب الواقدى وصاحب الطبقات وله مقام مشهود بين كُتاب السيرة المحمدية التى يؤكد كل سطر فيها عبقرية صاحبها وطبقاته من أميز الكتب فى هذا المجال ـ ذكر قالة التيمىّ أبى بكر بصيغة التأكيد، بيد أن أحد الكتبة المحدثين عندما نقلها أوردها بصيغة التمريض والتوهين والتهزيل " قيل" : " قيل إن أبا بكر الصديق: .. قال: ... إلخ" [ فقه السيرة: لمحمد الغزالى ـ ص 409 ـ الطبعة الثامنة ـ 1402هـ / 1982 م ـ دار الكتب الإسلامية بمصر ].


    لماذا فعلها الغزالى. ليُفْرِخ فى ورع قارئه أن التيمىّ من المستحيل عليه أن يداخله الزهو أو يخالطه الغرور أو يمازجه الافتخار وأن هذه العبارة دُسّت عليه ولم يقلها، متجاهلاً أن ابن سعد وهو من هو أوردها مؤكدة دون تشكيك. .


    وكيما ينزع عن أبى بكر حقيقته التاريخية وصفته البشرية وطبيعته الآدمية فهو ليس كغيره من الناس فلا يزهو ولا يغتر ولا يتفاخر.


    إنه منهج أسطرة الأشخاص وإضفاء الهالات عليهم ونفحهم القداسات الذى استمر قرونًا ممدودة حتى غدوا فوق الزمان والمكان .... إلخ.

    وما زال المسلم ينظر إليهم هذه النظرة التجريدية اللا تاريخية .. ثم عود إلى سياق الدراسة.


    *******

    القرآن يوثق الهروب


    أولئك الألوف من الصحابة ما إن هجم عليهم فرسان هوازن حتى أخذوا يسابقون الدبور ( الريح فائقة السرعة ).

    ( فكان أنس بن مالك يحدث يقول: فلما تحدرنا فى الوادى فبينما نحن فى غلس الصبح، أن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادى وشعبه فحملوا حملة واحدة فانكشف أول الخيل ـ خيل سليم ـ مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شئ.


    قال أنس: فسمعت رسول الله ـ ص ـ وإلتفَتَ عن يمينه ويساره والناس منهزمون وهويقول: يا أنصار الله ... يا أنصار رسوله ... أنا عبدالله ورسوله ). [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثالث ـ المجلد الخامس ـ ص 897، 898 ].


    ولم يثبت مع ( صاحب القدر الرفيع ) إلا أولئك النفر الذين ذكرناهم وسجل القرآن العظيم هذا الهروب الكبير أو الفرار الجماعى الذى حققه هذا العدد الهائل من المرات القليلة فى التاريخ ولكن بقوله: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة 25 ].


    وليس هناك ما هو أشد توثيقًا من آى الذكر الحكيم.

    { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.. } والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا فى الأرض ذات الطول والعرض موضعًا يصلح لهزيمتكم وكانما ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أى انهزمتم انهزامًا. [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 422 ].


    وهو ما زبره الزمخشرى فى ( كشافه ): فانهزموا حتى بلغ فلّهم مكة ... { بِمَا رَحُبَتْ } أى مع رحبها .. والمعنى: لاتجدون موضعًا تستصلحونه لهربكم إليخ ونجاتكم لفرط الرعب فكانها ضاقت عليكم، { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتهم، { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا بها،{ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين انهزموا. [ الكشاف للزمخشرى 467/538هـ ـ المجلد الثانى ـ ص 182 ـ د.ت. ـ دار المعارف ـ بيروت ـ لبنان ].


    ولقد سجلت الآية الشريفة موقف التباهى الذى اعترى عتيق بن ابى قحافة { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ولا يقدح فى وجهة النظر هذه لان اسم أبى بكر لم يرد فيها فالقرآن المجيد درج على محو أسماء الأشخاص والأماكن والأزمان عندما يتناول سرد أى حادثة. [ الاستثناء الوحيد هو ذكر اسم زيد ابن حارثة ورقمناه فيما سبق علته، وكذا ذكر حنين فى الآية الخامسة والعشرون من سورة التوبة ] . كيما تتسم آياته بالتعالى والتسامى والتجريد، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى: ولو انها أقل أهمية وأخفض قيمة وأضعف قدرًا من الأولى أن إثبات أسامى الأشخاص قد يحرج إحساس المذكور لو جاء فى معرض الحرج أو الوهن أو الضعف. أما لو اتى فى مجال الإشادة والثناء الجميل والذكر الحسن فمن ورد اسمه قد يداخله الإعجاب بذاته، وغيره ينفسه عليه ويغار من والذكر المحكم ( السور والآيات ) حريص على أن تظل نفوس الصحابة راضية وقلوبهم مطمئنة وصدورهم منشرحة.

    كيف لا؟ وهم العدة فى نشر الديانة والسلاح لتوسيع رقعة الدولة.


    وقبل أن نغادر هذه النقطة لغيها نقارن بين منحى القرآن الكريم الذى وقت ذاك ما زال شفويًا أومكنونًا فى الصدور ولم يسوّر عليه بين دفتى مصحف عثمان الأموى وبين تلاعبات المفسرين الذين عاشوا على هامشه.


    فقد رقم أحسن الحديث حالة العنجهية والخنزوانة والتشامخ التى صربت الصحابة والتى عبر عنها كبيرهم عتيق بن أبى قحافة التيمىّ حينما رأوا كثرة العدد وأكدوا نصرهم على عدوهم.


    أما الكاتب الذى نسخنا اسمه فيما سلف فقد نقلها بصيغة توحى بعدم الوقوع وتشى باستحالة الحدوث وتشف عن استبعاد التشيؤ، وهو مثل لما فعله سلفه الصالح ويفعله أنداده المعاصرون وهذا هو الصادع الذى يفصل بين الصدق والتفتح والطهارة، وبين اللف والدوران واللولبة والالتواء، وإذ أردفت أو أضيفت ( النصوص الثوانى ) على حواشى أو هوامش النصوص المقدسة الأصلية وانتسبت إليها نالها قدر من التقديس آنا كبير وحينًا صغير وبالتقدم الطويل يترسخ ذلك.


    وليس مصادفة أو خبط عشوائى أن عددًا وفيرًا من التفاسير خاصة التراثية تدون وتطبع على جوانب المصحف الكريم، بل إن هذا العمل ما زال مستمرًا حتى الآن. [ انظر على سبيل المثال السريع " التفسير الميسر" لرئيس مؤسسة شئون التقديس الشيخ محمد سيد طنطاوى ـ والأمر الذى لا يخفى على الفطن معناه أنه مطبوع بـ " مطبعة المصحف الشريف بالأزهر" ـ أ.هـ. ].


    وهى ( النصوص الثوانى ) غدت ـ لعدة عوامل ـ لا مجال هنا لذكرها ـ واسعة الانتشار قريبة المنال بل فى راحة اليد.

    ومن هنا يصبح تأثيرها على القارئ العادى أو حتى المثقف أشد غورًا وأعمق شقًا وأنفذ مفعولاً وهذا أحد الروافد المهمة فى تكليس العقول وتحجيرها وتنفيرها إلا من الثقافة الضيقة أى التقليدية المغلقة على نفسها.


    *******


    التنزيل هو الحل


    بفرار عشرة آلاف صحابى وتوليهم وجريهم لا يلوون على شئ تخلقت أزمة من الوزن الثقيل إذ كيف يُسم هذا الحجم الغفير وفيهم مرازبة جحاجح وسادة غطاريف ونُجُب أسياد: منازيح وابناء قيلة بهذه الكبيرة الباهظة والإثم الفظيع والخطيئة الغليظة؟.


    أولاهما: معنوية وهى الحكم على هؤلاء جميعهم بأن غضب الله تعالى نزل عليهم وأن مأواهم جهنم وبئس المصير.

    وآخرهما: مادية وهى لا سبيل إلى الاستعانة بهم وحتى معاملتهم، إذ كيف تستعين بهُرّاب فُرّار تولوا يوم الزحف وينتظرهم المآل المحتوم إلى النهاية؟.

    فإذا تم فكيف ومتى وأنّى يمكن تعويض العشرة آلاف؟.


    فهنا يأتى دور ( الحبل / القرآن ) فيتفضل بتقديم الحل فتهلّ الآيات الكريمات : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {27} } [ التوبة 25 ـ 27 ].


    فهنا نزلت السكينة من السماء على الذين منحوا أكتافهم العريضة لعدوهم الذى لم يصل إلى ثلث عدتهم أى الذين أمعنوا فى الفرار والجرى حتى وصلوا مشارف مكة مع أنهم فى بدىّ الأمر انتصروا فما إن لمحوا الغنائم الجزيلة، حتى ألفوا أسلحتهم وطفقوا يجمعونها فعاد إليهم فرسان هوازن وهجموا عليهم ثانية، فما إن شعر الصحاب البواسل بعودة الهوازيين إلى الطعان حتى منحوا سيقانهم للريح وحدّس الطليق أو الطلقاء الأموى سفيان بن حرب ألا شئ سيوقفهم من غلإدبار إلا ساحل الحر، أى على أولئك الشجعان المغاوير الذين تركوا قائدهم وسيدهم مع نفر قليل من الثابتين.


    ( واذكر { َيَوْمَ حُنَيْنٍ } واد بين مكة والطائف { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فقلتم لن نُغلب اليوم من قلة وكانوا اثنى عشر ألفًا والكفار أربعة ىلاف { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أى مع رحبها أى سعتها فلم تجدوا مكانًا تطمئنون إليه لشدة ما لحقكم من الخوف { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } منهزمين { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } طمأنينته ) [ تفسير الجلالين ـ تصحيح ومرتجعة: محمد صادق قمحاوى ـ ص 156ـ د.ت. ـ مكتبة الجمهورية العربية بمصر ].


    بيد أنه من الجائز أن يعترض قارئ قائلاً: إن السكينة التى نصت عليها الآية الشريفة المذكورة حددت من نزلت عليه { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }، والذين ولوا مدبرين من المستحيل أو حتى من الصعب وصفهم بالإيمان ومن ثم فهى لا تعمهم؟.


    بيد أن المفسرين أو للدقة التى نحاول أن نتحراها فى كل بحث أو دراسة: عددًا منهم اكدوا أن السكينة ضمت الذين ثبتوا والفُرّار.

    { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا وأمنوا.

    { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله حين وقع الهرب. [ غرائب القرآن: للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 422 ].


    والقاضى البيضاوى يعاضد القمى النيسابورى فى هذا المذهب:

    ( { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } برحبها أى سعتها لا تجدون فيها مقرًا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. { ثُمَّ وَلَّيْتُم } الكفار ظهوركم. { مُّدْبِرِينَ } منهزمين والإدبار الذهاب إلى الخلف، خلاف الإقبال .. { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا بها وآمنوا. { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين انهزموا ) [ تفسير البيضاوى ص 251 ].


    أما القرطبى فيذكرها بطريقة ضمنية:

    ( قوله تعالى: { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أى أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم حتى اجترءوا على قتال المشركين ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد الخامس ـ ص 2940 ].

    فإذهابه الخوف وإعادة الجرأة على القتال التى فسر بها السكينة كلها لا تنال إلا الهرابين الذين ركبهم الفزع وعمهم الهلع وإمتطتهم اللشلشة.

    وبمفهوم الموافقة فإن إنزالها من السماء يعنى العفو والمغفرة والصفح عن كبيرة والاكتفاء بعتاب رقيق هادئ ولفت نظر بسيط بعدم الاغترار بكثرة العدد.


    وهكذا انحلت عقدة هزيمة الصحب فى مفتتح غزوة حنين وهربهم من وجه عدوهم وعاد الهدوء إلى ( الأعز/ الأعظم ) واعترى صحبه سرور عارم لا بالتجاوز عن الكبيرة التى ارتكبوها فحسب، بل لنوالهم غنائم جزيلة لم يحصلوا عليها فى أى غزوة انتصروا فيها.

    ولا شك أن تقسيم الغنائم على الجميع دون تفرقة بين من ثبت مع ( الغوث ) ومن ولىّ الإدبار يدل على صحة تفسير أن السكينة التى وردت فى الآية الكريمة جاءت عامة ولم تخص أولئك الأبطال المغاوير الذين ظلوا يقاتلون ولم يهربوا.


    *******


    الخلاصة


    يبين من جِماع ما تقدم أن الأساليب تنوعت والوسائل تباينت والطرق تعددت فى كف الصحابة عن الجبانة ونهيهم عن الرعشة أو الارتعاش وتنفيرهم من الخور، وبالمقابل حضهم على الشجاعة وترغيبهم فى الثبات ودفهم إلى البسالة.

    فمرة: يقال لهم إنها زلة شيطانية وقد عفا الله عنها إذ هو الغفور الرحيم.

    وأخرى: يقال عكّارون لا فرّارون وإن ما بدر منهم مجرد تحرّف فى القتال وتحيّز على فئة وذكر لهم ( الأمين ) وهو الذى لا ينطـق عن الهوى ( أنا فئتكم ) أى أن هروبهم حتى يثرب هو انحياز إلى قومهم وهو على رأسهم، وسبق أن رقمنا أن لهم عذرهم لأن جيش العدو خمسون ضعفًا.

    وثالثة: ينزل السكينة عليهم فينعطفون على المشركين ويهزمونهم.


    هذه الأساليب المتنوعة، كما نلاحظ، الهدف منها التربية، إذ راعت كل حالة وقدرت كل ظرف و وزنت كل نازلة.

    وهكذا يثبت الذكر الحكيم أنه دائمًا مع ( الموقر ) وجماعة المؤمنين لا يغفل عنهم خاصة فى المحن والشدائد والأزمات.


    *******


    3ـ إلجام التُبّاع عن الاندفاع نحو المُتع الحسية


    مدخل

    تناولنا بالدراسة الموضوعية ـ فيما سبق ـ اشتعال غريزة الجنس فى ذاك المجتمع لدى الذكور والإناث دون تفرقة وسردنا أسبابه ولا نرى داعيًا للتكرار. [ انظر كتابنا ( مجتمع يثرب ـ العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى ) دار سيناء ومؤسسة الانتشار العربى ـ بيروت ـ وقد طبع مرتين ].


    وقد عانى ( أذُن خير ) الأمرين وهو يقوّم اعوجاج التُبّع فى هذا المجال وتربيتهم على السيطرة على نوازع الحسّ وتعليمهم التسامى بتلك الغريزة.

    وكما تعودنا لم يذره " أحسن الحديث" يحارب فى هذه المعركة الشرسة منفردًا بل وقف إلى جنبه يؤازره ويعاضده.


    السلوكيات الفلوت والتصرفات الطائشة والأفعال المنحرفة التى صدرت من عدد من التُبّع جاءت متنوعة، بيد انها تشى بغلبة دوافع الجسد وسيطرة الغريزة وقوة الشهوة التى تصل فى احيان كثيرة إلى درجة الشبق، لأن الذى يُقدم على اغتصاب مَرَة أخيه وهو يعلم علم اليقين أنه خرج مجاهدًا فى سبيل ذات الديانة التى يعتنقها هو بل وربطته بالزوج الغائب آصرة قوية، نقول إن هذا الشخص هيمنت عليه الغريزة وحولته من غنسان إلى حيوان أبجر. [ هو من امتلأت بطنه ولم يشبع ـ ورجل أبجر ومَرَة بجراء " المعجم الوجيز" أى بلغت به النهامة "إفراط الشهوة" أقصى حد ].


    ( أخرج الترمذى والنسائى والبخارى فى تاريخه والواحدى عن أبى اليسر قال: أتتنى امرأة تبتاع تمرًا، فقلت إن فى البيت تمرًا أطيب منه، فدخلت معى البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب، فأتيت عمر فذكرت ذلك له، فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا، فلم اصبر فأتيت رسول الله ـ ص ت فذكرت له فقال: أخلفت غازيًا فى سبيل الله فى أهله بمثل هذا، حتى انه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن انه من أهل النار.


    قال وأطرق رسول الله ـ ص ـ حتى أوحى الله إليه: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود 114 ] ). [ المقبول لأبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 408، وأضاف المصنف: أورده الخطيب فى تاريخ بغداد والطبرانى فى الكبير والواحدى فى أسباب النزول ووصف إسناده بأنه حسن، وكذلك لباب النقول للسيوطى ـ ص 102 وأضاف: وورده نحو من حديث أبى إمامة بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم ].


    أما الواحدى النيسابورى فقد أكد علم أبى اليسر أن المَرَة زوجة أحد أجناد البعوث " السرايا" وأنه لما قص حكاية فعله المخزى على ( البشير ) قال له على الفور خُنت رجلاً غازيًا فى سبيل الله بهذا. [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 180، 181 ].


    إن هذا الأبا اليسر ليس هو الفارس الوحيد فى هذا المضمار فثمة تمّار آخر يرتكب الفُحش ذاته:

    ( أخرج الثعلبى من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس فى قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران 135 ]، قال: هو نبهان التمار، أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرًا، فضرب عجيزتها، فقالت: والله ما حفظت غيبة اخيك، ولا نلت حاجتك، فسقط فى يده فذهب إلى النبى ـ ص ت فأعلمه، فقال: إياك أن تكون إمراة غازٍ؟ فذهب يبكى ثلاثة ايام يصوم النهار ويقوم الليل فأنزل الله عز وجل فى اليوم الرابع هذه الآية، فأرسل إليه فأخبره، فحمد الله وأثنى عليه وشكرهة وقال: يا رسول الله هذه توبتى فكيف لى بأن يقبل شكرى؟ فأنزل الله عز وجل: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [ هود 114 ].


    عندما نؤكد أن هذا المنزع يتجاوز التصرف الذاتى ويكاد يتحول إلى ظاهرة اجتماعية، فليس فى هذا اقل مبالغة، قهذا أحد الصحبة الميامين يقارف نفس الخطيئة ولا يكفى بالتقبيل كأبى اليسر أو بالتحسيس باليد على العجيزة المكتنزة للمَرَة المشترية إمرأة أخيه الغازى مثل ما اقدم عليه نبهان التمّار، إنما اوعر منه لولا أن همته لم تسعفه ومذاكيره خذلته ورجولته خَنَسَتْ عنه.


    ( أخرج الإمام أحمد والبيهقى والبزار وغيرهم أن رجلاً من أصحاب النبى ت ص ت كان يهوى امرأة فاستأذن من النبى ـ ص ـ فى حاجة فأذن له فانطلق فى يوم مطير فإذا بالمرأة على غدير فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة، ذهب يحرك ذكره، فذا هو هُدبة، فقام فأتى النبى ـ ص ـ فذكر له ذلك، فقال النبى ـ ص ـ صل أربع ركعات، فأنزل الله تبارك وتعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [ هود 114 ] ). [ المقبول للأزهرى ص 407 ].


    وذكر المصنف أن الهيثمى قال عنه فى الزوائد: رجاله رجال الصحيح وأن الخطيب رواه فى تاريخ بغداد و العراقى أورده فى تخريج الإحياء ( يعنى تخريج احاديث إحياء علوم الدين للغزالى ) وعزاه له ابن مردويه بإسناد جيد ووصفه المصنف الأزهرى بأنه صحيح.




    *******


    المُغَيّبات ظاهرة عامة


    فى كتابنا " مجتمع يثرب" نسخنا أن " المغيبات" أى زوجات الذين يجندون فى الغزوات والسرايا والبعوث شكلن معضلة اجتماعية لأنهن صيد سهل للرجال الباقين فى أثرب وهم وهن حديثو عهد بالإسلام وغرائزهم ملتهبة ذكورًا وإناثًا وجِماعه دعا ( المدثر ) إلى إصدار أحاديث تشدد على نهى التماس بهن، بيد أن طغيان الغريزة التى هى بطبيعتها مشتعلة عندهم والملابس التى يرتدونها والأخبية والخيام وحتى مبانيهم الساذجة البدائية كلها ساعدت على سهولة الالتقاء.


    ولذا ألفينا فى غالبية الحوادث التى هى على هذه الشاكلة أن النسون اللائى تم التحرش بهن أو اغتصابهن هن بعلات عساكر الغزو.


    وإذا إتضح من الأخبار المتقدمة أن ضمير الرجل أو المرأة قد استيقظ، فالأدنى إلى المنطق والأقرب إلى طبائع الأمور أن هناك العشرات من اللقاءات تمت سرًا ولم يبلغ عنها أطرافها: رَجَلة (= جمع رجل ) أو نسوة بل لقيت من الجميع الرحابة والانبساط.

    ( ..... عن ابن عباس أن رجلاً لقى عمر فقال إن المرأة جاءتنى تبايعنى فأدخلتها المولج فأصبت منها كل شئ إلا الجماع، فقال ويحك لعلها مُغيب ( أى زوجها ) فى سبيل الله قلت اجل، قال إئت أبا بكر: فقال ما قال لعمر ورد عليه مثل ذلك، وقال: إئت رسول الله ـ ص ـ فسله فأتى رسول الله ـ ص ـ فقال مثل ما قال لأبى بكر وعمر. فقال رسول الله ـ ص ـ لعلها مُغيب فى سبيل الله ، فقال: نعم، فسكت عنه ونزل القرآن: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }. فقال الرجل: إلى خاصة رسول الله أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا ولا نعمة عين ولكن للناس عامة، فضحك رسول الله ـ ص ـ وقال: صدق عمر ). [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ـ ص 181 ].


    إن تكرار سؤال ( الأزهرى ) والتيمىّ والعدوىّ / الرجل: لعلها مُغيب فلا سبيل الله أى لعل زوجها غائب عنها فى غزاة أو سرية أو بعث؟ يشى بإدراكهم العميق لأبعاد هذه المشكلة الاجتماعية، وأنها لم تعد حالات فردية بل ظاهرة عامة.


    عندما قرأت الخبر تعجبت لجرأة عمر، فالرجل يتوجه بسؤاله إلى ( سيد الكائنات ) هل الآية تخصه أم تعم سائر التُبّاع؟ فإذا به أىّ العدوىّ لا يلزم غرزه ولا يقف عند حده، ولا ينتهى عند موقعه ... فيسرع بالإجابة: إنها لكل الناس ولم نعهد فى غيره من التُبّع من يقدم على مثل هذا الصنيع.


    *******


    توثيق بالتفاسير


    بعدها نأتى على التفاسير:

    { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } قال المفسرون نزلت فى أبى اليسر عمر بن غزية الأنصارى كان يبيع التمر فأتته امراة فأعجبته، فقال لها إن فى البيت أجود من هذا فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبضها وأصاب منها كل ما يُصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ثم ندم، فأتى رسول الله ـ ص ـ فأخبره بما فعل فقال انتظر أمر ربى، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت، فقيل له هذا له خاصة أم للناس عامة فقال: بل للناس عامة ) [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ الجزء السادس ـ ص 25، 26 ].


    وفى تنوير المقباس:

    ( نزلت فى شأن رجل تمار يقال له أبو اليسر بن عمر ) [ تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ص 125، 146 ].


    ويؤكد صاحبا تفسير الجلالين أن الحديث رواه الشيخان:

    ( نزلت فيمن قبل أجنبية فاخبره ـ ص ت فقال إلىّ هذا فقال: لجميع أمتى، رواه الشيخان ) [ تفسير الجلالين ص 192 ].


    وسبق أن أوضحنا ما تعنيه كلمة " الشيخين" فى دائرة علم الحديث، أى البخارى ومسلم وإذ إنهما يتربعان على قُلّة ( ذروة ) الصحاح الستة فإن الحديث الذى يتفقان عليه يغدو الطعن فيه من الصغار الذى لا يليق.


    الخبر الذى وضعه فى حجورنا القمى النيسابورى ينبغى لنا قراءته بحرص شديد، فبعدما سمع ( خير قرابين الله ) القصة من التمّار الشبق الذى لم يراع أى حرمة، رد عليه بقوله ( انتظر أمر ربى ) أى أنه على يقين كامل أن السماء لن تدعه يواجه هذا الموقف بمفرده خاصة أن الممارسات الجانحة تكررت وتحولت على ظاهرة.


    وإن المرء ليعجب أشد الإعجاب بحلم ( خير من وطئ الأرض ) وصبره، فهو عندما سمع تلك الحكاية المخجلة خاصة أنها مورست مع مُغيبات ورغم نهيه الباتر كما السيف الصارم عن الاتصال بهن بأى صورة، ولأى ظرف لم ينفعل، ولم يعنف مرتكبيها، ولم يوجه لهم كلمة عتاب، ولا نسطر كلمة لوم. لماذا؟.


    لأنه من ناحية: يدركه عرامة غزيرة الاتصال بالآخر لديهم ذكورًا وإناثًا وأنهم لم يعتنقوا الديانة التى بشر بها سوى قبل قليل وانهم ( مرتكبى التصرفات الفلوت ) الاحتياطى أو الرديف الذى من أقرب الاحتمالات تجنيده فى الغزوات والسرايا والبعوث، فلو قسا عليهم فسوف يترك ندوبًا فى قلوبهم أو صدورهم تدفعهم إلى التباطؤ وتحثهم على التراخى وتحضهم على التكاسل.


    ومن رجا آخر: ليس من الحصافة التهويل بشأنها لأنه سوف يوزّ عساكره فى السرايا والبعوث .. إلخ، على الانسحاب ويشجعهم على التخلى ويغريهم على الاستقالة لأنه مهما بلغت مغريات الجهاد من مغانم وأسلاب وانفال فى الدنيا، وحور عين وولدان مخلدين وانهار خمور وعسل ولبن فى الآخرة، فإنها لا تعوض الواحد منهم ـ نزولاً على موجبات مجتمعهم البدىّ ـ عن ثلم العرض والتعدى على الحمى وانتهاك الحرمات. كلها يتحاشى وقوعها ( المدثر ) إذ تباعد بينه وبين نشر الديانة وتحول دونه وتحقيق حلم الجدود: إقامة دولة قريش.
                  

06-28-2005, 04:04 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خليل عبدالكريم يكتب عن السيرة (Re: Sabri Elshareef)

    أخيرًا أصبح نكاح المتعة .. حريمة


    هاجس معافسة ( امتطاء ) المَرَة لا يفارق الواحد من أولئك الأعاريب لا فى ظعنه أوعدنه ولا فى سفره أو إقامته ولا ترحاله أو حله ولا فى البادية أو الحاضرة.


    لدرجة أن تقول ـ دون مبالغة ـ إنه شغله الشاغل وهمه المقيم وعزمه المستديم وعقد قلبه الذى لا يريم، إذا ارتحل وغادر خباءه ومضرب قبيلته إلى بلدة أخرى فأول ما يفعله هو أن يُنبش عن إمرأة عزب يطفى فيها شهوته الملتهبة وإذ إنها تماثله فى العرامة وتشاكله فى التأجج وتماثله فى الاشتداد وفى الرغبة فى التموضع تحته فإنها تقبل أى أجر يقدمه: نعل، مال، إزار .. إلخ.

    لا تهمها القيمة بل التماسّ به فحسب.

    ويتفقان على مدة معينة غالبًا فترة إقامته فى مضرب قبيلتها.

    بعدها يتركها دون أى إلتزام عليها ولا أى حق لها قبله.

    أطلقوا على هذا الضرب من التلاقى زواج أو نكاح المتعة.


    ( كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة يقدر ما يرى أن يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه ) [ نهاية السول فيما استدرك على الواحدى والسيوطى من أسباب النزول: للشيخ أبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 163 ـ الطبعة الأولى 1415هـ / 1995م ـ دار الصحابة للتراث طنطا ـ مصر ].




    استمر هذا النسق الاجتماعى حتى بعد أن أشرق الإسلام وسطع نوره وإذ إن الصحبة الميمونة تعودوا عليه فعند خروجهم فى الغزوات والسرايا والمهام الخاصة يفعلونه فيقعدون على أيامى عقود النكاح متعة، يستمتعن بهن والبائسات يجدن فيه عوضًا عن أيام الشرق والتحاريق التى اكتوين بلظاها إبان العزوبة. ومن سيرة ( العين ) العاطرة علمنا أن يحوز بجدارة على الشمائل الممتازة الفريدة ومنها الحنكة البالغة والحصافة الفاذّة والحكمة العميقة.


    رأى بثاقب نظره ونافذ بصيرته وسعة أفقه وسداد رأيه أنه لو حظر ( نكاح المتعة ) لضاقت نفوس تُبّاعه وحَصِرت صدورهم وزمجروا.

    وترتيبًا على جِماعه يتقاعسون عن الخروج ويخنسون عن الانخراط فى صفوف الجيش ويتباطأون عن القتال .


    وهذا لا يدخل فى باب الفطانة ولا يلج نهج الزكانة ولا يُعدّ من الفقاهة ، فدولة بنى سخينة وليد ما زالت تحبو والديانة فى بدىّ أمرها وأول طورها ومفتتح شأنها.


    وهنالك الكثير مما يتعين القيام عليه ويلزم الإتيان به ويتوجب إنجازه ولا يتم شئ بغيرهم فتركوا وشأنهم:

    ( أخرج الترمذى عن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة فى أول الإسلام ) [ ذات المرجع والصفحة ].

    والترمذى صاحب واحد من الصحاح الستة التى تعتبر مقدم كتب السنة أو الحديث المحمدى الشريف.


    ( ... عن قيس عن عبد الله قال: كنا نغزو مع النبى ـ ص ـ وليس معنا نساء فقلنا ألا نختصى فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة 87 ].


    يؤيد القرطبى تحليل زواج المتعة فى مبدأ الإسلام:


    ( وقد كان للمتعة فى التحليل والتحريم أحوال، فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله ـ ص ـ زمن خيبر ثم حللها فى غزاة الفتح ثم حرمها بعد قالة ابن جرير منداد من أصحابنا وغيره، وليه أشار ابن العربى ) [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4498 ].


    ولسنا بصدد بحث عن ( نكاح المتعة ) إنما الثابت مما أورده القرطبى أن التحريم النهائى جاء بعد ( غزاة الفتح ).

    أى فتح مكة المسمى بـ ( فتح الفتوح ) إذ أصبحت دولة قريش الحاكمة المطلقة على شبه الجزيرة وغدا قائدها ( سيد الناس ).

    كما هيمن الإسلام على ربوعها إلا بعض الجيوب القبلية تم القضاء عليها ودخلت فيه وأنوفها راغمة.

    فى ذياك الظرف بالضرورة خفت صوت العسكر ولم تعد لهم طاقة على الزمجرة ولا نرقم المعارضة.

    هنا أضاءت بنورها الباهرة الآية: { إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون 6 ].


    وفيها كما قال ابن عباس: ( فكل فرج سواهما حرام ) [ نهاية السول للأزهرى ـ ص 163 ].

    ويعنى بسواهما: الأزواج وملك اليمين.


    ومما له دلالة فى هذه الخصوصية أن الآية هلّت مفتوحة، بيد أن النزعة الذكورية كما هى العادة هيمنت على المفسرين وحجّروا النص بدون مسوغ حتى ولو أفتى به العدوىّ عمر بن الخطاب بأن قصروا الحق على الزوج الذكر فى ملك اليمين أى أن له أن ينكح الجوارى والإماء كما يحلو له.


    أما الزوجة فلا.

    ليس لها أن تنكح مملوكها أو تتسرى به طبعًا إلا إذا أعتقته فصار حرًا. وإن فعلت عدّوها زانية تستحق الرجم عند إحصائها من قبل ( سبق زواجها ) أو جلدها إذا علموها بكرًا.

    تفرقة لا مبرر لها إلا المنحى الذكورى، إذ إن نص الآية لا يبيحها، ومن رجا آخر: توثق مذهبنا، أن انفتاح النصوص التأسيسية المقدسة سكره أى خنقه. [ القاموس المحيط ].


    الذين تولوا تفسيره وتحكمت فيهم رغبات واتجاهات شتى.

    لو أبيح للمرأة أن تتسرى بعبدها كالرجل بأمته ألا دَلّ على سماحة الإسلام وإصراره على مساواتها بالذكر والعكس صحيح؟

    هكذا أساء أولئك المتشددون إليه.


    *******


    7ـ هل يصلح الإسلام كشريعة الآن


    نزلت الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء 94 ].


    حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }... الآية. قال: بعث رسول الله ـ ص ـ سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبي ـ ص ـ إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون النبي ـ ص ـ ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: "كيف أنت ولا إله إلا الله"؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، تعوذ بها. فقال له رسول الله ـ ص ـ: "وهو شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ " قال: يا رسول الله إنما قلبه بضعة من جسده. فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فلما بلغ: { فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله ـ ص ـ فيه.‏ [ جامع البيان عن تأويل آى القرآن : للطبرى ]

    وردت فى بعض الأخبار { فَتَبَيَّنُواْ } وفى البعض الآخر { فَتَثَبَّتُواْ } .....


    ( قال قرأ أبو جعفر: واختلف القراء فى قراءة قوله { فَتَبَيَّنُواْ }.


    فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين { فَتَبَيَّنُواْ } بالياء والنون من ( التبين ) بمعنى التأنى والنظر والكشف عنه حتى يتضح.


    وقرأ ذلك عُظم قرأة الكوفيين { فَتَثَبَّتُواْ } بمعنى التثبت الذى هو خلاف العجلة . [ تفسير القرطبى ـ التاسع ـ ص8 ].


    ويؤيد القمى النيسابورى اختلاف القراءتين:

    { فَتَثَبَّتُواْ } من التثبيت وكذلك فى الحُجرات ( هكذا قراها ) حمزة وعلى وخلف والباقون قرأوها { فَتَبَيَّنُواْ } من التبين. [ غرائب القرآن ـ المجلد الرابع ـ ص 64 ].


    هذا ينفحنا دليلاً على أن النص فى بدىّ أمره جاء منفتحًا.

    بيد أنه فيما بعد اُغلق وأحكم إغلاقه ورتاجه ومن ثم فإن ما جاء بمصحف عثمان { فَتَبَيَّنُواْ }


    واختلفت القراء في قراءة قوله: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ } فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين والكوفيين { اَلْسِلْم } بغير ألف، بمعني الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: { السَّلاَمَ } بألف، بمعنى التحية.

    ثم ثبت لفظ { السَّلاَمَ } بالألف.

    فمن قرأها { اَلْسِلْم } أراد الانقياد والاستسلام للمسلمين .. ومن قرأها { السَّلاَمَ } بالألف فله معنيان:


    أحدهما: أن يكون المراد السلام الذى يكون تحية المسلمين، أى لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية إنه قالها تعوذصا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ما له ولكن كفوا وإقبلوا منه ما أظهره.


    ثانيها: أن يكون المعنى : لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنًا، وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة. [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير للرازى ـ المجلد الخامس ـ ص 394 ].


    الأخرى: الذى يشدّ الانتباه فى هذا النص هو تفسير الفخر الرازى لكلمة { اَلْسِلْم } أن المراد بها هو الانقياد والاستسلام للمسلمين.


    أى طاعتهم والدخول فى دينهم وقبول الوقوف تحت راية دولة قريش.

    وقد فسر أبا البقاء العكبرى إلقاء السلام بالاستسلام. [ التبيان فى إعراب القرآن: لأبى البقاء عبدالله العكبرى 538/616هـ ـ الجزء الأول ـ ص ـ 191 ـ الطبعة الأولى 1980ـ المكتبة التوفيقية ـ القاهرة ].


    يؤيده ما سبق أن سطرناه وقدمنا الأدلة عليه وهو:

    أن انتشار الدين الإسلامى فى داخل الجزيرة العربية إنما تم بحد السنان.


    ومن البراهين التى طرحناها آية السيف والحديث المحمدى:

    صحيح مسلم باب الإيمان حديث 29، 30، 31، 32، 33، 34:


    النص: { ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُقَيْلٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَ‏لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَاسْتُخْلِفَ ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏ ‏بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ ‏ ‏الْعَرَبِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ‏ ‏لأَبِي بَكْرٍ ‏ ‏كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَدْ ‏ ‏عَصَمَ ‏ ‏مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ


    ( وأن عليه القتال بعد البلاغ، والحرب بعد البيان والأكراه بالقتل على الدخول فى الدين )


    [ الناسخ والمنسوخ فى القرآن: للقاضى أبى بكر بن العربى ـ تحقيق د. عبد الكريم العلوى ـ الجزء الثانى ـ ص 345 ـ الطبعة الأولى 1408هـ / 1988م ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ المملكة السعودبة ].


    ونصل من هذه الفرشة الوجيزة أن:

    تفسير كلمة ( الإسلام ) بالاستسلام والخضوع والانقياد والامتثال والطاعة .. إلخ

    عبر اعتناق الديانة تفسير له سنده من النصوص التأسيسية المقدسة.

    فضلاً عن أن الحفر عن جذور أمثال هذه الألفاظ والتنقيب عن اصول الوقائع المحايثة لها ومنها قتل المسلمين وطلوع آيات كريمة بسببها يؤيده التفسير.


    فالمغدورون فيها نطقوا بالشهادتين أى أعلنوا الخضوع والاستسلام والطاعة بدخولهم الإسلام ومن ثم لا يصح شرعًا نحرهم، ولو لم يفعلوا لجاز دون لوم أو تثريب أو تعنيف.


    وبمعادلة بسيطة ومنطقية: إلقاء السلام وتلاوة الشهادتين جماعهما تعنى الطاعة والانقياد والاستسلام للدين ، أى اعتناق الإسلام، إذن الإسلام بدوره هو هذه الأمور على وجه التعيين والتحديد.


    هذه هى دالة الإسلام فى جذره التاريخى كما وكّدته الآيات المجيدة ووثقه تعنيف ( صاحب البرهان 9 للصحابى القاتل لأن المقتول وقد أسلم أعلن انقياده واستسلامه وخضوعه وطاعته فلا موجب شرعًا لنحره، هذا المعنى الخالص الصافى الذى لا تشوبه شائبة ولا يكدره عكارة استحال على أيدى المحدثين إلى دالة مغايرة لا صلة لها به:


    ( الإسلام هنا معناه إخلاص الوجه لله تعالى فاليهودية إسلام فى مدتها والمسيحية إسلام فى فترتها والرسالة المحمدية إسلام بمعنى إخلاص الوجه لله تعالى والامتثال لطاعته ). [ تفسير القرآن الكريم : لعبدالله محمد شحاته ـ الجزء الثالث ـ ص 540 ـ الطبعة الأولى 2000م ـ دار غريب ـ مصر ].


    يمكن لنا أن نسأله : على أى بساط يسير من يبغى إخلاص الوجه لله تعالى؟ وأى محجة يسلك؟ وعبر أى بوابة يدلف؟.



    ولو طلب من أهل الكتابين السابقين أن يحضر لهم برهانه على أن اليهودية فى مدتها والمسيحية إسلام فى فترتها ؟ فكيف يجئ رده ؟.



    ولماذا انتهت مدة إسلام اليهودية ثم فترة إسلام المسيحية؟.



    ولماذا خُصّ زمن إسلام الديانة الثالثة بالأبدية والسرمدية؟.



    ألا يعرف الدكتور المفسر أن كل عقيدة من هذه العقائد الثلاث توقن أنها تملك الحقيقة المطلقة السرمدية وما عداها ليس على شئ.


    أليس المعنى الذى قالت به النصوص المقدسة أصح وأيسر فهمًا وأبعد عن الصدام بأصحاب الأديان السابقة.

    أما صاحب الفضيلة الشيخ محمود شلتوت فله تعريف آخر للإسلام:


    ( الإسلام هو الصراط المستقيم وانه لذلك كان الشريعة الخالدة الصالحة لكل مكان وزمان ) [ تفسير القرآن الكريم : للشيخ شلتوت ـ الأجزاء العشرة الأولى ـ ص 39 ـ د. ت . ـ دار القلم بمصر ].

    وبداية فنحن نكن تقديرًا لفضيلة الشيخ شلتوت لأن آراءه فيها قدر لا بأس به من الاستنارة والعقلانية ولو أنه بحكم دراسته بنطلق من أرضية دوجماطيقية مغلقة.

    كذا لجهوده المخلصة التى بذلها فى التقريب بين المذاهب.

    بيد أن هذا التقدير لا يمنعنا من تقييم تعريفه للإسلام تقييمًا موضوعيًا ووضعه على محك النقد.


    قال إن الإسلام هو ( الصراط المستقيم ) وهى عبارة وردت فى القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة وتدل على العديد من المعانى ومثلها رغم سموها لا تصلح أن تغدو تعريفًا أو تمنح معنى منضبطًا بخلاف المعنى الذى جاءت به نصوص التأسيس وخلاصة الانقياد والطاعة والاستسلام خلال اعتناق العقيدة المخصوصة والمحددة التى بشر بها ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) وفى حال حياته: الاعتراف بالدولة التى أسسها فى أثرب.

    ثم يضيف إلى معنى الإسلام أو التعريف بدالته أنه الشريعة الخادلة لكل زمان ومكان.


    إن الشيخ شلتوت تربع على كرسى مؤسسة التقديس ( الأزهر ) فى مصر أى وصل إلى أعلى منصب دينى فى العالم الإسلامى.


    فالشريعة الإسلامية لا تصلح لكل زمان ومكان، فلنسأل صاحب الفضيلة ما رأيك فى :



    الرق وملك اليمين والإماء والعُبدان ... إلخ ، هل تجرؤ دولة إسلامية الآن على تقنينها؟.



    تقسيم الأسلاب والغنائم على المقاتلين ونصيب الراكب (= الذى معه فرس ) ضعف نصيب الراجل ، أيمكن أن يتم فى أى جيش إسلامى؟.



    صلاة الخوف فى ميدان المعركة بعد استعمال الصواريخ والطائرات ... أيصلح حاليًا لأدائها؟.



    معرفة ما فى الأرحام بعد اختراع السونار ، ما الرأى فيها؟.



    صلاة الاستسقاء بعد اختراع المطر الصناعى ، هل مازال لها وجود؟.



    والظهار بعد إمكانية معرفة من هو أبو المولود بعد تحليل عينة من دمه ونسيج جسمه.



    ما هى ضرورة عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والأجهزة الحديثة فى دقائق معدودة من الميسور عليها الجزم ببراءة الرحم أو علقه من المطلق أو الزوج المتوفى؟.



    هل من التلازم مرافقة ذى رحم محرم للمرأة فى وسائل النقل الحديثة؟.



    يمكن تخدير السارق تخديرًا كاملاً فلا يشعر بألم قطع يده!.



    أو لا يستطيع الطب الحديث إعادة اليد بعملية جراحية دقيقة.



    هل ـ فى جريمة الزنا ـ من الحتم إقامة الدليل عليها وجود اربعة رجال شهود يرون الميل فى المكحلة أو يجوز شرعًا إثباتها بالتسجيل ( صوت وصورة ) وأيهما أقوى؟.



    الذى يسرق ربع أو نصف طينار أى خمسة جنيهات على الأكثر تُقطع يده والذى يشترى بضاعة بربع مليون جنيهًا ( مثلاً ) ويعطى شيكًا بدون رصيد لا يُقطع يده أصبع واحد وكذا من يختلس مئات الألوف من المال العام ... !


    ويستمر ذلك المتسائل فى إبداء ملاحظاته:



    شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، هل هذه القاعدة تتفق مع وضع المراة هذه الأيام بعد حصولها على اعلى الشهادات من أرقى الجامعات؟.



    وكذا نصيبها فى الميراث، هل ينسجم حاليًا بعد أن تغيرت الأوضاع الاجتماعية بالكلية عن مثيلاتها وقت أن ظهرت النصوص التى شرعتها.


    ألا يحتاج التأكيد ت يا صاحب الفضيلة ـ على خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكام إلى مراجعة مستأنية ؟.

    إن من البديهى أن هذا المتسائل ينتظر ردودًا من الفعل لا من النقل.


    لقد قدمنا هذين المثلين كبرهان على أن النصوص المقدسة التأسيسية أكثر صراحة وأوفى طبيعية وأنضر وجهًا فيما تقدمه من مكان ودوال وقيم مما طرحه ويطرحه المفسرون والأصوليون والفقهاء قدامى ومحدثون.




    *******


    ونختم بأن الآيات المجيدة تنفحنا برهانًا ساطعصا على أن الواقع هو الأساس الذى ينبنى عليه الفكر والأرض الصلبة التى يقوم عليها التنظير والمدماك الشديد الذى يقف عليه الرأى وأن هذه كلها لا تهبط من عل.


    إن الانتباه لهذه الحقيقة الجوهرية هو الباب الملكى والوحيد للخروج من كل الأزمات والانعتاق من سائر المزانق والانفلات من كل القيود.




    *******


    ختام


    تاريخية النص المؤسس لا تجد قبولاً من الدوجماطيقيين، بل إنها تثير حفيظتهم ويعتبرونها بدعة ضالة مضلة.

    يرفعون أمامها مقولة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وهذه ليست آية كريمة ولا حديثًا محمديًا شريفصا ولم يفه بها واحد من الصحاب.

    على أحسن الفروض أطلقها تابعىّ.

    أبو حنيفة النعمان شيخ مذاهب الأحناف ـ أكبر المذاهب لدى السنة والجماعة ـ حدد الموقف من آرائهم بقوله:


    " فإذا جئنا للتابعين فهم رجال ونحن رجال ".

    أى لا قداسة لطروحاتهم لأنها اجتهاد بشرى فلنا أن نقبلها إن اقتنعنا بها، أو نرفضها إذا افتقرت إلى الحجة وأعوزها البرهان واحتاجت إلى الدليل.


    تقديس تركة السلف أحد روافد جمود الفكر الإسلامى بل بدون مغالاة أهمها على الإطلاق ولو أنه يوسع المحجة لغيره من التحاضيض.


    " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" عبارة فضفاضة بالإضافة إلى اتسامها باللامنطقية.

    فاللفظ الذى غطاها أو عبّر عنها ليس فيه عمومية بالمعنى الذى تُوهم به القاعدة.

    كما أن إلغاء السبب مصادرة على المطلوب إذ إنه وحده السبيل الفرد لفهم اللفظ الذى وصفته المقولة ـ دون وجه حق بالعمومية.


    فمثلاً تحلة الإيمان فى { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم 2 ]، من العسير استيعابها دون معرفة الواقعة التى سبقتها وبمعنى أدق التى تسببت فى هلّها إو إشراقها وهى حكاية مسّ ( سعد الخلائق ـ محمد ) لجاريته مارية القبطية على فراش العدوية حفصة بنت عمر ، وعودتها الفجائية أو غير المتوقعة ، ورؤيتها على فراشها، فثورتها الغضوب، ثم حلفه لها بعدم الاقتراب من الأمة المصرية القبطية الجميلة البيضاء .. فقدوم الآية بفك الأزمة بتحويلها العهد الذى صدر من إلى مجرد يمين من اليسير التكفير عنها كأى يمين غيرها.




    إذن بدون معرفة هذه الخلفية من المستحيل نقاهة التَحّلة التى تضمنتها الآية، فهى لا تنضوى (=الآية ) على لفظ علم لأو بمعنى أدق حكم عام، ولكن أرقل الفقه بعد حين قصير أو طويل وسحبها على الأيمان الأخريات وسوّى بينها فى الحكم أى التحلل من القسم.


    نخلص إلى أن تعميم اللفظ ليس له وجود وقت أن تلا ( المترحم محمد ) الآية على تُبذاعه وقبل أن يكفّر عن قسمه أو يمينه أو عهده كيما يعود إلى ملامسة مارية القبطية الحسينة، إنما جاءت العمومية والتعميم أو بمعنى أدق القول بهما بعدها بزمان.


    ونحن نؤيد هذا المنحى الذى سار فيه الفقهاء سواء من علماء الصحابة أو من الفقهاء قبل نشوء المذاهب أو من أئمتها ومؤسسى مدارسها.


    لماذا ؟.

    لأن هذا العمل يتسق مع ما نادينا به منذ عشرين عامًا وما زلنا: استخلاص المعنى أو القيمة أو المغزى من النص دون التقيد بحروفه.

    أى لم يشترط الفقهاء حدوث واقعة مماثلة لقصة مارية القطية.

    بل اخذوا الدلالة منها وطبقوها على النوازل التى استجدت فى عصرهم.

    إنما الاعتراض على المقولة أو القاعدة التى وضعت خصيصًا لنفى قاعدة التاريخية التى يبغضها السدنة والمرازبة والدهاقون.


    لماذا ؟.

    لأنهم يعيشون بل يتعيشون على تجريد النص المؤسس وتحويله إلى نماذج متعالية وأمثلة مفارقة وترميزات لا علاقة لها بواقع الناس ولا وشيحة لها بهموم حياتهم ولا صلة لها بمشاغل معاشهم.


    بيد ان سلوك الفقهاء يؤيد من جانب آخر تاريخية النص المؤسس التى رفعنا شعارها منذ سنوات طوال.

    لعل العبارة فى حاجة إلى مزيد من الإيضاح:

    إصرار الفقهاء على استخلاص المغزى أو المعنى أو القيمة هو اعتراف ضمنى بل صريح بأن الآية التى استخرجوا منها الحكم ارتبطت بنازلة معينة تشيأت على أرض الواقع فى زمن محدد وأبطالها هم ( محمد ) وسريته القبطية مارية وبعلته العدوية حفصة، وفى مكان معلوم هو حجرة الزوجة المهرية وعلى فراشها، فهو ـ أى المكان ـ إذن لعب دورًا بارزًا لايقل أهمية عن بقية العناصر التى تتشكل فيها الحكاية، فلولا أنه خاص باينة الخطاب وان باب الحجرة غير محكم ومساحتها محدودة لما تسنى لحفصة اكتشاف وط ( المعظم المعطى محمد ) لأمته المصرية الحسناء الفاتنة على فراشها وسريرها، بالإضافة إلى البلد الذى حدثت فيه وهى أثر بخلاف غبان وقوعها، إذن تارخية الآية أمر ملموس بالحداس قبل أن يدركه العقل أو حتى يمكن التوصل إليه بالحدس أو الانتهاء إليه بالتخمين أو التعرف عليه بالفراسة.


    ولكن ماهى الحكمة فى التأكيد على التاريخية؟.

    هناك عدة حكم :

    أولاها: أن نفيها من جانب الدجماطيقيين إنكار لما هو معلوم بعدة طرق من وسائل الإدراك وهذا بلا مشاجة أمر ينافى الموضوعية.


    وثانيهما: أنه هدم للعماد الذى ترسخ عليه النص المؤسس.

    وثالثتها: يؤدى إنكارها بطريق الحتم واللزوم غل سوء فهم النصوص المؤسسة، مما يوصل إلى تفسيرات شاحبة وتأويلات ضامرة وتوضيحات هزيلة.

    ورابعتها: أن بترها من سياقها التاريخى سوف يسلم فى نهاية الشوط إلى التعتيم وفى آخر المطاف إلى التضبيب، وفى ختام المضمار إلى الغبشة وبدوره سيجر إلى:

    الخامسة والأخيرة: تضارب التفسيرات وتناقض التأويلات واختلاط الشروحات ومرج الإيضاحات واضطراب الاستخلاصات.




    لماذا؟.


    لأن تاريخية النص المؤسس بمثابة البوصلة التى تحدد للسفينة خط سيرها الصحيح.


    التمسك بتاريخية النص المؤسس يعيد للأذهان حقيقة غدت ملقاة فى مربع النسيان لأسباب عديدة، وهى أن القرآن المجيد بدأ شفاهيًا وحفظ فى الصدور مدة طويلة حت أسرع الأموى عثمان بن عفان وسيّجه وأغلق عله بين دفتين.

    وتحول من القرىن إلى مصحف وهو لفظ لم يرد فى القرآن وإن وردت به كلمة صحف، والمتفق عليه أن كلمة مصحف حبشية، والأشد غرابة انه أصبح يدعى " مصحف عثمان" رغم أنه " المصحف الإمام" ونمتنع عن الخوض فى المعركة التى خاضها الأموى عثمان مع عدد من الصحابة الذين تملكوا مصاحف خاصة بهم ولا بالاختلافات فى هذا الشأن فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بكتاب المصاحف للسجستانى وغيره. [ كتاب المصاحف: تأليف أبى بكر عبداله بن أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى ـ باب المصاحف العثمانية / وكذلك كتا فضائل القرآن لابن كثير 700/774 هـ ـ طبعة 1979 ـ الناشر على رحمى ـ مصر ـ من ص 41 إلى ص 59 ـ الطبعة الأولى 1405هـ / 1985م ].


    والذى يهمنا أن تسمية القرآن بـ"مصحف عثمان" تكرّست فى عهد الأسرة المالكة الأموية بديًا بمعاوية بن أبى سفيان، وذلك لأهداف سياسية أقلها تثبيت مكانتها لدىالرعية، وفى مواجهة بنى هاشم أصحاب الحق فى منصب الإمامة الذى اغتصبوه منهم بطرق نعفّ عن تسطيرها.


    ولعلها سخرية من القدر أن يُنسب القرآن إلى فرد من البطن او الفخذ الذى وقف بالمرصاد لـ ( محمد ) وهو ينشر دعوته ويؤسس دولة جده قصىّ، فيقال "مصحف عثمان" لا " مصحف الحبيب المصطفى" ، حتى إن أحد الباحثين المخضرمين لم ير غضاضة فى أن يزبر " وبذلك تمت موافقة الأمة كلها على مصحف عثمان".

    [ تاريخ القرآن: لعبد الصبور شاهين ـ ص 189ـ طبعة ثانية ].


    بعد أن سكّ عثمان القرآن بين دفتين، تحول من نص شفاهى طازج إلى كتاب تعلوه القداسة وتحوط به الجلالة، وبمضى الوقت وكرور الأيام تحلقت حوله كوكبة من السدنة وطائفة من المرازبة ومجموعة من الحجّاب يمنعون الاقتراب منه إلا بإذنهم ويحظرون تفسيره إلا إذا مُهر بخاتمهم ، ويحجرون تأويله إلا على من حاز صفات أو مؤهلات ينفردون هم بتحديدها.




    ومن الطريف، وكم فى مجال الإسلاميات وإن شئت قلت فى الدينيات عمومًا من طرائف وعجائب ومدهشات يحار الفطن ذو اللب والحجى والنهى فى تعليلها أو عقلنتها أو منطقتها، فيعجز، فيقال له:" لا تتعب نفسك فهى كذلك".

    فإما أن تتقبلها على علاتها، وإما حد الردة، وما أدراك حد الردة !!!.


    نعود فنقول أن تلك المواصفات المستحيلة غير متوافرة فيهم هم " السدنة ـ المرازبة ـ الحجاب ".

    هؤلاء الذين يتولونها أو يباشرونها من الطبيعى أن يعادوا " تاريخية النصوص المؤسسة" لأن مصلحتهم المادية والأدبية تتركز فى إفهام عامة المؤمنين أنها مُفارقة ومثفاصلة ولا صلة لها بواقع الناس بل لها آفاقها العالية المرموقة ومجالاتها المثالية السامية .

    وكنتيجة مباشرة يمكنهم تطويعها وفى استطاعتهم تشكيلها وبمقدورهم تلوينها بالصورة التى يريدونها.

    وفريق آخر يشن حربًا لا هوادة فيها على التاريخية وأصحابها، نعنى بهم أولئك الذين يستخدمون النصوص لمآربهم السياسية " كأيديولولله ية" تفتح امامهم طرق السلطةز


    فى هذه الحالة، فإن بقاء "نص التأسيس" فى برج عاجى يتيح لهم اتخاذ النص اداة فعالة لتبييض وجه شعاراتهم وبرقشة لافتاتهم وتجميل ادعاءاتهم.


    فكلما بقى " النص " مجردًا ومفاصلاً وبعيد المنال، صار أصلح للاستخدام وأسهل للاستعمال وأيسر للتوظيف خاصة أن كل ما يمت إلى الدين بصلة ليس ثم ما يدانيه فىالتأثير على القاعدة الشعبية العريضة.


    وسيظل الأمر على منوله إلى أن تتغير أحوالها المادية أولاً ثم الثقافية والمعرفية.

    إذن، ربط " النص المؤسس " بتاريخ هلّه أو إشراقه سيقطع الطريق أمام مساعى أصحاب هذا الفريق، لأنه سوف يعرى شعاراتهم الزيوف، وآخرون غير هاتين الجوقتين ينظرون إلى التاريخية شزرًا لأسباب ثيولوجية. بيد ان حلاس النص المكتوب الذى أغلق بين الدفتين، والمهيجيين والديماجوجيين للسلطة بارتداء الإزاء الدينى هم الفرقتان الأشد عداوة والأد خصومه والأحمى نزاعًا لها.


    يؤكد الزركشى فى برهانه أنه:

    ( فى زمن النبى ـ ص ـ تُرك جمعه فى مصحف واحد )

    [ البرهان فى علوم القرآن: لبدر الدين الزركشى ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ الجزء الأول ـ ص 235 ـ الطبعة الثانية ـ 1391هـ / 1972م ـ عيسى البابى الحلبى وشركاه ـ بمصر ].


    يفرق السيوطى بين الكتابة والجمع فيؤكد أن :

    ( القرآن كتب كله فى عهد رسول الله ـ ص ـ ولكنه لم يُجمع فى موضع واحد ولم تُرتب سوره ) .

    [ الإتقان ص 57 ـ نقلاً عن " مصحف عثمان " لسحر سالم ص 6 ].


    بيد أن الأمر الثابت أن الاعتماد كليًا على الحفظ فى الذاكرة والجمع فى الصدور استمرا دون غيرهما حتى منتصف خلافة أبو بكر ، أى منذ واقعة غار حرىّ حتى سنة 12هـ أى ما يقرب من 25 عامًا.


    والحجة على ذلك أنه عندما شرع زيد بن ثابت فى جمعه تمهيدصا لكتابته توكأ على محفوظات الرجال، بل إن عددًا من الآيات لم يجدها مكتوبة على اللخاف والرقاع والعُسب والأكتاف، بل عثر عليها عند بعض الصحاب مثل حزيمة بن ثابت وأبىّ بن كعب.


    وإبان ذاك طفق عمر بن الخطاب ـ صاحب فكرة الجمع ـ ينادى بصوته الجهورى فى الناس

    ( من كان تلقى عن رسول الله ـ ص ـ شيئًا من القرآن فليأتنا به ).

    [ كتاب المصاحف للسجستانى ـ ص 14، 15، 16، 17 ].


    ولنلاحظ أنه لم يقل ( من كتب شيئًا من القرآن فليأتنا به ).


    مع صعوبة تصور كتابة القرآن كله على الأدوات الكتابية البدائية إياها!!!.... إلخ، فضلاً عن أن ذيّاك المجتمع المعجب شبه المتبدئ وثقافته الشفاهية فهو يعتمد فى تجميع وتراكم معارفه على الأذن قبل العين ومن ثم فإن وعاءها المعارف الذاكرة والصدرالذى يوسس فيه الشيطان لا المجرة والقلم والورقة !!!.

    إن القرآن ضم شطرًا كبيرًا منه تناول قصص الخلق والتكوين والأنبياء ثم حكايا البطاركة وهذه كلها وردت نظائرها فى الكتاب المقدس خاصة العهد القديمز


    كما قَصّ حكايا عاد وأخيهم هود وثمود واخيهم صالح والناقة المدهشة التى خُصص لها يوم تشرب فيه بمفردها والقرية بأكملها بشرصا وحيوانات لهم يوم وذلك امتحان لهم هل يصيرون أم يكفرون.


    هذه الحكايا عُرفت منذ قرون فى جزيرة العرب وتناقلتها الأجيال وراء الأجيال ( أساطير الأولين ).

    والنوعان كلاهما ( قصص العهد القديم وحكايا الجزيرة العربية لا حاجة لهما بالتنجيم أو التبعيض أو التجزئ.


    وذهب بعض المفسرين أنها أشرقت للعظة والعبرة، وفريق آخر زبر أن القصد منها التسرية عن ( البدر محمد ) وتسليته وتخفيف بعض ما يعانيه، أما الفريق الثال فيؤكد أن غرض شطر منها هو مقارنة حالته بأحوال الكمّل من البطاركة السابقين.


    [ لمزيد من التفصيلات إرجع فى هذه الخصوصية إلى كتاب ( القصص الفنى فى القرآن الكريم ) للدكتور محمد أحمد خلف الله مع شرح وتعليق لخليل عبد الكريم ـ الطبعة الرابعة 1999م ـ سينا للنشر بمصر والانتشار العربى ببيروت ].


    ولنا ملحظ شديد الأهمية ولسنا نغالى إذا قلنا إن احدًا من الباحثين لم يلتفت اإليه من قبل:

    لقد قسموا القرآن إلى : مكى ومدنى، نهارى وليلى، حضرى وسفرى، فراشى ونومى، صيفى وشتائى، أرضى وسمائى ... إلخ.

    لكن قط لم تتم التفرقة بين القصصى والمعاشى أو الحكائى والواقعى أو الروائى والحياتىوإذا وجدت ثمة مشابهة بين النوع الأول ( القصصى الحكائى ) وبين ما جاء فى الكتاب المقدس خاصة العهد القديم وبين الشائع على ألسنة العرب فيما يتعلق ببطاركة الجزيرة العربية.


    فهناك مفاصلة واختلاف شديد بين القرآن وبين الكتب السماوية السوابق عليه فى التاريخ فيما يتصل بهذه القصص ولنتركها للباحثين للتفقه فيها.


    تحريرًا فى 22 جمادى الآخرة 1422هـ.


    11 سبتمبر 2001م.




    خليل عبد الكريم
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de